لقد ظل دائما وأبداً الدكتور عبد الله الفكي البشير يذكرنا برؤية الأستاذ محمود حول أهمية العلاقات السودانية المصرية، والتي لخصها في القول بأن بين السودان ومصر جوار جغرافي، وتاريخ مشترك طويل، ولهذا لا بد من تحرير هذه العلاقات الثنائية من الإرث السياسي، ومن الجهل بها، كعلاقات مصيرية، حيث لا بد لنا من بنائها على المصلحة المستقبلية للشعبين.


كما أوضح عبد الله بأن الأستاذ محمود يقول إن مصر بالنسبة للسودان هي بمثابة العقل في الجسد، وإن السودان بالنسبة لمصر هو في موقع القلب، ولأهمية تجاوز هذا العداء غير الطبيعي، حنى يمكن وصول الدولتين لبلوغ الرؤية الاستراتيجية الصحيحة والمبنية على تحقيق هذه المصلحة المستقبلية للشعبين. كما ذّكرنا عبد الله، قائلاً: إن الأستاذ محمود يقول: "أنا ما عندي أعداء أنا ملازم الحق"، والموحد لا يعادي ولا يتطرف في مواقفه وفي آرائه، سواء تجاه الإنسان أو تجاه جميع الخلائق.
ولكن المتابع لمقالات الدكتور النور حمد حول هذه العلاقة بين السودان ومصر، لا بد أن يراها تجنح نحو تركيز هذا العداء غير الطبيعي، وتأجيج هذه البغضاء الخطيرة في نفوس السودانيين، بدلاً من تهدئتها، لخلق المناخ النفسي الملائم لتصحيح الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الحكومات المصرية، قديماً وحديثاً، على الرغم من بضعة الإشارات التي ترد في كتاباته لأهمية تصحيح هذه الأخطاء، والتي ربما يكون تأثيرها ضعيفاً على القارئ، لأنها تأتي بعد سيل من سموم تركيز الكراهية والعداء، والمبالغة في التشكيك في كل ما يحتمل أن يكون إيجابيا، وصالحا للبناء عليه لتصحيح هذه العلاقة الاستراتيجية لمصلحة الشعبين!
خذوا مثالا لما تقدم مما كتبه في هذه الحلقة العشرين، والأخيرة، في سلسلة مقالاته تحت عنوان: على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية، حيث كتب مشككا ليقول:
"في نفس هذا السياق ذكرت صحيفة "الشرق الأوسط" أن سودانيين مقيمين في القاهرة اقترحوا منح الأولوية للشركات المصرية، للمساهمة بشكل موسَّعٍ في عمليات «إعادة الإعمار»، بعد انتهاء الحرب. ولنا أن نتساءل هنا لماذا يقترح هؤلاء منح الأولوية للشركات المصرية في عملية إعادة إعمار السودان؟ فهذا مقترح غير راشد بل ومغرض وغير قانوني لأن من تقوم به حكومة غير منتخبة!! بل هي طرفٌ في النزاع القائم الآن وقرار منح مصر الأولوية قرارٌ سياسيٌّ وليس قرارًا إدرايًا سليما. كما أنه يجري من وراء الإرادة السودانية! وقد أشار هذا المركز إلى: "بدء شركات مصرية تنفيذ بعض الأعمال حالياً، من بينها تأهيل بعض الكباري في الخرطوم". وأضافت الصحيفة أن مصر والسودان قد اتفقتا على تشكيل "فريق مشترك لدراسة خطة إعادة الإعمار والتجارب الدولية لتحقيقها" انتهى النقل.
فهل خطر ببال الدكتور النور أن السبب وراء استعجال تنفيذ مشاريع إعادة إعمار وتأهيل البنية التحتية السودان، بعد إيقاف الحرب، ربما يكون حقيقة أنها مشاريع حيوية وملحة، لا تحتمل التأجيل، لأن معاش الناس، في السودان قبل مصر، يعتمد اعتماداً أساسياً على تأهيل هذه البنية التحتية، وخاصة تأهيل مشاريع الطرق والجسور والمياه والكهرباء، والمواصلات العامة، وغيرها؟! هل هذه من الأمور التي لا بد لها أن تنتظر قيام حكومة منتخبة، قد يستغرق الوصول إلى تشكيلها بضعة سنوات، في أحسن الأحوال؟!
وهل خطر ببال الدكتور النور أن أهم أسباب اختيار الشركات المصرية للقيام بمهمة تنفيذ هذه المشاريع الملحة على وجه السرعة، وبتمويل عاجل من بعض دول الخليج التي أشار إليها، ربما يكون كفاءة وجاهزية هذه الشركات التي أنجزت المشاريع العمرانية الضخمة في مصر خلال العقد الأخير، مثل مشاريع العاصمة الإدارية الجديدة، شرق القاهرة. ومشروع تطوير مدينة العلمين الجديدة، ومشاريع توسيع المدن القائمة، بما في ذلك إعادة إحياء وسط مدينة القاهرة وتحسين البنية التحتية في الإسكندرية، ومشاريع ومبادرات المدن الذكية التي تدمج التكنولوجيا لتحسين الإدارة الحضرية، وتعزيز الاستدامة، وتوفير خدمات عامة فعّالة، بالاضافة إلى تنفيذ مشروع تطوير قناة السويس،الذي أدى إلى زيادة