هل النصر والهزيمة هما أقدار مكتوبة؟ المنتصر منتصر للأبد والمهزوم منهزم دوما؟ وهل المنتصر مهزوم والمهزوم منتصر في جوانب أخرى؟ هذا ما تشي لنا به السنن والأقدار. فليس كل شيء نهائيا وقدرا وخواتم.
لكن لماذا نحن مهزومون؟ نسأل من أي نافذة أو باب تدخل علينا هذه التيارات المتلاحقة من المآسي والكوارث؟ وتلاحقنا سياط الهزيمة؟ ما يكاد ينفرد عقد من الزمان إلا ونرى إمعانا بالقتل والدمار والإذلال، كوارث ومصائب، فوضى ماحقة تلقي بأثقالها وحمولتها وتغشينا بسوادها، كيف يحدث ذلك؟ ولكن إذا نحن مهزومون فإن ذلك ليس بنهاية؛ فهناك بذور للنصر تنمي وتزهر فينا، وهذا لا شك فيه.
وتبقى التحولات الكبرى والمفصلية التي تصيب البشرية بما فيها الكوارث والمآسي أو حتى السعادة رغم قلتها إن لم تكن منعدمة هي ما تظهر المكنونات والخبايا والرواسب المتراكمة في نفس البشرية على الصعيد الفردي أو المجتمعي أو حتى الحضارات والدول وتظهر للبشرية بشكل لا إرادي أو لا واع وهي حالة تتجسد فيها الحقيقة الساطعة التي تأتي دون رتوش متجردة كل التجرد مما يعيق ظهورها وبروزها.
الحدث الجلل الذي كان سببا في إظهار الحقائق هو بالتأكيد «طوفان الأقصى» الذي تحول إلى أحد المفاصل التاريخية التي أصابت البشرية، فترسخ في النفوس والأذهان حاله حال السرديات الكبرى التي أوجدت تحولات عميقة في الكون والبشرية. يرتقي طوفان الأقصى كحدث جلل في حرب الإبادة والوحشية التي تشنها الصهيونية كونه يحدث في العصر الحديث، عصر الصناعات والتحولات الكبرى التي تتفاخر البشرية فيه بالمخترعات والحداثة وحقوق الإنسان والإنسانية والإعلام والذكاء الاصطناعي وغيره.
إن أكثر ما أثاره «طوفان الأقصى» هو موجة من الانزياحات والانكشافات ولا يزال، وهي عميقة تتطلب التفكير والتروي، ويبدو أن لولاه لما انكشفت الغشاوة عن الكثير ولا انزاحت ظلمتها. ويبدو، أيضا، أن تلك الانزياحات تتطلب تضحية كبيرة وقربانا يقدم ويدفع ثمنه وهو ما تكفلت به المقاومة وشعب غزة قاطبة عن البشرية كلها. وما النصر والهزيمة إلا أحد المعاني التي تجلت انزياحاتها، إذ لم يعد المنتصر إلا مهزوما والمهزوم منتصرا في جوانب أخرى، القوي ضعيف والضعيف قوي. النصر والهزيمة معنيان قد يتساويان في دلالتهما وعمقهما. ففي مجرى العالم وسنن الكون قد تنتصر الدول ليس بالجيوش الجرارة المدججة بالأسلحة، قد يسجل النصر بكلمة أو فكرة أو تمسك بمبدأ، وقد لا يتطلب عناء أو مقاومة أو رفع سلاح في وجه العدو. كذلك تنهزم الدول حتى لو امتلكت جيوشا وأسلحة وأنظمة متطورة وغيرها، وكم من حضارات وقوى أفل نجمها وخفت صيتها حتى تلاشت.
