كوارث صحية في غزة .. وأزمات انسانية طاحنة
تاريخ النشر: 19th, April 2025 GMT
بكثير من الخوف والحسرة تحاول أم محمود ذات (41) عامًا استخدام الطرق البدائية لخفض الحرارة المرتفعة التي تسببت في تدهور الوضع الصحي لابنها البكر محمود، تحمل فوطة مبللة بالماء تضعها فوق رأسه فيما تتحسس جسده الذي يصدر أنينا لا ينقطع، تقول والدموع تنهمر من عينها: «في صباح الأربعاء الماضي ذهب ابني للسوق للبحث عن الطحين الذي كان غير متوفر بسبب إغلاق المعبر برفقة أبناء عمومته وبينما هم يسيرون في الشارع إذ بطائرة الاستطلاع تطلق عليهم صاروخين بشكل مباشر، استشهد اثنان من أصدقائه وبقي هو والباقون يعانون من إصابات حرجة، تم إجراء عملية عاجلة له أدت إلى استئصال جزء من الكبد والطحال والأمعاء فيما بقيت الشظايا المتناثرة في كافة أنحاء جسده تحتاج إلى عمليات جراحية متتالية لإزالتها».
توقفت أم محمود عن الكلام عندما دخل طبيب الجراحة المتخصص يخبرهم بأن ابنهم سيخضع لعملية جراحية أخرى بشكل عاجل، بسبب التهتك الذي أصاب بعض الأعضاء الداخلية في جسده بحسب ما ظهر بعد التصوير المقطعي له.
كنت برفقة والدته حين دخل محمود الساعة الثالثة عصرًا غرفة العمليات بالمستشفى الإندونيسي وهو المستشفى الوحيد الذي بقي يعمل بعد تدمير مستشفيات شمال غزة بالكامل (مستشفى بيت حانون، ومستشفى كمال عدوان، ومستشفى الكرامة) فيما تعرَّض مستشفى العودة لتضرر كبير.
أخبرتني والدته قائلة: «خرج محمود بعد مرور خمس ساعات متواصلة داخل غرفة العمليات ليمكث في غرفة العناية المكثفة بسبب تدهور وضعه الصحي، أخبرنا الطبيب بأنه بحاجة إلى تحويلة طبية عاجلة لكن إغلاق معبر رفح البري منذ أكثر من عام كان حائلًا أمام ذلك».
توقفت عن الحديث وهي تبكي بحرقة خوفًا من فقد فلذة كبدها بسبب قلة الإمكانيات الطبية التي تعاني منها مستشفيات قطاع غزة.
بدوره تحدث الدكتور محمد ظاهر (51 عامًا) وهو طبيب يعمل في قسم الاستقبال والطوارئ داخل المستشفى الإندونيسي وعلامات الإجهاد تبدو على ملامحه بعدما انتهى من الكشف على امرأة مسنة مصابة بالسرطان حضرت للمستشفى وهي تعاني من جفاف حاد بسبب سوء التغذية ونقص الغذاء نتيجة الواقع المزري الذي وصلت إليه مستشفيات غزة، قائلًا: «العدوان الإسرائيلي على غزة دمّر 34 مستشفى ومركزا صحيا، من بينها مستشفيات متخصصة لعلاج السرطان، ما أدى إلى توقف العلاجات الكيماوية والإشعاعية بالكامل، كما تعمّد الاحتلال الإسرائيلي استهداف المستشفيات خلال الأسابيع الماضية حين قصف مستشفى الصداقة التركي بالكامل وتسبب في دمار كبير داخل المستشفى المعمداني الذي كان مكتظا بالجرحى والمرضى وقصف أيضًا بوابة المستشفى الكويتي».
وأثناء استقباله لبعض الإصابات التي وصلت المستشفى الإندونيسي أثناء إجراء هذه المقابلة حيث كان معظم المصابين ملقى على الأرض بسبب عدم توفر الأسرّة الكافية لاستقبالهم قال: «نحن نعيش أزمة إنسانية خانقة داخل المستشفى، يوجد عجز كبير في الأدوية والمستلزمات الطبية اللازمة، كما تعاني المستشفى من نقص في الطواقم الطبية فهناك أكثر من 1,400 شهيد من الكوادر الصحية، ونحو 360 من العاملين في القطاع الصحي رهن الاعتقال، يتزامن ذلك مع عدم توفر أدوية لأصحاب الأمراض المزمنة وأدوية الأمراض المزمنة ومستلزمات الجراحة وعدم توفر الأسرّة للمرضى، كل هذا بسبب الاستمرار في إغلاق المعابر».
