اقْتِصَادَاتُ الحَل التَفَاوُضِي فِي السُودِان
The Economics of a Negotiated Solution in Sudan
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم

على خلاف المآلات الاقتصادية الحالكة للخيار العسكري لإنهاء حرب السودان، فإن الحل التفاوضي يحمل في طياته مكاسب جمَّة مقارنة بالحل العسكري.

فالحل التفاوضي يمهِّد الطريق لاقتصاد إنتاجي شفاف وعادل في حين يفرز الحل العسكري اقتصاد ريعي واحتكاري يسوده العنف والتغبيش. ومن حيث التوزيع الجغرافي فإن الحل التفاوضي ينتج عنه نظام لامركزي قائم على التمييز الإيجابي بين الأقاليم الجغرافية في الوقت الذي يقود فيه الحل العسكري لنظام مركزي يحقق مصالح النخب بفرض التشرذم. أما من حيث تحقيق الاستقرار فإن الحل التفاوضي يقود لاستقرار مستدام يرتكز على المؤسسات في حين يؤدي الحل العسكري للهشاشة والعنف والفشل. وبالنظر لتوفر الدعم الدولي لإعادة الإعمار فإن الحل التفاوضي تصحبه مساعدات دولية مرتبطة بالإصلاح في حين يصاحب الحل العسكري دعم دولي انتهازي محدود ومشروط.

وفي في ظل دخول الحرب المدمرة في السودان عامها الثالث، يبرز غياب الرؤية الاقتصادية المتكاملة كأحد عوامل إطالة الصراع وتعويل الطرفين على الحل العسكري، حيث يتصارع الطرفان للسيطرة على الموارد والثروات دون مشروع اقتصادي وطني شامل. وأمام هذا الواقع، تملك القوى المدنية فرصة لتقديم بديل تفاوضي يعيد بناء الاقتصاد السوداني الذي عصفت به الحرب على أسس العدالة والتنمية والسلام.
ويرتكز هذا البديل التفاوضي على مبادئ مؤسسة قوامها جعل الاقتصاد في خدمة الإنسان السوداني، لا في خدمة السلطة بشراء السلاح، وفصل الاقتصاد عن الأجهزة العسكرية والأمنية، وتحقيق توزيع عادل للثروة يراعي التفاوت التنموي بين الأقاليم، وإدماج الاقتصاد غير الرسمي في منظومة شفافة ومنظمة، وبناء شراكات استراتيجية مع المجتمع الدولي على أساس الإصلاح والسيادة وتحقيق المصالح المشتركة المشروعة.

وترتكز الرؤية التفاوضية البديلة على إعادة هيكلة الاقتصاد بعد الحرب بتفكيك الشركات الأمنية والعسكرية وإدماجها تحت ولاية وزارة المالية، وإنشاء مفوضية وطنية للموارد الطبيعية والذهب، ووضع خطة خمسية لإعادة الإعمار تركّز على التعليم والصحة والبنية التحتية، وإصلاح النظام الضريبي والمالي بتبني نظام ضريبي تصاعدي عادل يشجع الإنتاج ويراعي استقلالية البنك المركزي وتعزيز الشفافية المالية وإنشاء صناديق تنمية للأقاليم المهمّشة. كما تشمل إعادة هيكلة الاقتصاد بعد الحرب دعم القطاع الخاص والاستثمار بتوفير بيئة قانونية آمنة ومحفزات في الزراعة والصناعة، وتكوين شراكات مع السودانيين في الخارج، وتسهيل إجراءات الاستثمار للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. ويراقب عملية إعادة هيكلة الاقتصاد تفعيل أنظمة الحوكمة والمساءلة بتكوين مفوضية وطنية فاعلة لمكافحة الفساد، وإتاحة دور رقابي فاعل للمجتمع المدني، ورقمنة الإيرادات والمصروفات الحكومية.

ونظراً لمعاناة الاقتصاد السوداني من ويلات المقاطعة والعقوبات الدولية منذ سنة 1997 في عهد حكومة الإنقاذ واستمرت لأكثر من ثلاثين سنة، هناك ضرورة ليواكب الرؤية الاقتصادية لإعادة إعمار الإعمار سعي جاد لتحقيق نقلة نوعية في التموقع الدولي والإقليمي بانخراط مدروس في المؤسسات الدولية والإقليمية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، نادي باريس، البنك الإفريقي للتنمية، ومؤسسات التمويل العربية)، والدخول في شراكات تنموية مع دول الجوار الإقليمي، وتقديم رؤية موحدة للسلام والتنمية لجذب دعم المجتمع الدولي والإقليمي لإعادة الإعمار في السودان.

