لجريدة عمان:
2025-05-23@04:06:02 GMT

مَـقـام الـذّات

تاريخ النشر: 9th, April 2025 GMT

للإنسان مـقـدارٌ من الاعتـداد بالذّات يكاد أن لا يَـعْـرَى منه أحـد؛ فهو شديـد التّـعـلُّق بذاته بما لا يناظـره تعـلُّـقٌ آخـر بغيرها؛ وقـد لا يـثق إلّا بها في الأغلب، بـل نادرًا ما قـد تـتزعزع لـديه الثّـقـةُ أو تصيبُها ذَرّةٌ من شـكّ. وحتّى في الأحـوال التي يـثـبُتُ له فيها بطلانُ ما قـرَّ عليه يقيـنُ ذاته فيدعوهُ ذلك إلى المراجعـة وتصويـب وِجهـة الإدراك، يأبى إلّا أن يوفّـرها من أيّ نـقـدٍ فـيلتـمس لها الأعـذار ويبـرِّر لها ما أخطأت حسبانـه، أو يسكت عمّـا ذهلت عنه.

هـذا مسْلَـكٌ إنسانيّ طبـيعيّ في مقـام الفعل النّابع من محض الغريزة، لذلك ليس في هذا الولـع الشّـديد بالذّات ما يدعو إلى الاستغراب أو الاعتـقاد بمجافاته للطّـبائع. ومن الثّـابت أنّ هذا المنزع إلى التّمسُّك بالذّات والانصرافِ إلى إشباع مطالبها هـو عينُـه الذي تـتولّد منه ظواهر عـدّة في حياة الإنسان من قـبيل: حبّ التّملُّك، والأنانيّـة، والغرور، والاستعلاء، والشّعور بالتّـفوّق، والشّعور بالكرامة...، وسواها من الظّواهر الطّبيعيّـة الإنسانيّـة المتراوحة بين حـدّ السّواء وحـدّ المَـرض، والتي تـترجم تـيّارات الطّبيعة الإنسانيّـة (والحيوانيّـة) المعتملة في الكائـن الإنسانيّ.

على أنّ الذّاتيَّ في الإنسان ليس منحصرًا في ذلك المعطى الطّبيعيّ، بـل كثيـرًا ما يحتاجُ فـكُّ لُـغـزِه إلى العودة إلى الاجتماعيِّ والثّـقافيِّ لرؤية أبعادٍ أخرى فيه قـد تكون محجوبةً أو قـد تُـنْسَب، خـطأً، إلى المَنازع الطّـبيـعيّـة حصرًا.

معنى ذلك أنّ الذّات منـتوجٌ اجتماعيّ وثـقافيّ مـتولّـدٌ مـن تاريخ كـلّيّ هو عيـنُـه تاريخ الإنسان في أبعاده الشّاملة: الاجتماعيّـة والفرديّـة والثّـقافيّـة، وليس معطًى من الطّبيعـة فحسب. قـد يـبدو الذّاتيُّ في الإنسان صعيـدًا مستـقلًّا عـمّـا هـو في حكم اجتماعيّـات الإنسان أو مـا هـو اجتماعيٌّ في الإنسان، بل إنّ ذلك -بالذّات- هو ما سعتِ الفلسفاتُ الوجوديّـة واللّـيبراليّـة والفردانيّـة إلى التّشديد على بداهـته، وعلى ضرورته، في مواجهة النّـظام الجمعانيّ التّـقـليديّ أو الأيـديولوجيّـات والفلسفات الاجتماعيّـة والاشتراكيّـة. غير أنّ حقيقة الذّاتيّ خلافُ ذلك تمامًا؛ إذْ مـع أنّ الذّات تنطوي على مساحةٍ من الفرديّـة والاستقلاليّـة عن المحيط الخارجيّ، هي ما يصنع لحظةَ الحرّيّـة في الكينونة الإنسانيّـة، إلّا أنّها -في الوقـتِ عينه- لم تـتكـوّن كـذاتٍ إلّا في سياق مؤثّـرِات موضوعيّـة فاعلة.

