عربي21:
2025-06-13@11:23:48 GMT

أيُّ معنى لحرية الإعلام في تونس بعد الثورة؟

تاريخ النشر: 19th, April 2025 GMT

أثارت تدوينة السيد منجي الخضراوي الكاتب العام السابق للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين والمستشار الإعلامي سابقا في رئاسة الحكومة جدلا واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي. وهي تدوينة اعترف فيها بأنّ أفضل أيام حرية الصحافة كانت "زمن حكم الخوانجية" ـ أي حركة النهضة ـ، وهو اعتراف لم يجد قبولا حسنا عند الأغلب الأعم ممن يسميهم "الخوانجية" ومن يشترك معهم في المرجعية اليسارية على حد سواء.

فالنهضويون والقريبون منهم أرادوا منه الاعتذار أو تقديم نقد ذاتي لأداء الصحافة ما قبل "تصحيح المسار"، أما اليساريون ـ ومن ينتسبون إلى ما يسمى بـ "القوى الحداثية" عموما ـ فقد اعتبروا تدوينته خيانة للسردية اليسارية وتبييضا "للخوانجية".

ولا تعنينا تدوينة السيد الخضراوي في هذا المقال إلا باعتبارها مدخلا جيدا لطرح سؤال ينتمي إلى دائرة "اللا مفكر فيه" في السجال العمومي التونسي: هل يعكس ترتيب تونس في التقرير السنوي لحرية الصحافة الذي تصدره منظمة "مراسلون بلا حدود" حرية حقيقية للإعلام خلال مرحلة "الانتقال الديمقراطي" وما بعدها؟

في الظاهر، قد يبدو أن طرح هذا السؤال هو ضرب من السباحة ضد التيار. فأغلب التونسيين مجمعون على تدهور الحريات –بما فيها حرية الإعلام- وهو ما تشهد عليه التقارير المحلية والأجنبية، خاصةً بعد صدور المرسوم عدد 54 المؤرخ في 13 سبتمبر/أيلول 2022. ففي سنة 2024 احتلت تونس المرتبة 118 من بين 180 دولة، وكانت قد احتلت المرتبة 121 سنة 2023 ، المرتبة 94 سنة 2022، أما سنة اتخاذ الرئيس لإجراءاته "التصحيحية" يوم 25 يوليو ـ أي سنة 2021 ـ   فقد احتلت تونس المرتبة 73 في مؤشر حرية الصحافة عالميا.

إننا نذهب إلى أن معايير التصنيف التي تشير إلى تحسن الحريات الصحفية في تونس بعد الثورة ـ وقبل تصحيح المسار ـ لا تعكس الواقع الكلّي في تعقيداته التي قد لا تحيط بها المؤشرات الكمية والنوعية.

ولا شك في أن هذا المسار الانحداري للحريات الصحفية ـ حسب محددات التصنيف المعتمدة من لدن منظمة مراسلون بلا حدود ـ سيكون أكبر شاهد على صدق تدوينة السيد منجي الخضراوي وغيره، إذا ما قورن بترتيب تونس خلال "مرحلة الانتقال الديمقراطي"، تلك المرحلة التي مازال الكثير من "الحداثيين" يصرّون على وصفها بمرحلة حكم "الخوانجية" أو "منظومة النهضة" سواء خلال مرحلة "الترويكا" أو خلال مرحلة "التوافق" بين حركة نداء تونس وحركة النهضة.

تُعرّف منظمة مراسلون بلا حدود حرية الصحافة بأنها "الإمكانية الفعلية للصحفيين، بشكل فردي وجماعي، لاختيار وإنتاج ونشر المعلومات التي تصب في المصلحة العامة، وذلك في استقلال عن التدخل السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي، ودون أي تهديدات ضد سلامتهم الجسدية والعقلية"، كما يشير موقع المنظمة إلى أن استبياناتها تتمحور حول "خمسة أقسام منفصلة أو خمسة مؤشرات: السياق السياسي والإطار القانوني والسياق الاقتصادي والسياق الاجتماعي والثقافي والسياق الأمني"، حيث يتم التصنيف بناءً على حصيلة كمية ترتبط بالانتهاكات ضد الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، وحصيلة نوعية تحددها إجابات الخبراء والمتدخلين في المجال الإعلامي (صحفيون، باحثون، أكاديميون، مدافعون عن حقوق الانسان الخ).