وعن واقع المساعدات الإنسانية والدوائية التي تقدمها المؤسسات الدولية والأممية للمستشفيات في قطاع غزة أوضح الطبيب ظاهر الواقع مشيرا إلى أن «معظم المؤسسات الدولية غادرت غزة والبعض منها مُنع من الدخول للمدينة المدمرة بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وكان هناك مستشفى ميداني بالقرب من المستشفى الإندونيسي تم إغلاقه وإجبار الموجودين فيه جميعا على المغادرة، فالوضع الراهن في قطاع غزة هو أسوأ من تخيل أي بشر، هناك أمراض منتشرة بسبب نقص الغذاء والدواء والمعادن، ومعظم الحالات التي تأتي لقسم الاستقبال والطوارئ تعاني من الإسهال الحاد والضعف العام بسبب تلوث المياه، وسيكون هناك سوء تغذية حاد لو استمر إغلاق المعابر، وهناك موت لكبار السن والمرضى والأطفال ومرضى الفشل الكلوي والسرطان، الواقع سيئ جدا في قطاع غزة». يذكر أنه تم الإفراج عن الدكتور محمد ظاهر مؤخرًا من سجون الاحتلال الإسرائيلي بعدما تم اعتقاله من داخل مستشفى كمال عدوان أثناء الاجتياح البري للمستشفى في ديسمبر الماضي.
الواقع الصعب الذي يعيشه قطاع غزة بشكل عام والمرضى بشكل خاص دعا وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة للحديث بشكل مستمر وإطلاع العالم أجمع على الواقع المرير الذي تمر به مستشفيات قطاع غزة؛ لذلك صرحت الوزارة في بيان لها بأن الخدمة الصحية في مستشفيات القطاع تُقدم وفق أرصدة محدودة من الأدوية والمهام الطبية؛ جراء استمرار إغلاق المعابر. وأوضحت الوزارة أن أزمة نقص الأدوية تعوق عمل الطواقم الطبية لإتمام التدخلات الطارئة للجرحى، لافتة إلى أن مئات المرضى والجرحى لا تتوفر لهم أدوية وتزداد معاناتهم مع إغلاق المعابر. وأشارت الوزارة إلى أن مرضى السرطان والفشل الكلوي والقلب هم الأكثر تأثرا بنقص الأدوية والمهام الطبية.
وأضافت أن هناك أصنافا من قائمة الأدوية مُهددة بالنفاد، ما يعني تفاقم مستويات العجز عن 37% من الأدوية و59% من المهام الطبية.
وقالت الوزارة إنّ تصعيد العدوان أدى إلى انهيار شبه كامل للمنظومة الصحية، في وقت تتزايد فيه الاحتياجات الطبية والإنسانية بشكل غير مسبوق.
وطالبت المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية بسرعة التحرك والضغط على الاحتلال لفتح المعابر بشكل فوري وإدخال الأدوية والمستلزمات الطبية والوقود دون تأخير.
ومنذ مطلع مارس الفائت يمنع الاحتلال إدخال أي مساعدات إنسانية أو غذائية أو طبية إلى قطاع غزة، بناء على قرار حكومة الاحتلال المتطرفة بفرض حصار محكم على القطاع، تبعه بعد أيام استئناف حرب الإبادة؛ ما فاقم المأساة الإنسانية التي يعانيها السكان.
بدوره أكد مدير المستشفيات الميدانية في قطاع غزة مروان الهمص أن المستشفيات تفتقر إلى الأدوية والمستلزمات الطبية، في ظل منع الاحتلال الإسرائيلي إدخالها إلى مستشفيات القطاع.
وشدد على أن المستشفيات تعاني اكتظاظا شديدا، ما يستدعي تسريح بعض الجرحى، مُرجعا ذلك إلى القصف المتواصل على مستشفيات القطاع.