وتشمل آليات تنفيذ الرؤية الاقتصادية التفاوضية لإنهاء الحرب تشكيل حكومة انتقالية مدنية ذات كفاءة عالية لفترة لا تقل عن خمسة أعوام، تشهد تنظيم مؤتمر اقتصادي قومي جامع بمشاركة واسعة، وتفعيل دور اللجان المجتمعية لتراقب تنفيذ خطط الإعمار والتنمية، وتعبئة الكفاءات السودانية في الداخل والخارج للمشاركة في بناء الاقتصاد الذي دمرته الحرب. ومن الضروري لآليات التنفيذ إدراك أن هذه الرؤية الاقتصادية ليست مجرد خطة اقتصادية، بل هي مشروع وطني للسلام والعدالة والمصالحة نحو تسوية سياسية مستدامة. ذلك أن اقتصاد السلام هو الطريق الحقيقي لبناء دولة سودانية عادلة، حديثة، ومنفتحة على مواطنيها والعالم.

وخلافاً لمخاوف طرفي الحرب من التبعات السالبة عليهما من الخيار التفاوضي لإنهاء الصراع، إلا أن الخيار التفاوضي يحمل في طياته مكاسب لجميع الأطراف. أما بالنسبة للجيش وحلفائه فعلى الرغم من فقدان السيطرة على الاقتصاد الموازي المتعلق بالذهب والتجارة وتراجع النفوذ السياسي التقليدي داخل الدولة فإن الخيار التفاوضي يتيح له العديد من الفرص المتمثلة في الحفاظ على كيان المؤسسة العسكرية كضامن للأمن الوطني، ودمج الشركات الاقتصادية التابعة للجيش ضمن الاقتصاد الرسمي بضمانات مدنية، والوصول إلى دعم دولي لإعادة هيكلة القوات المسلحة في سياق إصلاح شامل، وإعادة الانتشار في أدوار غير قتالية، خاصة في الإعمار والبنية التحتية.

أما بالنسبة للدعم السريع وحلفائه فبرغم فقدان السيطرة على طرق التهريب والمناطق الغنية بالموارد وضعف القبول الشعبي والسياسي بعد جرائم الحرب وصعوبة الدمج في مؤسسات الدولة بسبب البنية غير النظامية، فإن الخيار التفاوضي يوفر له عدداً من الفرص التي تشمل التحول إلى كيان سياسي أو قوة تابعة للقوات المسلحة السودانية في حال ترتيبات إدماج وضمانات بعدم الملاحقة مقابل تسليم السلاح والمشاركة في التسوية وإعادة تدوير النفوذ عبر تحالفات قبلية أو اقتصادية شرعية.

وبخصوص القوى المدنية فعلى الرغم من صعوبة فرض الإصلاحات الاقتصادية دون توافق أمني واحتمالية اضطرارها لقبول ترتيبات انتقالية مع عناصر عسكرية وتحدي تأمين السند التنفيذي في ظل غياب قوة حماية مدنية فعالة، فإن الحل التفاوضي لإنهاء الصراع يتيح للقوى المدنية العديد من الفرص التي تشمل تشكيل حكومة مدنية ذات مشروعية داخلية وخارجية وتنفيذ برنامج اقتصادي متكامل يعيد هيكلة الاقتصاد نحو العدالة والتنمية واستقطاب دعم دولي واسع لإعادة الإعمار وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية لتشمل الهامش والمجتمعات المتأثرة بالحرب في إطار عقد اجتماعي بين الدولة وعامة الشعب.

