اقْتِصَادَاتُ الحَل التَفَاوُضِي فِي السُودِان
The Economics of a Negotiated Solution in Sudan
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم

على خلاف المآلات الاقتصادية الحالكة للخيار العسكري لإنهاء حرب السودان، فإن الحل التفاوضي يحمل في طياته مكاسب جمَّة مقارنة بالحل العسكري.

فالحل التفاوضي يمهِّد الطريق لاقتصاد إنتاجي شفاف وعادل في حين يفرز الحل العسكري اقتصاد ريعي واحتكاري يسوده العنف والتغبيش. ومن حيث التوزيع الجغرافي فإن الحل التفاوضي ينتج عنه نظام لامركزي قائم على التمييز الإيجابي بين الأقاليم الجغرافية في الوقت الذي يقود فيه الحل العسكري لنظام مركزي يحقق مصالح النخب بفرض التشرذم. أما من حيث تحقيق الاستقرار فإن الحل التفاوضي يقود لاستقرار مستدام يرتكز على المؤسسات في حين يؤدي الحل العسكري للهشاشة والعنف والفشل. وبالنظر لتوفر الدعم الدولي لإعادة الإعمار فإن الحل التفاوضي تصحبه مساعدات دولية مرتبطة بالإصلاح في حين يصاحب الحل العسكري دعم دولي انتهازي محدود ومشروط.

وفي في ظل دخول الحرب المدمرة في السودان عامها الثالث، يبرز غياب الرؤية الاقتصادية المتكاملة كأحد عوامل إطالة الصراع وتعويل الطرفين على الحل العسكري، حيث يتصارع الطرفان للسيطرة على الموارد والثروات دون مشروع اقتصادي وطني شامل. وأمام هذا الواقع، تملك القوى المدنية فرصة لتقديم بديل تفاوضي يعيد بناء الاقتصاد السوداني الذي عصفت به الحرب على أسس العدالة والتنمية والسلام.
ويرتكز هذا البديل التفاوضي على مبادئ مؤسسة قوامها جعل الاقتصاد في خدمة الإنسان السوداني، لا في خدمة السلطة بشراء السلاح، وفصل الاقتصاد عن الأجهزة العسكرية والأمنية، وتحقيق توزيع عادل للثروة يراعي التفاوت التنموي بين الأقاليم، وإدماج الاقتصاد غير الرسمي في منظومة شفافة ومنظمة، وبناء شراكات استراتيجية مع المجتمع الدولي على أساس الإصلاح والسيادة وتحقيق المصالح المشتركة المشروعة.

وترتكز الرؤية التفاوضية البديلة على إعادة هيكلة الاقتصاد بعد الحرب بتفكيك الشركات الأمنية والعسكرية وإدماجها تحت ولاية وزارة المالية، وإنشاء مفوضية وطنية للموارد الطبيعية والذهب، ووضع خطة خمسية لإعادة الإعمار تركّز على التعليم والصحة والبنية التحتية، وإصلاح النظام الضريبي والمالي بتبني نظام ضريبي تصاعدي عادل يشجع الإنتاج ويراعي استقلالية البنك المركزي وتعزيز الشفافية المالية وإنشاء صناديق تنمية للأقاليم المهمّشة. كما تشمل إعادة هيكلة الاقتصاد بعد الحرب دعم القطاع الخاص والاستثمار بتوفير بيئة قانونية آمنة ومحفزات في الزراعة والصناعة، وتكوين شراكات مع السودانيين في الخارج، وتسهيل إجراءات الاستثمار للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. ويراقب عملية إعادة هيكلة الاقتصاد تفعيل أنظمة الحوكمة والمساءلة بتكوين مفوضية وطنية فاعلة لمكافحة الفساد، وإتاحة دور رقابي فاعل للمجتمع المدني، ورقمنة الإيرادات والمصروفات الحكومية.

