أكد الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم،  أن المدرسة الماتريديّة نشأت في بيئة ثقافيّة خصبة، شهدت تداخلًا وتفاعلًا بين اتجاهات فكريّة متباينة، وأن هذا المناخ كان حافزًا لظهور منهج عقلانيّ متماسك تميّز به الماتريديون، موضحًا أن المدرسة الماتريديّة قد طوّرت أدوات معرفيّة رصينة قامت على التأمل العقليّ والاستدلال المنطقيّ، حيث نظر أئمّتها إلى العقل بحسبانه وسيلة لا غنى عنها لمعرفة الله تعالى، بل واعتبروا النظر العقليّ واجبًا أوليًا على كل مكلّف، مؤكدين أن صحّة الخبر والحسّ لا تثبت إلا من خلال صدق العقل ذاته، وأنه تميّز برؤية عقلانيّة عميقة الجذور لا تكتفي بتلقّي النصوص، بل تبني المعرفة من خلال أدوات يمكن التحقق من صدقها ضمن المشترك الإنسانيّ العام، منوهًا إلى أن الماتريديّة أرست موقفًا معرفيًا متينًا يتكئ على ثلاث دعائم هي: العقل السليم، والحواس الظاهرة، والخبر الصادق، معتبرًا أن كل علم حقيقي لا بد أن يصدر عنها، وبالتالي فقد أسهم هذا الموقف المعرفي الماتريدي في بلورة رؤية تتسم بالموضوعيّة والانضباط، حيث ظل العقل فيها هو الأداة الأهم لفحص مصادر المعرفة الأخرى، مع وعي تام بحدود العقل نفسه، وحاجته إلى النقل في قضايا الغيب وما لا يُدرك بالتجربة.

 

جاء ذلك خلال كلمته بالمؤتمر العلمي الدولي «الماتريدية مدرسة التسامح والوسطية والمعرفة»، الذي تنظمه لجنة الشؤون الدينية بجمهورية أوزباكستان، في الفترة من 29 إلى 30 أبريل الجاري، في مدينة سمرقند بجمهورية أوزباكستان

وأشار مفتي الجمهورية، إلى أن  الإمام الماتريديّ –رضي الله عنه– امتاز بمجموعة من الشمائل التّي جعلته يحتل مكانةً فريدةً في تراثنا العظيم، فلقد كان رحمه الله متحررًا من التعصب المذهبيّ، منصرفًا إلى البحث عن الحقيقة بتجرد، دون انقياد أو تقليد أعمى لآراء السابقين، كما امتاز  بنزعته الشموليّة في النظر والتحليل، حيث أظهر قدرةً فائقةً على الربط بين الجزئيات والكليات، وجمع الفروع تحت أصولها الكبرى، وهي قدرة تجلّت في تفسيره، وبرزت بوضوح في كتابه "التوحيد" ومن السمات اللافتة كذلك اهتمامه البالغ بالمضمون والمعنى، والتركيز على الجوهر والمقصد في تفسير النصوص، واللجوء إلى النكات البيانيّة أو اللفظيّة، إذا خدمت المعنى وأبرزت مغزاه، مؤكدًا بذلك أنّ الفكر لا قيمة له ما لم يرتبط بالعمل والتطبيق، ولذلك لم يكن تأثير المدرسة الماتريديّة حبيس بلاد ما وراء النهر فحسب، بل إن الأزهر الشريف بجامعه وجامعته  كان ولا زال يدرّس في أروقته العتيقة كتابي «العقيدة النسفيّة وتفسير أبي البركات النّسفيّ»، وكلاهما مدونات أصيلة في المذهب الماتريديّ.