بصرف النظر عن الطابع المعياري لتعريف حرية الصحافة الوارد أعلاه ـ فهو يفترض استقلالية متعالية عن أي تدخل سياسي واقتصادي وقانوني واجتماعي، الأمرُ الذي يمكن التسليم به ـ، فإننا نذهب إلى أن معايير التصنيف التي تشير إلى تحسن الحريات الصحفية في تونس بعد الثورة ـ وقبل تصحيح المسار ـ لا تعكس الواقع الكلّي في تعقيداته التي قد لا تحيط بها المؤشرات الكمية والنوعية. ففي مرحلة التأسيس ومن بعدها مرحلة الترويكا، لم يستطع وجود حركة النهضة في مركز الحقل السياسي ولا كل الترسانة التشريعية المنظمة للعمل الصحفي أن يغيّرا من واقع المشهد الإعلامي ـ العمومي والخاص ـ في ارتباطاته التاريخية والعضوية بالمنظومة الاستعمار الداخلي ـ أي بالمركّب الجهوي ـ المالي ـ الأمني وأذرعه الإيديولوجية الوظيفية ـ.

وكانت "حرية الصحافة" مرتبطة أساسا بقدرة الإعلاميين اللامشروطة على انتقاد حركة النهضة وحلفائها دون خشية من المساءلة القانونية أو المعاقبة من لدن "الهايكا" باعتبارها الهيئة المكلفة دستوريا بتعديل المشهد الإعلامي وتنظيمه. وهي معاملة "تفضيلية" لم يتمتع بها المنابر الإعلامية المحسوبة على حركة النهضة أو المنتمية للإعلام البديل، أي لذلك الإعلام الذي يحاول كسر هيمنة النخب الإعلامية التقليدية ومن يقف وراءها في الدولة وفي عالم المال.

في ظل ارتباط الأغلب الأعم لخطوط التحرير المعتمدة في وسائل الإعلام العمومية والخاصة بالدولة العميقة وواجهاتها السياسية بعد الثورة، كان من الطبيعي أن تعكس استبيانات "مراسلون بلا حدود" تحسنا لمؤشرات حرية الصحافة. فأغلب الصحفيين كانوا فعلا ينشرون معلومات "تصب في المصلحة العامة" من منظور "النخب الوظيفية"، أي من منظور أولئك "الخبراء" و"الحقوقيين" و"الأكاديميين" الذين ستعتمد المنظمة شهاداتهم لبناء تصنيفاتها.

لا يعكس التصنيف الدولي لحرية الإعلام في تونس وجود حرية إعلامية حقيقية ترتبط بالانحياز للحقيقة أو لبناء المشترك المواطني أو " في استقلال عن التدخل السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي" بقدر ما يعكس وجود نوع من التعامد الوظيفي بين الإعلام ومنظومة الاستعمار الداخلي خلال "مرحلة الانتقال الديمقراطي".أما من الناحية الكمية، فإن الخيار الاستراتيجي لحركة النهضة في التطبيع مع المنظومة القديمة وتجاوز منطق البديل إلى منطق الشريك، كل ذلك قد جعلها تمتنع عن التضييق على الصحفيين أو تتبعهم قضائيا، مما قلّل من "الانتهاكات" في حق الصحفيين والمؤسسات الإعلامية. ومن جهة "الهايكا" (الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري) فقد حرصت ـ بتركيبتها المطبّعة مع ورثة المنظومة القديمة وحلفائها ـ بالتوازي مع معاملتها التفضيلية للصحفيين والمؤسسات الخادمة للدولة العميقة على انتهاج منطق التضييق الممنهج على المنابر الإعلامية المغرّدة خارج سرب "النمط المجتمعي التونسي" وأساطيره التأسيسية. وبحكم قلة هذه المنابر وعدم حيازتها لحزام من الخبراء والحقوقيين والأكاديميين، فإن التضييقات التي تعرّضت لها لم تكن لتؤثر في مؤشرات التصنيف الدولي لحرية الإعلام في تونس.