ونظراً لمعاناة الاقتصاد السوداني من ويلات المقاطعة والعقوبات الدولية منذ سنة 1997 في عهد حكومة الإنقاذ واستمرت لأكثر من ثلاثين سنة، هناك ضرورة ليواكب الرؤية الاقتصادية لإعادة إعمار الإعمار سعي جاد لتحقيق نقلة نوعية في التموقع الدولي والإقليمي بانخراط مدروس في المؤسسات الدولية والإقليمية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، نادي باريس، البنك الإفريقي للتنمية، ومؤسسات التمويل العربية)، والدخول في شراكات تنموية مع دول الجوار الإقليمي، وتقديم رؤية موحدة للسلام والتنمية لجذب دعم المجتمع الدولي والإقليمي لإعادة الإعمار في السودان.

وتشمل آليات تنفيذ الرؤية الاقتصادية التفاوضية لإنهاء الحرب تشكيل حكومة انتقالية مدنية ذات كفاءة عالية لفترة لا تقل عن خمسة أعوام، تشهد تنظيم مؤتمر اقتصادي قومي جامع بمشاركة واسعة، وتفعيل دور اللجان المجتمعية لتراقب تنفيذ خطط الإعمار والتنمية، وتعبئة الكفاءات السودانية في الداخل والخارج للمشاركة في بناء الاقتصاد الذي دمرته الحرب. ومن الضروري لآليات التنفيذ إدراك أن هذه الرؤية الاقتصادية ليست مجرد خطة اقتصادية، بل هي مشروع وطني للسلام والعدالة والمصالحة نحو تسوية سياسية مستدامة. ذلك أن اقتصاد السلام هو الطريق الحقيقي لبناء دولة سودانية عادلة، حديثة، ومنفتحة على مواطنيها والعالم.

وخلافاً لمخاوف طرفي الحرب من التبعات السالبة عليهما من الخيار التفاوضي لإنهاء الصراع، إلا أن الخيار التفاوضي يحمل في طياته مكاسب لجميع الأطراف. أما بالنسبة للجيش وحلفائه فعلى الرغم من فقدان السيطرة على الاقتصاد الموازي المتعلق بالذهب والتجارة وتراجع النفوذ السياسي التقليدي داخل الدولة فإن الخيار التفاوضي يتيح له العديد من الفرص المتمثلة في الحفاظ على كيان المؤسسة العسكرية كضامن للأمن الوطني، ودمج الشركات الاقتصادية التابعة للجيش ضمن الاقتصاد الرسمي بضمانات مدنية، والوصول إلى دعم دولي لإعادة هيكلة القوات المسلحة في سياق إصلاح شامل، وإعادة الانتشار في أدوار غير قتالية، خاصة في الإعمار والبنية التحتية.

أما بالنسبة للدعم السريع وحلفائه فبرغم فقدان السيطرة على طرق التهريب والمناطق الغنية بالموارد وضعف القبول الشعبي والسياسي بعد جرائم الحرب وصعوبة الدمج في مؤسسات الدولة بسبب البنية غير النظامية، فإن الخيار التفاوضي يوفر له عدداً من الفرص التي تشمل التحول إلى كيان سياسي أو قوة تابعة للقوات المسلحة السودانية في حال ترتيبات إدماج وضمانات بعدم الملاحقة مقابل تسليم السلاح والمشاركة في التسوية وإعادة تدوير النفوذ عبر تحالفات قبلية أو اقتصادية شرعية.

وبخصوص القوى المدنية فعلى الرغم من صعوبة فرض الإصلاحات الاقتصادية دون توافق أمني واحتمالية اضطرارها لقبول ترتيبات انتقالية مع عناصر عسكرية وتحدي تأمين السند التنفيذي في ظل غياب قوة حماية مدنية فعالة، فإن الحل التفاوضي لإنهاء الصراع يتيح للقوى المدنية العديد من الفرص التي تشمل تشكيل حكومة مدنية ذات مشروعية داخلية وخارجية وتنفيذ برنامج اقتصادي متكامل يعيد هيكلة الاقتصاد نحو العدالة والتنمية واستقطاب دعم دولي واسع لإعادة الإعمار وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية لتشمل الهامش والمجتمعات المتأثرة بالحرب في إطار عقد اجتماعي بين الدولة وعامة الشعب.

