لم يترك الذكاء الاصطناعي مجالا إلا ودخل فيه، بما فيه فنون الكتابة، وبعد أن كان الكلام عنه يتم بخجل عالميا، تصدَّر أحاديث الكتَّاب، وقد اعترف بعضهم بأنهم يستخدمونه في عملية البحث والمراجعة والتدقيق، واعترف البعض الآخر بأنه يساعدهم في عملية الكتابة ذاتها، لكن على المستوى العربي كيف ينظر كتَّابُنا إليه، وهل يخشون أن يحل بديلا لهم خلال فترة وجيزة؟! الإجابة في السطور القادمة.

في الآونة الأخيرة تابع الروائي والشاعر المصري شعبان يوسف محتوى كثير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، واكتشف كذبة كبيرة في فيديو مصنوع بـ«شات جي بي تي» عن فنان مصري راحل.

يقول: «سيرة ذلك الفنان تكاد تكون مجهولة، والمعلومات عنه شحيحة، ومن هنا كان خيال صانع المحتوى، أو منشئ التطبيق نشطا لدرجة الكذب والتضليل الفادح، أنا أعرف أنه لكي تصنع محتوى فأنت تُدخِل معلومات معينة، أي أنك توجِّه التطبيق، وفي حالة نقص المعلومات، أو إدخال بيانات خاطئة يخرج المنتج النهائي في أسوأ صورة. أنشأ التطبيق تاريخا آخر لذلك الفنان في كل تفاصيل حياته، وأدواره الفنية، وكذلك المستوى الفني لتلك الأدوار، وأيضا أصوله العائلية، وتنقلاته العديدة في كل مراحل حياته، ولأن الفنان كان مشتبكا مع كثير من الأحداث الفنية والسياسية والتاريخية، كما يُقال في بعض جمل الأرشيف القليلة المتناثرة، فلا بد من تزوير أحداث وتواريخ وأماكن، وخلق تاريخ مصطنع ومضلل».

شعبان يوسف يرى أن ما ينطبق على الفنانين، ينطبق على الساسة، والزعماء، والأدباء، والمفكرين، وكل مَن شغلوا الرأي العام في مراحل تاريخية مختلفة. يعلق: «لأننا في عصور أصبحت السرعة فيها سمة رئيسية، فمن الطبيعي أن يكثر الكذب والجهل، وبالتالي لا أحد يدقق ويراجع ويقارن، وهو ما سيُحدِث ارتباكاتٍ كثيرة بين متابعي كافة أشكال المحتوى، كما أن حروب المعلومات ستشتد بقوة بسبب ذلك التطبيق، لكن لا أنكر أن بعض الموضوعات تُصاغ بوعي ثاقب، وبمعلومات دقيقة».

يلفت شعبان الانتباه إلى كتَّاب وأدباء ينشئون محتوى يشمل سيرتهم الذاتية، دون أي أدلة عليها، أو وثائق، فالمتابع لن يطلب شهادة ميلاد صاحب المحتوى، ولا شهاداته العلمية، ولا أوراقا تدل على فوزه بجوائز ما، لذلك تظهر المعلومات كما يريد لها صاحبها، وذلك سيكون خطرا على أي دقة ننشدها.

أما الأدباء الذين يستخدمون تلك التطبيقات في نظم الشعر وكتابة السرد القصصي والروائي، فهم يعملون ضد روح الإبداع، ويلقون بما كان يُسمَّى «الموهبة والفطرة والسليقة والطبيعة الإنسانية الحرة» في عتمات ومجاهيل لا حصر لها، وسيعطون للآلة هيمنة لا حدود لها، وبالتالي فالذكاء الاصطناعي له أشكال من الخطورة لا تعد ولا تحصى، إلا لو تم التعامل مع تطبيقاته بنوعِ من الرقابة الصارمة والحاسمة.

أدوات الآلة

الكاتب العماني هلال البادي يؤكد أن الذكاء الاصطناعي لن يحل مكان الكتَّاب والمبدعين، إلا لو تكاسلوا وباتوا يعتمدون في تحرير أفكارهم الإبداعية على أدوات الآلة.

اليوم، بحسب هلال، يستطيع الباحث أن يستعين بالذكاء الاصطناعي في إعداد ملخصات أبحاثه، ويستعين به في صياغة المقدمات والخواتيم وحتى التسلسل المنهجي، ولكن هذا الذكاء الاصطناعي لا يمكنه أن يضع التحليلات الفكرية التي يريدها الباحث، ما لم يجد الباحث أن التحليلات تناسبه وتغنيه عناء التفكير والتنظير العميق، وفي كل الأحوال فإنَّ مجرد اتِّكاله على تلك الأدوات واعتماده التام عليها يفقده شرعية الباحث الرصين القادر على الحِجاج والنقاش الحرِّ مع مَن حوله في حال طرح الأسئلة.

هذا المستوى البحثي، كما يكمل هلال، ليس فيه قدر إبداعي يتسم بصفات التمثيل والتخليق، سواء في الكتابة أو الفنون البصرية كالرسم والتصوير وحتى الدراما منها. وهنا يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي المساهمة والدعم بوضع مقترحات ومخارج وأشكال وحتى مواد متحركة، إلا أنها تظل خالية من المعنى ما لم يضع المبدع فيها ما يود من روحٍ تمثله. الأهم أن الذكاء الاصطناعي لا يتوافر على تلك الشحنات من المشاعر الإنسانية التي يمتلكها المبدع، ولا يمتلك أساليبه، مهما حاول تقليدها، إذ سيظل عاجزا عن تمثلها وتمثيلها بشكل كامل. ويتساءل: «هل يمكن مثلا أن ينتج ما أنتجه ميلان كونديرا في الرواية؟ ربما يقلد مسار كونديرا لكنه لن يستطيع الوصول إلى قلب إبداعه، والأمر يقاس على محمود درويش ونزار قباني وأمل دنقل والمتنبي وغيرهم من الشعراء، مهما كان قادرا على محاكاة الأوزان الشعرية، ومهما كان قادرا على اقتفاء الأشكال والأساليب التي اتبعها أولئك الشعراء فإنه لن يصل إلى أن يكون مماثلا لهم وكفئا لإبداعهم. وأعود فأقول إن لم يكن وراء ما ينتجه من نتاج، مبدع حقيقي فإنه لن يولِّد إلا موادَّ مضحكة وهزيلة».