وعلى الرغم من الحل التفاوضي وما يصاحبه من رؤية اقتصادية يمثل بديلاً عملياً عن الحل العسكري وما يصاحبه من اقتصاد الحرب، إلا أنه يصطدم بتحدٍّ حاسم يتمثل في غياب القوة الصلبة لحمايته من الأطراف المسلحة. حيث لا يمكن لأي مشروع اقتصادي مدني أن يُنفَّذ بدون ترتيبات أمنية تضمن الاستقرار وتحمي المؤسسات من العرقلة أو الانهيار. وعليه صار لزاماً توفير مسارات تأمين هذه الرؤية من خلال أدوات مدنية-عسكرية واقعية تنأى عن الخيارات الصفرية التي يتبناها بعض المدنيين. ذلك أن أمن الاقتصاد لا يقل أهمية عن أمن الحدود. فالرؤية الاقتصادية المدنية للسودان تحتاج إلى ترتيبات أمنية واقعية يكون العسكريون طرفاً أصيلاً فيها، ولا تتطلب بالضرورة المواجهة بين العسكريين والمدنيين، بل تتأتى بالتفاوض الذكي والضمانات المؤسسية والوشائج الانتقالية. فالمسار المدني لن ينجح إلا إذا استطاع تحييد القوة العسكرية، أو كسبها، في سبيل بناء دولة مدنية حقيقية ذات مصداقية.

ويتطلب توفير أدوات الحماية فهماً واقعيَّاً للمشهد العسكري الذي أفرزته الحرب حيث يتضح تباين مكونات الجيش بين قيادات عليا منتفعة من شبكات اقتصادية، في مقابل قيادات وسطى وضباط شباب متطلعين للإصلاح والتعاون مع المدنيين. أما قوات الدعم السريع فتعتمد على اقتصاد موازٍ يصعب دمجه في الجيش دون نزع سلاح جوهري. وتعاني هي الأخرى من الطبقية حيث تستمتع القيادة العليا بعائدات الذهب والمعادن النفيسة، في حين تعتمد الفئات الدنيا على النهب والجبايات غير المشروعة. وفي المقابل فإن القوى المدنية تفتقر إلى الذراع المسلح، بيد أنها تملك أدوات الضغط الشعبي، والمشروعية السياسية، والدعم الدولي. وعلى هذه الخلفية تبرز عدة خيارات لتأمين الرؤية الاقتصادية والحل التفاوضي. وتشمل هذه الخيارات كسب قطاعات من الجيش ببناء تحالفات ضمنية مع القيادات الإصلاحية داخل القوات المسلحة عبر تقديم ضمانات مؤسسية ضمن الرؤية الاقتصادية، بما في ذلك دمج الشركات العسكرية في الاقتصاد الرسمي ووضع ترتيبات تقاعد وانتقال منصف للضباط وإشراك الجيش في لجان رقابة على تنفيذ خطة الإعمار. كما يمكن تبني استراتيجية الحياد العسكري ترمي لتفكيك التحالف بين القيادات العسكرية والمليشيات المؤدلجة عبر الضغط الدولي وكشف كلفة الحرب المادية والبشرية على القوات المسلحة عبر الإعلام والمجتمع المدني والمطالبة بإشراف أممي أو إقليمي على الأمن في المرحلة الانتقالية. ومن ناحية أخرى، يمكن دعم توفير الحماية للرؤية الاقتصادية المدنية بواسطة أدوات أخرى مثل إصلاح جهاز الشرطة وتفعيله كأداة مدنية لحماية العملية الاقتصادية وإنشاء وحدات رقابة اقتصادية مدنية بدعم دولي والاستعانة بخبرات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لتأمين المدن والمنشآت. كما يمكن للحوافز الدولية لعب دور مساند في هذا الصدد عن طريق دعم دولي مشروط للقوات المسلحة في مقابل التزامها بالانتقال السلمي وإنشاء صندوق دولي لإعادة الإعمار مرتبط بخارطة طريق أمنية واضحة وضمانات أممية بعدم ملاحقة بعض العناصر العسكرية غير المتورطة في جرائم. وأخيراً يمكن أيضاً تشكيل لجنة اتصال مدني - عسكري برعاية إقليمية وإطلاق حوار أمني اقتصادي لمناقشة دور الجيش في حماية إعادة الإعمار وتأسيس مجلس وطني للانتقال الاقتصادي والأمني بمشاركة رمزية عسكرية عبر استنباط وشائج ذكية تحقق الوئام المدني-العسكري، وتحل محل نمط الشراكة السابقة بينهما.