وعلى الرغم من الحل التفاوضي وما يصاحبه من رؤية اقتصادية يمثل بديلاً عملياً عن الحل العسكري وما يصاحبه من اقتصاد الحرب، إلا أنه يصطدم بتحدٍّ حاسم يتمثل في غياب القوة الصلبة لحمايته من الأطراف المسلحة. حيث لا يمكن لأي مشروع اقتصادي مدني أن يُنفَّذ بدون ترتيبات أمنية تضمن الاستقرار وتحمي المؤسسات من العرقلة أو الانهيار. وعليه صار لزاماً توفير مسارات تأمين هذه الرؤية من خلال أدوات مدنية-عسكرية واقعية تنأى عن الخيارات الصفرية التي يتبناها بعض المدنيين. ذلك أن أمن الاقتصاد لا يقل أهمية عن أمن الحدود. فالرؤية الاقتصادية المدنية للسودان تحتاج إلى ترتيبات أمنية واقعية يكون العسكريون طرفاً أصيلاً فيها، ولا تتطلب بالضرورة المواجهة بين العسكريين والمدنيين، بل تتأتى بالتفاوض الذكي والضمانات المؤسسية والوشائج الانتقالية. فالمسار المدني لن ينجح إلا إذا استطاع تحييد القوة العسكرية، أو كسبها، في سبيل بناء دولة مدنية حقيقية ذات مصداقية.

ويتطلب توفير أدوات الحماية فهماً واقعيَّاً للمشهد العسكري الذي أفرزته الحرب حيث يتضح تباين مكونات الجيش بين قيادات عليا منتفعة من شبكات اقتصادية، في مقابل قيادات وسطى وضباط شباب متطلعين للإصلاح والتعاون مع المدنيين. أما قوات الدعم السريع فتعتمد على اقتصاد موازٍ يصعب دمجه في الجيش دون نزع سلاح جوهري. وتعاني هي الأخرى من الطبقية حيث تستمتع القيادة العليا بعائدات الذهب والمعادن النفيسة، في حين تعتمد الفئات الدنيا على النهب والجبايات غير المشروعة. وفي المقابل فإن القوى المدنية تفتقر إلى الذراع المسلح، بيد أنها تملك أدوات الضغط الشعبي، والمشروعية السياسية، والدعم الدولي. وعلى هذه الخلفية تبرز عدة خيارات لتأمين الرؤية الاقتصادية والحل التفاوضي. وتشمل هذه الخيارات كسب قطاعات من الجيش ببناء تحالفات ضمنية مع القيادات الإصلاحية داخل القوات المسلحة عبر تقديم ضمانات مؤسسية ضمن الرؤية الاقتصادية، بما في ذلك دمج الشركات العسكرية في الاقتصاد الرسمي ووضع ترتيبات تقاعد وانتقال منصف للضباط وإشراك الجيش في لجان رقابة على تنفيذ خطة الإعمار. كما يمكن تبني استراتيجية الحياد العسكري ترمي لتفكيك التحالف بين القيادات العسكرية والمليشيات المؤدلجة عبر الضغط الدولي وكشف كلفة الحرب المادية والبشرية على القوات المسلحة عبر الإعلام والمجتمع المدني والمطالبة بإشراف أممي أو إقليمي على الأمن في المرحلة الانتقالية. ومن ناحية أخرى، يمكن دعم توفير الحماية للرؤية الاقتصادية المدنية بواسطة أدوات أخرى مثل إصلاح جهاز الشرطة وتفعيله كأداة مدنية لحماية العملية الاقتصادية وإنشاء وحدات رقابة اقتصادية مدنية بدعم دولي والاستعانة بخبرات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لتأمين المدن والمنشآت. كما يمكن للحوافز الدولية لعب دور مساند في هذا الصدد عن طريق دعم دولي مشروط للقوات المسلحة في مقابل التزامها بالانتقال السلمي وإنشاء صندوق دولي لإعادة الإعمار مرتبط بخارطة طريق أمنية واضحة وضمانات أممية بعدم ملاحقة بعض العناصر العسكرية غير المتورطة في جرائم. وأخيراً يمكن أيضاً تشكيل لجنة اتصال مدني - عسكري برعاية إقليمية وإطلاق حوار أمني اقتصادي لمناقشة دور الجيش في حماية إعادة الإعمار وتأسيس مجلس وطني للانتقال الاقتصادي والأمني بمشاركة رمزية عسكرية عبر استنباط وشائج ذكية تحقق الوئام المدني-العسكري، وتحل محل نمط الشراكة السابقة بينهما.

