مع قرب حلول عيد الفطر المبارك، تتجسد صورة مثالية للمجتمع العماني، حيث يبادر الجميع للزكاة والصدقات لمساعدة المحتاج وتعزيز التكاتف والتعاضد من أجل تحقيق التكافل الاجتماعي، وتلمس حاجة الناس، والأقارب والجيران، وما ينقصهم من الجوانب التي يحتاجونها لتكتمل فرحة العيد، وتسود في المجتمع روح التآخي والمحبة والوئام، وتعم الرحمة بين أفراد المجتمع، وتتعاظم في نفوسهم المودة وحب الخير بينهم.

وتحقق الزكاة العديد من الأبعاد الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، وتضع حلولًا للكثير من الجوانب التي تؤثر على المجتمع، لما تحمله من معان إنسانية تحقق العدالة بين أفراد المجتمع.

وأكد باحثون ومهتمون أن التكاتف المجتمعي، يحقق أبعادًا إنسانيةً عميقةً، ويوجد في النفوس روح المساواة والتعاضد الذي يحقق الرضى بين أفراد المجتمع وينمي في نفوسهم حب الخير للآخرين.

وأشار الباحث بدر بن سالم العبري إلى أن للعيد في الإسلام بُعدين: البعد الرّوحيّ التّعبديّ الملتصق بالخالق سبحانه وتعالى، فهو يأتي بعد شعيرة الصّيام، وأصل الصّيام مرتبط بالله تعالى، لهذا يفتتح عيد الفطر بالصّلاة، وفيها إشهار لتكبيرات العيد الدّالة على وحدانيّة الله تعالى، والبعد الثّانيّ البعد الاجتماعيّ، ومن أهم ما يجسّد البعد الاجتماعيّ المساواة، ولهذا سنّ الرّسول –عليه الصّلاة والسّلام- زكاة الفطر، وذكر الكاتب بدر العبري ما تتطرق إليه في كتابه (أيام الصيام) إلى أنّ "العيد موسم من مواسم الرّحمة، وفترة زمنيّة تتكامل فيها البهجة والمحبّة، فالعيد في الإسلام لا يعرف طبقة دون طبقة، ولا تتميز فيه فئة دون فئة؛ بل هو عيد الصّغار والكبار، والرّئيس والمرؤوس، والفقير والغنيّ، والذّكر والأنثى".

وقال العبري: كانت زكاة الفطر لإغناء الفقير، بمعنى تحقّق الجانب الأدنى من حفظ كرامة وجهه، وليشعر أبناؤه وأهله أنّهم جزء من المجتمع، متساوون جميعًا في أفراحهم وأتراحهم.

وأكد بدر العبري على أنه إذا كان الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم– سنّها "صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب أو بر أو شعير أو من أقِط" فبما يناسب تلك الظّرفيّة، وظرفيّة اليوم اختلفت، فأصبحت مظاهر العيد في اللّباس وأطعمة أخرى، بل كان النّظر إلى تحقيق المقصد في فترة مبكرة، مستشهدًا بعدد من الأمثلة من الصحابة والتابعين بدفع المال في زكاة الفطر.

وأوضح أن تحقيق العمل الاجتماعيّ من خلال الصّدقات والزّكوات هو أعظم ما يتحقّق به البر، كما أن هناك من البرّ في إخراج الصّدقة في رمضان وغيرها، لابدّ أن يكون من البرّ حسن توظيفها، بما يحقّق المنفعة، ومنها حسن توظيفها في تحقيق البهجة والإعانة في عيد الفطر، خصوصًا ومجتمعاتنا اليوم تعاني من التّضخم، ومن غلاء الأسعار وغيرها، فحضور البعد الاجتماعيّ في تحقيق هذا ضرورة ملحة، ولكن لابدّ أيضا -كما أسلفت- من تنظيم، وأن توضع في مكانها الصّحيح قدر الإمكان، والابتعاد عن بعض الظواهر الاجتماعيّة الّتي تعيق تحقّق البهجة والسعادة في العيد، مثل المباهاة والإسراف، التي تقوده إلى الاقتراض لغير حاجة ملحة.

فرحة المجتمع

من جانبها، أكدت الدكتورة بدرية بنت علي الهنائية باحثة شؤون إسلامية بدائرة الزكاة أن الزكاة تعد أحد أركان الإسلام الخمسة، وهي ليست مجرد فريضة مالية يؤديها المسلمون، بل هي نظام اقتصادي واجتماعي متكامل يهدف إلى تحقيق التكافل والعدالة بين مختلف طبقات المجتمع. ومن خلال هذا الركن العظيم، يتم تحويل جزء من الثروات التي يملكها الأغنياء إلى الفقراء والمحتاجين، مما يسهم في تقليل الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين الأفراد، ويعزز روح التآخي والرحمة بين الناس.

