قصة قصيرة : ( وردية الليل ) صحيفة الميدان / 1965م
بقلم : عمر الحويج

الدفء كان يشمله ، وهو داخل الورشة ، أما وقد خرج ، بعد انتهاء ساعات عمله، فقد نفحته موجة من البرد و... "الزيفة"، جعلت أوصاله ترتجف .. لفّ عمامته القصيرة نوعاً .. أوصلها بعد "مباصرة" إلى ما تحت أذنيه.. قاد دراجته. عشرون عاماً وهي معه.

. يرأف بها.. وكأنها من أفراد أسرته لا يستغلها ، إلا من البيت إلى الورشة .. فقط وبالعكس.
الأرض مبتلة .. ما زالت سحابة تتقيأ ما بجوفها من مياه .. إنه صار عجوزاً ، لا يتحمل حتى زيفة المطر هذه .. زمان أيام "الصَّبْيَنَة" كان يقطع "البَحَر" عائماً ، في عز الشتاء ، لكي يلحق بحفل "الدَّلُّوكَة" المُقام في الضفة الأخرى من قريتهم .. "حميرا" أبداً لم تكن تفوته " دلوكتها".. يبتسم في مرارة .. هيه .. أيام!! . يدخل يده في جيبه ، بغرض بعث الدفء فيها .. تصطدم يداه بشيء .. يتذكر بقايا تمر أعطاه إياه ، الشيخ عبد الباقي .. يخرجه في لهفة .. "كنجدة عاجلة" يمضغه بشغف ، الدم يتدفق في شرايينه .. قليل من الدفء يحسّ بسريانه في جسده .. إنه لا يحب "وردية الليل"، وخاصة في هذا الخريف .. بل أصبح يكره الخريف نفسه .. وتذكر صلاة الاستسقاء في قريتهم ، عندما يتأخر هطول المطر .. كان يحب الخريف ... اتفو!! . يبصق ، ربما على المدينة بمعكوساتها التي جعلته يكره ما يحب ، ويُجبر على حب ما يكره .

ابتعد عن الورشة .. كثيراً . من بعيد يأتيه صوت صافرة قطار .. قطارات "الوردية" هذه تعوى طوال الليل ، كأنها كلاب حراسة . دخل أزقة المدينة .. الصمت يلفها من كل ناحية .. الناس هنا تنام في موعد نوم دجاجها .. مركبة عجلات دراجته ، وهي تتدحرج على الأرض المبتلة برزاز المطر ، تهتك صمت المدينة .. الطين والحجارة، تتطاير من حولها مذعورة .. ربما يحتضنها "الأفرول" ولكن لا يهم .. الزيوت والشحم ، لم تترك مكاناً .. لمزيد.

الكلاب تتحرك، تنبح .. حتى المطر والبرد لا يسكتان هذه الكلاب .. دائماً ، مخلصة هذه الكلاب .. ربما تكون أكثر إخلاصاً من أصحابها . أخيراً يصل إلى بيته .. يدخل ، على الحائط "يتْكِل" دراجته ، بحيطة وحذر .. وبرفق كذلك .. من "السرج" الخلفي يفك ، بعض قطع الخشب ، المربوطة بحبل ، هي بقايا يجمعها من تحت أرجل النجارين، لتساعد زوجته في أعمال المنزل.. فهم لا يستطيعون ملاحقة أسعار الفحم، لأنه كما تقول زوجته "الفحم.. كِرِهْتُو.. غالي غلاة التَّابَانِي".

يدخل الغرفة.. الأم وأولادها، كلهم نائمون.. أحمد، أصبح يتمتع بـ"عنقريب" يرقد عليه بمفرده، منذ أن سافر أخوه الأكبر إلى الخرطوم، ليلتحق بالجامعة هناك.. الآخرون كل اثنين في "عنقريب" حتى هو يرقد بجانبه ابنه زكريا.

يضع الخشب على الأرض .. زوجته تصحو ، دائماً هكذا ، "في وردية الليل" ، تستيقظ لوحدها .. رغم محاولاته تجنب إيقاظها .. كأنما أحد داخل نومها ، يخبرها بقدومه .. "إنت جيت"؟.. "أيوه .. قومي ولِّعي نار بالحطب ده خلينا ندفأ ، البرد كتلنا".