وبرغم كل هذه التحوطات فإن نجاح الخيار التفاوضي والرؤية الاقتصادية المدنية رهين بانسياب المساعدات الاقتصادية من المجتمع الدولي الذي يتنوع ما بين الدعم المالي المباشر، والإعفاءات من الديون، والمساعدة الفنية، والدعم السياسي الذي يفتح الأبواب للاستثمار والتعافي الاقتصادي. ذلك أن تجربة الحكومة الانتقالية قبل انقلاب أكتوبر 2021 قد أكدت استعداد المجتمع الدولي نظريَّاً وعمليَّاً لدعم السودان اقتصادياً، لكن هذا الدعم مرهون بتحقيق تسوية سياسية ذات مصداقية تقودها حكومة مدنية مستقلة قادرة على تنفيذ رؤية اقتصادية قائمة على الشفافية والإصلاح وخلق فرص حقيقية للنمو والعدالة الاجتماعية. وتتضمن هذه المساعدات من المجتمع الدولي ما يلي:

????التمويل المباشر والدعم الإنساني والتنموي التي تشمل المساعدات الطارئة بما في ذلك الغذاء، والماء، والرعاية الصحية، والتعليم في حالات الطوارئ التي تُقدَّم عبر منظمات الأمم المتحدة مثل برنامج الغذاء العالمي (WFP)، وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF)، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP) ) والمنظمات غير الحكومية الدولية (NGOs). كما يشمل أيضاً دعم ميزانية الدولة عند التوصل إلى تسوية سياسية وتشكيل حكومة مدنية معترف بها، حيث يمكن للمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تقديم دعم مباشر للميزانية لتغطية الرواتب والخدمات الأساسية. ويتضمن التمويل التنموي دعم المشروعات الزراعية والبنية التحتية، وبرامج الإنعاش الاقتصادي في المناطق المتأثرة بالنزاع.
???? إعادة هيكلة الديون والإعفاء منها حيث أحرز السودان قبل انقلاب 25 أكتوبر 2021 تقدماً كبيراً في مسار الاستفادة من مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك – HIPC)، والتي أطلقها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وكان من المتوقع أن يصل السودان إلى "نقطة الإنجاز-Completion Point " ضمن مبادرة هيبيك في غضون ثلاث سنوات في يونيو 2024 من تاريخ وصوله إلى "نقطة اتخاذ القرار- Decision Point" التي بلغها في يونيو 2021. وقد حصل السودان على وعود بإعفاء ديون تتجاوز 50 مليار دولار عبر مبادرة هيبيك، وبدأت بالفعل إجراءات إعفاء جزء كبير من الديون المتراكمة، مما خفف العبء على الاقتصاد السوداني وفتح المجال أمام تمويلات جديدة. ولكن انقلاب أكتوبر العسكري أوقف هذا المسار، وجمّد معظم الفوائد التي كان السودان سيحصل عليها من المبادرة، إلى حين عودة الحكم المدني واستئناف الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي.
???? المساعدات الفنية وبناء القدرات وتشمل دعم بناء المؤسسات الاقتصادية المدنية، مثل وزارة المالية والبنك المركزي وديوان الضرائب، وتطوير نظم شفافة لإدارة الموارد (مثل الذهب والزراعة والموانئ)، وتدريب الكوادر المدنية على إدارة الاقتصاد الكلي، والتفاوض على الديون، وجذب الاستثمارات، والحوكمة المالية.
???? تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر المشروط برفع القيود والعقوبات عن السودان بعد تشكيل حكومة مدنية في إطار الحل التفاوضي والرؤية الاقتصادية مما سيفتح الباب للاستثمار في قطاعات الزراعة والطاقة المتجددة والتعدين والخدمات، ولعودة شركات النفط العالمية، والاستفادة من موقع السودان الجغرافي الاستراتيجي.
????الدعم السياسي والدبلوماسي المرتبط بالاقتصاد ويشمل ضمانات دولية لحماية الفترة الانتقالية، وإنشاء آلية رقابة مشتركة (مثل "أصدقاء السودان") لضمان الشفافية في استخدام المساعدات، وتسهيل اندماج السودان في الأسواق الإقليمية والدولية.