ومهما بالغت الذّاتُ في النّـظر إلى نفسها بحسبانها جوهرًا ومبدأً للوجود -على ما أشاعه الكوجيتوالدّيكارتيّ- فإنّ كـينونتها تشكّلت من مجموع العوامل التي اتّصلت بها أو حدّدتها بوصفها ذاتًـا. ومعنى ذلك أنّ الموضوعَ، ما خارجَ الذّات، هـو ما يحـدّد الذّات وما يجعل الأخيرةَ تُدْرِك أنّها ذاتٌ تتـمتّـع بكيانيّـةٍ مستقـلّـة؛ وهـو ما يحصل لها حين يفضي بها اتّـصالُها بمحيطها التّاريخيّ إلى تحقيق لحظة الوعـي الـذّاتيّ.

نحن لا نـتعرّف إلى ذواتـنا، لا نـتمـيّـز ما تـنماز بـه ويصنع كيـنونها الخاصّـة، إلّا في علاقاتها بغيرها الآخر. الآخـر -وهـو موضوع خارجيّ- هو ما يحمل الذّات على وعيها نفسَـها؛ على وعي غيْـريّـتها واختـلافها. وهـذا التّـقابل بين الـذّات وآخَـرِها، بينها ومحيطِها الخارجيّ هو ما ينفي، تمامًا، النّـظرة الجوهـرانيّـة إلى الذّات بوصفها ذاتًـا مفـردَةً مستـقـلّـة عن أيّ تأثـيرٍ خارجها ومستكـفيـةً بنفسها عن غيرها، متـشـبّعة عن غيرها، متـشبّـعة بحيّـزها الخاصّ ومتـغـذّيـة من ينابيـعها الخاصّـة...

قـد لا يَـحْـفِـل بأمر الذّات، بما هي كيانٌ مفـرَدٌ مجـرَّدٌ من الأخـلاط، سوى الفلسفة والفلسفة الوجوديّـة على نحـوٍ خاصّ. حتّى التّـحليل النّـفسيّ وعلم النّـفـس إجمالًا (وليس علم النّـفس الاجتماعيّ فـقط) لا يجرّدان الذّات المفـرَدة من آثار المحيط الاجتماعيّ فيها؛ لأنّ من شأن مثـل ذلك التّـجريد أن يـحُول دون معرفة حالها على التّحقيق. أمّـا في علوم الاجتماع وعلم التّاريخ وفلسفة السّياسة وفلسفة الدّيـن...، فالذّات مرآةٌ تـنعكس فيها مؤثّـراتُ المحيط ولا تُـدْرَك إلّا بمـا هي جـزءٌ منه.

الأهـمّ من ذلك أنّ هذا المفهوم فـوق- الفرديّ للذّات، الذي تتـوسّله هـذه الميادين من المعرفة، يتيح إمكانًا لتعريفٍ آخر مختلفٍ لها تكون فيه الذّات أوسعَ مدًى من الفـرد وأكـثـر إجرائيّـةً لفهم الاجتماع والتّاريخ. وهكذا، فبمقدار ما ترمُز إلى الفرد (الذّات المفـردَة)، ترمز إلى المجتمع (الأمّـة، الحضارة) وإلى التّاريخ فـيُـنْـظَـر إليها، بهذا الاعـتبار، من حيث هي ذاتٌ (أو أنا) جماعيّـة.

والحـقّ أنّ ما يَـعْـرِض لذات الفـرد من ضروب الإدراك للعالم ومـن ضروب التّـفاعل معه، سِلبًا وإيجابًا؛ وما يَـرْقُـد في جوفها من ضروب اليقيـن والإيمان والثّـقة بالنّـفـس يَـعْـرِض للذّات الجماعيّـة (المجتمع، الأمّـة، الحضارة)؛ حتّى لقد تبدو الذّاتُ الثّانيـة في هـذا امتـدادًا لذات الفـرد أو تجسيمًا مكـبَّرًا لها، مع أنّ ميلاد هذه الذّات الجماعيّـة -لِـنَـقُـل الهُـويّـة- لا يكون إلّا بتـكـوُّن وعـيٍ جمْعيّ أو وعـيٍ بها من حيث هي ذاتٌ جماعيّـة؛ وهـذا، أيضًا، لا يتـأتّى ويُمكن أمـرُه إلّا بتجاوز الوعي الذّاتيّ الفرديّ ومجاوزةِ حدود عالم الفـرد وهواجسه ومصالحه، أي جملة ما يجعله منكفـئًا على داخلٍ مغلَـق. في هذا الوعي بالذّات الجماعيّـة، فـقط، يمكن تحقيقُ وعيٍ ذاتيّ فـرديّ متوازن وفاعـلٍ، غيرِ مضطرِب ومتخاصم مع المحيط الجماعيّ؛ أو، لِـنَـقُـل، تحقيق وعـيٍ غـيـرِ شقيّ.

