كل يوم يمر من حرب مليشيا الدعم السريع ضد الدولة السودانية، يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنهم غرباء عن معرفة طبيعة الشعب السوداني، حيث يظنون أن الهجمات الشرسة التي قادوها خلال الأيام الماضية على البنية التحتية والخدمية، بإمكانها أن تخلق واقعًا ضاغطًا على السودانيين، يجعلهم يمارسون تأثيرًا على الحكومة والجيش للذهاب إلى مفاوضات استجابة لهذا الابتزاز السياسي والعسكري المكشوف.

بينما ذلك لن يؤدي إلا إلى زيادة تمسّك الشعب بخياراته، رفضًا للخضوع والابتزاز. اليوم يقف السودان أمام مفترق طرق بين مشروع يسعى لترسيخ سيادة القانون والمؤسسات، وآخر يسعى لتفكيك هذه الأسس مدعومًا بأجندات خارجية. في هذا المقال نحاول مناقشة تداعيات هذه الحرب من منظور سياسي وأخلاقي، مع دعوة للمليشيا وداعميها للجلوس إلى طاولة التفاوض، بعد ما شهدته البلاد من أحداث مأساوية.

لقد تحوّلت الحرب بين القوات المسلحة ومليشيا الدعم السريع من نزاع سياسي إلى مواجهة وجودية حاسمة. لم تعد القضية نزاعًا على السلطة، كما يدّعي البعض، بل اختبارًا لمصير الدولة السودانية، بين مشروع سيادة يحتمي بالقانون والمؤسسات، ومشروع تفكيك تُغذّيه أجندات خارجية وتُسنده انتهاكات ممنهجة على الأرض.

الهجمات بالطائرات المسيّرة على مدينة بورتسودان، وتعطيل الكهرباء والمياه والاتصالات، تمثل حرب نفسية واقتصادية تهدف إلى كسر إرادة الشعب وإخضاع الدولة. وتؤكد البيانات الرسمية أن هذه المسيّرات أُطلقت من خارج الحدود، في دلالة واضحة على حجم التدخل الإقليمي ومحاولات فرض واقع سياسي جديد على السودان، لا يعكس مصالحه، بل يخدم أطرافًا خارجية ظلت تحاول السيطرة على البلاد .

عقب استهدافها البنية التحتية بمدينة بورتسودان عبر الطائرات المسيّرة، جاءت دعوة مليشيا الدعم السريع للحوار بشكل متناقض، مما عمّق القطيعة بينها وبين الشعب السوداني. الدعوة التي روّجت لها بعض المنصات الإعلامية، لم تلقَ ترحيبًا، خصوصًا مع استمرار استهداف المنشآت المدنية التي تخدم مصالح الشعب السوداني في المقام الأول.

وقد أُخذ على د. عبد الله حمدوك رئيس تنسيقية صمود ، حديثه عن الذهاب لتفاوض و عدم إدانته الصريحة للعدوان الذي شنّته المليشيا على المنشآت المدنية في بورتسودان ، رغم فداحة الهجوم وتداعياته على المواطنين والبنية التحتية. هذا الحديث اعتبره كثيرون موقفًا غير منسجم مع تطلعات الشعب السوداني، خاصة في ظل تضامن إقليمي ودولي واسع مع البلاد ، وهو ما جعل دعوته للحوار تبدو منبتّة عن الواقع ومجافية للعدالة.

لقد سقطت فرص السلام حين تحوّل التفاوض إلى أداة استسلام، وتحوّل الاستهداف بالمسيّرات إلى وسيلة ابتزاز وضغط، في ظل غياب بيئة سياسية مناسبة. فحين تُستخدم الأسلحة لفرض واقع دموي، تصبح الدعوة للتسوية مجرّد غطاء لإعادة إنتاج الفوضى. وما جرى من مذابح وجرائم كفيل بسحب أي شرعية تفاوضية من مليشيا الدعم السريع ، التي لم تترك جريمة إلا وارتكبتها، حيث ما زالت ذاكرة السودانيين يقِظة.

