عن حسابات لندن في العدوان على اليمن
تاريخ النشر: 11th, May 2025 GMT
لم تكن مشاركة بريطانيا في العدوان العسكري الأميركي على اليمن خطوة مفاجئة لمن يراقب تحولات سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة. فالدولة التي خرجت من الاتحاد الأوروبي مثقلة بالعزلة، وتواجه تراجعاً في وزنها الجيوسياسي، تجد نفسها اليوم تلهث خلف لحظة استعادة للدور، ولو في مقامرة عسكرية غير محسوبة النتائج.
الدخول البريطاني إلى جبهة البحر الأحمر، وإن تم تحت يافطة “حماية الملاحة الدولية”، لا يمكن فصله عن شبكة المصالح القديمة والجديدة التي تدفع لندن إلى تبني سياسة تدخلية تخدم بالدرجة الأولى واشنطن، وتمنح الطبقة الحاكمة في بريطانيا فرصة للهروب من أزماتها الداخلية المتصاعدة.
منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، تعيش بريطانيا أزمة هوية استراتيجية. لا علاقات مستقرة مع أوروبا، ولا قدرة على اتخاذ قرارات كبرى منفردة. في هذا السياق، باتت “العلاقة الخاصة” مع الولايات المتحدة ليست مجرد شراكة، بل شرط بقاء لنظام سياسي يرى في أميركا حامية لموقعه العالمي. وعليه، فإن المشاركة في أي عمل عسكري تقوده واشنطن، خصوصاً في عهد دونالد ترامب، تتحوّل من قرار سيادي إلى التزام مفروض، رفضه يعني العزلة.
اليمن، هنا، ليس استثناءً. بل هو النموذج الأوضح لتحوّل بريطانيا من دولة كانت تملك هامشاً دبلوماسياً مستقلاً في بعض الملفات، إلى تابع مباشر للقرار الأميركي في قضايا الحرب والسلام.
رغم أن الرواية الرسمية تربط التدخل العسكري بـ”حماية الملاحة الدولية” من ما تمسيه “تهديدات الحوثيين”، إلا أن الحقيقية أكثر تعقيداً. بريطانيا لا تملك القدرات البحرية والعسكرية الكافية للقيام بدور فعّال ومستقل في هذا الملف، كما أن مصالحها المباشرة في البحر الأحمر محدودة. ما تفعله اليوم هو الانضواء تحت المظلة الأميركية، ضمن حملة أوسع تهدف إلى كسر قوة صنعاء المتنامية، وإعادة رسم التوازنات في الإقليم بما يخدم مصالح واشنطن وتل أبيب بالدرجة الأولى.
لكن هذا الانخراط، ورغم محدوديته، يخدم هدفاً بريطانياً داخلياً: الظهور بمظهر الدولة “الفاعلة عالمياً”، حتى لو كان ذلك عبر خوض حروب بالوكالة.
لا يمكن فصل التحرك البريطاني عن الجغرافيا الاستعمارية القديمة. لعدن ومحيطها رمزية خاصة في العقل الاستراتيجي البريطاني، إذ بقيت لأكثر من قرن مستعمرة مركزية في مشروع السيطرة على المحيط الهندي. وفي السنوات الأخيرة، عملت لندن على استعادة بعض أدوات التأثير في جنوب اليمن عبر دعمها الموارب لقوى انفصالية، وعبر أنشطة استخباراتية في مناطق حساسة.
لذلك، فإن المشاركة في هذا العدوان تمثل أيضاً محاولة للتموضع مجدداً في رقعة نفوذ قديمة، مستفيدة من الفوضى التي خلفتها الحرب الطويلة، ومن غياب قوة دولية قادرة على فرض تسوية سياسية عادلة.
على الصعيد الداخلي، تأتي هذه المغامرة العسكرية في وقت تواجه فيه الحكومة البريطانية ضغوطاً متزايدة: أزمة اقتصادية خانقة، تراجع في الأداء الصحي والتعليمي، نقمة اجتماعية، ونزيف سياسي داخل حزب المحافظين. في مثل هذه الظروف، كثيراً ما تلجأ الحكومات إلى افتعال خصم خارجي أو التورط في ملفات دولية لتحويل انتباه الرأي العام، وتوحيد الداخل خلف خطاب “الأمن القومي”.