فإذا كان العقل العربي مصابا بلوثة من مجموع من الموروثات التي أعاقته عن التفكير البنّاء وشلت قدرته، فإن ذلك تماما ما ينطبق على العقل الغربي. الحضارة الغربية وهي القوى السائدة والمهيمنة على العالم لها مناقبها ومثالبها ولها ما لها وعليها ما عليها، وكل ذلك مرده للعقل الغربي وانفلاته في التفكير والإبداع، ولا شك أن ذلك كان له الانتصار والقوة والتمييز لكنه في الوقت الذي تفتخر فيه الحضارة الغربية وليدة العقل الغربي لانتصاره وتهلل له لا تخفي هزيمتها ولا تواريها بل يدفع بها دون خجل أو تردد. الموروثات المتراكمة على العقل الغربي التي هي وليدة الكنيسة والحروب الصليبية والثورات المتلاحقة والحروب والدمار الذي عاشته تلك الحضارة في الحربين العالميتين وترسبات الأيديولوجيات والعنصرية والأحزاب والحركات المناهضة للأجانب، وتدخل فيها ترسبات دينية ومجتمعية وعقد تفوق وفوقية وعرقية. كل تلك الموروثات كان لها دور فعّال على العقل الغربي، فأصبح بموجب ذلك لهم موروثاتهم المسؤولة عن كل ما يقومون به. إن أولئك المنتصرين أو الذين يدعون نصرا ومحق عدوهم بهزيمته النكراء ما هم إلا منهزمون أيضاً. الغرب بكل جبروته وعنفوانه يدعي نصراً مؤزراً ويتباهى بذلك، لكن لو تأملنا في ذلك النصر في الحقيقة فلا يعدو إلا هزيمة في أوجه أخرى. هزيمة المنتصر هي الأعنف وهي الهزيمة التي لا يبرى منها بسهولة ويسر. يعتقد الغرب أن من لا يتفق معه أو كما قال بوش الابن «من لا يقف معنا فهو ضدنا»، وقالها ترامب أيضا ويقولها الكثيرون منهم إن لم يكن جهرا فسرا. كيف ينهزم المنتصر؟ أو كيف تنهزم الحضارة الغربية؟ انهزم الغرب عندما سقط قناع الحرية والديمقراطية والعدالة والإنسانية الذي يختبئون خلفه. هزمتهم أطماعهم وانتهازيتهم واستغلالهم لثروات الشعوب، فأمعنوا في التدمير والقتل واستعمارهم لبلدانهم، هزمتهم آلات القتل التي صنعوها وروجوها، فأنتجوا الحروب واشعلوا الفتن والمصائب. هزمتهم لغته المبطنة وكلماتهم الكاذبة ونفاقهم المكشوف، فهم يكذبون ويضللون العالم، يكذبون ليلا نهارا ويكذبون كما يتنفسون. منهزمون أمام الصهيونية العالمية واقعون تحت ضغطها، وهم المنهزمون أمام التوحش الرأسمالي والمادية المقيتة، منهزمون بازدواج معاييرهم وقوانينهم، منهزمون أمام معتقداتهم التي يرون فيها تفوق عرقهم ولونهم وشكلهم، منهزمون أمام المنظمات والمؤسسات التي خلقوها وروجوا لتغلغلها في حياة الشعوب المقهورة، منهزمون أمام القوانين الإنسانية التي خرقوها. هم المنهزمون أمام أيديولوجيات رسموها ورسخوها في فكرهم، ومنهزمون بصعود أحزاب وزعماء شعبويين لا يروجون إلا للعنصرية والتفوق والتعالي على حساب الشعوب الأخرى. والغرب هو المنتصر المهزوم، وتتجلى هزيمته في كل المآسي والكوارث التي لحقت بالأمم والحضارات الأخرى بما فيها ما لحق ولا يزال بالأمة العربية من استعمار وهيمنة اقتصادية وسياسية والعدوان والحروب المستمرة، وانهزم عندما زرع كيان بغيض (إسرائيل) في أراضينا، وهم المنهزمون بدعمهم المستمر للدكتاتوريات.