في أبريل ومايو 2023، ارتكبت المليشيا مجازر مرعبة في مدينة الجنينة بغرب دارفور، حصدت أرواح آلاف المدنيين في أيام قليلة، وتُركت الجثث في الشوارع وسط صمت دولي. ثم تكررت الجرائم ذاتها في ود النورة بولاية الجزيرة في ديسمبر 2023، وفي السريحة والهلالية في مطلع 2024، فضلًا عن جريمة سوق صابرين نتيجة قصفها العشوائي في فبراير 2025، راح ضحيته 61 شخصًا.

كذلك في الصالحة (3 مايو 2025م) 250 شخصًا، وآخرها جريمة مدينة النهود (مايو 2025) بشمال كردفان، التي قُتلت فيها 300 مواطن بدم بارد، وفقًا “لشبكة أطباء السودان”. وقد ارتُكبت الانتهاكات على أساس الهوية، في مشهد يُعيد إلى الأذهان أبشع صفحات الحروب. هذه الجرائم سياسة ممنهجة، هدفها تفريغ الأرض، وبث الرعب، وشلّ الإرادة الشعبية.

ورغم هذا الجحيم، أثبت الشعب السوداني أنه لا يُقايض الكرامة بالرفاهية. عاش كثيرون منهم بلا ماء، ولا كهرباء، ولا اتصالات، لكنهم لم يتراجعوا عن دعمهم للدولة. وكما قال الملك فيصل: “لقد كنا نعيش تحت الخيام ونستطيع أن نعود إليها، فلَئن نخسر المال خيرٌ من أن نخسر الشرف”. إنه موقف متجذّر في الوعي الجمعي السوداني، تمامًا كما عبّر مالك بن نبي: “من يفقد كرامته لا يملك إلا أن يعيش عبدًا، ولو بدا حرًّا”.

كما نراه من وجه الحقيقة، فإن الصراع في السودان لم يعد محصورًا بالجغرافيا، بل تجاوزها إلى الفضاء الإلكتروني، وأصبح يتطلب وعيًا استراتيجيًا، يبدأ بفهم طبيعة التهديد، ويمر بتحصين الجبهة الداخلية، وينتهي برفض أي تسوية تُفرض من الخارج تحت الضغط. إن خارطة الطريق لن تكون للتفاوض مع من استباحة المدن، بل مع من أدرك أهمية أن يحترم الدولة ومقدّراتها، ويضع السلاح انحيازًا لإرادة الشعب. هذه معركة الكرامة والسيادة، لا مجال فيها للتسويات الرمادية، ولا خيار أمام السودانيين سوى الانتصار.

إبراهيم شقلاوي
الخميس 8 مايو 2025م Shglawi55@gmail.com

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الشعب السودانی الدعم السریع

إقرأ أيضاً:

إبراهيم شعبان يكتب: الحرب الإيرانية - الإسرائيلية.. الأسوأ لم يأتِ بعد

تأكد للكثيرين اليوم، أن الحرب الإيرانية الإسرائيلية ستستمر على الأقل لنحو أسبوعين قادمين، والأرجح أنها ستزيد عن ذلك وقد تستمر قرابة شهرين، بعدما صرّح الرئيس الأمريكي ترامب أنه لن يتخذ قرارًا بضرب إيران أو المشاركة في الحرب على وجه التحديد قبل أسبوعين.
الكثيرون رأوا أن تصريحات ترامب ربما تكون خدعة في إطار تواطؤ أمريكي – إسرائيلي، وأن الولايات المتحدة أو أن ترامب قد يقرر فجأة المشاركة في الحرب، وساعتها لن تكون مجرد هجمات صاروخية وجوية متبادلة، ولكنها ستصبح حربًا شاملة، وستشارك فيها قوات إيرانية وإسرائيلية لم تشترك بعد في الحرب، وأقصد السلاح البحري وسلاح الغواصات والسلاح البري، والفرق الإيرانية الانتحارية، وأسلحة الدمار الشامل الكيماوية والبيولوجية، وهذه تمتلكها إيران مثل عدة دول أخرى تملكها في المنطقة.
القصد أن تصريحات ترامب، وإعلانه صراحة أنه لن يتدخل لوقف الحرب، أو للطلب من إسرائيل إيقاف القصف، هو ضوء أخضر أمريكي له حساباته، خصوصًا وأن الحرب الحالية ليس لها أي مبرر شرعي أو أخلاقي، وليس لدولة الاحتلال، إسرائيل أو غيرها، أن تهاجم إيران هكذا لمجرد أنها لا ترضى ولا توافق على برنامجها الصاروخي والنووي؟.. هذا عدوان وهمجية.
ترامب ينتظر على أمل أن تخطئ طهران، ولو باستهداف قارب أمريكي صغير هنا أو هناك، أو مغامرة من إحدى ميليشياتها وكتائبها في العراق أو اليمن في الاقتراب من المصالح الأمريكية أو أي من القواعد الأمريكية المنتشرة في المنطقة، أو إحدى السفارات، لتكون هذه حجته أمام الرأي العام الأمريكي، بأنه يتدخل للدفاع عن مصالح أمريكا وأمنها القومي، لأنها ستكون فضيحة مدوية أن تتورط الولايات المتحدة في الحرب وتدخل هكذا بكل قوتها لمجرد التضامن مع نتنياهو!!
أما النقطة الثانية، فإن الأسوأ في الحرب الإيرانية – الإسرائيلية لم يأتِ بعد، وهو ما يمكن تحديده على النحو التالي:
-إيران قوة كبيرة، وحسابات نتنياهو العدوانية بأن مجرد هجوم جوي شامل على معسكراتها ومقراتها الصاروخية والباليستية سيؤخر برامجها ويعيقها، وأنه يمكن فعل ذلك بسرعة والانصراف مرة ثانية إلى تل أبيب وغلق الصفحة، حساب خاطئ تمامًا، وهذه اللحظة انتظرتها إيران منذ زمن طويل، على الأقل لكي يحقق ملالي طهران وعودهم أمام شعب طهران، في النيل من الشيطان الأصغر "إسرائيل"، والنيل من الشيطان الأكبر "الولايات المتحدة"، وفق المفردات الإيرانية.
-الأسوأ لم يأتِ بعد لأن الولايات المتحدة لم تشارك، صحيح أنها تتدخل للمساعدة دفاعيًا عن تل أبيب، وهذا مُعلَن، لكن صواريخها وغواصاتها وحاملات الطائرات والمدمرات الأمريكية لم تشارك، وهذه حكاية لوحدها، لأن لحظة أن تدخل أمريكا الحرب، فإن الصراع سيخرج عن نطاق القصف والقصف المتبادل إلى اجتياح حقيقي وتكسير عظام طهران، ودك مقراتها البرية والباليستية والصاروخية ومفاعلاتها النووية ومقدراتها ومؤسساتها الحكومية والمصرفية وغيرها وغيرها..
-وبدورها لن تسكت إيران، وسيكون في الإمكان التحرك ناحية القواعد الأمريكية الموجودة في قطر وسوريا والعراق وغيرها.