وهنا يُطرح السؤال الأهم: هل تتحمّل بريطانيا كلفة هذا التورط؟ جيشها يعاني من نقص في القوى البشرية، ومعداته غير مهيأة لحملات طويلة أو معقدة خارج أوروبا. كما أن أي رد فعل من صنعاء على المصالح البريطانية، سواء في الخليج أو البحر الأحمر، قد يجرّ البلاد إلى مواجهة غير محسوبة.
الخطير في هذا التدخل ليس فقط أنه يتجاوز القدرة والضرورة، بل إنه يطيح بأي وهم بريطاني سابق عن “الوساطة” أو “الحياد”. فقد كانت لندن -ولو شكلياً- تحاول أن تحافظ على لغة دبلوماسية مزدوجة حيال الحرب في اليمن. أما اليوم، فقد وضعت نفسها في موقع المعتدي، إلى جانب واشنطن وتل أبيب، في مواجهة طرف يمني يحظى بدعم شعبي في الداخل، ويتزايد مؤيدوه في المنطقة ككل.
ما تفعله بريطانيا اليوم في اليمن ليس دفاعاً عن “حرية الملاحة”، ولا حماية لـ”النظام الدولي”، بل هو سلوك قوة استعمارية سابقة تحاول جاهدة أن تتذكّر شكل الإمبراطوريات، وهي تنزلق نحو الهامش. إنّها تشارك لأن الولايات المتحدة تريد، ولأن الداخل مضطرب، ولأن اليمن، بالنسبة لها، ساحة يمكن إشعالها بأقل كلفة ممكنة.
لكن ما لم تدركه لندن، أو تتجاهله عمداً، هو أن اليمن الجديد، بعد عقد من الحرب، لم يعد تلك الدولة الهشة التي يسهل ابتلاعها. وأن الانخراط في هذا المستنقع قد يعيد التذكير بأن “القوة” ليست في خوض الحروب، بل في القدرة على تفاديها.
*صحفية لبنانية
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
خطاب القائد وفشل العدوان الامريكي على اليمن
تحليل _ عبدالمؤمن جحاف:
في خطابٍ ناريٍّ مليء بالتحذيرات والتفاصيل الميدانية والسياسية والعسكرية، قدم السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي “يحفظه الله” قراءة عميقة وتحليلًا سرديًا شاملاً لمستجدات العدوان الإسرائيلي على غزة والتطورات الإقليمية والدولية ،أيضاً ليُذكّر العالم بأن جريمة القرن لا تزال تُرتَكَب يوميًا في غزة، تحت سمع وبصر “أمةٍ غائبة” و”نظامٍ دوليٍ عاجز”. فقد جاء خطابه في 8 مايو/أيار 2025م (10 ذو القعدة 1446هـ) ليُحاسب الضمير الإسلامي أولًا، قبل أن يُسجل انتصارات اليمن العسكرية ضد أمريكا وإسرائيل، ويكشف فشل العدوان الأمريكي في كسر إرادة صنعاء.
وفي زمن تتداعى فيه القيم ويُختبر فيه الإيمان الحقيقي، أطل السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي في هذة الكلمة المفصلية تمثل جرس إنذار أخلاقي وانساني تجاه ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية، وتجاه صمت الأمة المتخاذل أمام مشهد دموي مباشر يُبثّ للعالم على الهواء.
العدوان على غزة: استمرار الجريمة أمام تفرج العالم
لم تكن كلمات السيد القائد مجرد توصيف لحالة طارئة، بل شهادة تاريخية على “جريمة القرن”، كما أسماها، التي يمارسها الكيان الصهيوني بحق سكان قطاع غزة على مدى 19 شهرًا من المجازر المتواصلة. فالعدو الإسرائيلي، كما أوضح السيد القائد، لم يترك فرصة لحياة الفلسطينيين، لا في المساجد ولا في المستشفيات ولا في البيوت. مشاهد الإبادة، التي كانت تُعرف في التاريخ بعد سنوات، صارت تُشاهد مباشرة عبر الفضائيات، بينما العالم يكتفي بالمراقبة أو الشراكة بالصمت.