تنهض بهدوء وحذر، كيلا تزعج الرضيع، الذي ينام في حضنها.. "سوي لينا عشا ، بَطُنّا تكورك .. من الجوع" نداؤه يحركها بعجل !! .

"ما فضل عشا.. قدر الفي، أكلوه الأولاد".. "يعني أبيت القوا في الليل الطويل ده ، سوى لينا جنى جداد".. "الجنى جداد ، مودِّياه السوق باكر .. أجيب لي قريشات .. أصلوا باكر قهوة سيدي الحسن ، عشان شايلا نذر أسويها لي ولدي صلاح ، أكان كراعو الانكسرت في الكورة دي ، جبرت.." .

ينظر إلى ولده صلاح، في حنان، وفي خوف.. "المدرسة قربت تفتح، يقوم الولد يتأخر من قرايتو، غايتو البصير فك الجبيرة، وقال الولد كراعو جبرت، أيام ويمشي عليها.. أتفو على الكورة، العملوها جديدة دي، حمت الولاد القراية".

زوجته تضع الحطب في "الكانون"، تشعل فيه النار، تحمل "الكانون" تضعه تحت أقدام زوجها. "يا وليه شوفي لينا حاجة ناكلها". "في كسرة بايته أجيبها ليك؟". "أيوه.. جيبيها".

يفرك يديه في لهب النار.. الدفء يسري في جوانبه.. سرح بخياله.. "يا ربي الولد في الخرطوم عمل شنو، رسل جواب قال بفتش لي شغل، ويواصل القراية بالليل. ود الحاج خوفني، قال ناس الخرطوم ما بشغلوا الزول الدخل السجن". وانقبض قلبه. "أبوي لقيت الورقة دي في كتب اخوي". كان ذلك في العام الماضي، حينما جاءه ابنه الصغير يجري وهو يحمل هذه الورقة، وكأنه أحس بخطورتها. انغرزت، ساعتها، في قلبه السكين.. يومها تذكر السجن، والبوليس الذي يدخل البيوت ليفتشها، وإذا وجدوا شيئاً أو لم يجدوا شيئاً يأخذون معهم من جاءوا لأجله.

"أنا ما عارف الأولاد ديل عايزين شنو.. ما قالوا عايزين حكم ولاد البلد.. زمان عملوا للإنجليز كده.. إبراهيم العطشجي ده من زمن الإنجليز، وهو يرموا بيه في السجن.. دحين اليومين دي، ما قاعد أشوفوا.. أكيد دخلوه السجن.. والله الإنجليز، كانوا أخير من ولاد البلد، كانوا بصرفوا لينا "البونص" وديل غير يدخلوا الأولاد في السجن، ما عندهم شغلة".

زوجته تحضر له الكسرة، إنها ناشفة، ولكنه جوعان، أخذ يمضغها، صوت خشن، كصوت برميل يتدحرج تحت قدميه في الورشة، حين يفلته أحدهم، في غفلة منه. أحس بعدها، أن بطنه قد امتلأت.. إنه شبعان الآن.. "غايتو سكتت من الكواريك". تذكر الفرن في الورشة الذي يوقدونه عادة بالفحم، ولكنهم في بعض المرات يرمون فيه الحجارة.. ولكنه أيضاً.. يسخن ويستمر في تأدية عمله.. ابتسم لهذه المقارنة.. غسل يديه، أخذ يفركهما في بقايا لهب النار، التي بدأت تخبو.. شعر بسرور يغمره.. أخرج "حُقّة" الصعوت.. فارغة يجدها.. لا يهم، يدقها على باطن يده عدة مرات.. ذرات سوداء تتناثر.. يكشحها في فمه.. يلمها بلسانه.. ويكورها، تحت شفته السفلى.

نظر إلى زوجته ، التي عادت إلى مرقدها ، لتنام .. امرأة طيبة .. إنها أول من دخل منزله .. ثم دخلت بعدها الدراجة ، إنه وزوجته والدراجة أقدم ما في هذا البيت !!.. ابتسم لهذه الخاطرة .. إنه فعلاً مسرور . نظر إلى زوجته ، مرة أخرى .. إنها تحاول أن تضع ثديها في فم ابنها الرضيع ، الذي استيقظ ، دون أن يصرخ كعادته ، تركته لأنه أغمض عينيه ونام .