-الأسوأ لم يأتِ بعد لأن حكومة نتنياهو العدوانية لم تقصف مفاعلاً نوويًا إيرانيًا، إنها تقوم بالتعطيل وضرب المنشآت السطحية واغتيال علماء إيران، لكن قصف مفاعلات نووية إيرانية، على غرار فوردو، وبداخله كميات كبيرة من اليورانيوم المُخصّب بالفعل، سيؤدي حتمًا إلى كارثة إشعاعية على غرار تشيرنوبل في روسيا عام 1986، وربما أكبر.
-الأسوأ لم يأتِ بعد لأن إيران، التي استطاعت صواريخها أن تخترق مقلاع داوود والقبة الحديدية وحيتس 1 وحيتس 2، قد تحمل فيما هو قادم، حال دخول الولايات المتحدة الحرب، قذائف كيماوية أو بيولوجية أو حتى أسلحة نووية تكتيكية صغيرة، وساعتها سيكون يوم القيامة في تل أبيب وفي دول جوارها، خصوصًا وأن مساحة إسرائيل لا تزيد عن 22 ألف كيلومتر، وهو رقم ضئيل جدًا مقارنة بمساحة إيران التي تبلغ 75 مرة ضعفها وتصل لنحو مليون و600 ألف كيلو متر مربع.
-صمت دول الخليج، والصمت الإسلامي المريع تجاه استمرار العدوان، سيشجع الاحتلال، وسيشجع ترامب على المضي في الحرب، وكما أوضحنا فالتداعيات لن تقف عند حدود طهران أو حتى إزاحة النظام السياسي الديني الحاكم فيها، وإن كان هذا مستبعدًا في اللحظة
وتحت الحرب والغارات الجوية والقصف.
-المأمول مبادرة عربية إسلامية حقيقية وتحرك مباشر عبر مجلس الأمن وغيره، حتى لا تتدحرج كرة النار وتكبر الحرب وتخرج عن المسار الحالي لها.
وختامًا.. لا أُحبّذ من يزايدون وينتظرون تدخلاً روسيًا أو صينيًا دفاعًا عن إيران، فهذا لن يحدث، وأي دولة لن تُغامر بالوقوف أمام راعي البقر الأمريكي، لا الصين ولا روسيا، وهم يعلمون تمامًا خطورة ذلك، لكن قد نتوقع تكثيف المساعدات العسكرية لطهران خلال الفترة القادمة، وتزويدها بأسلحة روسية أو صينية أكثر تطورًا، وهو ما يصب الزيت على النار، وعلى طريقة ما تفعله الولايات المتحدة في مساعداتها العسكرية المُعلَنة لتل أبيب.
كما أرى أنه ليس اليوم وقت الكلام عن سياسة إيران وعداواتها وأطماعها في الدول العربية، ونحن أكثر المتضررين من ذلك في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة، فهذا ليس وقته الآن، والأهم وقف الحرب وحصر أضرارها، ووضع حد للعدوان الإسرائيلي، وإقرار استراتيجية دفاعية عربية، حان الآن وقتها لضمان التصدي لأي مغامرة إسرائيلية قد تكون لاحقة على مغامرة ضرب إيران نحو أي عاصمة عربية مستقبلًا.

طباعة شارك الحرب الإيرانية الإسرائيلية ترامب إيران الولايات المتحدة

مقالات مشابهة

  • الجيش السوداني يستولي على مسيرات ودانات تابعة للدعم السريع
  • إبراهيم عثمان يكتب: مسلمات وقواعد ومعادلات
  • من يحاول خطف نصر الجيش في السودان؟
  • إبراهيم النجار يكتب: أمريكا.. من يطلق قرار الحرب؟!
  • السودان: دولتان عربية وإفريقية تعترفان برعاية مليشيا “الدعم السريع”
  • حميدتي: سيطرة «الدعم السريع» على المثلث الحدودي تهدف لتأمين السودان ومحاربة التهريب
  • إسرائيل والدعم السريع
  • مسؤولة أممية: خطر الإبادة الجماعية في السودان لا يزال مرتفعاً وسط هجمات عرقية تقودها للدعم السريع
  • مقتل طبيبة داخل مستشفى المجلد بغرب كردفان إثر قصف للجيش السوداني
  • إبراهيم شعبان يكتب: الحرب الإيرانية - الإسرائيلية.. الأسوأ لم يأتِ بعد