melshibly@hotmail.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الاقتصادیة المدنیة الرؤیة الاقتصادیة المجتمع الدولی هیکلة الاقتصاد لإعادة الإعمار الأمم المتحدة إعادة الإعمار الحل العسکری إعادة هیکلة تشکیل حکومة حکومة مدنیة دعم دولی فی حین

إقرأ أيضاً:

السرديات المضللة في حرب السودان

السرديات المضللة في حرب السودان

فيصل محمد صالح

ليستْ هناك سردية واحدة لأسباب وبدايات ومجريات حرب السودان، ليس فقط لاختلاف التفسيرات، ولكن للاختلاف حول الوقائع نفسها، بدايةً من قصة بداية الحرب حتى الآن. هذه السرديات تتعامل بانتقائية شديدة مع الأحداث والوقائع، تأخذ ما تريده وتركز عليه وتتجاهل بقية المعطيات، وترفض ربط الأحداث ببعضها البعض، كما أنها تتعامل بتبسيط مخل… «إما أن تأخذ بضاعتنا كما هي، أو أنك عدونا».

سردية بداية الحرب تتعرض كل يوم لامتحان قاسٍ، عبر الفيديوهات التي تحمل إشارات وأقوالاً مباشرةً وعبر الأسرار التي تتكشف كل يوم عمن خطط لهذه الحرب وأعد لها من قبل شهوراً طويلة. هناك ثروة من التسجيلات واللقاءات والتصريحات وبعضها بها اعتراف صحيح بالمسؤولية عن الحرب، إلا أنه ومن باب الأمانة، ليس ثمة طرف من هذه الأطراف كان يظن أن الحرب ستطول أكثر من ثلاثة أو أربعة أسابيع، وهذه جريمة أخرى. وكثير من التصريحات الحالية لقيادات عسكرية نظامية وأخرى ميليشياوية توضح أن «الدعم السريع» عدو ثانٍ، لكن عدوهم الأكبر هو كل من انتمى لثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، ودونك الحديث الأخير لقائد «كتائب الحركة الإسلامية» المصباح أبو زيد.

الحشد السياسي للحرب كان في قمته، لكن الاستعداد العسكري ثبت أنه كان في أدنى مستوياته، بدليل نتائج الحرب في أول أسابيع. خلال أيام انزوت كتائب الجيش في ثكناتها، المهندسين ووادي سيدنا في أم درمان، سلاح الإشارة ومعسكر حطاب في بحري، والمدرعات وجزء من القيادة في الخرطوم. وما فعلت كتائب الجيش ذلك عن جبن ولا عن استسلام، لكنها كانت بلا تسليح ولا إعداد كافٍ وبلا حتى مجموعات مشاة قتالية كافية.

في الوقت نفسه ثبت أن «الدعم السريع» استعدت للحرب وأعدت قواتها وخططها، تدفعها قبل كل ذلك الطموحات السياسية لقائدها، وكان منطقه البسيط يقول إن معارفه الفطرية من دون تعليم نظامي أو تأهيل عسكري قادته ليكون الرجل الثاني في الدولة، فما الذي يمنع أن يكون الرجل الأول…؟

انظر، من ناحية أخرى، إلى حوادث مهاجمة مدينة بورتسودان بمسيّرات «قوات الدعم السريع»، وما يمثله من تصعيد خطير للحرب ونقلها لمرحلة ثانية. المؤكد أن هذه المسيّرات استهدفت مواقع عسكرية في اليومين الأوائل، لكنها عادت بعد ذلك لتهاجم مواقع للخدمات، مثل خزانات النفط وميناءي بورتسودان وعثمان دقنة وأحد أكبر فنادق المدينة. هذا الهجوم يستحق الإدانة لأن فيه مخالفات واضحة للقانون الدولي الإنساني ولكل المواثيق وتقاليد الحروب في العصر الحديث، ونتائجه المباشرة ستتسبب في زيادة معاناة المواطنين المدنيين ومضاعفة المخاطر التي يتعرضون لها.