لماذا لا يكون أبناؤه تسعة أو عشرة .. إنه يحب أولاده ، يحب الأطفال، إنهم زينة الحياة الدنيا .. قومي يا بتول شيلي زكريا من جنبي ، رقديه في عنقريبك .. قالها برقة ، وهو يبتسم .. إنها تعرف ما يعني"سمح" قالتها في حياء .. هي دائماً تعرف .. وهي دائماً مطيعة لا تعصي له أمراً يعرفه .

[email protected]  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

أسئلة اليوم التالي ومستقبل السودان: معطى القبيلة وفخ القبلية1

 

أسئلة اليوم التالي ومستقبل السودان: معطى القبيلة وفخ القبلية

محمد الأمين عبد النبي

 

تفرض حرب الخامس عشر من أبريل 2023 على السودان أسئلة كبرى تتجاوز حدود الميدان العسكري إلى جوهر الدولة ومصيرها. فالحرب، بما أحدثته من انهيارات بنيوية وتحولات اجتماعية وسياسية، فتحت الباب لمراجعة شاملة تطال المؤسسة العسكرية، قوات الدعم السريع، الحركات المسلحة، الإسلامويين، الاقتصاد الوطني، المجتمع المدني، الأحزاب، النقابات، البنى القبلية، والكيانات الدينية، وصولًا إلى سؤال طبيعة الدولة ونظام الحكم والعدالة والوحدة الوطنية.

إن الوعي بهذه الأسئلة، والغوص في عمقها، وتناولها بتفكير استراتيجي بعيد عن الانفعال والسطحية، يشكّل الخطوة الأولى نحو تأسيس مشروع وطني وعقد اجتماعي جديد يعيد توجيه البوصلة السودانية. وتهدف هذه السلسلة إلى إبتدار حوار فكري رشيد، يستنهض طاقات العلماء والمفكرين والسياسيين وقيادات المجتمع، لاستعادة العقل النقدي السوداني وإطلاق رؤى مبتكرة تعيد بناء الدولة السودانية، وتؤسس لمستقبل لا يُدار فيه الوطن بردود الأفعال، بل بعقلانية ومسؤولية واستبصار.

مما لاشك فيه؛ انه حين تصمت البنادق في السودان لا ينتهي الصراع. فالحرب التي دمّرت المدن والقرى وشرّدت الملايين، فتحت في الوقت نفسه بوابات أعمق من ميدان القتال. إنها بوابات الهوية، وسؤال الشرعية، فقد تجاوزت الحرب حدود السياسة، واتسعت لتشمل النسيج الاجتماعي بأسره، فأعادت طرح سؤال جوهري: هل يستطيع السودان إعادة بناء ذاته دون الوقوع مجدداً في فخ القبلية؟ وهل يمكن للقبيلة أن تظل مكوّناً اجتماعياً طبيعياً ضمن دولة حديثة من دون أن تتحول إلى أداة صراع أو بوابة للسلطة من جديد؟.

السياق التاريخي:

تاريخياً، شكّلت القبيلة في السودان إطاراً للتنظيم الاجتماعي والتكافل الأهلي، فقد كانت الضامن للأمن والحقوق، ورافعة للتماسك الاجتماعي. فلم تكن طارئة على المشهد السوداني، بل رافقت الدولة منذ تأسيسها، عطفاً على ضعف بنية دولة ما بعد الاستعمار وتراجعها على حد قول الامام الصادق المهدي: “مؤسسات الدولة التي ورثناها من العهد الإمبريالي لم تكن ناضجة كما يجب وولاءات المواطنين الأولية الاثنية والقبلية والطائفية لم تتراجع بالقدر الكافي لصالح الولاء القومي، وفي ظل الحكم الوطني من عام 1956 في السودان تراجع نضج مؤسسات الدولة وبرزت الولاءات الاولية بصورة اضعفت الانتماء القومي هذه العوامل جعلت الشروط المطلوبة لنجاح الدولة الوطنية تتقاصر على المستويات المطلوبة، مفهوم الدولة الوطنية نفسه غير مؤصل بالقدر الكافي مما فتح المجال لولاءات فوق قطرية، الاهتمام بإنضاج مؤسسات الدولة الحديثة وبلورة الولاء القومي الذي يعلو على الولاءات الأولية ويكرس الولاء للدولة الوطنية من شروط نجاح التجربة الديمقراطية”.