ويضيف: «أما التصوير الفوتوغرافي تحديدا فقد كان الفوتوشوب وأمثاله من أدوات التحرير الفني، حاضرا منذ زمن، لكن هل استطاعت تلك الأدوات أن تحل محل المصور الفوتوغرافي؟ الإجابة بالطبع لا، والأمر ذاته لدى الرسامين الذين يقول البعض إنَّ زمنهم اندثر، وهو ما لم يحدث عندما قيلت الجملة ذاتها بعد اختراع أول آلة تصوير وظهور التصوير الفوتوغرافي، بل تجاورت الفرشاة مع العدسة، وظلت اللوحات الإبداعية تتكاثر وتثري المخيلة والنقاش إلى وقتنا هذا عندما ابتدع أحدهم لوحة الموزة، وجعل العالم كله يتحدث عنها! باختصار يمكن أن نستعين بالذكاء الاصطناعي، فنعهد إليه بالاقتراح والتشذيب والإضافة، لكنه كما يقول هو ذاته عن نفسه: «ليس بديلا عن القلب والعقل البشريين». ولا غنى عن المبدع الحقيقي الذي يكتب من أعماق تجربته وأحاسيسه».

موت المؤلف

أما الروائي الكويتي طالب الرفاعي فيؤكد أنه إذا سلمنا بموت المؤلف فلن يعود للسؤال أي معنى. وبالتالي فإن النظر إلى السؤال يعني بالضرورة أن المؤلف حي، ومؤكد سيبقى كذلك. يعلق: «من خلال خبرتي في التعامل مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي، يبقى ما تقدمه رد فعل على ما يطلبه السائل منها. بمعنى أن منْ يتعامل مع تطبيق الذكاء الاصطناعي هو من سيُحدد المطلوب من الذكاء الرد به. لذا على الإنسان/المؤلف أن يكون أكثر وعيا من تطبيق الذكاء الاصطناعي لكي يأخذ منه ردا يفوق قدرته. ما يقدمه الذكاء الاصطناعي هو مساعدة ممتازة في البحث مع المؤلف حول المادة التي يريد الكتابة عنها. وبالتالي يختصر على المؤلف جهودا كبيرة ومضنية وطويلة، وذلك عبر تقديم مادة بحثية تشكل مساعدة له فيما سيكتب. وهذا يفيد تماما إذا كان المؤلف يشتغل على بحث ما، إنما في حالة الكتابة الإبداعية، ولأي جنس من الأجناس الأدبية، فأنا أرى أن ما يميز المؤلف هو كلمته وجملته وفقرته وأسلوبه، وهذا ما يصعُب على الذكاء الاصطناعي القيام به. بمعنى أن المتأمِّل لأسلوب كاتب ما يرى أن لكل كاتب بصمة على مستوى الشكل والمضمون، وكلما كان الكاتب مبدعا متفردا، كلما اتضحت هذه البصمة أكثر ولازمته في أعماله ومقابلاته. وهذا ما لا يمكن تحققه على يد الذكاء الاصطناعي».

وينهي كلامه قائلا: «الخلاصة أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يهدد المؤلف أو يحل محله، متى كان هذا المؤلف موهوبا ومتمكنا من أدواته الفنية في الجنس الأدبي الذي يعمل عليه».

ذاكرة

وبدوره يقول الشاعر والناشر العماني ناصر البدري: «لا أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يأخذ مكان الكاتب، لكن أعتقد أنه سيخلق جيلا جديدا من الشعراء الوهميين، وكتَّاب القصة والرواية الأقل مستوى من أقرانهم، بالتالي قد نجد مثل هؤلاء يتوالدون في المستقبل القريب، إنما مع الزمن ستعيد الأشياء نفسها، وقد تكون هناك ذاكرة مخزَّنة بحيث يمكن كشف هؤلاء تماما كما يحدث مع الدراسات العلمية والأكاديمية المزورة. الإنسان سيجد وسيلة للتغلب على كل أشكال التحايل في هذا الجانب.

البدري هو ناشر ومؤخرا اتجه للاعتماد على الذكاء الاصطناعي في تصميم أغلفة دار «عرب». يقول: «أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون مفيدا لأي دار نشر، ليس فقط في التصميم ولكن أيضا في الترويج، وأدواته بشكل عام لديها مستقبل كبير في تحقيق الكثير من الإفادة لأي عمل، ويمكن استغلالها بشكل إيجابي، وأيضا بشكل سلبي إذا قام المبدع بشيء منافٍ للأخلاق الذاتية أو لعموم المجتمع».

تأثير التقنية

الكاتب العراقي صفاء سالم إسكندر يتذكر هايدغر وخوفه المشروع من التقنية، في محاضرة قدمها عن هذا الموضوع. وكيف لهذه التقنية أن تؤثر سلبا على حياتنا لدرجة يمكن لها أن تتحكم بنا!

ويسأل نفسه: «هل وصلنا إلى هذا الحد؟» ويجيب: «ليس تماما، لكننا اقتربنا من ذلك». ثم يسأل مرة أخرى: «وهل يمكن لبرودة الآلة أن تضاهي دفء العاطفة الإنسانية؟»، ويقول: إن التقنية، رغم إضافاتها التي لا تُنكَر، لم تجردنا من أصالتنا بالكامل، ولكنها فرضت علينا ثمنا باهظا، إدمانا شرسا على هواتفنا، وهو شر لا مفر منه. هنا يُطرَح سؤال وجودي: إذا ما استوطن الذكاء الاصطناعي عقولنا، فهل سيحتفظ الشعر بمكانته؟ وإذا ما تضاعف عدد القراء، فهل يصبح الإبداع ضربا من المستحيل، حيث يعتمد الإنسان على معطيات الآلة، في تهجين مشين للمشاعر؟».

يتابع: «شخصيا، بت أخشى من التقنية، هذا الوجود الضروري الذي عبث بحياتنا، وأغرقنا في إسراف غير مسبوق. إننا على وشك الاستسلام لهذا الكائن الغريب، وقد بات من الصعب مواجهته. نحن نتحدث عن خسارة فادحة، وإذا ما تمكَّنت الآلة من السيطرة على قلوبنا، فسنفقد مشاعرنا الصادقة وأحاسيسنا الحقيقية، التي تغذِّي الأدب؟»

أرفف رقمية

أسأل الكاتبة الكويتية باسمة العنزي: هل تشعرين أن أدوات الذكاء الاصطناعي تهدد دورك ككاتبة؟ أم ترينها مجرد أدوات إضافية؟ فتجيب: «بالتأكيد لا! الأفكار الجيدة التي تؤسس لكتابة مختلفة لا يمكن اقتناصها من تقنيات الذكاء الاصطناعي المعلبة على أرفف رقمية. كما لا يمكن بث روح الكاتب وبصمته وثراء تجربته فيها. تخيل أن أقرأ روايتين واحدة جرى تجميع أجزائها من محركات البحث وجاءت بخليط مجهول المصادر، وأخرى لكاتب حقيقي بهُوية معروفة وخبرات حياتية متراكمة، وموهبة مدعمة بالذكاء اللغوي والمنطقي اللازمين للكتابة، بالتأكيد سيكون الفرق واضحا. الأمر أشبه بأن تغطي مساحة شاسعة بعشب صناعي وأشجار من البلاستيك وتتخيل أنها حديقة تتماهى مع الطبيعة ومواسمها، حتى الطيور لن تصدق هذه الخدعة»!

