تنظر في المرآة وتتحسس ملامحها، مسدت شعرها بحنان، إنه ما زال جميلًا ومسترسلًا رغم اشتعاله بالشيب، لقد قررت أن تصبغه رغم معارضته دائمًا أنها أقدمت على صبغه أكثر من مرة، لكنه كان يعارضها بشدة، كل مرة كانت تستجيب له، فهو نبض قلبها وحشاشة نفسها، إنه روحها الهائمة في الملكوت، نبضها ومعقد آمالها، به تتحسس الحياة.
ما زالت تنظر في المرآة، أخيرًا أتمت صبغ شعرها إنها واثقة أنه سوف يروقه ما فعلته، انتحت جانبًا لترى ملابسها الجديدة، لمعت عيناها ببريق ساحر أنه اللون الذي يعشقه، وهي سعيدة به وباقتنائه، والسعادة ليست فيه، بل لأنه هو من اقترح عليها أن تبتاعه، فقال لها وهي تتجول في محل الملابس: إنه سيكون رائعًا عليك، لقد اختارته مباشرة عندما قال لها ذلك، وقد اندهشت من نفسها؛ لأنها لم تستغرق دقائق معدودات في شرائه على غير عادتها، فقد كانت تنفق الوقت الكثير قد يصل إلى ساعات في شراء ملابسها، لكنها في غمضة عين ابتاعته، كانت سعيدة جدًا؛ لأنه هومن أشار عليها بابتياعه.
ما زالت تجهز كل شيء، إنها تضج من الفرح، ودقات قلبها تدوي كدوي المدافع التي تنطلق إيذانًا بالاحتفالات الكبرى، كل شيء مبهج وسعيد، إنها تعيش لحظات من السعادة تختزل فيها كل مآسي عمرها ومعاناتها، إنها تسبح في لجة الماضي تتذكر طفولتها، وكم كانت البهجة تملأ قلبها والحماسة تدخلها عوالم الفرح، تذكرت لمسات أمها الحانية عندما كانت تمشط لها شعرها وتسترسله، وتضع لها وردة تحكم بها هذا الاسترسال، وتضع لها مشبكًا صغيرًا في جانب رأسها، تتذكر جمال هذا المشبك الذهبي الذي كان يتماوج مع أشعة الشمس فيصدر ألوانًا راقية زاهية، إنها تتنفس من عبق نشر أنفاس أمها التي كانت تختلط بأنفاسها عندما كانت تدنو منها لتغلق لها أزرار قميصها، تتحسس يديها لأن أمها كانت تمسها بطيب كان أهداها إليها خالها الذي كان يحج في بيت الله، دمعت عيناها لعبق الرائحة التي فاح عطرها معها الآن يتسرب إلى حنياها، إنها سعيدة مقبلة، ولكم تمنت في هذه اللحظة أن يكون أبوها أو أمها معها، لكنهما في العالم الآخر، ترحمت عليهما، ونظرت إلى الحائط إلى الصورة المعلقة عليه وتتابعت الرحمات على زوجها تخنقها العبرات لا تدري هل هي عبرات الفرح أم الحزن، إنها كانت تتمنى أن يكون زوجها معها في هذه اللحظة، لقد تركها تعاني الآلام والحرمان، لقد أرهقتها السنون ونال منها الدهر، لقد توفي عنها زوجها وهي في سلاف وريق العمر، وترك لها طفلًا صغيرًا، لكنها أصرت على أن تعيش الحياة من أجله جاهدت فيه، لم يثنها عن الجهاد كلام الناس ولا عيون الطامعين فيها، فلقد ضنت بجمالها على أي أحد واستعصمت بحبها لزوجها وعاشت وفية لذكراه، تراه في ابنه الصغير، اقتربت من صورة زوجها وراحت تقول بصوت متهدج مخلوط بالحزن والفرح، لقد حققت حلمك في أن يكون ابنك طبيبًا إنه الآن على مشارف دخول الجامعة، وأنا على عهدنا وكما حلمنا سويًا سأذهب معه أول يوم يذهب فيه، إنه كان حلمك أنت، لقد تحقق، أسبلت عيناها وراحت تمسح دموعها المنهلة، ولاحت منها ابتسامة أضاءت وجهها، إنها سعيدة جدًا. جهزت كل شيء، رتبت البيت، وجهزت طعامًا، وأعدت حلوى، تنتظر ابنها يفد عليها مع أصحابه، فلقد ذهبوا جميعًا لشراء بعض حاجيتهم لأن الليلة هي ليلة أول يوم جامعة، وسوف تحتفل مع ابنها وزملائه فيها وغدًا يتحقق حلمها، بل حلم زوجها.