وأوضحت الهنائية بأن زكاة الفطر تأتي كنوع خاص من الزكاة يمتاز بتوقيته وأهدافه المتعددة، فهو فريضة شرعت مع نهاية شهر رمضان لتطهير الصائم من أي تقصير وقع منه أثناء صيامه، ولتوفير الحد الأدنى من احتياجات الفقراء خلال العيد، حتى يتمكن الجميع من المشاركة في الفرحة.

واستعرضت الهنائية في حديثها دور الزكاة وركزت على زكاة الفطر، وكيف تعمل هذه الشعيرة في بناء مجتمع متوازن ومتعاون، قائم على قيم العدالة والإنسانية، وأوضحت بأن الزكاة نظام اقتصادي واجتماعي متكامل تُعتبر فريضة عظيمة تحقق التوزيع العادل للثروة، فهي ليست مجرد تبرع أو إحسان، بل هي حق مفروض على أصحاب الأموال الذين يمتلكون النصاب الشرعي، وتُوزع على فئات محددة ذكرها القرآن الكريم، وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملون على الزكاة، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل.

وقالت: إن هناك أثرًا اجتماعيًا للتعاون بين أفراد المجتمع عبر تلمس حاجة الناس والزكاة ومن بين هذه الآثار تعزيز الترابط والتكافل، وعندما يؤدي الأغنياء زكاتهم، فإنهم يشعرون بمسؤوليتهم تجاه أفراد المجتمع، فيبني في ما بينهم روح الإيثار والتعاون بين الناس. هذا التكافل لا يقتصر على الجانب المادي فقط، بل يخلق شعورًا بالتضامن والانتماء، حيث يدرك كل فرد أن له دورًا في تحسين حياة الآخرين، مما ينعكس إيجابيًا على الاستقرار المجتمعي.

وأشارت إلى الأثر الاقتصادي المتمثل في تقليل التفاوت الطبقي، وبينت أن إحدى أكبر المشكلات التي تواجه المجتمعات اليوم هي الفجوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء، والتي تؤدي إلى خلق طبقات اجتماعية متطرفة، بعضها يعاني من الفقر المدقع، بينما يتمتع البعض الآخر بثروات هائلة.

وأكدت أن الزكاة تعمل كأداة لإعادة توزيع الثروة، مما يحد من هذه الظاهرة، ويضمن أن يكون هناك حد أدنى من الدخل لكل فرد في المجتمع، وهذا يحقق استقرارا اقتصاديا مستداما.

وبينت الهنائية بأن للزكاة دورًا في الحد من الفقر، فعندما تُستخدم أموال الزكاة بشكل صحيح، فإنها تساعد الفقراء ليس فقط في تلبية احتياجاتهم الأساسية، ولكن أيضًا في إقامة مشاريع صغيرة، مما يمكنهم من الاعتماد على أنفسهم بدلًا من أن يكونوا مجرد متلقين للمساعدات، حيث يمكن تخصيص جزء من أموال الزكاة لتوفير التمويل للأسر المحتاجة لإنشاء مشاريع تجارية صغيرة، مثل: المحلات التجارية، والحرف اليدوية، أو حتى المشاريع الزراعية، مما يخلق فرص عمل جديدة وتقليل نسبة البطالة في المجتمع.

وتحدثت الهنائية عن زكاة الفطر وخصوصيتها وأهميتها وقالت: زكاة الفطر تختلف عن الزكاة العامة في عدة جوانب، فهي واجبة على كل مسلم قادر، حتى الفقراء منهم، إذا كانوا يملكون قوت يومهم.

وأضافت: زكاة الفطر ليست مجرد مساعدة مالية للمحتاجين، بل تحمل بعدًا روحيًا عميقًا. فهي: تطهر صيام المسلم من الأخطاء التي قد يكون ارتكبها أثناء الشهر الكريم وتعزز الشعور بالشكر لله على إتمام عبادة الصيام، وتذكر المسلم بمسؤوليته الاجتماعية، حيث يشعر بقيمة العطاء ويعتاد على البذل والتضحية من أجل الآخرين، كما أن لها أبعادًا اجتماعية، وقبل يوم العيد، يُفترض أن يكون جميع أفراد المجتمع قد حصلوا على ما يكفيهم ليتمكنوا من المشاركة في فرحة العيد. وهنا يظهر البعد الاجتماعي القوي لزكاة الفطر، فهي: تضمن إدخال الفرح على قلوب الفقراء وتمكنهم من الاحتفال بالعيد دون الشعور بالحرمان، وتعزز الشعور بالمساواة بين أفراد المجتمع وتقوي الروابط بينهم.