ثم تذكُر جملة من رواية ماريو بنديتي «الهدنة»: «إحدى أعظم سعادات الحياة: رؤية الشمس تتسرب من بين أوراق الشجر» وتعلق: «لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يأتي بمثل تلك الجملة دون أن يستنسخها من جمل كُتِبت سابقا ويقذف بها في فضاء بارد لقارئ يهمه مصدرها وفي أي نسق سردي جاءت».

تكمل: «في كل كتابة هنالك رأي يريد الكاتب إيصاله للقارئ، في الكتابات الخارجة من مصانع البحث والتجميع وهياكل إعادة التدوير ليس هناك آراء مستقلة مرتبطة بأشخاص يحملون همَّها. لذا ككاتبة في مجال الأدب تحديدا لست مهددة بالوسائل الجديدة لأن القارئ بحاجة لسماع صوت المؤلف الواقعي ومعرفة وجهة نظره وتلمس موهبته في صياغة سرده الخاص، ما أخشاه على الكتابة هو انزواؤها بعيدا عن الجموع وعدم قدرتها على التأثير على مجتمعاتنا التي تُصنَّف أنها لا تقرأ».

اللغة والآلة

الناقد المصري محمد سليم شوشة يرى أن احتلال الذكاء الاصطناعي مكانة الكتَّاب مسألة في غاية الأهمية والخطورة ويجب أن نطرحها على أنفسنا بصورة تتسم بالشمول والطابع العلمي. ويقول: «الحقيقة أنا لا أستطيع أن أفكر في الأمر بشكل فردي، أي لا أتخيل المشكلة في حدود الصراع الفردي بيني وبين الذكاء الاصطناعي، وأجدني بدلا من ذلك أتناول الأمر في إطار التصورات المستقبلية له وفي ضوء التناول العلمي، والمسارات المحتملة، أولا هناك علاقة عميقة بين الذكاء الاصطناعي واللغة، والذكاء الاصطناعي يتطوَّر في اللغة بشكل كبير يوما بعد آخر، وهذا يغيِّر أمورا كثيرة في العملية الإبداعية ويغيِّر في البنية الثقافية، حيث ستكون هناك كائنات أو كيانات أخرى غير البشر تنتج نماذجها الإبداعية، كيف ستكون هذه النماذج أو كيف ستكون صورتها من الدقة والحساسية والابتكار والتجديد وتفاعلها مع المنتج البشري العادي؟ هذه أسئلة مهمة يجب علينا أن نطرحها ونفكر فيها بقدر من القلق والانشغال الجاد».

يعتقد شوشة أن المبدعين الذين بلغوا حدودا بعيدة من الخصوصية والتفرد ولا يمكن توقع أنماطهم الإبداعية سيستمرون ولن يؤثر الذكاء الاصطناعي عليهم ولن يستولي على مهنتهم. ويقول: «بشكل شخصي قد أفكر في الذكاء الاصطناعي بوصفه تحديا عاما للثقافة العربية ولمستوى ما يُتاح فيها من التفكير النقدي والعمل الخلاق أو الذي يعجز عنه عقل الآلة، فهذا هو جوهر المنافسة بين البشر والذكاء الاصطناعي في السنوات القادمة، وحقيقة هذا الأمر بيد الأكاديميين الذين يدرِّسون اللغة العربية من علماء اللسانيات والنقاد والمفكرين، فهم يمكن أن يحددوا الاحتمالات والمخاطر والمسارات التي يمكن أن تمضي فيها الثقافة العربية مع الذكاء الاصطناعي. كما أن عليهم أن يطرحوا القضايا الجادة بعيدا عن الاستهلاك والنظر إلى المخاطر التي ينظر لها العالم كله، فالذكاء الاصطناعي ليس لعبة أو وسيلة للتسلية، لكنه مواجهة وتحدٍ مهول، والاحتمالات كثيرة، فهو يمكن أن يقود الإبداع السردي مثلا إلى مستوى من السطحية والنمطية إن لم تتوافر للذكاء الاصطناعي المعالجة العميقة للغة العربية، أو إذا غابت عن تركيبته الداخلية أنماط الابتكار في السرد العربي ولم تتم تغذيته بعناصر الخصوصية في الثقافة العربية من محددات تراثية أو محددات تخص الثقافة الشعبية أو تمثيلات لروح الثقافة العربية مثل الأمثال أو الشعر العربي وأنماط المجاز والاستعارات التي تختلف من لغة إلى أخرى».

لمسة الفن

ويبدأ الكاتب المصري محمد أبوزيد حديثه بإبداء قلقه من الذكاء الاصطناعي على أشياء كثيرة في العالم، مثل دخوله في صناعة الأسلحة، أو استخدامه في الحروب والقتل والدمار، مستدركا: «لكنني لست قلقاً منه على الإبداع إطلاقاً، المسألة بسيطة ومحسومة في رأيي: لماذا نفضل اللوحة التشكيلية المرسومة لمنظر طبيعي على صورة فوتوغرافية لنفس المشهد، لأن في الأولى فناً وفي الثانية مجرد نقل. ولهذا السبب أحببنا فان جوخ وبيكاسو ودالي وكلود مونيه وبول غوغان وما زلنا نقف مندهشين أمام لوحاتهم، لأن هذه هي لمسة الفن والإبداع والموهبة التي لن يستطيع الذكاء الاصطناعي الوصول إليها».