لقد تأخر الوقت، عقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة، لقد قلقت وتوجست خيفة، تهرع إلى الهاتف تتصل على ابنها لا يجيب عليها، اتصلت على زملائه لا أحد يرد، لقد بدأ الحزن يومض في الأفق، فهي التعسة التي يسلبها الحزن فرحتها دائمًا، استعاذت بالله من الشيطان الرجيم، وتمتمت بآي من القرآن والذكر الحكيم، وراحت تصبّر نفسها، وتعزيها بأنه سوف يأتي، إنه في غمرة الفرح مع أصدقائه، سوف يهل عليها الآن كدأبه وعادته، استسلمت لغفوة طبقت عليها، فرأت زوجها، يسرّي عنها كدأبه معها ويحتضنها وهو يبكي نهضت واقفة من الجزع والفزع، شابها الذبول والشحوب عندما سمعت الطرقات السريعة المتدفقة على الباب، توجهت ناحية الباب لا تقوى على حمل قدميها، رأت الناس تزدحم عليها ينفجرون بالبكاء، انسرب الصمت إلى روحها، اقتعدت أحد المقاعد ببطء، وتغالبت على نفسها وراحت تقول: لقد وعدني أن أذهب معه وما عاهدته إلاّ صادقًا، تنظر هنا وهناك لا ترى إلاّ بكاءً وأنينًا، ومع ذلك ظلت ساكنة لا تقول إلا كلمة لقد وعدني أن يأخذني معه، وظلت تقولها، لم يثنها عن هذا القول تهالك جسدها، واختلاط الكلام وذهاب البصر وآلام العجز والشيخوخة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
إذا كانت الحروب تُقاس بخواتيمها
الحرب التي شنّها التحالف الإسرائيلي الأميركي على إيران، واستمرت 12 يوماً، لم تكن حرباً انتقامية، وهي ليست حرباً ذات أبعاد تكتيكية، كما أن التخطيط لها استغرق سنوات من التحضير، لم تتوقف خلالها الاغتيالات، وحرب الاستخبارات، والرصد وحروب الظلّ.
بنيامين نتنياهو وضع لهذه الحرب، عنوان «الحرب الوجودية»، وكذلك فعل الإيرانيون الذين اتسم خطابهم بالتهديد لإنهاء وجود الدولة العبرية.
نتنياهو أعلن مراراً أنّ هدف الحرب التي شنّها على ما يقول إنّها رأس محور الشرّ، التخلّص نهائياً من المشروع النووي الإيراني، وتدمير قدراتها الصاروخية والتسليحية، وعدم تمكينها من معاودة بناء ترسانتها الصاروخية والمسيّرات، غير أن الهدف الرئيس تغيير النظام القائم.
تغيير النظام، استدعى اغتيال عدد كبير من قيادات الجيش و»الحرس الثوري» و»الباسيج»، وعدد كبير من العلماء، فضلاً عن محاولة تأجيج المجتمع الإيراني الذي يئنّ تحت وطأة العقوبات الاقتصادية والحصار المديد، والعقوبات المتزايدة من قبل الدول الغربية.
الضربة الاستهلالية كانت واسعة، وصعبة جدّاً على إيران، وأدّت إلى تعطيل شبه كلّ الدفاعات الجوية، وفتح الأجواء أمام تحليق الطيران الحربي الإسرائيلي الذي لم يغادر سماءها من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها.
القيادة الإيرانية، التي انطلت عليها عملية التضليل الواسعة والمُحكَمة التي نظّمتها الإدارة الأميركية مع الإسرائيليين، استعادت بسرعة تنظيم صفوفها واستيعاب الضربة، وتعويض مواقع المسؤولية والدخول في مرحلة الردّ، وكما أنّ القيادة الإيرانية وقعت في فخّ الخديعة، فإن نظيرتها الإسرائيلية على الأرجح، لم تكن قد توقّعت حجم ونوع القدرة الإيرانية على خوض مواجهة مؤلمة لدولة الاحتلال لم تعهدها منذ تأسيسها العام 1948.
هدأت جولة ولم يهدأ الصراع، فلا دولة الاحتلال انهارت كما كان يهدّد الإيرانيون، ولا النظام الإيراني سقط، أو حتى لم يعد تهديداً إستراتيجياً للكيان كما يدّعي نتنياهو وفريقه.
