فـي قوله تعالى: « مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ»، لماذا ذكرت العنكبوت فـي القرآن الكريم بصيغة الأنثى، على الرغم من أنه ذكر؟

الجواب هو أن العنكبوت، على الصحيح فـي اللغة، مؤنثة، فالعنكبوت لفظ مؤنث، هكذا ورد فـي معاجم اللغة وقواميسها، وعدوا تذكيرها نادرًا، بعضهم حصر ذلك فـي الشعر، وبعضهم وسَّع وقال: يمكن أن يؤتى بالعنكبوت مذكرًا، لكن فـي حالات نادرة، إذن، فما ورد فـي كتاب الله عز وجل من الإتيان بالعنكبوت بصيغة التأنيث هو موافق لمعهود أصل اللغة، فالكلمة كذلك من حيث وضعها اللغوي هي مؤنثة، وهي الدويبة المعروفة، كما هو أيضًا الحال فـي العقرب، فالأصل فـيها التأنيث.

وهذا هو الذي يرفع الإشكال الذي سأل عنه السائل، وأنا على اطلاع بأن بعض المعاصرين حاولوا فـي مثل هذه المسألة أن يسوغوا الإتيان بصيغة التأنيث بأن الذي أثبته العلم هو أن أنثى العنكبوت هي التي تنسج البيت، أما الذكر من العناكب، فإنه يتخذ نسيجًا لطريقه فقط، لا لنسج بيت، وأن الأنثى تتخلص من هذا الذكر، وبعد أن تضع العناكب الصغيرة أو البيوض التي تأتي بعناكب صغيرة، فإن العناكب أيضًا تتخلص من الأم، ثم إن القوي من العناكب يقضي على الضعيف منها.

الحاصل أنهم حاولوا بيان أن الآية الكريمة واستعمال صيغة التأنيث تنصرف إلى أن الأنثى من العناكب هي التي تنسج بيت العنكبوت، ولكن هذا لا حاجة إليه، لأن لفظة العنكبوت، كما تقدم، هي أصلاً من حيث وضعها اللغوي مؤنثة، وقد تذكر أحيانًا، كما ذكر ذلك ابن منظور والجوهري، وذكر أغلب من كتب فـي المعاجم والقواميس أن لفظة العنكبوت الأصل فـيها التأنيث، وأنها قد تذكر أحيانًا فقط.

واليوم، اتجه النظر إلى الوهن المعنوي، ولكن كلا المعنيين مقصود، وهو الوهن المادي المحسوس، لأن بيت العنكبوت ضعيف، لا يصد ريحًا، ولا يمنع مطرًا، ولا يقي من شيء، هذا النسيج الذي يتكون منه بيت العنكبوت ضعيف، لا قدرة له على مقاومة أدنى حركة، ومن حيث الجانب المعنوي، فإن بيت العنكبوت هو بالوصف المتقدم مما يحصل فـيه بين المنتسبين إليه من العناكب.

وإن كان اليوم هناك أيضًا من اعترض بأن مادة نسيج العنكبوت غاية فـي المتانة والقوة، وأنهم أصبحوا يصنعون منها مواد غاية فـي الصلابة، فإن هذا لا يؤثر أيضًا على المعنى الصحيح، وقد تقدم الجواب فـيما مضى فـي الرد على هذه الشبهة، لأن الحديث ليس عن مادة نسيج العنكبوت، وإنما هو عن البيت، عن طبيعة هذا البيت، وليس الحديث عما إذا تم رص نسيج العنكبوت وصُنعت منه مادة صلبة، فالحديث عن بيت العنكبوت، وهو تشبيه صورة بصورة، وليس تشبيه فرد فـي الآية الكريمة.

فهذا مما ينبغي أيضًا ألا ينساق إليه طلبة العلم عند إثارة مثل هذه الشبهات، وألا يندفعوا للرد عليها قبل تمحيصها، وقبل النظر فـي دلائل اللغة ومفردات الآية القرآنية، والله تعالى أعلم.

فـي سورة البقرة فـي قوله عز وجل: «وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ»، وفـيها أيضاً فـي نفس السورة قوله تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ»، لماذا التقديم والتأخير فـي العدل والشفاعة فـي الآيتين؟

نعم، هذه المسألة أيضاً مما بحث فـيه المفسرون كثيراً، وأطالوا فـيه القول، وذكروا له وجوهاً، وأجد أن أفضل هذه الوجوه ما ذكره الإمام بدر الدين بن جماعة فـي كتابه «كشف المعاني فـي بيان المثاني»، وبدر الدين بن جماعة، المتوفى فـي 733 هجرية، وكتابه هذا هو أحد كتابين أحملهما معي فـي السفر، فإني أجد هذا الكتاب غاية فـي الدقة فـي بيان مثل هذه اللطائف والمعاني فـي المتشابهات من كتاب الله عز وجل، الحاصل أن الذي ذكره ابن جماعة عندي أجود ما فـي بيان سر هذا الاختلاف فـي هاتين الآيتين الكريمتين.