تطبيقات الذكاء الاصطناعي في أفضل أحوالها، بالنسبة لأبوزيد، مجرد منفذ للأوامر، مقلد للموجود، لكنها لن تبتكر إبداعاً جديداً من العدم يجعلك تقف أمامه منبهراً. ويضرب مثالاً، بظاهرة انتشرت خلال الأيام الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي ظاهرة صنع صور كارتونية على غرار ستوديو غيبلي (ستوديو الرسوم اليابانية المتحركة الشهير). وقف الناس مبهورين أمام هذه الدقة والسرعة التي يقوم بها الذكاء الاصطناعي في صناعة الصور، وردد البعض عبارات عن نهاية الإبداع، لكن الدرس المستفاد من هذا كله، هو أن الذكاء الاصطناعي كان يقلِّد فقط ما فعله الرسامون الأصليون لستوديو غيبلي، لكنه لم يصبح غيبلي. تستطيع أن تطلب من الذكاء الاصطناعي أن يرسم لك لوحة على غرار لوحات رمبرانت، وسيصنعها بدقة وسرعة لكنه لن يصبح أبداً رمبرانت.

ويعلق: «أتذكر مقولة كنا نكررها في بداياتنا للتأكيد على أهمية الاختلاف والتميز للاستمرارية، وهي: هناك متنبي واحد، وهناك طه حسين واحد، وهناك نجيب محفوظ واحد، وهناك مئات المقلدين لم يبقَ منهم شيء ولم يتذكرهم أحد، والذكاء الاصطناعي في أفضل حالاته أحد هؤلاء المقلدين. ولعل أفضل رد فعل على استخدام الذكاء الاصطناعي في النشر، هو عدد الكتب التي رأينا أغلفتها خلال العام الماضي، وردود الفعل السيئة عليها، فهي تؤكد أن اللمسة الفنية البشرية ستبقى. في النهاية، الذكاء الاصطناعي ليس عدواً علينا أن نحاربه، بل هو أداة مهمة يمكننا استخدامها لمساعدتنا في عملنا، لجمع معلومات، أو ترتيبها، لإنهاء أمور روتينية، لكنها لن تقوم بالجانب الفني، لأن الفن هو جزء من سر وجود الإنسان على الأرض، وجزء من صيرورته واستمراريته».

يقف على الشاطئ

الشاعر السعودي عبد الوهاب أبوزيد يقول: «شخصيًّا، ما زلت غريبًا على الذكاء الاصطناعي وأدواته، أو أنها ما زالت غريبة عليَّ؛ فأنا لم أدخل هذه العوالم بعد، أو لنقل إنني ما زلت أقف على شاطئها متهيبًا دخول بحرها الذي أخشى ما ينتظرني فيه أو وراءه. ولكنني لا أحسب أنها تشكل تهديدًا من أي نوع أو درجة لي على أقل تقدير بوصفي شاعرًا، فالذكاء الاصطناعي لن يكون شاعرًا أبدًا لأنه بلا شعور أو مشاعر. ربما ينجح في النظم أو محاكاة بعض النماذج البسيطة التي قد يخدع بها غير الخبير أو المتمرس، ولكنها لن تخدع العارف بمداخل الشعر ومخارجه، أو هكذا أظن».

لم يجرب عبد الوهاب الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في كتابة مقالة، لأن في ذلك خداعًا للذات قبل خداع القارئ. أما في الترجمة، فلا يرى بأسًا في ذلك على وجه التحديد، لأن أدوات الذكاء الاصطناعي حينها ستكون محض أداة مساعدة تخفف العبء وتختصر الوقت والجهد على المترجم، الذي يقع على عاتقه إخراج الترجمة بصورتها وشكلها النهائي بعد التحرير والمراجعة والتدقيق.

نيابة عن الكاتب!

الروائي السوري سومر شحادة ليست لديه إجابات واضحة: «لا أعرف بعد، بصراحة، لأني لم أجرب الاستعانة به. حتى ليس لديَّ تصور عن الطريقة التي أستخدم بها الذكاء الاصطناعي. أقرأ عن هذا، لكني لم أجربه. لا أرفض المبدأ. لكني ما زلت لا أعرف الآلية التي قد يتدخل بها إلى جانب الكاتب، أو نيابة عنه، هل يأخذ مكانه، أم فقط يمد له يده. لست أعرف».

يستدرك: «لكن يمكن أن أفترض جواباً من عالم الكتابة نفسه. إذ أرى الرواية بصورة خاصة بناءُ الحياة نفسها. إنها مصنوعة من مادة العيش بما فيه من عاطفة ومن اضطرام شعور ومن امتلاء بالحزن أو الفرح أو التخلي. لا أعرف إن كان للذكاء الاصطناعي أن يحاكي عالم علاقات البشر. لأنه عالم صعب، معقَّد، وينطوي دائماً على افتتان بالارتياب، وتصوير التباس ما هو قائم. يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي إضافة في حقول دراسة الأدب، وإلى حد، لكن في الأدب نفسه أنا أشك. لأن مادة الأدب هي الإنسان، وهي العلاقات بين الناس بالقدر نفسه. يعني لا يكفي أن تفهم إنساناً حتى تقدر على كتابته، يجب أن تفهم علاقاته، ما شكله، وما رَسَم وعيه، وما حدَّد خياراته، وكيف نشأت مخاوفه».

ويضيف: «عدا ذلك، تبقى المخيلة متقدمة على الآلة، ببساطة، لأن الذكاء الاصطناعي بدأ فكرة في المخيلة، في مخيلة العالِم. ولا أراه تهديداً، لأن مجاله مختلف، قد يستمر كإضافة، ربما، لكن لا أرى أنه قد يقتل المؤلف. في الحقيقة، ما يقتل المؤلف أشياء ثانوية ربما تدور في فضاء الذكاء الاصطناعي. ربما ما يقتل المؤلف، هو ضعف الحس، هو جفاف العيش، الافتقار إلى المخيلة، برود العلاقات. كلها أشياء أحدثها نمط العيش الراهن، وهي تفتك بالروح، وتتحول إلى أمر قد يضرب الأدب، ويجعله استهلاكياً. التغيير الذي يصيب نمط الحياة ينعكس على الأدب. لكن ليس بالضرورة أن يكون سلباً أو إيجاباً».

طقس انبعاث

الكاتب العماني أحمد بن ناصر يستهل رأيه بهذا التساؤل: كم عمر الكتابة في مقابل عمر الذكاء الاصطناعي؟ ويقول: «أزعم أن القارئ من خلال تساؤلي هذا وجد لمحة من إجابتي على سؤالك الرئيسي. وإذا كان سؤالك يخص الكاتب فإني دعوت القارئ إليه مباشرة ذلك أن جوهر الكتابة لا يتحقق إلا بوجوده. فالكاتب يكتب على أمل أن يجد قارئًا يعطي لكتابه شيئاً من الخلود بتعريف ألبرتو مانغويل عندما قال: «كل قارئ يوجد كي يضمن لكتابٍ معين قدرًا متواضعًا من الخلود، القراءة، بهذا المفهوم، هي طقس انبعاث». وبما أننا نتحدث عما هو صناعي، فدعني أعيد صياغة عبارتي السابقة، ذلك أن أقول: الكاتب «الحقيقي» يكتب على أمل أن يجد قارئًا «حقيقيًا»، وهذا هو رهاني على نفسي ككاتب وعلى القارئ».