وبرغم كل هذه التحوطات فإن نجاح الخيار التفاوضي والرؤية الاقتصادية المدنية رهين بانسياب المساعدات الاقتصادية من المجتمع الدولي الذي يتنوع ما بين الدعم المالي المباشر، والإعفاءات من الديون، والمساعدة الفنية، والدعم السياسي الذي يفتح الأبواب للاستثمار والتعافي الاقتصادي. ذلك أن تجربة الحكومة الانتقالية قبل انقلاب أكتوبر 2021 قد أكدت استعداد المجتمع الدولي نظريَّاً وعمليَّاً لدعم السودان اقتصادياً، لكن هذا الدعم مرهون بتحقيق تسوية سياسية ذات مصداقية تقودها حكومة مدنية مستقلة قادرة على تنفيذ رؤية اقتصادية قائمة على الشفافية والإصلاح وخلق فرص حقيقية للنمو والعدالة الاجتماعية. وتتضمن هذه المساعدات من المجتمع الدولي ما يلي:

????التمويل المباشر والدعم الإنساني والتنموي التي تشمل المساعدات الطارئة بما في ذلك الغذاء، والماء، والرعاية الصحية، والتعليم في حالات الطوارئ التي تُقدَّم عبر منظمات الأمم المتحدة مثل برنامج الغذاء العالمي (WFP)، وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF)، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP) ) والمنظمات غير الحكومية الدولية (NGOs). كما يشمل أيضاً دعم ميزانية الدولة عند التوصل إلى تسوية سياسية وتشكيل حكومة مدنية معترف بها، حيث يمكن للمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تقديم دعم مباشر للميزانية لتغطية الرواتب والخدمات الأساسية. ويتضمن التمويل التنموي دعم المشروعات الزراعية والبنية التحتية، وبرامج الإنعاش الاقتصادي في المناطق المتأثرة بالنزاع.
???? إعادة هيكلة الديون والإعفاء منها حيث أحرز السودان قبل انقلاب 25 أكتوبر 2021 تقدماً كبيراً في مسار الاستفادة من مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك – HIPC)، والتي أطلقها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وكان من المتوقع أن يصل السودان إلى "نقطة الإنجاز-Completion Point " ضمن مبادرة هيبيك في غضون ثلاث سنوات في يونيو 2024 من تاريخ وصوله إلى "نقطة اتخاذ القرار- Decision Point" التي بلغها في يونيو 2021. وقد حصل السودان على وعود بإعفاء ديون تتجاوز 50 مليار دولار عبر مبادرة هيبيك، وبدأت بالفعل إجراءات إعفاء جزء كبير من الديون المتراكمة، مما خفف العبء على الاقتصاد السوداني وفتح المجال أمام تمويلات جديدة. ولكن انقلاب أكتوبر العسكري أوقف هذا المسار، وجمّد معظم الفوائد التي كان السودان سيحصل عليها من المبادرة، إلى حين عودة الحكم المدني واستئناف الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي.
???? المساعدات الفنية وبناء القدرات وتشمل دعم بناء المؤسسات الاقتصادية المدنية، مثل وزارة المالية والبنك المركزي وديوان الضرائب، وتطوير نظم شفافة لإدارة الموارد (مثل الذهب والزراعة والموانئ)، وتدريب الكوادر المدنية على إدارة الاقتصاد الكلي، والتفاوض على الديون، وجذب الاستثمارات، والحوكمة المالية.
???? تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر المشروط برفع القيود والعقوبات عن السودان بعد تشكيل حكومة مدنية في إطار الحل التفاوضي والرؤية الاقتصادية مما سيفتح الباب للاستثمار في قطاعات الزراعة والطاقة المتجددة والتعدين والخدمات، ولعودة شركات النفط العالمية، والاستفادة من موقع السودان الجغرافي الاستراتيجي.
????الدعم السياسي والدبلوماسي المرتبط بالاقتصاد ويشمل ضمانات دولية لحماية الفترة الانتقالية، وإنشاء آلية رقابة مشتركة (مثل "أصدقاء السودان") لضمان الشفافية في استخدام المساعدات، وتسهيل اندماج السودان في الأسواق الإقليمية والدولية.