هنا فـي الحقيقة، مسألتان: المسألة الأولى هي التي سأل عنها السائل، والثانية هي فـي الفرق، لأنه لا بد أن نتعرض لها فـي بيان معنى هذا الاختلاف، أما الفرق فـي الأولى، قال: «ولا يُقبل منها شفاعة»، وفـي الثانية، قال فـي آخرها: «ولا تنفعها شفاعة»، هنا قال: «لا يُقبل»، وهنا قال: «لا تنفعها»، خلاصة ما قاله ابن جماعة أن الآية الأولى المتقدمة فـي سورة البقرة، فـي قوله تعالى: «لا يُقبل منها شفاعة»، الضمير هنا يعود إلى النفس الأولى، «واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً»، النفس الثانية هي النفس المطلوبة بجرمها، أما النفس الأولى فهي التي ستشفع.

فقدم أن هذه الشفاعة لا تُقبل، قال: «ولا يُقبل منها شفاعة»، فإن لم تُقبل الشفاعة - لأن الشفـيع عادةً يشفع للمطلوب بأن يُعفى عنه - فإنه سيعرض حينئذ الفدية، ولذلك قال: «ولا يؤخذ منها عدل»، بعد أن قال: «ولا يُقبل منها شفاعة»، أي أن هذه النفس الشافعة لن تُقبل شفاعتها، وسينتقل إلى تقديم الفدية، فقال: «ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون».

أما الآية المتأخرة فـي البقرة أيضاً، فإنها تتحدث عن النفس المطلوبة بجرمها، عن النفس الثانية، فبعدما فرغ الحديث عن النفس الأولى، انتقل الآن للحديث عن النفس الثانية المطلوبة بالجرم، فلننظر فـي الآية الكريمة: «واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يُقبل منها عدل»، الآن، هذه النفس تريد أن تفدي نفسها، فـيُبين الله تبارك وتعالى أن الفدية لا تُقبل منها، وإن لم تُقبل منها الفدية، فإنها ستلتمس الشفاعة من أي شفـيع كان، فجاء أيضاً بيان أن الشفاعة لا تُقبل، ولذلك قال: إن الشفاعة لن تنفع، قال: «ولا تنفعها شفاعة».

هناك، لما كان الحديث عن الشافع، عن النفس الأولى، قال: «لا يُقبل منها شفاعة»، أما هنا، فالحديث عن المشفوع له، المطلوب بالجرم، قال: «ولا تنفعها شفاعة» من أي شافع كان، هذا هو خلاصة ما ذكره ابن جماعة، وقلت: إنه أجود ما فـي المعنى، وقد تقدم الآن بيان المسألتين: مسألة التقديم فـي قوله: «ولا يُقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل»، وفـي الثانية: «ولا يُقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة»، والمسألة الثانية فـي أنه عبر بالقبول فـي الشفاعة فـي الأولى، وعبر بالنفع فـي الشفاعة فـي الثانية، لأن القبول إنما يكون ممن يتقدم به، وهو الشافع، وأما منفعة الشفاعة فإنها تعود على المشفوع له المطلوب بالجرم، ولذلك قال: «ولا تنفعها شفاعة».

ممن ذكر فروقاً أخرى، وهي أيضاً حسنة، طائفة من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، فقد ذكروا -وهذه إضافة لبيان سبب هذا الاختلاف- أن الآية الأولى التي فـيها: «واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يُقبل منها شفاعة»، سبب تقديم الشفاعة هنا أن الآيات قبلها تحدثت فـي قول الله تبارك وتعالى: «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب»، فهؤلاء يمكن أن يدلوا على الله تبارك وتعالى بأنهم أهل كتاب، وبأنهم أمروا غيرهم بالبر، فلعل غيرهم هذا قد أخذ بما أمروه به من بر فنجا، فـيتذكر أن يشفع لهم.