في الحكومات الوطنية الأولى، لعبت الانتماءات الجهوية والقبلية دوراً خفياً في تشكيل التحالفات السياسية، وفي توزيع المناصب، وفي تحديد موازين القوة داخل الأحزاب التقليدية والذي يرجع بالاساس الي ضعف الدولة المركزية وعدم قدرتها على بسط نفوذها على الأطراف، مما جعل الاعتماد على الزعامات القبلية جزءًا من آليات الحكم في الريف، وأدخل القبيلة مبكراً في حسابات السلطة. ومع تعاقب الأنظمة العسكرية برزت القبلية بصورة أكثر وضوحاً، حيث استخدمت السلطة المركزية شيوخ القبائل في ضبط الأطراف، وفض النزاعات، وجذب الولاءات، مقابل الامتيازات.

التحول الأكبر جاء في عهد الإنقاذ، إذ أدخلت القبلية في بنية الدولة ذاتها، من خلال المحاصصة الجهوية، وتسليح جماعات قبلية، وإنشاء إدارات أهلية موازية، ما أدى إلى عسكرة المجتمع وتعميق الانقسامات. وقد أرجع الدكتور الشفيع خضر تجليات المازق المأساوي في السودان الي الانظمة الديكتاتورية والشمولية وتحديداً نظام الإنقاذ ليتراجع المواطن الي رحاب القبيلة والعشيرة للتعبير عن مطالبه السياسية بحثاً عن الامن والامان هذا النزوح نحو القبيلة ظل يقف حجر عثرة أمام نمو وتطور القومية السودانية ذات المحتوى الفسيفسائي الغني بتنوعه وتعدده.

أما التجارب الديمقراطية القصيرة، فقد عجزت عن تجاوز هذه البنية، وظلت مضطرة إلى مراعاة التوازنات الجهوية والقبلية في التحالفات البرلمانية، مما قيّد قدرة الدولة على التحول إلى مؤسسات حديثة قائمة على المواطنة. وهكذا تراكمت القبلية عبر العقود، حتى أصبحت عاملاً بنيوياً في إدارة الدولة، وسبباً رئيساً لتعثر مشروع بناء دولة وطنية عادلة وموحدة.

الحرب الحالية ومضاعفة التركة :

برزت تراكمات هذا التاريخ بصورة سافرة في الحرب الحالية وما رافقها من انهيار مؤسسي، أعادا للقبيلة دوراً مضاعفاً، فتقدمت لتشكّل سلطة أهلية موازية، وبديلاً مؤقتاً للدولة المنهارة. ولم يعد الانتماء القبلي مجرد رابطة اجتماعية، بل أصبح معياراً لتحديد فرص النجاة، والحصول على الخدمات، وفرض الحماية، والتمثيل السياسي. وصار تعريف الفرد يقوم على أسئلة الانتماء: من أنت؟ ومع من تقف؟ وضد من؟. هذا التحول استجابة قسرية لواقع طاحونة العنف؛ حيث دفعت الحاجة إلى الأمان المجتمعات إلى الاحتماء بانتماءاتها الأولية. ولكن هذا المسار، مهما بدا منطقياً في سياق الحرب، يحمل خطراً بالغاً: فحين تُختزل الهوية في بندقية، والانتماء في خندق، يصبح بناء السلام صعباً ما لم يُنزَع السلاح من القبائل، وما لم تُعاد صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة على أسس مدنية.