إن قلة التضييقات على العمل الإعلامي خلال مرحلة "التوافق" ـ بل منذ هروب المخلوع ـ لم تكن مرتبطة بوجود حرية إعلامية حقيقية تعكس الانحياز للحقيقة ولمن هم أسفل، أو تعكس اندراجا مبدئيا في بناء المشترك المواطني، بقدر ما تعكس انتفاء الحاجة السلطوية إلى اعتماد منطق "العصا" بحكم نجاح منطق "الجزرة" إلا في حالات نادرة ومعزولة. فالدولة العميقة ـ أي منظومة الاستعمار الداخلي ـ كانت تسيطر على أغلب الخطوط التحريرية للإعلام العمومي والخاص، وكانت تحتاج لشرعنة أذرعها السياسية والمدنية والنقابية وغيرها إلى مناخ "صوري" ومراقب جيدا من الحريات التي لا تهدد نواتها الصلبة. فلو أردنا استقراء مضامين الحرية قبل "تصحيح المسار" فإننا سنجدها تكاد تنحصر في حرية انتقاد المقدس الديني وانتقاد حركة النهضة ومن طبّع معها من الفاعلين الاجتماعيين. وذلك لا ينفي وجود أصوات هامشية حاولت الدفع بالحرية إلى مدارات تقلق الدولة العميقة من مثل الاقتصاد الريعي والخيارات الجهوية للسلطة وعلاقاتها اللامتكافئة مع الخارج في مستوى التبادل المادي والرمزي. ولكنها أصوات مهمشة وغير قادرة على تشكيل رأي عام ولذلك لم يكن التعامل معها محوجا إلى تضييقات أمنية أو تدخلات "تعديلية" من لدن الهايكا.

لو أردنا اختصار ما تقدم في جملة واحدة فإننا سنقول: لا يعكس التصنيف الدولي لحرية الإعلام في تونس وجود حرية إعلامية حقيقية ترتبط بالانحياز للحقيقة أو لبناء المشترك المواطني أو " في استقلال عن التدخل السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي" بقدر ما يعكس وجود نوع من التعامد الوظيفي بين الإعلام ومنظومة الاستعمار الداخلي خلال "مرحلة الانتقال الديمقراطي". وهو تعامد مازال مستمرا إلى حدود هذه اللحظة لكن من منظور جديد. فإذا كانت مرحلة "التوافق" مثلا تقتضي توظيف الرأسمال اليساري الوظيفي في خدمة استراتيجيات إعادة التموضع والانتشار مع ترك "هامش" من الاستقلالية التي توفر للعديد من الإعلاميين "امتيازات السلطة وشرف المعارضة"، فإن سردية "تصحيح المسار" تقتضي الدفع بهؤلاء إلى الهامش وإعادة هندسة المشهد الإعلامي تشريعيا وبشريا. فـ "تصحيح المسار" يقوم "نظريا" على "التأسيس الثوري الجديد" وعلى القطع مع الماضي ورموزه، ولكنه "واقعيا" يقوم على الاستعانة بوجوه جديدة من المنظومة القديمة وأذرعها الوظيفية، وهو ما يعني انتفاء الحاجة إلى أغلب الوظيفيين ـ في مختلف القطاعات بما فيها الإعلام ـ، أي انتفاء الحاجة لأولئك الذين سيطروا على عشرية الانتقال الديمقراطي. وهو خيار سلطوي ضروري لتصعيد "نخب بديلة" هي بدورها نخب غلبت عليها "السياحة الحزبية" زمن الانتقال الديمقراطي ومطبّعة مع الدولة العميقة مما يجعلها قابلة للتوظيف والتدجين.

إن ما يُسمّى تراجعا في حرية الإعلام ليس في الحقيقة إلا تغيرا في استراتيجيات النواة الصلبة للحكم في التعامل مع الإعلام تبعا لاحتياجاتها ومصالحها "الوجودية".إذا كنا من الناحية "الصورية" أو الجزئية لا نستطيع التشكيك في تصنيفات "مراسلون بلا حدود"، فإن اعتماد الجانب "المضموني" واستحضار علاقة الإعلام باستراتيجيات الدولة العميقة خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي وما بعدها سيجعل تلك التصنيفات محل مساءلة نقدية وذات قيمة تحليلية محدودة. ومن هذا المنظور فإن "الحريات الصحافية" لم تكن حريات حقيقية تتحرك ضد المنظومة السلطوية ونواتها الصلبة أو تساهم في ترسيخ الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا، بقدر ما كانت تعبيرا عن الاحتياجات المؤقتة/السياقية للنواة الصلبة لتلك المنظومة في صراعها ضد حركة النهضة وضد تغيير المعادلات المتحكمة في إنتاج السلطة وتوزيع الثروة.