الأمة الإسلامية: الغياب الأخلاقي والتفريط الجماعي
من أهم في الكلمة، هو التحليل العميق لحالة “اللامبالاة” التي تعيشها الأمة الإسلامية، وعلى رأسها العرب. مئات الملايين من المسلمين يكتفون بالمشاهدة بينما يُقتل الأطفال وتُهدم البيوت. حمّل السيد القائد هذه الأمة مسؤولية كبيرة تجاه تفريطها في أقدس واجباتها: الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن المظلوم، ومواجهة الظالم. التفريط هنا ليس موقفًا سياسيًا فحسب، بل حالة تُغضب الله، وتفتح أبواب السخط الإلهي في الدنيا قبل الآخرة.
فقد قدّم السيد القائد رؤيةً تحليليةً للدوافع الخفية لصمت وتخاذل العرب، مُرجعًا إياها إلى:
1.”المخاوف”: خوف الأنظمة من فقدان الدعم الغربي.
2. “الأطماع”: التطلع لمكاسب سياسية عابرة.
3. “التأثيرات التربوية”: تشويه الوعي الديني والسياسي لدى النخب الحاكمة.
الصهيونية: مشروع شامل لا يرحم حتى المطبّعين
بوضوح، كشف السيد القائد عن الطبيعة الحقيقية للصهيونية، سواء “الدينية” أو “العلمانية”، باعتبارها مشروعًا شموليًا يستهدف الأمة بكاملها. الطامة الكبرى، حسب تعبيره، أن بعض الزعماء العرب قد يبطشون بشعوبهم عند أي انتقاد بسيط، لكنهم لا يتأثرون بعقيدة الصهاينة التي تصفهم بـ”أقل من الحمير”. النظرة الإسرائيلية للعرب والمسلمين واحدة، حتى للمطبّعين.
وبالتالي قدم السيد القائد رؤيته للمشروع الصهيوني بجناحيه (الديني والعلماني)، مؤكدًا أنه مشروع واحد يستهدف:
– السيطرة على المسجد الأقصى وهدمه لبناء “الهيكل”.
– تحقيق “إسرائيل الكبرى” عبر تفتيت العالم الإسلامي.
– استباحة كرامة العرب، الذين وصفهم الخطاب بأن الصهاينة “يعتبرونهم أقل من الحيوانات”.
اليمن: موقف إيماني يربك العدو
في مقابل التخاذل العربي، يقدم اليمن نموذجًا عمليًا لمفهوم النصرة الفاعلة. من منطلق إيماني صادق، كما عبّر السيد القائد، نفّذ اليمن منذ منتصف رمضان أكثر من 131 عملية عسكرية إسنادية استخدمت فيها صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة و وصواريخ فرط صوتية، مستهدفة عمق الكيان الإسرائيلي، أبرزها مطار “بن غوريون” في اللد، ما أدى إلى توقف الحركة الجوية، وهروب ملايين المستوطنين إلى الملاجئ، وإلغاء رحلات عشرات شركات الطيران.
العدوان الأمريكي: الفشل أمام الإرادة اليمنية
رغم 1712 غارة أمريكية بحرية وجوية استهدفت اليمن، فإن العمليات اليمنية لم تتوقف. بل إن حجم الهجمات الأمريكية عكس، بحسب الكلمة، مدى فاعلية الموقف اليمني. فلو لم يكن لليمن تأثير، لما استنفر الأمريكي بقاذفاته وحاملات طائراته. ومع كل هذا، بقيت القدرات العسكرية اليمنية فاعلة، والإرادة الشعبية صلبة، بل وخرجت بمظاهرات مليونية أسبوعية لم يشهد مثلها العالم.
رسائل للأمة
السيد القائد، في حديثه، لم يكتفِ بالميدان العسكري، بل قدّم موقفًا إيمانيًا جامعًا يربط بين الجهاد العسكري والصلابة الروحية. أعاد توجيه البوصلة إلى المفهوم القرآني للعزة، وأكد أن “الخسارة الحقيقية” ليست في الدمار أو الشهداء، بل في فقدان الكرامة والتفريط بالحق.
خرج من حدود اليمن الجغرافي ليوجه رسالة إلى كل الحكومات الإسلامية، داعيًا إياها للوقوف مع الشعوب بدل الاستنزاف لصالح الأعداء.