إستغلال الانتماء القبلي وتأكل الدولة:

تختلف القبيلة في ذاتها عن القبلية، فالقبيلة معطى اجتماعي وثقافي طبيعي، أما القبلية فهي استغلال الانتماء القبلي لتحقيق النفوذ، وتوزيع المناصب، والتحشيد، والضغط على الدولة. فالخطر يبدأ عندما يتحول الانتماء القبلي من رابطة اجتماعية إلى مدخل للسلطة أو معيار للشرعية. وعندها تصبح القبيلة “جماعة وظيفية” تُستخدم لخدمة مصالح سياسية محددة. هذا المسار تعمق خلال نظام الانقاذ، إذ اعتمد على القبيلة بوصفها جزءاً من شبكات النفوذ، ودمج التوازنات القبلية في التعيينات الحكومية، بل أسس ميليشيات مسلّحة تُعرِّف نفسها وفق انتماء قبلي محدّد. وأصبحت بعض الوفود القبلية تتوجه إلى الخرطوم للمطالبة بنصيبها من السلطة، تحت ذريعة أن القبيلة لا ترى نفسها ممثلة في الحكومة.

 

هذه الديناميكية لم تكن تعبيراً عن قوة القبيلة بقدر ما كانت تعبيراً عن ضعف الدولة، وعن تسييس متعمد للانتماءات الأولية، باستخدم مفهوم تقاسم السلطة والثروة بطريقة تعزز الولاءات بدلاً من معالجة المظالم، فزاد من تعقيد المشهد السياسي، وعمّق الانقسامات، وفتح الباب أمام عسكرة القبائل. ففي الحرب الدائرة اليوم، بلغت القبلية مستوى غير مسبوق من التسييس والعسكرة، إذ أعادت تشكيل خارطة الولاءات على أسس اجتماعية وهوياتية حادة، سواء من خلال الاصطفاف المسلح، أو عبر حواضن الدعم اللوجستي والاجتماعي لهذا الطرف أو ذاك. ومع توسع رقعة الحرب، وجد المواطنون أنفسهم أمام فراغ أمني كامل، ما دفع كثيراً من المجتمعات إلى الاحتماء بانتماءاتها القبلية، ليس فقط بوصفها هوية ثقافية، بل باعتبارها ملاذًا للبقاء ووسيلة للحماية، وبرزت في سرديات العدو القبلي والثأر التاريخي، وتم توظيفها في حملات التعبئة والتحشيد، كما لعب الخطاب الإعلامي الموجَّه دوراً في إعادة إنتاج ثنائية “نحن” و”هم”، بما عمّق الانقسام الاجتماعي، وأضعف قدرة المجتمع على بناء جبهة سلمية موحدة في وجه الحرب، ورغم أن هذه التعبئة لم تحقق إجماعاً كاملاً، فإنها نجحت في استقطاب بعض المكونات القبلية، مما أسهم في تعميق الانقسامات الإثنية والجهوية بصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث. الخطورة تكمن في إن عسكرة القبيلة لا تهدد فقط النسيج الاجتماعي، بل تهدد بقاء الدولة نفسها، لأن الولاءات المسلحة عادة أقوى من الولاءات السياسية، ولأن السلاح يُنشئ واقعاً تتراجع فيه سلطة القانون.

القبيلة وفخ القبلية:

لا يمكن فهم التحول القبلي في السودان بمعزل عن جذوره الاجتماعية. فالأزمة الحالية نتاج عقود من التهميش للمناطق الطرفية، التفاوت الاقتصادي الحاد، غياب التنمية، ضعف المؤسسات السياسية، انسحاب الدولة من الريف وغياب مشروع وطني متفق عليه، هذه العوامل خلقت فراغاً مثالياً لنشوء ما يعرف في علم الاجتماع السياسي بـ”الجماعات الوظيفية” التي تعمل في سياق الانهيار بوصفها بدائل للدولة، تقوم بأدوار أمنية أو اقتصادية أو سياسية.

بالتاكيد ليس المطلوب، ولا الممكن، إلغاء القبيلة، فهي مكون أصيل من النسيج الاجتماعي، ورافعة ثقافية وتاريخية لها وظائف مستمرة في فض النزاعات، وحفظ التقاليد، وتنظيم التضامن الاجتماعي. لكن المطلوب هو إعادة تعريف دورها بحيث تبقى مؤسسة اجتماعية، لا أداة سياسية، وهذا يستدعي مقاربة جديدة لإعادة بناء العقد الاجتماعي ومعالجة آثار العسكرة العميقة التي أصابت المجتمع. فالإشكال لا يكمن في القبيلة نفسها، بل في القبلية السياسية التي توزع المناصب وتحدد الشرعية وتُحرك الصراع وتُؤسس للتمييز وتعيد إنتاج الاستقطاب. أما القبيلة فهي جزء من النظام الاجتماعي، ولا ينبغي أن تكون نقيضاً للدولة أو بديلاً عنها.