وأشارت البدرية إلى الأبعاد الاقتصادية لزكاة الفطر وقالت على الرغم من أن زكاة الفطر قد تبدو صغيرة من حيث القيمة المادية مقارنة بالزكاة العامة، إلا أن أثرها الاقتصادي كبير، حيث يتم ضخ كميات ضخمة من المواد الغذائية والاحتياجات الأساسية في الأسواق، مما يساعد على دعم الاقتصاد المحلي وتنشيط حركة التجارة قبل العيد، كما أن تطبيق الزكاة بشكل صحيح، مع تحديث آليات جمعها وتوزيعها، يمكن أن يكون نموذجًا فعالًا لحل العديد من المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها العالم اليوم. ولذا، فإن نشر الوعي بأهمية الزكاة، وتعزيز فهمها الصحيح، هو مسؤولية جماعية تقع على عاتق الجميع، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات. فهي مشروع إنساني عظيم يبني مجتمع أكثر عدلًا ورحمةً، حيث يجد الفقير ما يسد حاجته، ويشعر الغني بمسؤوليته الاجتماعية، فتسود قيم العدل والمساواة، ويعيش الجميع في مجتمع أكثر استقرارًا وسعادة.

جسر عظيم

من جانبه، قال عادل بن حميد بن عبدالله الجامعي: في زمن تتسارع فيه عجلة الدنيا، وتشتد وطأة الحياة على من ضاقت بهم سُبل العيش، تتجلى عظمة الشرائع التي لا تترك الإنسان وحده في خضم التيارات المتلاطمة، وفي حضارة الإسلام، لم يكن المال قطّ غايةً، بل وسيلةً لربط القلوب، وجسرًا تعبر به الأرواح من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، مؤكدًا أن من أبهى مظاهر هذا الجسر العظيم: الزكاة؛ الركن الركين الذي لو أُقيم على وجهه، لأغنى الفقراء.

وأوضح أن الزكاة ليست فقط فريضة مالية تُؤدى، بل هي نظام رباني، سنّه الله ليحقق التوازن في المجتمع، ويبعث الحياة في جسد الأمة.

وأشار الجامعي إلى أن جوهر الزكاة أعمق من أن يُختصر في أرقام تُدفع، إنها تطهير للنفس، وتهذيب للروح، وتخليص من الشح والبخل، واستجابة لنداء الإنسان الكامن في قلب كل واحد منا، وحين فرض الله الزكاة، ما أراد أن يُثقل بها كاهل الأغنياء، بل أراد أن يُخفف بها عن كاهل الفقراء. هي سُنّة كونية، حيث لا يستقيم مجتمع إلا بتراحم أفراده، ولا تقوم حضارة إلا على أعمدة العدل والتكافل، ولا تنجح أمة إن جاع فيها الجائع، واغتنى فيها الغني حتى تجمد قلبه.

وقال عادل الجامعي: إن من يتأمل حكمة الزكاة، يجدها تشدّ أوصال المجتمع بعضها إلى بعض: المال لا يبقى حبيس الخزائن، بل يجري كالنهر العذب في رُبى المجتمع، يسقي الأرض العطشى، ويُنبت فيها الزهر. هي علاج للقلب قبل الجيب، إصلاح للنية قبل المال. وصدق رسول الله ﷺ حين قال: "ما نقص مال من صدقة"، فكيف بزكاةٍ مفروضة، جعلها الله أمانًا وسلامًا للمعطي والمعطى له.

