✍️ محمد هاشم محمد الحسن
يمثل طلب جمهورية الصين الشعبية مؤخرًا من رعاياها مغادرة السودان تطورًا لافتًا في المشهد الجيوسياسي والأمني الأفريقي، ويحمل في طياته دلالات عميقة تتجاوز مجرد الإجراءات الاحترازية المعتادة لحماية المواطنين. ففي ظل استمرار الصراع الدامي الذي يعصف بالسودان منذ أكثر من عام، فإن هذا الإجراء الصيني، الذي غالبًا ما يكون محسوبًا وذا مغزى استراتيجي، يطرح تساؤلات حيوية حول رؤية بكين لمستقبل هذا البلد، وانعكاساته على مصالحها المتشعبة في القارة السمراء.
تُعرف الصين بسياستها الخارجية التي تتجنب التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول، وتركز على التعاون الاقتصادي وتنمية البنية التحتية. ولطالما كانت بكين من أكبر المستثمرين في السودان، خاصة في قطاع النفط والمعادن، بالإضافة إلى مشاريع البنية التحتية الكبرى. هذه الاستثمارات الضخمة، التي تخدم مبادرة (الحزام والطريق)، تجعل من قرار سحب الرعايا إشارة قوية على أن الصين ترى أن مستوى المخاطر قد تجاوز نقطة العتبة المقبولة، وأن استمرار وجود مواطنيها في ظل هذه الظروف بات يهدد أمنهم وسلامتهم بشكل مباشر، وربما يشكل تحديًا كبيرًا لقدرتها على حماية مصالحها على المدى الطويل.
إن هذا القرار يمكن تحليله من عدة زوايا. أولاً، إنه يعكس تقييمًا حادًا للوضع الأمني المتدهور وتصاعد أولوية أمن المواطنين في الدبلوماسية الصينية. فبكين عادة ما تكون صبورة وتتحمل مستويات معينة من عدم الاستقرار، لكن استمرار القتال العنيف بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، والتوسع الجغرافي للنزاع ليشمل مناطق حيوية، أدى بلا شك إلى تصاعد المخاوف الصينية. سحب الرعايا يشير إلى أن بكين لا ترى حلاً وشيكًا للأزمة، وأن الوضع مرشح لمزيد من التدهور، مما يستدعي اتخاذ إجراءات حازمة لتقليل الخسائر البشرية المحتملة.
هذا التوجه نحو إعطاء أولوية قصوى لأمن المواطنين الصينيين في الخارج يمثل تحولًا تدريجيًا في العقيدة الدبلوماسية الصينية، حيث لم يعد مبدأ عدم التدخل يعني التغاضي عن المخاطر الجسيمة التي تهدد حياة رعاياها أو استثماراتها.
ثانياً، إن هذا الانسحاب يحمل دلالات قوية بشأن العلاقة بين الضغط الدولي والوضع الداخلي في السودان. فانسحاب الصين، كشريك اقتصادي واستراتيجي رئيسي، يضع ضغوطاً إضافية غير مباشرة على الحكومة السودانية (في بورتسودان) وقوات الدعم السريع على حد سواء. يمكن أن يُنظر إلى هذا الإجراء كرسالة دبلوماسية صامتة بأن النزاع يجب أن ينتهي، وأن استمراره يؤدي إلى خسارة شركاء استراتيجيين حيويين للتنمية والتعافي الاقتصادي. إن غياب اللاعبين الاقتصاديين الكبار، مثل الصين، يقلل من مصادر الدعم المحتملة للأطراف المتحاربة، ويزيد من عزلة البلاد على الساحة الدولية، مما قد يدفع نحو إعادة تقييم داخلية لجدوى استمرار القتال.
ثالثًا، لا يمكن إغفال البعد الاقتصادي للقرار، وتأثيره المباشر على مبادرة الحزام والطريق. ففي حين أن سحب الرعايا يمثل إجراءً أمنيًا في المقام الأول، فإنه يحمل في طياته دلالات اقتصادية سلبية للسودان. استمرار النزاع أثر بشكل كبير على البنية التحتية، وسلسلة الإمداد، والقدرة التشغيلية للمشاريع. لكن الأهم هو أن وجود الصين في السودان لم يكن مجرد استثمارات معزولة، بل كان جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية أوسع مرتبطة بمبادرة الحزام والطريق التي تهدف لربط الصين بآسيا وأفريقيا وأوروبا. تعطيل المشاريع في السودان بسبب عدم الاستقرار لا يؤثر فقط على المشاريع القائمة في البلاد، بل يلقي بظلاله على سمعة مبادرة الحزام والطريق ككل في مناطق النزاع، ويفرض على بكين إعادة تقييم معايير المخاطر لمشاريعها الكبرى في الدول غير المستقرة، مما قد يؤثر على خططها المستقبلية في المنطقة.
رابعًا، يجب النظر إلى دلالة القرار على المستوى الدولي. فصوت الصين يحمل وزنًا كبيرًا في المحافل الدولية، وقرارها هذا قد يؤثر على قرارات دول أخرى ومستثمرين دوليين. إذا كانت بكين، وهي طرف فاعل رئيسي في السودان، ترى أن الوضع خطير لدرجة تستدعي سحب رعاياها، فإن ذلك قد يدفع دولاً أخرى إلى اتخاذ إجراءات مماثلة، أو على الأقل إعادة تقييم استثماراتها ووجودها في السودان، مما يزيد من عزلة البلاد ويزيد من الضغوط الدولية على الأطراف المتصارعة للتوصل إلى حل سلمي.