ولأنّ الذّات شديدةُ الاعتداد بنفسها والتّـمركُزِ على ذاتها فـإنّها، في صورها الثّـلاث (الفرد، الجماعة، الحضارة)، تبدو من الدّاخـل على هيـئة طـبقـاتٍ متـكلّـسة من مـواردَ شعوريّـة وعَـقـديّـة وفكـريّة متعاقبة على ساحة وعيها.

وهـذه كنايـةٌ عن مشاعـرَ إيجابيّـة أو سلبيّـة (فرديّة وجماعيّـة)، وعن نظيرها من الاعتـقادات واليقـينـيّـات الرّاسخة عميقًا التي تكاد أن لا تـتزعزع. إنّ ما تعيه هـذه الذّات في حاضرها ليس من تـلقاء وعـيٍ شَـحَـذهُ عصـرُهُ وزمـنُـه، بل الغالبُ عليه أنّـه ثمـرةُ وعـيٍ مسكـونٍ بمحصَّـلة ما انـتهى إليه -بالمواريـث- من يقيـنيّـاتٍ منحدرة من أزمـنـةٍ سالفة.

بـل إنّ كثـيرًا ممّـا تفعله تلك الذّات وتسـلكُـه لا يكون ممّا تُمليه عليها أوضاعُها المتجدّدة، بـل ممّا دُرِج عليه طويلًا واعْـتيـدَ حتّى بات تـقليدًا أشبه ما يكون بالمـقدّس. والحـقُّ أنّ أمّ المشكلات، هـنا، إنّما هي في أنّ الذّات تستبـده ما اعـتـنـقـتْـه من أفـكارٍ وما درجتْ عليه من مسلك أو أفعال من غير أن تستريب -لحظةً- في صحّـتها. هكـذا تمتـنع، بالتّـلقاء، عن مساءلة نـفسها ومراجعة مخزونها من الأفـكار والأفـعال ذاهبـةً في مُـعتادها، بـل سادرةً فيه!

عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

مات وهو جعان.. صرخة جدّة فلسطينية تودّع حفيدها تشعل التواصل الاجتماعي (شاهد)

"والله شهرين ما داق الخبز، ولا آكل شي، ولا ذاق الأكل، والله مات وهو جوعان.." بهذه الكلمات الموجعة، بكت جدّة فلسطينية بحرقة، إثر توديعها الأخير لحفيدها الصغير، الذي استشهد إثر استهداف لقوات الاحتلال الإسرائيلي على خان يونس، المتواجدة بجنوب قطاع غزة المحاصر.

أضافت الجدّة المكلومة، ومن حولها من الأهالي بالقطاع المحاصر، الذي يعيش على إيقاع مأساة إنسانية لم تعد الكلمات قادرة على وصفها، بالقول: "حسبنا الله ونعم الوكيل عليهم".

"شهرين ما داق الأكل مات وهو جعان".. صرخة فلسطينية خلال وداع حفيدها جراء استهداف في خان يونس جنوب قطاع غزة pic.twitter.com/qXr8yoJr7Y — الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) May 20, 2025
مقطع الجدّة وهي تصرخ بعلوّ صوتها إثر استشهاد حفيدها بالقول: "والله مات وهو جوعان.." عرف تفاعلا واسعا على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، بين من أعاد نشره على حساباته، وبين من تفاعل معه بتعليقات متعاطفة مع الشعب الفلسطيني، وخاصّة الغزّيين، ومندّدين بعدوان الاحتلال الإسرائيلي الأهوج المتواصل.