وأوضح المفتي، أن المذهب الماتريدي، لم يكن يومًا مجرد منظومة فكريّة نظريّة، بل مثل امتدادًا عميقًا للروح الإنسانيّة في الإسلام، حيث نظر علماؤه إلى القيم الإنسانيّة كأصول عقديّة وأخلاقيّة يجب أن تغرس في الوعي والسلوك معًا، وقد تجلى هذا في حرص الإمام الماتريديّ في تفسيره لقول الله تعالى ﴿خلقكم مّن نّفس واحدة}، على تأكيد أنّ الأصل البشريّ واحد، وأنّ جميع الناس إخوة، مما ينفي أي مبرر للتفاخر بالأحساب والأنساب، وتكتمل هذه الرؤية في نقده العميق لظاهرة الكبر، التّي يراها وليدة الجهل بحقيقة النفس، حيث يقول رحمه الله "من عرف نفسه على ما هي عليه من الأحداث والآفات وأنواع الحوائج - لم يتكبر على مثله "وبهذا يرسّخ المذهب الماتريديّ مفهوم التواضع لا كفضيلة أخلاقيّة فحسب، بل كمعرفة وجوديّة نابعة من وعي الإنسان بضعفه وحاجته، ويعكس بذلك تفاعلًا حيًّا بين العقيدة والأخلاق، حيث تصبح المساواة والتواضع والعدل قيمًا متجذّرةً في رؤية الإنسان لذاته والآخر، مبينًا أن الوسطيّة-التّي نحن بصدد دراستها في هذا المؤتمر المهم- لا تعني أبدًا الوسط بين الهدى والضلال، وإنّما تعني الاعتدال في الفكر، والصدق في الاعتقاد، والتوازن في السلوك، والعدل في الحكم والشهادة، إنّها موقف أهل السنّة والجماعة الأصيل الذي يجمع بين «الروح والمادة»، وبين «العقل والنقل»، وبين «الحقوق والواجبات»، قال تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا﴾ [البقرة: 143]، قال الإمام الماتريديّ «وسطًا يعني عدولًا» في كل شيء؛ فالعدل هو الأوثق للشهادة على الخلق، والأجدر لقبوله.

 

واختتم المفتي حديثه بأن المدرسة الماتريديّة لم تقف عند حدود التسامح العقديّ، بل تجاوزته إلى التفاعل مع الفلاسفة والمتكلمين بنقد موضوعيّ هادئ، كما يظهر في أعمال النسفيّ وغيره، ممن جمعوا بين الإخلاص للأصول والانفتاح العقليّ، وبهذا كلّه تعدّ المدرسة الماتريديّة أنموذجًا أصيلًا في التعايش والتسامح، ومصدر إلهام فكريّ وأخلاقيّ يصلح للاهتداء به في عصرنا الراهن.

وقد أعرب  مفتي الجمهورية في ختام كلمته عن خالص شكره وتقديره للجنة المنظمة للمؤتمر وسعادته بالمشاركة في هذا الجمع العلمي المبارك، الذي حضره جمعٌ كبير من العلماء والباحثين من مختلف دول العالم، من بينهم فضيلة دكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ومفتي الديار المصرية الأسبق، والدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف وجمع كبير من العلماء.

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: مفتي الجمهورية كبار العلماء المؤتمر العلمي الدولي الشؤون الدينية رئيس الأمانة العامة الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء الحقوق والواجبات مصادر المعرفة مفتی الجمهوریة

إقرأ أيضاً:

القصير: حزب الجبهة الوطنية سيكون صوت العقل والحكمة تحت القبة

أكد،  السيد القصيرالأمين العام لحزب الجبهة الوطنية، أن حداثة تأسيس الحزب لا ينبغي أن تكون معيارًا للحكم عليه، موضحًا أن الحزب، رغم كونه حديث النشأة، يضم في هيئته التأسيسية 64 عضوًا من أصحاب الخبرات المتراكمة في مجالات متعددة، من بينهم وزراء سابقون، ورئيس سابق للبرلمان، وقيادات تنفيذية وتشريعية ذات تاريخ طويل في العمل العام.

وأضاف القصير، خلال حواره مع الإعلامي محمد شردي في برنامج “الحياة اليوم” على شاشة قناة الحياة، أن ما يميز حزب الجبهة الوطنية هو تكوينه النوعي وتعدد خبراته، التي اجتمعت لتقديم رؤية جديدة ومتكاملة للحياة السياسية، مشددًا على ضرورة أن يُقيَّم الحزب من خلال مضمونه ومخرجاته، لا من خلال عمره الزمني فقط.