سعة وكفاءة قناة السويس، مما سمح بمرور سفن أكبر وزيادة حركة الملاحة البحرية. وشمل إنشاء مسار جديد بمحاذاة القناة الحالية. وكذلك مشاريع مضاعفة شبكة السكك الحديدية فائقة السرعة، لربط مختلف مناطق البلاد وتحسين كفاءة النقل. ثم مشاريع الطاقة المتجددة، التي استثمرت فيها مصر استثمارات ضخمة في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وأبرزها محطة بنبان للطاقة الشمسية، إحدى أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم، ومشاريع الطرق والجسور، حيث قامت الشركات المصرية بإنجازات مذهلة، تمثلت في بناء المئات من مشاريع الطرق والجسور لتحسين الربط في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك تطوير الطرق السريعة الجديدة وأنظمة النقل الحضري المتقدمة.
هذه فقط مجرد أمثلة لمشاريع التنمية العمرانية الضخمة التي أنجزتها شركات البناء المصرية، وإلا فإن القائمة تطول، وأنا متابع لها، وما قصدت من ذكرها إلا لتأكيد حقيقة أن هذه الامثله هي التي تجيب على السؤال، لماذا مصر وليس غيرها، التي ربما يكون قد تم اختيارها لتنفيد المشاريع العاجلة لإعادة تأهيل وترميم البنية التحتية فى السودان، بعد إيقاف الحرب!
والسؤال هو: هل يرى الدكتور النور دولة أكثر جاهزية وتأهيل، وذات مصلحة مباشرة في إعادة تأهيل السودان، أكثر من مصر، وشركاتها التي تكاد أن تكون قد انتهت من مهامها العمرانية في مصر، على الرغم من علمنا بما ظلت ظلت وما زالت تخطط له مصر من محاولات الهيمنة على السودان، عبر الخونة من قادته السياسيين، سواء كانوا عسكريين مثل البشير والبرهان، أو مدنيين مثل قادة الاتحاديين قديماً، وصولا لقادة تقدم الذين استسلموا و خضعوا مؤخراً لتوجيهات المخابرات المصرية؟!
والسودان ليس الأول وليس وحده في كل هذا، فلقد شاركت مصر بفعالية في مبادراتٍ للمساعدة في إعادة تأهيل وإعادة إعمار مدنٍ مختلفة في المنطقة، لا سيما في العراق وليبيا ودولٍ أفريقية أخرى. وفيما يلي بعض النقاط الرئيسية المتعلقة بهذه الاتفاقيات والتعاون:
العراق (إعادة إعمار بغداد):
لقد شرعت مصر في تنفيذ التزامها بالمساعدة في إعادة إعمار العراق، وخاصةً العاصمة بغداد، بعد سنواتٍ من الصراع وعدم الاستقرار. وشمل ذلك اتفاقياتٍ لتقديم الخبرة الفنية وتنفيذ مشاريع البناء الكبرى. حيث شاركت الشركات المصرية في مشاريعَ بنيةٍ تحتيةٍ متنوعة، بما في ذلك بناء الطرق والجسور والمرافق العامة، بهدف المساعدة في استعادة الحياة الطبيعية وتحسين الظروف المعيشية في المناطق الحضرية.
ليبيا (إعادة إعمار طرابلس):
لقد لعبت مصر دورًا رئيسيًا في دعم جهود الاستقرار وإعادة الإعمار في ليبيا، وخاصةً في طرابلس، التي واجهت تحدياتٍ كبيرةً بسبب الاضطرابات المدنية.
- تم إبرام اتفاقياتٍ لشركات إنشاءات مصرية للمشاركة في إعادة بناء البنية التحتية، بما في ذلك الإسكان والمدارس ومرافق الرعاية الصحية. وتُعدّ مشاركة مصر جزءًا من استراتيجيةٍ أوسع لتعزيز الأمن والتعاون في المنطقة. ٣. **المبادرات الأفريقية**:
وكذلك شاركت مصر في جهود أفريقية متعددة تهدف إلى التنمية الحضرية وتحسين البنية التحتية. غالبًا ما تركز هذه المبادرات على تحسين التخطيط الحضري، وأنظمة النقل، والبنية التحتية للطاقة في جميع المدن الأفريقية.
لماذا نحرص مصر ودول الخليج على استعجال تنفيذ مشاريع إعادة تأهيل البنية التحتية في السودان؟!
الإحابة باختصار، وبغض النظر عن المكاسب المالية التي ستجنيها الشركات المصرية، فإن هناك حقيقة أنها استعجال تنفيذ هذه المشاريع هو أقصر طرق تجاوز خطر المجاعة في مصر، لأن تسهيل وتطوير انتاج المحاصيل واللحوم في السودان، بخفف من مخاطر نقص الغذاء في مصر، وهذه حقيقة لا نحتاج للولوج في تفصيلاتها، على الرغم من اعتراضنا على كيفية وصول هذه المحاصيل واللحوم الى مصر، وما يكتنفها من تهريب وشراء بالعملة السودانية المزورة!
أما مصلحة دول الخليج، فهي في الغالب مصلحة الباحثين عن فرص الاستثمار المواتية، خاصة إذا ارتبطت هذّه الغرض بتأمين الغذاء في هذه الدول، وفي هذا كثير مما يمكن أن يقال.
بدر موسى