وحذر من وجود 11 ألف مريضٍ يواجهون خطر الموت؛ لمنعهم من العلاج في الخارج، فيما يوجد أكثر من 200 ألف مصاب بأمراض مزمنة حياتهم مهددة بالموت، يأتي ذلك بالتزامن مع استمرار إغلاق الاحتلال للمعابر فيما ما زال الاحتلال الإسرائيلي يستهدف المنظومة الصحية في قطاع غزة بشكل ممنهج.
وأوضح أن هناك هجمة شرسة على الأطفال باستهدافهم مباشرة أو بمنع الأدوية عنهم.
وكانت منظمة أطباء بلا حدود قد حذرت أيضًا من النقص الحاد في أدوية التخدير والمضادات الحيوية للأطفال في قطاع غزة، جراء استمرار الاحتلال الإسرائيلي في منع إدخال المستلزمات الطبية وإغلاق معابر القطاع.
وأكدت المنظمة ذاتها أنه منذ إغلاق المعابر لم يدخل أي نوع من المساعدات إلى قطاع غزة، لافتةً أن فِرقها بدأت ترشيد استخدام الأدوية.
يذكر أن الاحتلال الإسرائيلي ما زال يمنع سفر العديد من المرضى في غزة، خاصة من ذوي الأمراض المزمنة، ويتعمّد عرقلة سفر جرحى الحالات الحرجة ومرافقيهم بذريعة الدواعي الأمنية، رغم سريان اتفاق وقف إطلاق النار الذي ينص على خروج 50 مريضا يوميا مع 3 مرافقين لكل مريض من القطاع.
وفي 19 يناير الماضي، بدأ سريان اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة وتبادل أسرى بين حماس وإسرائيل. ويتضمن الاتفاق 3 مراحل تستمر كل منها 42 يومًا، ويتم خلال الأولى التفاوض لبدء الثانية والثالثة، بوساطة مصر وقطر ودعم الولايات المتحدة. لكن الاحتلال خرق الاتفاق ولم يلتزم بالبروتوكول الإنساني، ما دعا الجهات الدولية ومنظمة الصحة العالمية للضغط على الاحتلال لوقف استهداف القطاع الصحي، والسماح بدخول المساعدات الطبية لإنقاذ حياة المرضى الفلسطينيين.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاحتلال الإسرائیلی المستشفى الإندونیسی إغلاق المعابر فی قطاع غزة
إقرأ أيضاً:
صالح الجعفراوي صوت غزة الذي صمت برصاص الغدر
غزة- اغتال رصاص الغدر -مساء أمس الأحد- صوتا من أصوات الحقيقة في غزة، فقد استشهد الصحفي والناشط البارز صالح الجعفراوي خلال تغطيته آثار الدمار الذي خلّفه الاحتلال الإسرائيلي في حي تل الهوى جنوبي مدينة غزة، فبينما كان يوثق بكاميرته مشاهد الخراب في شارع 8، باغته عملاء متعاونون مع الاحتلال وأطلقوا عليه النار مباشرة، فأردوه شهيدا على الفور.
كان صالح (27 عاما) قد نذر نفسه لنقل معاناة شعبه منذ بدء العدوان على القطاع، ورفض مغادرته رغم التهديدات المتكررة بحقه، والتحريض الإسرائيلي المستمر ضده، خاصة من الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي.
ولم تثنه المخاطر عن أداء رسالته الإعلامية، بل زادته إصرارا على أن يكون في الصفوف الأمامية، يوثق وينشر ويكشف.
تفاصيل استشهاد الصحفي #صالح_الجعفراوي#المسائية #الجزيرة_مباشر pic.twitter.com/GQl0tCftBp
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) October 12, 2025
صوت الناستقول ابنة عمه الصحفية صبا الجعفراوي للجزيرة نت إن "صالح لم يكن مجرد صحفي، كان صوت الناس، ومرآة وجعهم، بالأمس فقط كان يصوّر آثار القصف قرب منزله، وكأنه يشعر أن مهمته لم تكتمل بعد"، وتضيف "كان يذهب إلى أخطر الأماكن فور القصف يلقي بنفسه داخل النار، فقط ليُظهر للعالم ما يحدث في غزة".
وتكمل "عرف عنه منذ صغره الشجاعة والإقدام، لم يكن يخاف الموت ولم يرضَ يوما بالحياد، كان يقول دائما إن الصورة قد تكون أقوى من الرصاص، وإن العالم يحتاج لمن يصور الحقيقة كما هي بلا تزييف".