في الختام، يُعد طلب الصين من رعاياها مغادرة السودان نقطة تحول فارقة لا يمكن تجاهلها في مسار الأزمة الراهنة. إنه مؤشر قوي على أن الأزمة السودانية بلغت مستويات حرجة تهدد حتى مصالح القوى العالمية الكبرى. القرار يضع السودان أمام تحدٍ جديد، إذ يجب على الأطراف المتصارعة أن تدرك أن استمرار القتال لا يهدد فقط نسيجهم الوطني، بل يهدد مستقبل علاقاتهم الدولية وفرصهم في التعافي الاقتصادي. فبينما تسعى بكين لحماية أبنائها ومصالحها، تبقى الأنظار متجهة نحو بورتسودان، بانتظار ما إذا كانت هذه الإشارة القوية ستدفع الأطراف المتحاربة نحو إدراك حجم الكارثة وضرورة التوصل إلى حل ينهي هذا النزاع المدمر.
herin20232023@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحزام والطریق فی السودان
إقرأ أيضاً:
قلق أممي إزاء استمرار قصف بورتسودان بالمُسيرات وأثره على جهود الإغاثة
أعرب الأمين العام للأمم المتحدة عن القلق البالغ لأن الهجمات الأخيرة بالمسيرات على بورتسودان - وهي نقطة الدخول الرئيسية للمساعدات الإنسانية - تهدد بزيادة الاحتياجات الإنسانية وتعقيد عمليات الإغاثة في السودان، وفي بيان صحفي منسوب للمتحدث باسمه، حذر الأمين العام أنطونيو غوتيريش من أن يؤدي هذا التصعيد الكبير إلى وقوع أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين وزيادة تدمير البنية الأساسية الحيوية.
وأعرب غوتيريش عن القلق بشأن توسع الصراع إلى منطقة كانت ملاذا لأعداد كبيرة من النازحين من العاصمة الخرطوم ومناطق أخرى.
وذكر البيان أن الهجمات المتزايدة بأنحاء السودان - منذ شهر كانون الثاني/يناير - على محطات الطاقة وغيرها من البنية الأساسية الحيوية عطلت حصول المدنيين على الكهرباء والرعاية الصحية والمياه النظيفة والغذاء.
وجدد الأمين العام التأكيد على ضرورة امتثال جميع أطراف الصراع لالتزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني. وأكد البيان الأممي ضرورة ألا توجه الأطراف هجماتها ضد المدنيين والأعيان المدنية، وأن تتخذ كل التدابير الاحترازية الممكنة لتجنب وقوع ضحايا من المدنيين، وأن تسمح وتيسر المرور العاجل وبدون عوائق للإغاثة الإنسانية إلى المدنيين المحتاجين.
غياب الإرادة السياسية
وأبدى الأمين العام القلق إزاء غياب الإرادة السياسية لدى الأطراف، للعودة إلى طاولة المفاوضات وتفضيلها - بدلا من ذلك - مواصلة السعي لتحقيق أهدافها العسكرية.
ودعا أمين عام الأمم المتحدة الأطراف إلى الانخراط بشكل بناء مع آليات الوساطة القائمة، لمساعدتها على التوصل إلى حل سياسي، وشدد على دعم الأمم المتحدة المستمر لجهود المساعدة في إيجاد مخرج من هذه الأزمة.
وجدد الأمين العام دعوته للوقف الفوري للأعمال القتالية، وشدد على أن الحوار هو السبيل الوحيد للتوصل إلى السلام الذي يطالب به شعب السودان.
وفي وقت سابق أعرب توم فليتشر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية عن القلق البالغ بشأن القصف المستمر بالطائرات المسيرة على بورتسودان.
وشدد المسؤول الأممي على ضرورة احترام القانون الدولي الإنساني والتزام الحيطة المستمرة لتجنب تعريض المدنيين والبنية التحتية المدنية للخطر.
تعليق خدمات النقل الجوي
وقالت ستيفاني تريمبليه من مكتب المتحدث باسم الأمم المتحدة إن رحلات خدمات النقل الجوي الإنسانية التابعة للأمم المتحدة إلى ومن بورتسودان قد عُلقت منذ الرابع من مايو/أيار. وذكر برنامج الأغذية العالمي، الذي يدير هذه الخدمات، أنه سيستأنف العمليات الجوية بمجرد أن تسمح الظروف بذلك.
وقالت المتحدثة الأممية إن هذا التوقف يؤثر على حركة العاملين في المجال الإنساني إلى السودان ومن ثم إلى مناطق أخرى به، بما يعرقل توصيل المساعدات التي تشتد الحاجة إليها.
في الوقت نفسه أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بأن الهجمات بالطائرات المسيرة أثرت أيضا على ولايتي كسلا ونهر النيل.
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، أدى القصف قرب المطار في كسلا إلى تشريد نحو 2900 شخص والتعليق المؤقت لبعض أنشطة الإغاثة أو تغيير مواقعها.
ولا تزال ولاية نهر النيل تواجه انقطاعا في التيار الكهربائي بعد أن قصفت مُسيرة محطة المحولات في عطبرة في الخامس والعشرين من أبريل/نيسان. ويسهم انقطاع الكهرباء في تزايد شح الوقود والخبز والطوابير الطويلة أمام محطات الوقود والمخابز.