لقد خلّف المشهد الذي ارتسم في بورتسودان العاصمة الإدارية المؤقتة في السودان، حيث جلس اللواء أبو عاقلة كيكل قائد ما يعرف بقوات درع السودان المتحالفة مع الجيش السوداني، وهو محاط بنخبة منتقاة من الصحفيين، موجةً من الاستياء العارم في أوساط الشعب السوداني.

لم يكن مجرد انعقاد هذا اللقاء الصحفي هو المستفز، بل تحديدًا ما تضمنه من تصريحات بالغة الغرابة وربما السطحية، والتي وصفها البعض بأنها محاولة باهتة لاستخفاف بوعي الشعب السوداني وذاكرته المضرجة بدماء لا تزال تنزف.

لقد خرج كيكل، الذي لم يمضِ وقت طويل على كونه جزءًا لا يتجزأ من منظومة مليشيا الدعم السريع، ليقدم شهادة "إنسانية" مفاجئة ومثيرة للدهشة في حق قائد التمرد، محمد حمدان دقلو "حميدتي". إذ وصفه بأنه كان "رقيق القلب"، و"كثير الصيام"، بل وذهب إلى أبعد من ذلك زاعمًا أنه "كان يذرف الدموع عند سماع أخبار الجرائم التي ترتكبها قواته"!

وكان واضحًا من خلال ردود الفعل الشعبية والنخبوية الرفض الشديد لهذا النوع من المحاولات الذي اعتبر على نطاق واسع بأنه نوع من التلاعب المستفز بمشاعر الشعب السوداني، الذي اكتوى بنيران هذه الحرب وشاهد بأم عينيه فظائعها. حيث إنه سعْي لتجميل صورة شخص تلطخت يداه بدماء الأبرياء التي أُزهقت بلا ذنب. فهل تحول التعبير العاطفي إلى بديل مقبول للعدالة الغائبة؟

إعلان

الأمر الأكثر إثارة للقلق والانتباه، ألا يكون حديث كيكل مجرد كلام عابر أو انطباعات شخصية عفوية، بل قد يكون جزءًا من محاولة مُحكمة لإعادة تدوير صورة حميدتي، وتقديمها في سياق جديد. هذا السياق يبدو مرتبطًا بشكل وثيق بمساعي تسوية سياسية يجري الحديث عنها وتم تداولها في الخفاء والعلن، على المستويين؛ الإقليمي، والدولي.

متى ما تحوّل العسكري فجأة إلى راوٍ عاطفي، يسرد قصصًا مؤثرة عن خصمه، فلنعلم يقينًا أن هناك جهة ما تحاول أن تقول لك بصوت خفيض: "انظر، لا يزال بإمكانك أن تصدّق هذا الوجه الآخر من القسوة".

هل كان كيكل "صنيعة استخباراتية" للجيش؟

في محاولة لفهم أعمق للدوافع الكامنة وراء تصريحات اللواء كيكل، وتداعياتها المحتملة على المشهد السياسي السوداني، يمكن طرح سؤالين محوريين: إلى أي مدى يمكن اعتبار تصريحات اللواء كيكل "تسريبات مدروسة" أو "اعترافات تلقائية"؟ وهل كانت هذه الإفادات تهدف حقًا إلى تبييض صورة حميدتي المشوهة، أم إنها جزء من إستراتيجية أوسع لإعادة تشكيل صورته بما يخدم مصلحة طرف أو أطراف معينة في هذه الحرب؟

على الرغم من النبرة التي بدت في ظاهرها عفوية للواء كيكل، وهو يسرد بعض التفاصيل المتعلقة بقائد التمرّد حميدتي، فإن السياق العام الذي أدلى فيه بهذه التصريحات، والتوقيت الحسّاس الذي يمر به السودان، والمنبر الإعلامي الذي اختير بعناية لنقل هذه "الاعترافات"، كلها عوامل تجعل من الصعب تصديق أنها مجرد "اعترافات تلقائية" أو انطباعات شخصية عابرة.

إن اللغة المُنمّقة التي استخدمها كيكل في تصوير الجانب "الإنساني" لحميدتي تحمل في طياتها دلالات أعمق بكثير مما تبديه كلماتها السطحية. إنها إفادات تبدو مشحونة بدلالات ناعمة ومُعدّة بعناية فائقة، ويبدو أنها تهدف إلى إعادة تركيب الصورة الذهنية لقائد باتت صورته مشوهة تمامًا في أذهان السودانيين والعالم أجمع، وذلك بفعل جرائم الحرب والانتهاكات الموثقة التي ارتكبتها قواته.