ويضيف: «لا أُنكر أن ما يقوم به ما سُمِّي بالذكاء الاصطناعي يجعلني أحيانًا مندهشاً بشيء من الريبة، لكني دائمًا أعود وأقول إن الإنسان هو مُدبره، أي أن ذكاءه من المنبع الأصل للذكاء: الإنسان، لأن كل ما دون الإنسان لا يمتلك ذكاءً ولادًا وإنما تقوم مقامه الغريزة أو الفطرة في الكائنات الحية أو البرمجة في صدد ما نحن نناقشه. بل إني أعتقد أن مَن يقوم وراء هذا الذكاء الاصطناعي بأيديولوجياته السياسية والعسكرية وحتى الدينية لم يختاروا مفردة «الذكاء» اعتباطًا بل هي مقصودة تمامًا في مسلسل مستمر لزحزحة وتهميش الإنسان الفرد عن أدواره في هذا الكون».

أحمد بن ناصر لا يشعر أن أدوات الذكاء الاصطناعي تهدد دوره ككاتب. ذلك أن هذا الدور الذي بدأه الإنسان الأول عندما خطَّ أول خطٍّ على جدار كهفه ليخبرنا قصةً لا يزال قائمًا من خلال الكُتَّاب الحقيقيين. يعلق أخيراً: «ربما يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يزيد من وتيرة تأليف الكتب بسهولة مجانية خالقًا مجتمعًا جديدًا من الكُتَّاب والقراء لا يمكنني أن أطلق عليه حكمًا الآن وستكشف لنا الأيام ذلك لاحقًا. لكني أتذكر أنه قبل أكثر من ربع قرن كتب الشاعر أوكتافيو باث إهداءً على أحد دواوينه «إلى الأقلية الهائلة» في إشارة إلى قلة من يقرأون الشعر. إذا نجح الذكاء الاصطناعي في مزاحمة الكاتب الحقيقي -وأشك في ذلك- فإني سأتذكر هذا الإهداء الذي سيرمز يومها إلى الكاتب الحقيقي والقارئ الحقيقي».

ثورة الآلات

الكاتبة السعودية نجوى العتيبي منذ أن قرأتْ عن تجربة الكاتبة اليابانية ري كودان في استعمال الذكاء الاصطناعي لكتابة روايتها «برج التعاطف طوكيو»؛ وقد نالت بها الجائزة الأهم في اليابان، وهي تفكر في هذا السؤال تحديداً، وعما سيفوتها لو تخلفتْ عن إتقان الكتابة من خلال الاستعانة بالذكاء الاصطناعي. وتقول: «لم تُثر اهتمامي ثورة هذا الذكاء حين أُطلِق، ولا تسابُق الكُتاب في صفوف (أول من استعمل) و(أول من كتب) عبره حين أُتيح للجميع؛ ذلك أن لغز المخيلة ما زال مجهولاً، ومُحالٌ أن تدركه الآلة إلا إذا أدركه البشر؛ الأمر الذي أثار اهتمامي أيضاً حين توقفَ استقبالُ أحد مجلات الخيال العلمي في أمريكا للنصوص، نظراً للمشاركات الهائلة التي استُعمِل فيها الذكاء الاصطناعي، مما يجعل استبدال الكاتب (الحقيقي) صعباً، وإلا لما اتضح الفرق بين المستوى العام للنصوص إلى حد حجب المشاركات. أما الأدوات فيمكن استعمالها دون تهديد لدور الكاتب، على أن جودة العمل الأدبي يكمن في عيش مراحله كاملة كالنبتة، فمحال أيضاً أن تتطابق النبتة الحية والاصطناعية!، وعليه؛ فإن الكاتب يعيش مع عمله مرحلة مرحلة حتى يصطبغ بروحه؛ الأمر الذي سيتخلل القارئ حتما ليتعرفَ على جملة كاتِبِهِ وكيف يقول وبمَ يعبر، ولا أظن الآلة قادرة على إمتاع القارئ بالبصمة الفريدة للأسلوب.

وتضيف: «ولعلي إن جربتُ الأمر فسأكتب عن الأمرين معاً؛ الاستعانة بروح الكاتبة التي تسكنني محاولة فهم ما تودهُ، وعن الاستعانة بالآلة، وما الفرق بين التجربتين، لكن الكتابة الذكية عموماً ينقصها الكثير حتى تُهدد حرفة الكتابة بالمطلق، ولا أظن بحتمية الركون إلى الآلة -كما يُشاع ونُخوَّفُ به!- في الأدب والبحث والتسويق والتصحيح والمراجعة والتدقيق والترجمة وغيرها من خصائص المهنة مهما تطورت الأدوات. لكن طرح السؤال بشكل متكرر وبإلحاح هو ما يستدعي القلق.

مواضيع معقَّدة

ويقول الشاعر العماني سامي المعمري: «بدايةً علينا أن نعلم بأنَّ الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى الإبداع الحقيقي والتجربة الشخصية المتأصلة في عُمق الكاتب البشري، لذلك فأدوات الذكاء الاصطناعي قد ينتج عنها محتوى غير دقيق خاصة في المواضيع المُعقدة والتي تتطلب فهماً ثقافياً أو عاطفياً عميقاً».

وبرغم ذلك فإن سامي يرى أن أدوات الذكاء الاصطناعي قد تُسهم في تعزيز الكاتب لإنتاجه، بحيث تكون لديه إمكانية توليد أفكار جديدة وبناء أساليب فنية أكثر إتقاناً وتحسين النصوص، وهذه بكل تأكيد أمور يسعى لها الكاتب دائماً.

ويختم قائلاً: «خلاصة القول: أدوات الذكاء الاصطناعي لا تُشكل تهديداً مُباشراً للكاتب، إنما هي وُجدت لتعزيز إنتاجيته وتجديد أساليبهِ الفنية وتحسين نصوصهِ لتبدو للمُتلقي أكثر كفاءة عن ذي قبل».