إن الخلل والعطب الجلل الذي أصاب النفوس وكشف من هو المنتصر المهزوم. ليس الغرب وحده المنهزم والساقط والمنحدر والمتبدل، البشرية كلها سقطت في وحل الطوفان ويتوالى السقوط والهزيمة، إنها هزيمة أخلاقية لا حدود ولا قعر لها. هل نفرح ونهلل لهذه الهزيمة؟ هل نقول شكراً لأننا أدركنا الحقيقة وانزاحت الكلمات وتعرت في عيوننا، وجعلتنا نعيد التفكير في الكثير من المعاني التي لا تزال تضرب الأعماق الداخلية وتخلخل الموازين فينا وتعطب دواخلنا وتسقط. إن العطل لهو كبير وإصلاحه ليس بالأمر الهين. إن هزيمة الغرب المنتصر هي هزيمة إنسانية وحضارية وأخلاقية للبشرية. أمام هذا الجرف الأخلاقي العميق، كلنا نقف عراه وكلنا منهزمون.
بدر الشيدي كاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العقل العربی على العقل
إقرأ أيضاً:
ما سر الجسم المجنح الذي ظهر أعلى الشمس في صور ناسا؟
انتشرت مؤخرا على وسائل التواصل الاجتماعي العربية والعالمية صورا للشمس، التقطت من مراصد فضائية خاصة مرصد الشمس وغلافها التابع لوكالتي الفضاء الأميركية والأوروبية، تبين جرما مجنحا كبيرا يقف إلى جوار الشمس، مما أثار الجدل حول الأمر.
في الصور الملتقطة من مرصد الشمس وغلافها، تظهر الشمس مغطاة تماما بأداة تسمى الإكليلوغراف، وهي مصممة خصيصا لحجب قرص الشمس الساطع حتى يتمكن العلماء من رؤية الهالة الشمسية، وهي الطبقة الخارجية من الغلاف الجوي للشمس.
وذلك يشبه أن تمد يديك أمامك لتحجب عن عينيك ضوء الشمس في يوم مشرق، كي تستطيع أن ترى أمامك، فقرص الشمس ساطع جدا، وإذا لم يُحجب، لن يستطيع التلسكوب رؤية الهالة الشمسية الرقيقة التي تحيط به، لأنها ستكون مغمورة في وهج الضوء.
على سبيل المثال في واحدة من أشهر صور مرصد الشمس وغلافها يُرى مذنبان يتحركان حول الشمس متجهين جنبا إلى جنب نحو هالة الشمس، وأحد هذين المذنبين بالأسفل قد تشوهت صورته ليصبح بشكل مجنح، هذه الظاهرة تتكرر كثيرا ويمكن لك بمتابعة صور المرصد أن ترى كثيرا منها.
لاحظ كذلك أن هناك عديدا من النقاط التي يظهر بعضها تشوها شبيها بسبب طبيعة الكاميرا.
ولكن كثيرا ما تظهر الصور الملتقطة بهذه الطريقة نقاطا غريبة الشكل، فقد تظهر مجنحة أو مشوهة، تعود هذه الأشكال إلى ظاهرة تُعرف باسم "تشبع جهاز اقتران الشحنة".
إعلانعندما يدخل جسم شديد السطوع، مثل كوكب الزهرة أو المشتري، مجال رؤية منظار التاج الخاص بمرصد سوهو، فإنه قد يُغرق مستشعر الكاميرا. يؤدي هذا إلى تسرب الشحنة الزائدة من البكسلات المشبعة إلى البكسلات المجاورة، مما يُشكل خطوطا أفقية أو "أجنحة" تمتد من المصدر الساطع. هذا أمر شائع في أجهزة استشعار التصوير الرقمي عند تصوير أجسام شديدة السطوع.
وتلتقط أجهزة المرصد صورا متكررة للكواكب والنجوم التي تمر عبر مجال رؤيتها. على سبيل المثال، غالبا ما يظهر كوكب الزهرة كجسم ساطع في هذه الصور، مما يؤدي إلى مظهره "المجنح" المميز بسبب تشبع جهاز اقتران الشحنات.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك كثيرا من المؤثرات على حساسات كاميرا هذا النوع من المراصد، التي قد تظهر تشوهات أخرى في الصور، مثل اصطدامات الأشعة الكونية، حيث يمكن أن تصطدم الجسيمات عالية الطاقة بجهاز اقتران الشحنات، مما يُنتج بقعا أو خطوطا ساطعة لا علاقة لها بالأجرام السماوية الفعلية.