هل يجب أن يكون المبدأ أن استهداف المواقع والمنشآت المدنية مدان ومرفوض، وهو من جرائم الحرب، أينما كانت هذه المنشآت وأياً من كان يستهدفها، أم أن الأمر يمكن أن يخضع للانتقائية…؟

الحقيقة أننا شاهدنا الانتقائية وعدم الموضوعية من على منصات ومواقع وصفحات أفراد كثيرين. فقد سبق للطيران الحربي الحكومي أن هاجم منشآت مدنية وأسواقاً ممتلئة بالمدنيين وراح ضحية ذلك المئات بينهم نساء وأطفال. وكان من المقزز أن تقرأ للبعض وهو يصفق ويهلل ويسمي سلاح الطيران بـ«صانع الكباب» في الإشارة لجثث الضحايا المتراكمة فوق بعضها البعض. وكانت الكتابات التي تشجع وتدعو لتدمير المنشآت المدنية والبنيات الأساسية من جسور ومنشآت اقتصادية كبرى، مثل مصفاة البترول تتوالى كل يوم. بل إن أحد أهم أبطال السوشيال ميديا المؤيدة للحرب دعا في تسجيل شائع وموجود قيادة الجيش لمهاجمة أماكن اعتقال أسرى الجيش وقصفها وتصفيتهم «حتى لا يصبحوا ورقة ضغط في يد (الدعم السريع)».

من المؤكد أن سردية «قوات الدعم السريع» بأنها جاءت لمحاربة فلول النظام السابق ونصرة الديمقراطية وعودة الحكم المدني أضعف بكثير من أن يتعامل معها المرء بجدية ليعمل على تفنيدها، فقد ذاق المواطنون المدنيون ثمار ديمقراطيتهم هذه في الخرطوم والجزيرة وسنار ومناطق أخرى كثيرة، قتلاً ونهباً واغتصاباً. الحقيقة أنها ظلت طوال هذه الفترة عبارة عن بندقية تبحث عن قتيل، لا يسندها منطق ولا رؤية سياسية أو وطنية عامة. ولعل هذا ما دفع قيادة «الدعم السريع» للتحالف مع كيانات وأحزاب وحركات مسلحة لديها مشاريع سياسية، لعل وعسى. لكن ستظل الصور الدموية في ود النورة والتكينة والهلالية وقرى البطانة في الذاكرة دائماً، حتى يوم قريب يأخذ فيه كل مجرم ومنتهك، أياً كان موقعه أو منصبه، نصيبه من العقاب.

* نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط

الوسومالجيش الحركة الإسلامية الدعم السريع السودان الشرق الأوسط المسيرات المصباح أبوزيد بورتسودان فيصل محمد صالح

مقالات مشابهة

  • الاقتصاد وراء توقف حرب باكستان والهند
  • بعثة صندوق النقد: مصر التزمت الإصلاحات الاقتصادية وعليها مواصلة دعم مناخ الاستثمار
  • السرديات المضللة في حرب السودان
  • اقتصاد السودان: الانهيار الشامل والمأساة الإنسانية في ظل الحرب المنسية
  • السودان: التأثيرات الاقتصادية المحتملة لقطع العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات
  • الإمارات ترفض مزاعم تسليح أطراف النزاع في السودان .. وزارة الخارجية دعت إلى وقف فوري لإطلاق النار ودعم الحل السياسي
  • تظاهرة حاشدة في مأرب للتضامن مع غزة وسط دعوات للتحرك الدولي
  • الاتحاد الأوروبي: هذه الأفعال المدعومة من جهات دولية تقوض الاستقرار الإقليمي وتنتهك القانون الإنساني الدولي
  • بتأييد 12 عضواً .. مجلس الأمن الدولي يمدد ولاية بعثة حفظ السلام في دولة جنوب السودان
  • الرئيس السيسي يشهد العرض العسكري بمناسبة الذكرى الـ 80 للانتصار في الحرب الوطنية العظمى