فجاء الرد موافقاً لهذا العتب المتقدم أن الشفاعة لا تنفع، فلا تعولوا على الشفاعة، فتقدم ذكرها، هذا المعنى منتفٍ فـي الموضع الثاني، ولذلك لم تكن هناك حاجة إلى ذكر الشفاعة، فذكر على أصل الترتيب، وأصل الترتيب هو الفدية، فإن لم تنفع الفدية، فالتماس الشفاعة بأي وجه كان، هذا أيضاً مما ذكره طائفة من المفسرين من المتقدمين، حتى قبل ابن جماعة، لكن يبدو أن ابن جماعة مع اطلاعه على كلامهم، لم يقف عند هذا المعنى، ولم يرتضِ هذا المعنى، وذكر الذي ذكره، والله تعالى أعلم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: النفس الأولى بیت العنکبوت من العناکب الحدیث عن ابن جماعة عن النفس فـی قوله هی التی نسیج ا

إقرأ أيضاً:

"من أصحاب الفضل الذين تولوا منصب الإفتاء".. سيرة فضيلة الدكتور شوقي علام

أحيت دار الإفتاء المصرية عبر صفحتها الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، سيرة فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي علام، مفتي الديار المصرية السابق، وهو من أصحاب الفضل الذين تولوا منصب الإفتاء.

مولد ونشأة الدكتور شوقي علام

هو فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي إبراهيم عبد الكريم علَّام، أستاذ الفقه، بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر فرع طنطا، ولد فضيلته في قرية "زاوية أبوشوشة" مركز الدلنجات، محافظة البحيرة، في الثاني عشر من أغسطس عام 1961م.

حفظ القرآن والكريم والتحق بالأزهر الشريف، وتخرج من كلية الشريعة والقانون سنة 1984م، وحصل على الماجستير في الفقه من كلية الشريعة والقانون بالقاهرة سنة 1990م، ثم الدكتوراه في الفقه من نفس الكلية 1996م.

مناصب فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي علام

أعير الدكتور شوقي علام إلى معهد العلوم الشرعية بسلطنة عمان من سنة 2001م إلى 2010م، وأستاذ مساعد بقسم الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا، من: 24/ 3/ 2002م، ورئيس قسم الفقه وأصوله بمعهد العلوم الشرعية بسلطنة عمان من 2007م إلى2010م، وأستاذ بقسم الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا من 28/ 9/ 2011م، ورئيس قسم الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا من 8/ 1/ 2012م حتى 3 مارس 2013م.

تقلد الدكتور شوقي علام منصب الإفتاء:

عين فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي علام مفتيا للديار المصرية، بداية من 4 مارس سنة 2013م، وحتى 2024م وذلك بعد حصوله على أكثر أصوات هيئة كبار العلماء في الاقتراع الذي أجرته لاختيار فضيلة المفتي، وتصديق رئيس الجمهورية على قرار تعيينه، أصدر خلالها (12672) فتوى مسجلة بسجلات دار الإفتاء المصرية.
 

دار الإفتاء المصرية 
وتحيي دار الإفتاء المصرية ذكرى المفتين السابقين تقديرًا لعطائهم ومجهودهم الكبير، وذلك خلال احتفالها بمناسبة مرور مئةٍ وثلاثين عامًا على مسيرة الفتوى الرشيدة والعطاء المؤسسي الغير محدود التي قدمته على مدار سنوات عديدة.

وجاء هذا الاحتفال ليُجسِّد المكانة التاريخية والعلمية لدار الإفتاء، بصفتها أقدم دار إفتاء منظمة في العالم الإسلامي، وليُبرز إسهاماتها الممتدة في خدمة المجتمع، وتطوير الخطاب الديني، ومواكبة قضايا العصر بما يعكس رسوخها العلمي ودورها المحوري في الحياة العامة.

مقالات مشابهة

  • شاومي تطور مساعد ذكاء اصطناعي جديد باسم Mi Chat
  • جوزاف عون: زيارتي لسلطنة عُمان تعزز التعاون الاقتصادي والاستثماري بين البلدين
  • فتاوى وأحكام| هل الوضوء بالماء الدافئ في الشتاء أقل ثوابا من البارد؟.. هل يجوز أداء صلاة الفجر فور سماع الأذان مباشرة؟
  • مساعد وزير الداخلية ومساعد المفتش العام للشرطة بسلطنة عُمان يرأسان اجتماع لجنة التنسيق الأمني والعدلي
  • فتاوى وأحكام| هل قول الرجل لزوجته أنت طالق بالتلاتة يقع بها انفصال نهائي؟.. هل يجوز أداء الصلاة قبل وقتها بدقيقة لظروف طارئة.. حكم قضاء صلاة الضحى بعد الظهر لمن فاتته
  • سيرة شيخ الأزهر الشريف فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب
  • سيرة الرئيس الأسبق للجنة الفتوى بالأزهر الشريف.. فضيلة الشيخ عطية صقر
  • "من أصحاب الفضل الذين تولوا منصب الإفتاء".. سيرة فضيلة الدكتور شوقي علام
  • إصدار توثيقي جديد يستعرض حياة وآثار الشيخ نبهان بن سيف المعمري
  • رفع التصنيف الائتماني لسلطنة عُمان إلى مستوى الجدارة الاستثمارية