melshibly@hotmail.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الاقتصادیة المدنیة الرؤیة الاقتصادیة المجتمع الدولی هیکلة الاقتصاد لإعادة الإعمار الأمم المتحدة إعادة الإعمار الحل العسکری إعادة هیکلة تشکیل حکومة حکومة مدنیة دعم دولی فی حین

إقرأ أيضاً:

كيف أثقلت حرب إيران كاهل الاقتصاد الإسرائيلي؟

القدس المحتلة – تشير التقديرات الأولية إلى أن الحرب التي شنتها إسرائيل على إيران، واستمرت 12 يومًا، قد كلّفت الخزينة الإسرائيلية نحو 22 مليار شيكل (نحو 6.5 مليارات دولار). وتعكس هذه التكلفة الضخمة الأعباء المالية المباشرة التي تتحملها الحكومة الإسرائيلية، بدءًا من تمويل العمليات العسكرية وتعويض المتضررين، وصولًا إلى تغطية الأضرار في البنى التحتية والممتلكات.

وإلى جانب ذلك، تتحمل المصالح التجارية الصغيرة والمتوسطة، التي أُجبرت على الإغلاق أو توقفت أعمالها كليًا، أعباءً ثقيلة لا تقل وطأة. وتضاف إلى هذه الخسائر المباشرة، خسائر غير منظورة تلحق بالاقتصاد الإسرائيلي بفعل استمرار العمليات العسكرية على أكثر من جبهة، وما يرافقها من تباطؤ اقتصادي، وتراجع في ثقة المستثمرين، واضطرابات في الأسواق المحلية.

وقد أدى هذا الإنفاق الكبير إلى ضغوط مالية على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث بدأت مؤشرات عديدة تظهر بوادر تباطؤ في النشاط الاقتصادي وتزايد أعباء الموازنة العامة. وقدّرت التحليلات الإسرائيلية أن استمرار هذا الإنفاق العسكري المتزايد سيؤدي إلى تعميق العجز المالي بموازنة عام 2025.

ومع استمرار حالة عدم اليقين الأمني، تواجه الحكومة الإسرائيلية تحديات كبيرة في إدارة الموارد المالية، خاصة مع الحاجة إلى تمويل برامج الدعم المدني والخدمات الأساسية، في ظل تراجع الإيرادات بسبب الحرب.

كما أن استمرار النزاعات قد يؤدي إلى المزيد من التكاليف غير المباشرة، مثل تراجع الاستثمار، وارتفاع معدلات البطالة، وتأثيرات اجتماعية واقتصادية أوسع.

مؤشر مخاطر الاقتصاد يعكس تصاعد الأزمات المالية المتراكمة (أسوشيتد برس) المطالبات بالتعويض

وتوزعت التكلفة المالية للحرب كالتالي:

10 مليارات شيكل (نحو 3 مليارات دولار) للإنفاق العسكري، شملت الذخيرة، وصواريخ الاعتراض، وتحليق الطائرات، وتجنيد الاحتياط. 5 مليارات شيكل (نحو 1.5 مليار دولار) لتعويض المصالح المتضررة والعمال، إضافة إلى نحو 15 ألف نازح تم إجلاؤهم من منازلهم. 5 مليارات شيكل (نحو 1.5 مليار دولار) لإصلاح أضرار المباني والبنى التحتية جرّاء القصف الإيراني. 2 مليار شيكل (نحو 600 مليون دولار) لأضرار لم يُبلغ عنها بعد، بحسب ملحق "مامون" الاقتصادي. إعلان

ومنذ انطلاق الحرب، تلقت مصلحة الضرائب الإسرائيلية 38 ألفا و700 مطالبة عبر صندوق ضريبة الأملاك (ومن المتوقع أن تصل إلى 50 ألف مطالبة)، توزعت كما يلي:

 30 ألفا و809 أضرار المباني 3713 أضرار بالمركبات 4085 أضرار في المحتويات والمعدات.

وجاءت المطالبات أساسًا من تل أبيب بـ 24 ألفا و932 مطالبة، تليها عسقلان بـ 10 آلاف و793 ثم عكا، فطبريا، والقدس.

وحوّلت الحكومة الإسرائيلية حتى الآن 30 مليون شيكل (8.6 ملايين دولار) إلى السلطات المحلية لمساعدة نحو 15 ألف نازح، بواقع ألفين شيكل (600 دولار) لكل شخص (500 شيكل للمواطن و1500 للسلطة المحلية).