إعلان

إن الطرح الذي يتردد في بعض الأوساط، والذي يفترض أن كيكل كان في الأصل "صنيعة استخباراتية" لصالح الجيش السوداني، وأن وجوده السابق في مليشيا الدعم السريع كان جزءًا من مهمة اختراق أو مراقبة مُخطط لها بعناية، هو سيناريو مثير للاهتمام بلا شك. لكن في الوقت نفسه، يتطلب التعامل مع هذا السيناريو قدرًا كبيرًا من الحذر والتحليل الواقعي الذي يستند إلى السياقات والمعطيات المتاحة.

فمن الضروري أن نتذكر أن كيكل لم يكن مجرد ضابط عادي أو عنصر هامشي في مليشيا الدعم السريع، بل شغل موقعًا حساسًا ومهمًا داخلها، وكان مقربًا من الدائرة الضيقة المحيطة بقائد التمرد. وهذا يشير بوضوح إلى أنه كان يتمتع بثقة عالية من قبل حميدتي شخصيًا- وهو أمر لا يُمنح عادةً لأي شخص يُشتم منه أدنى شك في ولائه أو ارتباطه بجهات أخرى. لكن في المقابل، يجب أن نأخذ في الاعتبار النقاط التالية:

إن وجود ضباط من الجيش أو الأجهزة الأمنية داخل تشكيلات عسكرية غير نظامية أو خارجة عن القانون، لأغراض الرصد وجمع المعلومات أو حتى محاولة التأثير، ليس سابقة جديدة في تاريخ السودان، أو في تاريخ الدول الأخرى التي شهدت صراعات مماثلة. لقد شهد تاريخ الانقلابات والتحولات الأمنية في مختلف دول العالم العديد من الشخصيات التي لعبت أدوار "الاختراق" المعقدة تحت غطاء من الولاء الظاهري للطرف الآخر.

إن ما أدلى به كيكل مؤخرًا من إفادات وتصريحات، من الصعب وصفه بالعفوي تمامًا أو مجرد "اعتراف إنساني" عفوي، بل يبدو منسقًا ومُدارًا بقدر كافٍ يسمح له بالظهور دون أن يتعرض للمساءلة أو المنع، ويُسمع دون أن يتم تجاهل كلامه. وهذا الأمر يعزز بشكل كبير نظرية مفادها أنه إما:

عاد إلى صفوف الجيش بغطاء كامل ودعم من المؤسسة العسكرية، بعد أن أدى مهمة معينة داخل الدعم السريع (إذا كان بالفعل جزءًا من خطة استخباراتية). تمت إعادة توجيهه بشكل إستراتيجي من قبل جهات معينة ليخدم السردية العسكرية الجديدة، أو على الأقل ليقدم رواية بديلة تخدم مصالح الجيش وحلفائه. تم "إطلاقه" في هذا التوقيت تحديدًا كجزء من عملية "إعادة كسب" للرأي العام السوداني الذي بات يكنّ كراهية شديدة لمليشيا الدعم السريع وقادتها، أو كجزء من إستراتيجية أوسع لتفكيك صورة العدو من الداخل وزعزعة ثقة عناصره في قيادتهم. إعلان

إذا صحّت الفرضية بأن كيكل كان بالفعل "عينًا استخباراتية" في قلب المليشيا طوال الفترة الماضية، فإن ما يفعله الآن قد يكون بمثابة كشف للفصل الأخير من مهمة طويلة ومعقّدة.