درس صالح -وفقا لها- الصحافة والإعلام في الجامعة الاسلامية بغزة وحصل على درجة البكالوريوس، وهو أيضا حافظ للقرآن كاملا مما ساعده في أن تكون لغته العربية قوية.
وتضيف الجعفراوي "قبل أن يصبح معروفا، تنبأت له بأنه سيصبح صحفيا مشهورا لأنه كان يحمل صفات الإعلامي المميز، كان ينشر جرائم الاحتلال ومعاناة الناس على منصاته على شبكات التواصل الاجتماعي، لكن للأسف كانت شركة ميتا تغلقهم بشكل دائم حتى تمنعه من إيصال الحقيقة للناس".
إعلانوذكرت أن الاحتلال كان دائم التحريض ضده، وخاصة الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي.
#شاهد| آخر ما نشره الصحفي صالح الجعفراوي، قبيل إعدامه غدرًا برصاص عصابة خارجة عن القانون، جنوب بمدينة غزة. pic.twitter.com/ikCmve35ab
— المركز الفلسطيني للإعلام (@PalinfoAr) October 12, 2025
وجه إنسانيإلى جانب عمله الصحفي، برز الشهيد صالح الجعفراوي كوجه إنساني نشط في العمل الخيري، وشارك في عشرات المبادرات لمساعدة النازحين والمكلومين.
وكان من أهم من ساهموا في توزيع المساعدات خلال الحرب، كما شارك في حملة ضخمة لإعادة بناء مستشفى للأطفال في غزة، تمكنت من جمع 10 ملايين دولار في وقت قياسي، وكان له دور بارز في عيد الأضحى الأخير، حين ساهم في تقديم أكبر عدد من الأضاحي على مستوى القطاع رغم ظروف الحرب والحصار.
يقول صديقه الصحفي أيمن الهسي مراسل قناة الجزيرة مباشر "صالح لم يكن مجرد إعلامي، بل كان مؤسسة إعلامية تمشي على الأرض، غطى مجازر الاحتلال كما حدث في مدرسة الجرجاوي، وحين رأى الأطفال يحترقون أحياء، أجهش بالبكاء، وترك الكاميرا ليشارك في انتشال الشهداء، لم يكن محايدا في وجه القتل، بل كان إنسانا أولا، وإعلاميا يرفض التواطؤ".
ويضيف الهسي "رفض صالح مغادرة غزة وبقي فيها رغم خطر الموت الذي يتهدده، وسبق أن حصل على الكثير من العروض حتى يخرج لكنه رفض وكان صوته هو صوت الشعب".
شجاع وموهوبلم يكن الشهيد الجعفراوي إعلاميا فحسب، بل كان أيضا حافظا للقرآن ومنشدا موهوبا ورث صوته الجميل عن والده، وخلال الحرب، اعتاد أن يرفع المعنويات بأناشيده وآخرها كانت أغنيته الشعبية "قوية يا غزة"، التي بث فيها رسالة صمود وعزة وسط الركام.
عرفه الناس أول مرة في مسيرات العودة عام 2018، حين برز كإعلامي شاب ميداني يمتلك حسا صحفيا عاليا وقدرة على الوصول إلى قلب الحدث، وغطى الأحداث من الخطوط الأمامية، وأُصيب أكثر من مرة، لكنه واصل المسير.
وحول هذا يقول الصحفي وائل أبو محسن "منذ 2018 علمنا أن صالح سيكون له شأن، شجاعته كانت تفوق سنه، كان مميزا في تغطية مسيرات العودة، وكذلك في تغطية هذه الحرب، وجمع أكثر من 10 ملايين متابع على إنستغرام، وصل إلى العالمية، وأوصل صورة غزة كما لم يفعل أحد".
وعقب وقف إطلاق النار، لم يتوقف الشهيد صالح عن أداء رسالته، فخرج لتوثيق ما خلفه الاحتلال في القطاع وكأن الرسالة لم تنتهِ بعد، وبينما كان يصور في تل الهوى، باغته رصاص الغدر في صدره، ليرتقي شهيدا، تاركا خلفه كاميرته وصوته ودموع شعب كامل فقد أحد أبنائه الأوفياء.