سؤال محيِّر

الكاتب العماني خالد المعمري يسرد قصة جرت له مع الذكاء الاصطناعي. يقول: «أرسل لي أحد الأصدقاء قصيدة شعرية موزونة ومقفاة، وقال لي هذه القصيدة كُتِبت بواسطة «الشات جي بي تي» للوهلة الأولى كانت الصدمة كبيرة في اختراق عالم الأوزان والقوافي عن طريق الكتابة الإلكترونية التي قدّمت لنا نصاً شعرياً إبداعياً. بالطبع لم تكن القصيدة -في نظري- قوية في معانيها، كذلك لم تكن مترابطة في الأسلوب على الرغم من التزامها بالوزن والقافية».

قفزت الأسئلة إلى ذهن خالد: «هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي القارئ إلى عالمه، وهل سنتخلى عن الشعراء كأسماء معروفة؟ ولمَنْ سنقيم أمسياتنا الشعرية في المستقبل؟ وبطريقة أخرى لمن ستنسب القصائد المكتوبة بواسطة هذه البرامج؟».

يعلق: «مثل هذه الأسئلة في فلسفة طرحها تجعلنا نعيد التأمل والتفكير في العوالم المتضادة، فمثلما قيل سابقاً عن زمنية الأجناس الأدبية في هذا العصر أو ما قيل عن الصراع بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني مثلاً، وما يقال حالياً عن الكتابة بهذه الكيفية يجعلنا نتأمل موضوع الكتابة الإبداعية عن طريق المشاعر والأحاسيس وهي ما يقرؤها القارئ متأملاً الدفقة الشعورية لدى الكاتب. قد يكون النص شعرياً في أساسه وهو نتاج التكنولوجيا الحديثة ولكنني أؤمن أن هذا النص مرتبط بعالم تقني لا يمكن أن يكون بذات الثورة الانفعالية للشاعر الإنسان. عن نفسي أعيش هذا الدور لحظة القراءة، وأتأمل انفعالات الكاتب في كل مفردة في النص. وأحسُّ به داخل النص. ومع كل ذلك، فالذكاء الاصطناعي يقوم بأدواره التقنية في عالم كتابي ثائر، فيمكن أن نجد نصوصاً ناتجة عنه أكثر تطوراً، لكننا لا يمكن أن نجزم أنه يمكن الاستغناء عن الكاتب في عملية الكتابة؛ إذ إن للمؤلف البشري خصوصية في التناول والتعبير لا يمكن أن نجدها عند غيره».

يؤمن خالد بالتطور الحاصل في عملية الكتابة، كما يؤمن أننا نعيش طفرة تكنولوجية في عالمنا الواسع لكنه لا يؤمن بالحس الكتابي المنفتح على هذه البرامج، ويقول: «إنها نصوص تقليدية استقاها النظام الإلكتروني من نصوص سابقة، وتلقَّى المعلومات التي يُراد الكتابة عنها فبنى نصه تركيبياً بناء على نص سابق، هذا ما أفسِّره، أما الشاعر/ الكاتب فيتطور النص لديه بالرؤية المتجددة للعالم، إنه يقود البرامج وهي تسير وراءه، ويبقى له الميدان الشعري واسعاً يسير فيه بلا شريك».

حسن عبدالموجود صحفي وقاص مصري

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی فی الذکاء الاصطناعی لا أن الذکاء الاصطناعی بالذکاء الاصطناعی الاصطناعی أن لا یمکن أن أعتقد أن أن یکون من خلال ذلک أن التی ت التی ی یرى أن فی هذا

إقرأ أيضاً:

كيف تواكب المؤسسات الدينية الذكاء الاصطناعي دون تفريط في الفتوى؟ مفتي الجمهورية يُجيب

أكد مفتي الجمهورية الدكتور نظير عياد، أن مؤتمر صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي والمقرر أن تعقده الدار على مدار يومي 12 و 13 أغسطس القادم يهدف إلى استكشاف تأثير الذكاء الاصطناعي على الفتوى الشرعية، مع التأكيد على أهمية الجمع بين التقنيات الحديثة وأصول العلم الشرعي.

وقال مفتي الجمهورية في حوار خاص مع وكالة أنباء الشرق الأوسط اليوم السبت، إن المؤسسات الدينية بحاجة إلى مواكبة الثورة الرقمية عبر التحول إلى الفتوى الرقمية، مع ضمان أن تكون الفتوى مسؤولة أخلاقيًا وإنسانيًا، وأن التحديات الكبرى تشمل الفتاوى الآلية المضللة واستخدام الذكاء الاصطناعي في دعم الخطاب المتطرف.

وأشار عياد، إلى ضرورة أن يكون المفتي العصري فقيها ومفكرا، وعلينا توظيف الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة للمفتي دون التفريط في القرار الإفتائي، موضحا أن الرسالة الأساسية التي يسعى المؤتمر لإيصالها هي رسالة عالمية بامتياز، تعكس عمق الدور الحضاري الذي تضطلع به دار الإفتاء المصرية وذراعها الدولية متمثلة في الأمانة العامة لِدُور وهيئات الإفتاء في العالم في هذا العصر المتداخل.

وأوضح أنه من أبرز ما نأمل من مخرجاته هو إعداد تقرير استشرافي شامل حول التحديات والفرص التي يطرحها الذكاء الاصطناعي على الفتوى عالميًا، يتضمن تحليلاً للوضع القائم، وسيناريوهات للمستقبل، وتوصيات عملية موجهة لصناع القرار الديني، وكذلك تطوير خطاب عالمي مشترك يدعو إلى أخلاقيات رقمية عادلة، ويؤكد أن الفتوى ليست مجرد معلومة تُنتج، بل مسؤولية دينية وأخلاقية وإنسانية، فضلاً عن فتح قنوات تعاون وشراكات جديدة بين المؤسسات الدينية حول العالم، لتوحيد الجهود وتبادل الخبرات، خصوصًا في ما يتعلق بالتقنيات الجديدة، ومواجهة خطاب الكراهية، وتصحيح الصورة النمطية عن الإسلام.

وتابع:" أنه لا شك أن هذه المخرجات تمثل نقلة نوعية من العمل الإقليمي إلى الفعل الحضاري العالمي، وهي مسؤولية نضطلع بها في دار الإفتاء المصرية، والأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، بكل وعي وإصرار، وتمثل صميم رسالتنا.

ورأى المفتي، أن المؤسسات الدينية تحتاج إلى مقاربة مزدوجة، تتمثل في فهم عميق لأدوات العصر، وتمسك راسخ بأصول العلم الشرعي، فالتحول الرقمي ليس مجرد ترف تقني أو تحديث إداري، بل هو إعادة صياغة لكيفية الوصول إلى الجمهور، ومخاطبته، والتفاعل معه، في زمن تغيرت فيه وسائل السؤال، وأنماط الفهم، وحتى اللغة.