وقد تؤدي مشاكل نقل البيانات إلى فقدان أو تلف كتل الصور، مما يؤدي إلى أنماط أو أشكال غير عادية في الصور.
وكذلك يمكن أن تُنتج الانعكاسات الداخلية داخل الجهاز صورا شبحية أو شذوذا أخرى، خاصة عند إغلاق باب الحماية الخاص بالجهاز في أثناء إجراءات المعايرة.
ويجدر بنا في هذا السياق توضيح أن الأمر ليس جديدا، إذ لا تمر عدة أعوام إلا ويخرج أحدهم ليتحدث عن هذه الأجرام المجنحة ثم ينتقل للحديث عن نهاية العالم.
بدأ الأمر من جديد عام 2017، حينما ربط أحد منظري المؤامرة في الولايات المتحدة الأميركية، ويسمى ديفيد ميد بين نصوص دينية ونهاية العالم، وقال إنه تمكن من معرفة الموعد الدقيق لنهاية العالم، والذي سيكون في أكتوبر/تشرين الأول 2017، لكنه راجع التاريخ لاحقا وقال إن التاريخ هو 23 سبتمبر/أيلول.
إعلانلم ينته العالم، ومن هنا تم ابتكار تبريرات إضافية، وفي هذا السياق، ادعى ميد أنه استخدم هندسة أهرامات الجيزة للتنبؤ بالموعد الدقيق لوصول كوكب مدمر إلى الأرض، الأمر الذي أدخل الحضارة المصرية القديمة في الحكاية.
في هذا السياق، ربط بعض منظري المؤامرة حول العالم بين الأجرام المجنحة في صور ناسا ورمز "الشمس المجنحة" في النقوش المصرية القديمة، والذي يظهر أجنحة حورس، الذي يمثل السلطة المطلقة لإله الشمس.
جاء ذلك كله في سياق خرافة علمية شهيرة تدعي اقتراب جرم أو كوكب ضخم من الأرض بغرض تدميرها، إذ قال زكريا سيتيشن، وهو كاتب أميركي من أصول روسية قبل نحو 20 سنة، إن الفضائيين زاروا الأرض قبل آلاف السنين، وأخبروا السومريين بأسرار علم الفلك، ومنها أن كوكبا يدعى "نيبيرو" يقترب من الأرض وقد يصطدم به قريبا، وفقا لتفسير سيتيشن للنصوص الدينية القديمة لبلاد ما بين النهرين، فإن نيبيرو يمر كل 3600 عام.
كان سيتيشن يرى أن الكائنات الفضائية هي من وضعت البشر على سطح الأرض، وأن آلهة بلاد ما بين النهرين القديمة كانوا رواد فضاء من كوكب "نيبيرو".
خرافة نيبرومع انتشار الإنترنت، انتقلت هذه الخرافات العلمية إلى العالم العربي، وتحول "كوكب نيبرو" إلى أسماء أخرى، مثل "النجم الطارق" و"كوكب سقر"، بغرض جمع اهتمام الناس.
ومن وجهة نظر فلكية، لا يمكن أن يقترب أحد الكواكب بهذا الشكل من الأرض من دون أن ندرك وجوده، حيث سيكون منيرا في السماء لعدة أشهر أو حتى سنوات قبل وصوله، مثلما تفعل كواكب مثل المشتري أو زحل طوال العام.
يعني ذلك أن كوكب نيبرو كان ليُرى في تلسكوبات هواة الفلك في العالم أجمع، وليس الوكالات الفضائية فقط، فأي شخص يمتلك تلسكوبا متوسطا، مثل كاتب هذا الكلام وآلاف مثله في الوطن العربي فقط، يمكن ببساطة أن يلاحظ وجوده.
من جانب آخر، فإن مرور كوكب كبير نسبيا بين الكواكب الأخرى كان ليؤثر بوضوح شديد في مداراتها، بحيث يتمكن الفلكيين وهواة الفلك في كل العالم من ملاحظة ذلك من مسافات بعيدة جدا، وبالتالي فإن "نيبيرو" من المؤكد أنه ليس حتّى ضمن الكواكب الثمانية للمجموعة الشمسية.
إعلان