عاصم الجزار: حزب الجبهة الوطنية يعتمد معايير واضحة للمفاضلة بين المرشحين بالانتخابات النيابيةعاصم الجزار: حزب الجبهة الوطنية يؤمن بأن التنوع الفكري يمثل عنصر ثراء في الحياة السياسيةرئيس حزب الجبهة الوطنية: تجربة مصر العمرانية الأنجح على مستوى العالمأمين حزب الجبهة الوطنية بالغربية: كلنا نعمل من أجل مصر وأصواتكم بالانتخابات أمانة

وأشار إلى أن الحزب حرص منذ انطلاقه على عقد لقاءات موسعة وتحضيرية مع مختلف فئات المجتمع، بهدف أن تنبع برامجه من احتياجات المواطنين، وأن تعبّر عن مشكلاتهم وتطلعاتهم، لافتًا إلى أن الحزب استفاد من مخرجات الحوار الوطني ودمجها في مبادئه وأولوياته السياسية.

وأوضح القصير أن الحزب يتبنى نهجًا واضحًا يهدف إلى الإسهام في بناء حياة سياسية مستقرة، تقوم على تقديم حلول واقعية وتشريعات جادة تمس حياة المواطنين وتسعى إلى بناء مستقبل أفضل. وأكد أن حزب الجبهة الوطنية سيقدم نموذجًا محترمًا تحت قبة البرلمان، مشددًا على أن مشاركته البرلمانية تستهدف التأثير الإيجابي، وليس المغالبة.

وتابع: “قررنا منذ البداية أن نتحرك تدريجيًا ونشارك بعدد مدروس من المقاعد، لأن هدفنا هو تقديم نماذج ناجحة تُكسبنا ثقة الشارع، وتبرهن على قدرتنا على التعبير عن المواطن، وتقديم حلول عملية للقضايا الشائكة”، لافتًا إلى حرص الحزب على التنسيق مع الأحزاب والقوى السياسية المختلفة للوصول إلى أرضيات مشتركة.

وأشار الأمين العام إلى أن مشاركة الحزب ضمن القائمة الوطنية من أجل مصر، التي تضم 12 حزبًا بالإضافة إلى تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، تأتي من منطلق تغليب المصلحة الوطنية على الاعتبارات الحزبية الضيقة، مؤكدًا أن الحزب سيطرح من خلال تلك القائمة وجوهًا برلمانية تمثل الشارع المصري وتعبر عنه بجدية.

وأكد القصير أن الحزب لن يترك نوابه بمفردهم بعد الفوز، بل سيدعمهم من خلال 43 أمانة مركزية تضم كفاءات متنوعة وخبرات تراكمية، ستسهم في تمكين النائب من أداء دوره التشريعي والرقابي بكفاءة، مضيفًا: “سنعمل تحت قبة البرلمان كصوت للعقل والحكمة، وسنكون قريبين من الناس، وملتزمين بالتعبير عن تطلعاتهم”.

طباعة شارك السيد القصير رئيس سابق للبرلمان النوعي

مقالات مشابهة

  • بين خطاب رئيس الجمهورية وتمسّك حزب الله بالسلاح.. هل دخل لبنان مسار المواجهة الداخلية؟
  • «دبي للثقافة» تختتم مؤتمر المدرسة الصيفية العالمية
  • مفتي الديار اليمنية يوجه نداءً تاريخياً لعلماء الأمة: أفتوا بوجوب الجهاد نصرةً لغزة
  • القصير: حزب الجبهة الوطنية سيكون صوت العقل والحكمة تحت القبة
  • أستاذ قانون: مصر أصبحت بيئة خصبة وجاذبة للاستثمار الأجنبي
  • مفتي الجمهورية: صون الماء والغذاء والطاقة فريضة شرعية ومسؤولية وطنية
  • شيخ العقل: لن نسمح بالفتنة وندعو لفك الحصار عن السويداء
  • مفتي الجمهورية: لا بقاء لحضارة تهدر نعمة الماء .. صور
  • مفتي عمان ..نحيي أبطال اليمن المغاوير الأفذاذ الذين حطموا كل اسطورة
  • مفتي الجمهورية عند جنبلاط سعيا لمنع الفتنة السنّية - الدرزية