bederelddin@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الشرکات المصریة البنیة التحتیة الطرق والجسور الدکتور النور إعادة إعمار إعادة تأهیل بما فی ذلک ربما یکون فی إعادة فی مصر

إقرأ أيضاً:

حدود النار والسيادة.. بين كسر الهيمنة أو السقوط في فخ المساومة

أحمد بن محمد العامري
ahmedalameri@live.com

 

 

عكس كل التوقعات السياسية أقدمت الولايات المتحدة على قصف مواقع نووية داخل إيران في خطوة اعتُبرت تصعيدًا خطيرًا لا يُمكن فصله عن مشروع الهيمنة الصهيوأمريكية الذي يستهدف إخضاع المنطقة وقواها الفاعلة. هذا الاعتداء لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل رسالة دموية مفادها أن واشنطن وتل أبيب ماضيتان في مخطط ضرب كل قوة ترفض الانصياع لمعادلة الخضوع والتطبيع وتتمسك بسيادتها وقرارها الوطني.

استمرار الغطرسة والصلف الصهيوأمريكي بات يهدد ليس فقط إيران؛ بل الاستقرار الإقليمي ككل. فالمنطقة تتحول تدريجيًا إلى ساحة مفتوحة للابتزاز العسكري والسياسي، تُفرض فيها السياسات بقوة السلاح لا عبر احترام القوانين الدولية أو المواثيق الإنسانية. القصف لم يكن استهدافًا تقنيًا لمنشآت نووية بقدر ما كان خطوة محسوبة لتقويض القدرات الإيرانية وتقديم خدمة مجانية للكيان الصهيوني الذي طالما عبّر عن خشيته من تعاظم القدرات الدفاعية الإيرانية ودورها الإقليمي الداعم لحركات المقاومة.

ووسط هذا المشهد المشتعل لا بد من طرح سؤال جوهري: ما هي حقيقة المصالح الأمريكية في المنطقة، وهل ما زالت واشنطن تمارس دور "الضامن للاستقرار" كما تزعم، أم أنها تحوّلت إلى أكبر مهدّد له؟ فكل تحرّك أمريكي في العقدين الأخيرين أفضى إلى فوضى مدمّرة: من العراق إلى سوريا، ومن ليبيا إلى اليمن، والآن إيران. واشنطن لم تعد تسعى فقط لحماية مصالحها بقدر ما تعمل على ضمان تفوّق إسرائيل بأي وسيلة، حتى لو كان الثمن إشعال حرب إقليمية شاملة.