وأكد على أنه مع اقتراب عيد الفطر، لا تغيب عن المزكين والمتصدقين حكمة التوقيت، ويأتي العيد تتويجًا لشهر الصيام، شهر تزكية النفس بالصبر والقيام، ويأتي معه الأمر بإخراج زكاة الفطر، كأنَّ العيد لا يكتمل إلا إذا عمّ الفرح كل بيت، ولبس الصغير الجديد، وامتلأت المائدة بما يسرّ العين والقلب، فما معنى عيد يفرح فيه البعض وتغيب البسمة عن وجوه آخرين؟! الزكاة تمحو هذه الفجوة، وتُذيب الحواجز، وتعلنها صريحة: المال مال الله، والأمة جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

وناشد الجامعي من أنعم الله عليهم بالمال، وقال: هذه فرصتكم لتكونوا أمناء الله في أرضه، لتجعلوا من أموالكم جسرًا تعبر به الأرواح الحائرة نحو الطمأنينة، ولتدخلوا عيدكم بقلوب طاهرة، قد زكّاها العطاء، وزيّنها الإحسان. ولنُدرك جيدًا أن الزكاة ليست نهاية التكافل، بل بدايته، هي دعوة لأن تبعث روح التراحم، لا مرةً في العام، بل كل يوم، كل لحظة، وأن نلتفت لجيراننا، لإخواننا، لأبناء المجتمع الذي نعيش فيه، فنسأل عن حاجتهم، ونسبقهم بالبذل قبل أن يمدوا أيديهم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بین أفراد المجتمع البعد الاجتماعی زکاة الفطر فی المجتمع أن الزکاة عید الفطر أن یکون

إقرأ أيضاً:

هدم سور البلد .. والتحليل الماركسي للمجتمع العماني

23 يوليو 1970م.. اليوم الذي انطلقت فيه الدولة الحديثة بعمان، وبدأ طور جديد من أطوارها التاريخية، إذ حدث تحول في كل أوجه المجتمع؛ يحكي قصة «الديالكتيك الاجتماعي». المقال.. ينتقد التحليل الماركسي لهذا التحول الذي انسلخ فيه الاجتماع القديم ونما اجتماع جديد.

لنقف بدايةً عند مصطلح «الديالكتيك»، الذي يعني الجدل والمحاورة بين الأطراف. لقد طوّر الألماني جورج هيجل(ت:1831م) مفهوم الجدل من كونه حواراً بين الأطراف إلى مفهوم أعمق؛ هو الجدل بين الأفكار، وملخصه بلغة قريبة من القارئ.. أنَّ الفكرة أسبق من المادة؛ أي أنَّ الفكر هو مَن يبدّل الأحداث في الواقع، والفكرة تحبل في بطنها بنقيضها، فلمّا تحتك بالاجتماع البشري تدخل في نقاش وتداول مع الأفكار؛ غالباً بين السائد في المجتمع وبين ما يتطلع إليه من رؤى، تتمخض عنه أفكار جديدة، وهذا ما عُرف بـ«الديالكتيك الهيجلي».

ثم جاء الألماني كارل ماركس (ت:1883م) ليعدل الديالكتيك الهيجلي على قدميه، بعد أن كان واقفاً على رأسه؛ بحسب عبارة ماركس نفسه، أي أن المادة أسبق من الفكر؛ فالأفكار لكي تتبدل لابد أن يسبقها تحوّل في الواقع. فطوّر مفهوم الجدل إلى «المادية الجدلية»؛ معتبراً العامل الاقتصادي هو البُنية التحتية للاجتماع الإنساني، وما عداه من سياسة وثقافة ودين بُنى فوقية ناتجة عن العامل الاقتصادي، وهذا هو الشق النظري لمفهوم ماديته الجدلية.

وأما الشق الواقعي؛ فيظهر في الصراع بين الطبقات المتناقضة.. كالسادة والعبيد، ثم الفلاحين والإقطاعيين، ثم العمال والبرجوازيين، وقد أطلق زميل ماركس الألماني فريدريك إنجلز(ت:1895م) على هذه الظاهرة «المادية التاريخية». بيد أنَّ هذا التنظير لم يكن أقل طوباوية من «الجدل المثالي» لهيجل، ولذلك؛ فشل عندما نزل على أرض الواقع، حيث أصبحت الثورة البلشفية من أسوأ الأنظمة الاستبدادية في التاريخ، مما عجّل بسقوطها، وتفكك دولها الاشتراكية.. بل تحولت -في مفارقة فنتازية- إلى ما ثارت عليه؛ وهو المنظومة الرأسمالية. وبعد فقد أتيت بهذا التقديم لسببين:

الأول.. أنَّ مَن يتحدث عن التحولات في عمان يستحضر الصراع في ظفار بين الدولة والجبهة «ذات التوجه الماركسي»، وهذا الصراع ذاته من شواهد فشل استعارة الديالكتيك الماركسي في غيره موضعه.