أفق الحل الممكن:

لتحويل القبيلة من عنصر صراع إلى عنصر استقرار، ووضع علاقتها مع الدولة في إطارها الصحيح، يحتاج السودان في اليوم التالي للحرب إلى مشروع وطني شامل، ومن أبرز مداخله :

1.تحييد القبيلة سياسياً دون تهميشها اجتماعياً عبر وضع هياكل داخلية، وبرامج للتكافل والتنمية، مع منع تحويلها إلى قنوات للمحاصصة السياسية.

2.تفكيك عسكرة الهوية بنزع السلاح من الجماعات ذات الولاء القبلي، ودمج أفرادها في مؤسسات وطنية.

3.اجراء مصالحات قبلية تمهّد لمصالحة وطنية لأن النزاعات القبلية إذا تُركت دون معالجة ستظل تفجّر أي اتفاق سياسي لاحق.

4.تمكين القبائل في التنمية المحلية وفق نظام فدرالي حقيقي عبر مؤسسات مجتمعية قوية، ومشاريع خدمات تُعيد للقبيلة دورها الاجتماعي الطبيعي.

5.عقد مؤتمر الادارة الاهلية لتاطير دورها في البناء الوطني وتعزيز اعراف القلد والأجادويد وتطوير مفاهيم الفزع والنفير وتطوير العرف بما يضمن حكم القانون وبما يحقق السلام والتعايش والتسامح.

6.إشراك المجتمع الاهلي في مائدة الحوار المستديرة للإسهام في الاجابة على اسئلة التأسيس المصيرية وإعادة صياغة العقد الاجتماعي والمشروع الوطني القائم على أساس الحقوق والواجبات المتساوية، وارساء قواعد المشاركة العادلة في السلطة والثروة التي تحترم التعددية وتمنع احتكار السلطة عبر الانتماءات الضيقة.

ختاماً: الحرب الحالية تطرح سؤالاً وجودياً: كيف نبني وطنًا لا تُقسمه الولاءات الأولية، ولا تحكمه العصبيات، ولا تتوزّع مؤسساته وفق خارطة القبائل؟، القبيلة ستبقى جزءاً أصيلاً من الذاكرة والهوية، لكن القبلية يجب أن تنتهي. فالمطلوب بناء دولة قوية وعادلة، تستوعب الانتماءات دون أن تخضع لها، وتمنح المواطنة مكانتها كهوية جامعة، وترسم مستقبلاً لا تُدار فيه السياسة بالبندقية، ولا تُحدَّد فيه الحقوق بالانتماء القبلي. فالسودان لا يحتاج إلى وقف الحرب فقط، بل يحتاج إلى وعي حقيقي بضرورة عقد اجتماعي جديد يبنى على العدالة والمواطنة وسيادة حكم القانون.

مقالات مشابهة

  • السودان.. الجنائية الدولية تصدر حكما على القيادي بـالجنجاويد علي كوشيب
  • خبراء لـ«الاتحاد»: تنظيم الإخوان يقف ضد أي مسار حقيقي للسلام في السودان
  • صندوق الأمم المتحدة للسكان يحذر من مخاطر الحرب على النساء والفتيات في السودان
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (يا أيها القبر… كم أنت حلو)
  • الأمم المتحدة تحذر من توسيع دائرة الحرب في السودان
  • السجن عام مع إيقاف التنفيذ لزوج بتهمة قتل زوجته بشومة فى قنا
  • حديث صادم للأمم المتحدة.. أطفال غزة يعانون من سوء تغذية حاد
  • أسئلة اليوم التالي ومستقبل السودان: معطى القبيلة وفخ القبلية1
  • Local ONLY يا له من خطاب كراهية مفزع
  • محللون لـ «الاتحاد»: «عمالة الإخوان» تُعيق جهود وقف الحرب في السودان