ونوه عياد، إلى أنه يمكن للمؤسسات الدينية أن تواكب الثورة الرقمية من خلال عدة مسارات استراتيجية، أبرزها التحول من الفتوى الورقية إلى الفتوى الرقمية الذكية، وبناء قاعدة بيانات معرفية فقهية رقمية، وتكوين "المفتي الرشيد" لا المفتي الآلي، وكذلك تدريب العلماء والدعاة على مهارات العصر.

ولفت إلى أنه يجب أن يعي الجميع أن الفرد مهما بلغت كفاءته، يبقى رهينًا ببيئة مؤسسية إما أن تطلق طاقاته أو تعيقه، لذلك سنعمل من خلال المؤتمر على دعم التحول المؤسسي داخل هيئات الإفتاء من خلال وضع معايير لقياس الأداء المؤسسي الإفتائي في العصر الرقمي، تتضمن مؤشرات مرجعية دقيقة لمدى التأثير المجتمعي للفتوى، ومردودها الإعلامي، وآليات ضبطها وتحليلها، إلى جانب توصيات بإنشاء فرق بحثية متخصصة داخل كل مؤسسة إفتائية، تتولى رصد المستجدات التقنية والقيمية التي تؤثر في واقع الفتوى، وتقديم الاستجابات العلمية المناسبة لها.

وأضاف الدكتور نظير، أن ذلك يأتي فضلًا عن دعم التجارب الدولية الناجحة من خلال تخصيص محور كامل في المؤتمر لعرض تجارب الدول في تطوير الأداء الإفتائي، مثل تجربة دار الإفتاء المصرية، والأردنية، والماليزية، والأوزبكية، وغيرها، وهذا التصور يفتح الباب أمام نقلة نوعية في البنية المؤسسية للفتوى، تنقلها من النمط التقليدي إلى نموذج رقمي متكامل، يراعي الشفافية، والحوكمة، وجودة المخرجات.

وعن التحديات التي يواجهها المفتي في عصر الذكاء الاصطناعي، قال إن هناك جملة من التحديات فرضها انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي، فاليوم يستطيع أي برنامج أن يولد نصوصًا دينية، أو يقدم إجابات على مسائل شرعية، دون ضبط علمي أو شرعي أو سياقي، وهنا يكمن الخطر، لأن المتلقي قد يخلط بين الفتوى الشرعية الموثوقة، وبين المحتوى الاصطناعي الخالي من المرجعية.

وأوضح مفتي الجمهورية، أنه من أبرز هذه التحديات هو انتشار "الفتاوى الآلية" التي تصدر عبر روبوتات أو منصات مدعومة بذكاء اصطناعي بلا إشراف، وكذلك التضليل الخوارزمي حيث تظهر للجمهور فتاوى شاذة أو منحرفة لأنها تتفق مع ميوله أو بحثه السابق، وأيضًا استخدام الذكاء الاصطناعي في دعم الخطاب المتطرف، واستغلال ضعف الوعي المجتمعي في التمييز بين المفتي الحقيقي والمنتج الرقمي المصطنع، لذلك نعمل في دار الإفتاء من خلال الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم على إطلاق مؤشرات ذكية لرصد الفتاوى المنتشرة عبر الإنترنت، وتطوير أدوات تحليل رقمية لرصد الاتجاهات المنحرفة، كما نسعى خلال المؤتمر إلى وضع ميثاق دولي للفتوى الرقمية يراعي الضوابط الشرعية والأخلاقية، ويحدد الإطار الذي ينبغي أن تتحرك فيه المؤسسات.

وبشأن توظيف الذكاء الاصطناعي في دعم القرار الإفتائي دون المساس بجوهر الفتوى الشرعية، أكد المفتي أن الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا للفتوى، لكنه ليس مفتيًا، فهو أداة قوية، لكنها تفتقر إلى العقل المقاصدي، والنظر الفقهي، والتقدير الإنساني الذي تستلزمه الفتوى، ولذلك فإن توظيف الذكاء الاصطناعي في دعم القرار الإفتائي لا يعني تفويض الآلة بإصدار الفتوى، بل استخدام قدراتها في تمكين العالِم الحقيقي من أداء دوره بصورة أدق وأسرع وأكثر وعيًا بتغيرات الواقع.

وشدد عياد، على أن الدار لا تتخوف من التقنية بحد ذاتها، بل من استقلالها عن الضوابط الشرعية والأخلاقية، وإذا استخدم الذكاء الاصطناعي وفق ضوابط رشيدة يمكن أن يكون عونًا للمفتي، وأداة مساعدة له ومحسنة من عمله وأدائه، وعلى سبيل المثال يمكننا استخدام الذكاء الاصطناعي في تصنيف الأسئلة، وتحليل الأنماط، والمساعدة في بناء قواعد بيانات ضخمة من الفتاوى، أو حتى تقديم إجابات مبدئية لبعض المسائل الشائعة أو الفتاوى العامة بناءً على فتاوى سابقة، لكن لا يمكن، ولن يكون مقبولًا، أن تتصدر الآلة مشهد إصدار الحكم الشرعي، لأن الفتوى ليست عملية حسابية أو منطقية فقط، بل هي اجتهاد إنساني مركب يتطلب الوعي بالمقاصد، وتحقيق المناط، ومعرفة حال المستفتي، ومراعاة الزمان والمكان والأشخاص والأحوال.

وأشار المفتي، إلى أن الضوابط تبدأ من التأكيد أن الذكاء الاصطناعي خادم للفقيه، لا حاكم عليه أو مستقل عنه، وأن الفتوى الصادرة عبر الآلة يجب أن تمر دومًا بمراجعة بشرية من جهة مؤسسية مسؤولة.

وأوضح أن الفتوى في فلسفة الدار "بنت زمانها"، ليست استنساخًا لحلول الماضي، بل اجتهادًا متجددًا يوازن بين النص والمصلحة، بين القيم الثابتة والمتغيرات الطارئة، وهنا نؤكد أن دار الإفتاء تضم لجانًا علمية متخصصة تعكف على دراسة المسائل المستجدة، وتشرك خبراء من مجالات متعددة لفهم أبعاد الظواهر الحديثة، بما يضمن أن تكون الفتوى مواكبة دون أن تفرط، وعصرية دون أن تشوه مرجعيتها، وبهذا النهج تقدم دار الإفتاء نموذجًا حيًّا لمؤسسة دينية تجمع بين عمق التراث وحيوية الحاضر.