هذه الضربة وإن وُجّهت إلى إيران، فإن ارتداداتها تطال أطرافًا عديدة، وعلى رأسها فصائل المقاومة الفلسطينية؛ إذ يُتوقع أن تنعكس على ديناميكيات الصراع مع الاحتلال، فكل إضعاف للداعم الإقليمي الأول للمقاومة وغياب دعم عربي، يفتح المجال أمام العدو للتمدد ميدانيًا وسياسيًا.

من شأن هذا القصف أن يدفع الكيان الصهيوني إلى استغلال اللحظة لفرض مزيد من الوقائع على الأرض؛ سواء في القدس أو الضفة أو غزة، في ظل رهان واضح على انشغال طهران وارتباك محور المقاومة. وفي المقابل، فإن ردة الفعل الإيرانية ستكون محددة مرحليا ليس فقط لمستقبل الصراع مع واشنطن وتل أبيب، بل أيضًا لمعادلات الدعم والردع التي تستند إليها المقاومة الفلسطينية وسواها من القوى التحررية في المنطقة.

اليوم، إيران أمام مفترق طرق حاسم: إما أن ترد بقوة تُعيد الاعتبار للردع الاستراتيجي وتكسر منطق العربدة العسكرية، أو أن تتعامل مع الحادثة كملف قابل للتفاوض بما يفتح الباب أمام مزيد من التنازلات.

الخطورة لا تكمن فقط في طبيعة الضربة، بل في كيفية التعاطي معها. الردّ الحاسم الذي بات شرطًا لحفظ ماء الوجه، وتأكيد أن معادلة الردع ما زالت قائمة. أما الرهان على التهدئة والدبلوماسية في ظل هذا الإرهاب الصهيوأمريكي فهو وَهْمٌ مُكلِّف، قد تترتب عليه خسائر مضاعفة في قادم الأيام.

لقد آن الأوان للتأكيد أن زمن استباحة الدول تحت مسمى الأمن القومي الأمريكي أو "حماية الحلفاء" قد ولّى، وأن اليد التي تمتد لضرب السيادة الوطنية لن تُترك بلا حساب. لم يعد كافيًا إصدار بيانات الشجب أو عقد الجلسات الطارئة. نحن أمام مشروع عدواني لا يردعه سوى موقف شجاع يضع حدًّا لهذه العربدة، ويرسم حدود النار والسيادة بوضوح.

وفي النهاية، لا يُقاس موقع الدول في التاريخ بعدد المرات التي تجنّبت فيها المواجهة، بل بالمرات التي نهضت فيها في لحظة الشك، وأكدت حضورها كدولة لا تُستباح.

إيران اليوم في قلب هذه اللحظة. فهل سترد بما يليق؟ أم ستفتح الباب لجولة جديدة من المساومات والتراجعات؟ الإجابة لا تخصّ طهران وحدها، بل تحدد مصير أمة كاملة تخوض معركة وجود لا تقبل أنصاف المواقف.

مقالات مشابهة

  • قادربوه يناقش تّحديّات تنفيذ مشاريع البنية التحتية بقطاعات النقل والإسكان والمرافق
  • «تنفيذ مشاريع ضخمة».. بوتين: التبادل التجاري بين دول بريكس تجاوز تريليون دولار
  • من الحرب إلى العقوبات: السودان في طريق مسدود اقتصاديًا
  • وزارة الاعمار تعلن عن قرب افتتاح عدة مشاريع في البنى التحتية داخل بغداد
  • وزارة البنى التحتية بنهر النيل تشرع في تأهيل وصيانة طريق عطبرة سيدون
  • الفوضى الخلّاقة الشاملة: مشروع صهيوني لتحقيق الهيمنة
  • وزير النقل السوري يبحث مع محافظ اللاذقية إعادة تأهيل طريق M4 الحيوي بين الساحل والشمال
  • الدبيبة يترأس اجتماعاً لمتابعة تنفيذ مشاريع «عمار طرابلس»
  • وزارة الأشغال: بدء تنفيذ مشروع إعادة تأهيل جزء من الطريق الصحراوي
  • حدود النار والسيادة.. بين كسر الهيمنة أو السقوط في فخ المساومة