الثاني.. يحاول البعض أنْ يحلل الاجتماع العماني وفقاً لهذا الديالكتيك؛ مسقطاً معطيات المدرسة التحليلية الماركسية على اجتماعنا.

موضوعياً.. لا يمكن أنْ نعتمد على الديالكتيك الماركسي؛ خاصةً في رأس المال والصراع الطبقي في تحليل واقعنا، فالماركسية التحليلية هي ابنة عصرها، وماركس.. لم يرَ التحولات التي جرت في العالم من بعده، ومعظمها لا ينطبق عليها تحليله. لقد أدرك السلطان قابوس بن سعيد(ت:2020م) -القارئ للتاريخ العماني- هذه البُعد، فاستطاع أنْ يكشحها سراعاً من الأرض العمانية، ولم يُبقِ لها أثراً.

لقد أصبحت آراء ماركس في الصراع الطبقي الآن كتصنيفات الإحيائي البريطاني تشارلز داروين(ت:1882م) في تطور الأحياء، وتحليلات الطبيب النمساوي سجموند فرويد(ت:1939م) للنفس البشرية، فمع أهميتها لفهم مرحلة علمية مرت بها البشرية؛ إلا أنَّ الزمن تجاوزها، ولم يعد العلم يعتمد عليها في تقرير نتائجه. إنْ كان من شيء قوله.. فهو أنَّ على المهتمين بالاجتماع العماني أنْ يتجاوزوا التحليل الماركسي إلى مناهج أكثر موضوعيةً وأدواتٍ أوفر حداثةً.

التحولات الحديثة في عمان.. بدأت إرهاصاتها منتصف الخمسينات الميلادية، وكان سببها اقتصادياً، إلا أنَّ دوافعها لم تكن صراعاً طبقياً، فالمجتمع كله تقريباً طبقة واحدة من الفقر؛ والتباين فيه ضئيل، ويعمل أعمالاً متشابهة، وإنَّما كان الصراع سياسياً، بغيةَ الاستحواذ على مناطق النفط، مما دفع بالسلطان سعيد بن تيمور(ت:1972م) أنْ يضم كل الرقعة العمانية تحت جناح سلطنته. إنَّ ما حصل في عمان هو ما حصل في العالم؛ بأنَّ الاجتماع لم يتحول باتجاه الشيوعية.. بل واصل خطه الرأسمالي، والرأسمالية.. ليست أيديولوجيا ثورية كالماركسية، وإنَّما هي تطور اقتصادي مستمر، وإنْ اختلفت أسماؤه من حقبة إلى أخرى.

«هدم سور البلد».. يحكي واقعاً كان قائماً في عمان، ففي الستينات المنصرمة كان هناك سور يفصل بين مسقط وبقية عمان، عبّر عنه سياسياً اسم الدولة «سلطنة مسقط وعمان»، وكان بالسور بوابة تُؤخذ فيها الضرائب على العابرين غصباً، فما إنْ أتى السلطان قابوس حتى أزيلت البوابة وانهدم سورها، دلالةً على التحول من العهد القديم إلى العهد الحديث.

كانت عمان تعيش داخل أسوار بلدانها، فضرورات الحياة وتنظيمات المجتمع موجودة في كل بلد تقريباً، ومن يخرج من بلده إلى آخر يشعر كأنه سافر إلى خارج القطر؛ للحالة الاستقلالية التي تعيشها. هذه الحالة الجزرية للمجتمع؛ كانت فرعاً عن استقلالية العماني عموماً، فالدولة -التي لم تكن أحسن حالاً في الفقر من مواطنيها- لم تكن تسيطر؛ إلا بقدر فرض الولاء لها، وهو مقتصر على المؤسسات الممثلة للحاكم كالوالي والقاضي والعسكر. أما السكان فكانوا مستقلين بحياتهم؛ يعملون أعمالاً حرة، معتمدين على الزراعة والرعي والحرف والتجارة وصيد البحر، فلا توجد مؤسسات تفرض البيروقراطية على أعمالهم، ولا مصارف تمتص قطرات عرقهم، ولا شركات تستهلك وقتهم وجهدهم، ولا ضرائب؛ إلا ما يدفعونه من «الزكوات» للدولة. وكانوا يديرون شأنهم الديني بأنفسهم، فيصلي بهم من يرضونه لأنفسهم، دون مقابل، فضلاً أنْ يكون من يقيم لهم الصلاة موظفاً، وكذلك من يصلي بهم في الأعياد والجنازات، ومن يعقد لهم عقود الزواج ويقسّم التركات، هو مَن يثق الناس بدينه، لا من توظفه الحكومة، وزكواتهم يخرجونها بأنفسهم، ويضعونها في المحتاجين ممن عرفوا مسغبتهم. وكذلك التعليم؛ فالإنسان منذ طفولته يرتاد مدارس القرآن الكريم، ثم ينتقل إلى حلقات المساجد، ثم حلقات الجامع، فحلقة الفقيه، حتى يتخرج فقيهاً أو والياً أو قاضياً أو كاتباً، ونحو ذلك، كل تلك المراحل من التعليم ينظمها المجتمع، وينفق عليها من أموال الوقف وبيت المال ووصايا مبتغي وجه الله.