وعن دور التدريب والتأهيل المستمر للمفتين في بناء مفتي يواكب هذا العصر المعقد، قال إن تكوين المفتي المعاصر أصبح أمرًا ضروريًا ولا يمكن حصره في حدود الفقه التقليدي، ذلك لأن المفتي العصري لا بد أن يكون فقيهًا ومفكرًا وناصحًا اجتماعيًا ملمًا بعلوم وأدوات العصر.

وأشار عياد، إلى أنه بات ذلك مشروعًا مركبًا يتطلب تأهيلًا متعدد الأبعاد، يتقاطع فيه الفقه مع علوم الاجتماع والعلوم الإنسانية والسياسة والاقتصاد والتكنولوجيا وعلوم الاتصال، ولهذا السبب، انتهجت الدار في السنوات الأخيرة نهج الشراكة المؤسسية مع جهات أكاديمية ومتخصصة لتقديم تدريب نوعي للمفتين الجدد.

ولفت إلى أن الدار لا تكتفي بالتدريب الداخلي في "مركز إعداد المفتين"، بل تنسق بفاعلية مع كيانات رائدة مثل أكاديمية الأزهر العالمية للتدريب، ومؤسسات متخصصة في الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي، وهذا التوسع في الشراكات يعكس قناعة الدار بأن المفتي اليوم بحاجة إلى أدوات معرفية وسلوكية تتجاوز الجواب الفقهي، ليصبح قادرًا على التعامل مع الأسئلة المركبة التي تمزج بين الدين والمجتمع والاقتصاد، وفهم البيئة الرقمية ووسائل التواصل التي تعيد تشكيل الفتوى يومًا بعد يوم، والتواصل الفعال مع جمهور متعدد الثقافات والمستويات.

وأكد عياد، الحرص على أن تكون الفتوى الصادرة عنها نتاجًا لتكامل علمي ومهني رفيع، حيث لا تكتفي بالاجتهاد الشرعي المجرد، بل تعلي من قيمة التشاور مع أهل التخصص في مختلف المجالات عند النظر في النوازل والقضايا المستجدة، وذلك إيمانًا منها بأن الفتوى الرشيدة لا تبني فقط على فهم النصوص، بل أيضًا على إدراك الواقع وتشعباته.

وفيما يخص تطوير الأدوات أو البرامج التي تعتمدها دار الإفتاء حاليًا لتسهيل العمل الإفتائي، فأكد أننا نعيش لحظة مفصلية تعيد تعريف وظيفة المفتي ودوره المجتمعي، لم يعد المفتي مجرد فقيه يجيب عن حكم الطهارة والصلاة فقط، بل أصبح رجلًا يخاطب الإنسان المعاصر، بلغته، وهمومه، وتحدياته، وسط عالم شديد التعقيد، لذلك لم تعد الكفاءة الشرعية كافية وحدها، بل أصبح من الضروري أن يضاف إليها وعي واقعي، وثقافة موسوعية، وفهم نفسي، وإدراك للسياقات الاجتماعية والسياسية والتقنية.

وأشار إلى أن المفتي اليوم يجب أن يعرف شيئًا عن الإعلام الرقمي، والاقتصاد السلوكي، والعلاقات الدولية، وقضايا البيئة والتكنولوجيا، لهذا حرصنا في دار الإفتاء على تطوير برامج تكوين المفتي لتشمل مواد مثل "فقه الواقع"، و"دراسات إنسانية"، و"مهارات القيادة والتواصل"، إلى جانب تدريب عملي مباشر على التعامل مع الأسئلة الجديدة والملفات والأدوات المعاصرة.

وعن التمييز بين الفتوى الصادرة عن عقل بشري مؤهل والردود التي ينتجها الذكاء الاصطناعي، قال المفتي إن التمييز يبدأ من فهم جوهري لطبيعة كل منهما، فالمفتي الإنسان لا ينقل حكمًا فحسب، بل يجتهد، ويراعي المقاصد، ويقدر الظروف، ويتحمل مسؤولية الكلمة التي يوقع بها عن الله، بينما الذكاء الاصطناعي يقدم ردودًا آلية مستندة إلى أرشيف من النصوص والمعلومات، دون وعي أو فقه للسياقات الفردية والاجتماعية.

وأضاف عياد، أنه من ثم فالفتوى البشرية تتسم بالتفصيل، وبالقدرة على التمييز بين الحالات، وبالتردد الورع أحيانًا في إصدار الحكم، في حين تميل إجابات الآلة إلى الاختزال، والجمود، وغياب الحس الإنساني، فلا تعرف التدرج، ولا تتردد في القطع بحكم دون مراعاة لحالة السائل أو لزمانه ومكانه، كما أن المفتي البشري قد يقول لا أعلم تواضعًا وخشية، بينما الآلة تجيب على كل شيء بلا مسؤولية، ولعل أخطر ما في الفتوى الآلية أنها تخفي ظاهرها المنضبط تحت قناع تقني، بينما تفرغ الفتوى من بعدها الشرعي والروحي والإنساني، ولهذا يبقى الوعي مصدر الأمان، فكل فتوى تفتقر إلى الاجتهاد، ولا تراعي المقاصد، ولا تحمل في طياتها تمييزًا بين الناس والسياقات، لا بد أن يعاد النظر فيها.

اقرأ أيضاًمفتي الجمهورية: الجهود الوطنية تُجسد يقظة دائمة بمسؤولية حماية البلاد

مفتي الجمهورية ينعى الأمير الوليد بن خالد بن طلال بن عبد العزيز آل سعود

مفتي الجمهورية: تطوير الميدان الإبراهيمي بدسوق خطوة مهمة لإحياء التراث الديني والحضاري

مقالات مشابهة

  • عائدات AT&T تتضاعف نتيجة استثماراتها في الذكاء الاصطناعي
  • حوارٌ مثيرٌ مع الذكاء الاصطناعي
  • هل تنفجر معدلات النمو الاقتصادي في زمن الذكاء الاصطناعي؟
  • دعوة لمقاربة شاملة لتنظيم الذكاء الاصطناعي
  • الجدل الاقتصادي في شأن الذكاء الاصطناعي 1/5
  • الذكاء الاصطناعي يفضّل الاستشهاد بالمحتوى الصحفي
  • فيديو.. مباراة تنس بلا نهاية بين روبوتات غوغل لتدريب الذكاء الاصطناعي
  • البشر يتبنون لغة الذكاء الاصطناعي دون أن يشعروا
  • الصين تحذر من احتكار الذكاء الاصطناعي
  • كيف تواكب المؤسسات الدينية الذكاء الاصطناعي دون تفريط في الفتوى؟ مفتي الجمهورية يُجيب