تعميق العجز المالي

تشير التقديرات إلى أن عام 2025 سيشهد عددًا غير مسبوق من إغلاقات الشركات والمنشآت التجارية، في ظل استمرار الضغوط الاقتصادية. ففي عام 2024، تم افتتاح نحو 37.4 ألف شركة، مقابل إغلاق ما يقارب 59 ألفًا، ما أدى إلى انخفاض صافٍ بلغ 21.6 ألف شركة، بحسب صحيفة "كالكاليست".

ويأتي هذا التراجع بعد عام 2023، الذي كان بدوره عامًا صعبًا، إذ انخفض فيه عدد الشركات بنحو 19 ألفًا، بينما بلغ المعدل السنوي المعتاد للإغلاقات في السنوات المستقرة ما بين 40 و42 ألفًا فقط.

ومع تصاعد الأزمات وتدهور بيئة الأعمال، خاصة بعد الحرب الأخيرة، تبدو المؤشرات واضحة، عدد الإغلاقات في 2025 سيتجاوز بكثير المعدلات السابقة، ما يعكس عمق الأزمة التي تعيشها الشركات، لا سيما الصغيرة والمتوسطة منها.

وقدّرت التحليلات الإسرائيلية أن استمرار هذا الإنفاق العسكري المتزايد سيؤدي إلى تعميق العجز المالي في موازنة عام 2025، مع مخاطر على الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي. وأجمعت التحليلات على أن تكلفة الحرب على إيران شكّلت اختبارًا حقيقيًا لمرونة الاقتصاد الإسرائيلي وقدرته على تحمّل الأزمات العسكرية الطويلة، بينما يظل الأمن على رأس الأولويات الوطنية، إلا أن الاستمرار في الصراع دون خطة اقتصادية متوازنة قد يعرّض إسرائيل لمخاطر مالية متزايدة تؤثر على مستقبلها الاقتصادي والاجتماعي.

تكلفة فاقت التوقعات

رغم أن عملية "الأسد الصاعد" العسكرية ضد إيران استمرت 12 يومًا فقط، يقول مراسل الشؤون الاقتصادية لصحيفة "يديعوت أحرونوت" غاد ليئور، إن تكلفتها الاقتصادية فاقت التوقعات، متجاوزة حتى نفقات حروب أطول، مثل "السيوف الحديدية" (معركة طوفان الأقصى).

ويضيف ليئور، أن التقديرات الرسمية الصادرة عن وزارات المالية والاقتصاد والدفاع ومصلحة الضرائب الإسرائيلية "تُظهر أن التكلفة الإجمالية تخطت 22 مليار شيكل، وسط مؤشرات على إمكانية تجاوز هذا الرقم في الأسابيع المقبلة".

ولفت إلى أن الحكومة الإسرائيلية تتجه، في تمويل هذه الحرب، إلى خطوات استثنائية، أبرزها رفع عجز الموازنة إلى أكثر من 6%، وهو مستوى غير مسبوق في عام 2025، بعد سلسلة من الارتفاعات خلال عام 2024 بسبب الحرب المستمرة في غزة ولبنان. حاليًا، ارتفع العجز من 4.7% إلى 4.9%، ومن المتوقع أن يواصل الصعود.

وأوضح أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تسعى حاليًا إلى زيادة ميزانيتها بنحو 40 مليار شيكل (نحو 11.8 مليار دولار)، بعد أن كانت قد طلبت 30 مليارًا (8.85 مليارات دولار) قبيل الهجوم على إيران، والهدف هو إعادة ملء مستودعات الأسلحة والذخائر، التي تضررت مخزوناتها خلال العملية.

إعلان

وخلص إلى: "الحرب على إيران كانت قصيرة زمنيًا، لكنها باهظة ماليًا. تداعياتها ستنعكس على الاقتصاد الإسرائيلي طوال العام، سواء عبر تفاقم العجز، أو تراجع النمو، أو الحاجة إلى مساعدات أميركية إضافية. ومع استمرار الضغوط في غزة والضفة، يبدو أن فاتورة الحرب لا تزال مفتوحة".