لقد كان الأمر بعكس ما توهمه الماركسيون.. فقد تحول المجتمع بسلاسة.. بل باندفاع، للانضواء إلى سلطة الدولة؛ التي أصبحت الموارد المالية بيدها وحدها، لقد خرج الناس من أسوارهم زرافاتٍ ووحداناً؛ تركوا مزارعهم ومراعيهم وسواحلهم وحرفهم ومتاجرهم ليسلكوا في نظام الدولة ذات «الفعل الرأسمالي» المفارق للإيديولوجيا الماركسية، منهم من انتظم في السلك العسكري، ومنهم من استقطبهم القطاع العام، ومنهم من اجتذبتهم الشركات لتعظيم أرباحها. حتى الشأن الديني تحول إلى قطاع وظيفي؛ فإمام المسجد والمؤذن والخطيب والواعظ؛ شملتهم الدولة بكنفها، فاستلموا رواتبهم من مصارفها.

والمقصود بـ«الفعل الرأسمالي»؛ ليس النظرية الرأسمالية الغربية، ولا السوق الحر، وإنَّما هو فعل مستمر لحركة الاقتصاد والمال في المجتمعات منذ الأزل. فمجتمعنا العماني عاش ويعيش فعله الرأسمالي الخاص به، والخصوصية هنا ليست تميّزاً، وإنَّما هي العناصر المحركة لعجلة اقتصاده الناتجة عن ظروف البيئة العمانية. خلال الخمسين سنة الماضية أوجد هذا الفعل الرأسمالي «طبقية»، لكنها ليست كالطبقية القابعة في رأس الماركسيين، وإنَّما طبقية أفرزتها الطفرة النفطية، والتي لم تنسَ عموم الناس من ريعها. بالإضافة إلى هذا.. الحراك الاجتماعي في سد حاجات الناس وتقليل الفوارق بينهم؛ عبر الزكوات وصناديقها، وتبرعات الأثرياء وشركاتهم، وتتوج؛ بـ«قانون الحماية الاجتماعية» الذي صدر به مرسوم سلطاني من لدن مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق أعزَّه الله.

لكي ندرس ظواهر مجتمعنا علينا ألا نسقط عليه النظريات المستجلبة ومنتهية الصلاحية، وما يجب أنْ نقوم به؛ فهو مطالبة الحكومة بأنْ تنشئ مراكز أبحاث لدراسة الظواهر التي تسود مجتمعاتنا؛ بطرق حديثة واقعية ومناهج علمية موضوعية، ودعوة المؤسسات الأكاديمية إلى تمكين الطلبة من دراسة هذه الظواهر دراسة علمية.

خميس العدوي كاتب عُماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين».

مقالات مشابهة

  • هدم سور البلد .. والتحليل الماركسي للمجتمع العماني
  • الدمار الشديد في الخرطوم ليس كله بيد أفراد الميليشيا
  • هل يمكن تسجل سجل تجاري جديد في ضريبة القيمة المضافة؟.. الزكاة والجمارك تجيب
  • المرور: حمولة مركبة النقل الزائدة ترفع احتمالات فقدان السيطرة عليها
  • فيروز تنهار بعد رحيل نجلها زياد.. قصة علاقة فنية وإنسانية لا تُنسى
  • أمين الإفتاء: يجوز تقسيط الزكاة على مدار العام لمصلحة الفقير بشروط
  • ماراثون احتفالي بالإسكندرية وانطلاق قوافل الخير بالتزامن مع العيد القومي
  • زكاة الحديدة تدعم 1169 مريض وتتكفل بسداد ديون 225 غارماً خلال النصف الأول من 2025
  • الفطر السحري يُرجع الزمن للوراء في جسم الفئران
  • الشيعي الأعلى يحذّر من منتحل صفة دينية ونسب هاشمي