ختاما، فإن ما يُسمّى تراجعا في حرية الإعلام ليس في الحقيقة إلا تغيرا في استراتيجيات النواة الصلبة للحكم في التعامل مع الإعلام تبعا لاحتياجاتها ومصالحها "الوجودية". فلا النهضة كانت تحمي الحريات الإعلامية "زمن حكم الخوانجية"، ولا الصحفيين كانوا هم من يحمي حريتهم زمن "التوافق"، ولا هم قادرون الآن على حمايتها زمن "تصحيح المسار. فتلك "الحرية" كانت ومازالت هامشا موكولا لتقديرات الدولة العميقة واحتياجات النواة الصلبة للحكم، ولم تكن يوما مكسبا راسخا وغير قابل للسحب من لدن السلطة.  وهو أمر ليس من مصلحة أغلب المتدخلين في الشأن الإعلامي أن يواجهوه دون مجاز. فمواجهته تعني تجاوز الاصطفافات الهوياتية والقيام بنقد ذاتي جذري يتجاوز منطق التبرير والادعاءات الذاتية. ولكنّ ذلك كله أمر مستبعد في المدى المنظور سواء من جهة اليسار أومن جهة اليمين. 

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء التونسيين الحريات رأي تونس حريات اعلام رأي قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاستعمار الداخلی مراسلون بلا حدود الدولة العمیقة تصحیح المسار حریة الصحافة حرکة النهضة بعد الثورة خلال مرحلة بقدر ما لم تکن من لدن

إقرأ أيضاً:

ماذا بقي من معنى «حوار الحضارات»؟!

بينما كانت حمم الاحتلال الإسرائيلي تُحيل أطفال غزة إلى رماد، كان العالم يحتفل يوم الثلاثاء بـ«اليوم الدولي لحوار الحضارات»، وكان سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل، مايك هاكابي، يصرّح بأن بلاده لم تعد تؤيد قيام دولة فلسطينية مستقلة. لم يكن هذا التزامن صدفة زمنية، ولكنه تجسيد حقيقي لانفصام الخطاب عن الفعل، وانهيار القيم الكونية تحت وطأة المواقف السياسية. ففي الوقت الذي تُرفع فيه الشعارات عن التفاهم والاعتراف المتبادل، تُغلق الأبواب أمام أكثر الحقوق بداهة، وتُختزل الحضارات إلى مجرد خرائط جيوسياسية لا تقيم وزنا للعدالة أو الكرامة ولا إلى المشتركات الإنسانية.

ورغم أن العالم لم يعد مشغولا أو محتفيا كثيرا بأطروحة «حوار الحضارات» كما كان في تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الجديدة إلا أن الحقيقة في الميدان تدعونا جميعا إلى تلمس خطر التصعيد غير المسبوق بين مختلف الحضارات والذي أفرز عالما متعدد التوجسات. إن هذا الاستقطاب الكبير يقود إلى أخطر لحظة شحن عالمية من شأنها أن تقود إلى الصدام الكبير، والذي إن وقع، فلن يكون محصورا بين «الشرق والإسلام» من جهة و«الغرب الليبرالي» من جهة أخرى، كما توهّم هنتنغتون في أطروحته، بل سيكون انفجارا متعدد الجبهات: صيني ـ غربي، وأوراسي ـ أطلسي، وفارسي ـ أمريكي/ إسرائيلي. وكل جهة تدعي أن لديها مبررات الصدام وهي إلى الاشتعال أقرب من أي لحظة سابقة.

لكن ما يجعل هذه اللحظة أخطر من كل ما سبقها، هو أنها لا تعيش في خانة النظريات أو الدعوات، بل تُمارس على الأرض بتشظٍ كامل في القيم والنماذج، معلنة دخولنا عصر ما بعد التواصل، وما بعد المنطق المشترك. إنها تتجاوز بمراحل كثيرة لحظة صموئيل هنتنغتون ومحمد خاتمي على السواء. وضع الأول أطروحة الصدام على هيئة تنبؤ نُزعت عنه السياسة وأُلبس لباسا حضاريا، بينما جاء الثاني حالما بأن تجتمع الحضارات في قاعة واحدة تستمع فيها كل حضارة إلى الأخرى في سبيل أن تفهمها.