إذا كانت الحروب تُقاس بخواتيمها، فإن النتائج التي تحقّقت حتى الآن لا تعطي لأيّ طرفٍ أفضلية إعلان الانتصار.
الإسرائيليون في حكومتهم الفاشية و»المعارضة»، أعلنوا الانتصار مبكراً إذ ادّعى نتنياهو أنّه حقّق انتصاراً ساحقاً وإستراتيجياً على إيران، وطمأن الإسرائيليين أنه أنهى التهديد الإيراني.
نتنياهو فعل ذلك مراراً، بعدما جرى على الجبهة اللبنانية، وحين توقّفت المقاومة العراقية عن الإسناد، وأعلن أنّه سيواصل حربه على غزّة، لتحقيق الانتصار الحاسم، وإنهاء كل بؤر التهديد الذي يواصل القول إنه يستهدف وجود كيانه الكولونيالي.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو الآخر، احتفل على طريقته بالقدرات التي تمتلكها بلاده، وتفوّق الأسلحة الأميركية.
بين الحين والآخر، يدّعي نتنياهو أنه لم يكن ليوقف الحرب لولا الضغط الأميركي، خصوصاً بعدما اعتقد أنّ الطائرات الأميركية العملاقة قد قضت تماماً على المنشآت الخاصّة بالبرنامج النووي بعد اغتيال نحو 15 عالماً إيرانياً.
في الواقع فإنه هو من أراد وقف الحرب فهو كان قد أعلن بعد ضرب المنشآت النووية الإيرانية، أنّه مستعدّ لوقف الحرب، على اعتبار أن ما قامت به الطائرات الأميركية يشكّل المشهد الأخير الذي يمكنه من إعلان النصر.
وفي ذات السياق، طالب ترامب من إيران إعلان الاستسلام، والإذعان، لكن لا ما أراده ولا ما أراده نتنياهو قد حصل.
في الواقع فإنّ ترامب أظهر بصيرة، لا تتفق مع الهوس الإسرائيلي للحرب، التي أصبحت الملاذ الوحيد لنجاة نتنياهو لأطول فترة ممكنة.
يدرك ترامب، التداعيات المترتّبة على استمرار الحرب، في الموقع الإستراتيجي الذي تحظى به إيران، ذلك أنّ سقوط الأخيرة من شأنه أن يقلب المنطقة، ووسط آسيا وشرقها رأساً على عقب، ما تحرّكت معه مؤشّرات دخول حلفائها على الخطّ ابتداءً من باكستان، إلى الصين وروسيا وكوريا الشمالية الذين ستكون لنهاية الحرب، أبعاد إستراتيجية خطيرة على بلدانهم ومصالحهم ونفوذهم.
أن تسقط إيران، فإنّ تأثير ذلك له أبعاد هائلة على أميركا وحلفائها، وعلى مجرى الصراع الجاري بشأن النظام العالمي.
الحروب لا تُقاس بحجم الخسائر، ولكن بمآلاتها وتداعياتها اللاحقة. أحد المسؤولين الإيرانيين كان مُحقّاً حين قال بعد توقّف القتال، إن الحرب قد بدأت للتوّ.
باعتراف معظم المراقبين، فإنّ المشروع النووي الإيراني لم ينتهِ، وأنّ بالإمكان استعادة ما تمّ تدميره. فالعلماء موجودون والخبرة موجودة والإمكانيات كذلك والأمر يتعلّق بالإرادة، وهي أشدّ صلابة ممّا مضى.
إيران ستحاول التقاط الأنفاس، وإعادة تنظيم صفوفها، وقدراتها، وتمكين نظامها السياسي، وتنظيف ساحتها الداخلية من الاختراقات الأمنية، وستجد من حلفائها المساعدة والدعم.
دولة الاحتلال ومعها أميركا، ستواصلان تخريب البنية الداخلية للنظام السياسي الإيراني، بهدف إسقاطه في الأساس من الداخل. ولكن إذا كانت إيران بحاجة إلى فترة التقاط الأنفاس وهي قادرة على إعادة بناء الذات، فهل ينطبق الأمر على الدولة العبرية؟
ما تعرّضت له الدولة العبرية كلها، من شأنه أن يقوّض الأمن ويدفع الكثيرين للمغادرة، هذا عدا الخسائر المادية والاقتصادية، والمكانة.
ستتفرّغ إيران لمداواة جراحها، وستمتلئ شوارع دولة الاحتلال بالاحتجاجات والصراعات والتناقضات، فجرح غزّة لا يزال غائراً بينما يواصل نتنياهو حروبه على المنطقة.
الأيام الفلسطينية