الخسائر في القطاع الخاص تُعد الأشد منذ سنوات من التوترات (الفرنسية) خسائر القطاع الخاص

وكبّد الهجوم على إيران الاقتصاد الإسرائيلي خسائر فادحة خلال أيام الحرب، قدّرتها شركة "كوفاس بي دي آي" بنحو 25 مليار شيكل (7.4 مليارات دولار)، وهي خسائر تمركزت بشكل رئيسي في القطاع الخاص، لا سيما في الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تُعد الأكثر هشاشة في مواجهة الأزمات، وفقًا لتقرير صحيفة "يسرائيل هيوم".

وشملت الخسائر قطاعات متعددة، أبرزها البناء، والمقاهي والمطاعم، والسياحة، والترفيه، إذ تراجعت الأنشطة الاقتصادية إلى مستويات غير مسبوقة بسبب القيود على الحركة، وإغلاق المؤسسات التعليمية، وحظر التجمعات، والتجنيد الواسع لجنود الاحتياط، ما أثّر مباشرة على القدرة التشغيلية لكثير من المنشآت.

ومن القطاعات الأشد تضررًا، برز قطاع البناء، الذي كان يعاني أصلًا من نقص في الأيدي العاملة وارتفاع تكاليف التشغيل، وتفاقمت أزمته مع تجميد المشاريع الجارية وتزايد حالة عدم اليقين.

كذلك، أصيبت قطاعات الترفيه والمطاعم بالشلل شبه الكامل، وتراجعت الحركة في متاجر التجزئة، خصوصًا في الأزياء والمفروشات والأدوات المنزلية، بفعل الإغلاقات شبه التامة.

تقول مراسلة شؤون المستهلك في صحيفة "يسرائيل هيوم"، هيلي يعكوفي هاندلزمان، إن بيئة الأعمال في إسرائيل تشهد تدهورًا عامًا، حيث ارتفع مؤشر مخاطر الاقتصاد إلى 6.54، وهو مستوى يعد مرتفعًا نسبيًا مقارنة بالسنوات الماضية.

وأوضحت أن هذا الارتفاع يعكس الضغوط المتزايدة التي تواجهها الشركات، والتي لم تبدأ مع الحرب الأخيرة، بل تراكمت بفعل سلسلة من الأزمات السابقة، منها جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، وارتفاع أسعار الفائدة، وخطة "الإصلاح القضائي" المثيرة للجدل، إلى جانب الحرب المستمرة في غزة.

ولفتت إلى أنه مع اندلاع المواجهة مع إيران، تفاقمت هذه الضغوط إضافيا، مما وضع الاقتصاد الإسرائيلي في تحديات غير مسبوقة على جبهات متعددة، قائلة: "مع استمرار الحرب، تتصاعد المخاوف من ركود اقتصادي، ارتفاع البطالة، وتدهور ثقة السوق في التعافي القريب".

مقالات مشابهة

  • صندوق النقد الدولي: الاقتصاد السعودي أثبت قدرته على الصمود في مواجهة الصدمات
  • كيف أثقلت حرب إيران كاهل الاقتصاد الإسرائيلي؟
  • مصر تقترب من الشريحة الخامسة لصندوق النقد.. التزام بالإصلاح رغم العواصف الاقتصادية
  • صندوق النقد الدولي يمنح الأردن 134 مليون دولار لدعم الاقتصاد
  • البديوي: دول التعاون حريصة على تعزيز حضورها الدولي واستعراض إنجازاتها في مجالات التنمية الاقتصادية والمالية
  • السودان يطالب المجتمع الدولي بتصنيف ميليشيا الدعم السريع جماعة إرهابية
  • الدويري: المحلل العسكري يقف حائرا أمام روعة كمين خان يونس الأكثر تعقيدا منذ بداية الحرب
  • تعزيز التصنيع المحلي للأدوية.. نواب: خطوة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي والتنمية الاقتصادية
  • تصاعد التداعيات الاقتصادية للحرب وخطّ إجلاء بحري من جونية لإنقاذ الموسم السياحي
  • مطار حلب الدولي بعد تحول الرحلات الجوية إليه، نتيجة استمرار إغلاق الممرات الجوية المؤدية إلى مطار دمشق جراء التصعيد العسكري في المنطقة