لقد تحوّل الغرب، الذي ادّعى لنفسه موقع الناطق الرسمي باسم الكونية، إلى كيان مزدوج: يدعو إلى الحوار من جهة، ويفرض الحصار والتفوق القيمي من جهة أخرى. في هذا السياق، لا يمكن أن يكون حوار الحضارات مجرد مشروع أخلاقي، ولكن لا بد أن يكون تفكيكا جذريا لبنية القوة، ولخطابات الهيمنة وللدعوة إلى نفي الآخر وإبادته، ولكل البنى الثقافية والفكرية التي تقوم عليها مختلف الحضارات.

فالصراع مع الحضارة الصينية ليس اقتصاديا محضا، بل هو أيضا صراع على أنماط التنظيم الاجتماعي، وعلى تعريف «القوة» و«النجاح» خارج النموذج الليبرالي. والصدام مع الحضارة الأوراسية بقيادة روسيا يتخذ بعدا إمبراطوريا ثقافيا يعيد رسم خرائط النفوذ والميراث المسيحي ـ السلافي في مواجهة الهيمنة الغربية. أما الصدام مع الحضارة الفارسية، فهو أكثر تعقيدا: حضارة قدمت للعالم خطابا باسم «حوار الحضارات» في 1998 على لسان محمد خاتمي، لكنها تُعامل اليوم ككيان يُراد تطويقه ومحو رمزيته.

إن ما يُحتفى به اليوم في الغرب بوصفه «حوار حضارات»، لا يعدو كونه طقوسا شكلية تُقام على ركام النسيان، بينما تُدار السياسات الحقيقية بمنطق الهيمنة والعزل، دون إنصات لصوت الهامش، ودون تفكيك للخطاب الاستعماري ودون إعادة الاعتبار للذاكرة بوصفها حقا أصيلا في السرد، فالحضارة التي لا يُعترف بجراحها، لا يمكنها أن تتحاور؛ لأنها ستبقى في حالة ألم وصراخ.

يحتاج العالم في هذه اللحظة الخطرة أن يتحدث بكثير من الوضوح؛ فالصراع ليس قادما، إنه، هنا، في كل لغة إعلامية تشرعن القتل، وفي كل قراءة مشوّهة للآخر وفي كل تصريح سياسي أو رأي فكري يجيز أو يدعو لإبادة الآخر. وإذا لم يبنَ خطاب جديد يقوم على الاعتراف بالمظلومية وبالكرامة فلن يستطيع العالم في أي وقت من الأوقات الذهاب إلى «حوار الحضارات»، وسيكون السؤال في ذلك الوقت هل ما زالت هناك قيم حضارية باقية.

إننا في أمس الحاجة اليوم إلى نقد جذري جديد يعيد تعريف ما نعنيه بكلمة حضارة، ويمنح كل حضارة الحق في أن تكون فاعلة لا موضوعا يُدرَس أو يُراقَب.

هذا هو التحدي، وهذه هي الضرورة الأخلاقية والسياسية التي تفرض نفسها علينا في هذه اللحظة. وإذا لم يُنجز هذا التغيير، فإن الحضارات لا تنتظر طويلًا قبل أن تُستدعى إلى حروبها الكبرى، ومنطقتنا ليست بعيدة عن قلب هذا الصدام، بل هي مختبره الأول، ما يجعل تبني خطاب حضاري نقدي ضرورة وطنية قبل أن تكون مسؤولية إنسانية.

مقالات مشابهة

  • مزيان يُحذر من حملة السطو الممنهجة التي تقودها أطراف معينة للمساس بكينونة الجزائر
  • النهضة التونسية: لسنا فوق المساءلة واستبعادنا لن يعيد الديمقراطية
  • العقل والروح.. طه عبد الرحمن وسؤال الأخلاق في مشروع النهضة (2)
  • حزب الجيل الديمقراطي: حدود مصر مصانة وسيادتها الوطنية مقدسة
  • البيانوني ينهي شهادته لـ عربي21 حول تاريخ سورية والتحول الديمقراطي
  • رئيس الشعب الديمقراطي: تحالف الأحزاب قادر على المنافسة في الانتخابات المقبلة
  • ماذا بقي من معنى «حوار الحضارات»؟!
  • “اليونيفيل”: أي تقييد لحرية قواتنا انتهاك للقرار 1701
  • 1,4 مليون مقعد لخدمة الحجاج في "المسار المميز للناقلات الجوية"
  • بيان صادر عن مكتب الإعلام الدولي بدولة قطر رداً على التقارير المفبركة التي تم تداولها على وسائل الإعلام الإسرائيلية