وفي السياق نفسه، أفادت مصادر طبية فلسطينية، فإن 13 شخصا، أغلبهم من النساء والأطفال، قد استشهدوا صباح اليوم، جراء قصف الاحتلال، لمنزل عائلة أبو سمرة، شرق مدينة دير البلح، وسط قطاع غزة. فيما أبرزت مصادر فلسطينية، مُتفرٍّقة، أن 15 شخصا قد استشهدوا، في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، وأصيب آخرون، في قصف الاحتلال، لنازحين داخل محطة راضي للبترول، غرب المخيم.

وداع بلا رجعة، الألم الذي يمزق القلوب????????
لا يوجد أصعب من وداع أخٍ للمرة الأخيرة. شقيقان يودعان أخاهما الثالث، والدموع تسيل كالنار على القلوب، ما ذنب هؤلاء الصغار أن يخسروا من يحبون؟
لا تتجاهل من أجل الإنسانية لا تتوقف عن النشر ???? والمشاركة.????????#في_غزة_قتلت_الطفولة#غزة_تُباد pic.twitter.com/KMhwKrmgUB — ????????✌????????Hanan Al fashg حنان الفاشق (@han_moh7) May 10, 2025 يا لها من لحظة مؤثرة! بعدما أصرّ الاحتلال على منعهم من المغادرة، جثت سيدة فلسطينية ساجدة شكرًا، إثر سماحهم أخيرًا بسفر أحفادها المرضى لتلقي العلاج خارج قطاع غزة pic.twitter.com/EqT8ryuApA — Tamer | تامر (@tamerqdh) February 5, 2025
أيضا، ارتكب الاحتلال مجزرة عبر قصفه لمدرسة موسى بن نصير، التي تؤوي نازحين في حي الدرج، المتواجد في شرق مدينة غزة، وذلك عقب سلسلة من الغارات العنيفة التي تسببت في دمار كبير في المنطقة، إذ سقط 13 شهيدا في قصف المدرسة، وأصيب 10 آخرون، بعد استهدافهم بطائرتين انتحاريتين.


وفي مخيم جباليا، قد ارتكب الاحتلال كذلك مجزرة، بحق عائلة المقيد، بعد قصف مباشر استهدف منزلها، ما أسفر عن استشهاد 9 من أفراد العائلة، ناهيك عن فقدان آخرين.

إلى ذلك، منذ فجر اليوم الثلاثاء، ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي عدّة مجازر وحشية، مُتتالية، في كل من شمال ووسط قطاع غزة المحاصرين، بعد قصفه مراكز إيواء للنازحين، ومنازل مأهولة بالسكان، جلّها موثّق بالصوت والصورة، وأمام مرأى العالم، وصمته، إلّا من احتتاجات صارخة لا تزال تجوب عدد من الدول عبر العالم، بينها عربية، من قبيل: اليمن والمغرب.

مقالات مشابهة

  • الموارد البشرية: الضمان الاجتماعي يحول الفرد والأسرة لأشخاص منتجين .. فيديو
  • واتساب يتصدر تطبيقات التواصل الاجتماعي الأكثر استخداما بالمملكة
  • الإسكان الاجتماعي: خطوات التقديم في «سكن لكل المصريين 7»
  • عدد الأصدقاء أم نوعيتهم؟.. ما الذي يحقق لنا السعادة في التواصل الاجتماعي؟
  • تطبيقات التواصل الاجتماعي تتصدر مشهد الاستخدام الرقمي في المملكة
  • التضامن الاجتماعي تشارك باحتفالية تمكين ذوي الهمم بالنيابة الإدارية
  • التقديم يبدأ غدًا.. أماكن شراء كراسة شروط شقق الإسكان الاجتماعي لمحدودي الدخل
  • مات وهو جعان.. صرخة جدّة فلسطينية تودّع حفيدها تشعل التواصل الاجتماعي (شاهد)
  • غدًا.. فتح باب الحجز لشقق الإسكان الاجتماعي الجديدة 2025
  • شقق الإسكان الاجتماعي.. ما هو مقدم الحجز وموعد التقديم بـ «سكن لكل المصريين 7»؟