إن السؤال المُلحّ هو: هل يمكن ربط "التسريبات" التي أدلى بها كيكل بما يدور في الكواليس من حديث متزايد عن وجود ترتيبات سياسية وتفاوضات محتملة لإنهاء الحرب الدّائرة في السودان؟

في هذا السياق، يمكن طرح عدّة سيناريوهات محتملة: هل تصرّف كيكل بمبادرة شخصية وبشكل منفرد، محاولًا اللحاق بـ "بازار التسوية" المحتمل، وتلافيًا لغضب حميدتي بسبب انشقاقه عنه وانضمامه إلى الجيش؟ أم هل يمكن أن تكون هذه "التسريبات" قد تمت باتفاق وتنسيق مسبق مع قيادة الجيش بقيادة الجنرال عبدالفتاح البرهان، بهدف تمهيد الرأي العام السوداني تدريجيًا لقبول فكرة مشاركة حميدتي في أي تسوية سياسية مستقبلية، وذلك بعد حالة الغضب الشعبي العارم ضده بسبب الجرائم التي ارتكبتها قواته؟

في ضوء ذلك، يمكن طرح ثلاثة سيناريوهات رئيسية:

السيناريو الأول: مبادرة فردية للنجاة: هل تصرف كيكل بمفرده، مدفوعًا برغبة شخصية في تجميل صورته بعد انشقاقه عن الدعم السريع وانضمامه إلى الجيش، ومحاولةً منه للعودة إلى حظيرة حميدتي أو على الأقل تخفيف حدة الغضب تجاهه، إذا شعر بأن هناك صفقة سياسية قادمة لا محالة سيتم فيها تجاهل موقفه الحالي؟ السيناريو الثاني: تنسيق مع الجيش لـ "تلميع" صورة حميدتي في أذهان الرأي العام السوداني، بهدف تمهيد الطريق لقبوله طرفًا في تسوية سياسية قادمة، خاصة في ظل الضغوط الإقليمية والدولية المتزايدة لإنهاء الحرب بأي ثمن. السيناريو الثالث: بالون اختبار سياسي: هل كانت تصريحات كيكل بمثابة "بالون اختبار" سياسي أطلقته جهة ما (ربما إقليمية أو دولية) لقياس رد فعل الرأي العام السوداني تجاه أي محاولة لإعادة دمج حميدتي في المشهد السياسي المستقبلي، أو على الأقل تخفيف حدة العداء تجاهه؟ إعلان كيف يقنع البرهان شعبًا موجوعًا بتسوية مع الجلاد؟

إن التحدي الأخطر الذي سيواجه البرهان إذا ما أقدم فعلًا على الدخول في تسوية سياسية تشمل مليشيا الدعم السريع وقادتها، إذ كيف يمكنه أن يقنع شعبًا بأكمله موجوعًا ومثخنًا بالجراح، وقوات نظامية ومستنفرين يقاتلون ببسالة ويقدمون أرواحهم فداءً للوطن، بأن يجلسوا إلى طاولة واحدة مع أولئك الذين ارتكبوا أفظع الجرائم والانتهاكات بحق المدنيين والأرض؟

إن هذا التحدي يتطلب إستراتيجية سياسية وإعلامية وأخلاقية متكاملة ومحكمة تتمثل في وجوب أن يؤسس البرهان خطابه بشكل واضح وصريح على قاعدة أخلاقية متينة لا تقبل الشك أو التأويل، بحيث تُقدم أي تسوية محتملة للرأي العام السوداني ليس باعتبارها مكافأة للمليشيا المتمردة أو تبرئة لجرائمها، بل كآلية ضرورية لوقف نزيف المدنيين الأبرياء، ومنع تفكك الدولة السودانية وانهيار مؤسساتها، مع التأكيد في الوقت نفسه على أن ملف المحاسبة سيظلّ مفتوحًا، وسيتم التعامل معه لاحقًا عبر آليات عدلية وقضائية مستقلة، سواء كانت وطنية أو دولية، تضمن تحقيق العدالة الناجزة لجميع الضحايا.

يجب على البرهان أن يتوجّه بخطاب مباشر وقوي إلى القوات النظامية والمستنفرين الذين يسطرون أروع ملاحم البطولة في ساحات القتال، قائلًا لهم بصدق وتقدير: "إنكم لم تقاتلوا عبثًا ولم تُرق دماؤكم هدرًا، بل قاتلتم بشرف وبسالة دفاعًا عن عزة وكرامة الوطن، وعن أرواح وممتلكات أهلكم. ولولا صمودكم الأسطوري وتضحياتكم الجسام، لما كان هناك أي حديث عن تسوية في الأساس.. أنتم من فرضتم بشجاعتكم شروط أي حل سياسي مشرف".

كذلك لا يمكن تصور أي تسوية سياسية مستدامة دون تقديم ضمانات أمنية قوية وواضحة تمنع تكرار الكارثة تتمثل في:

إعادة هيكلة (الدعم السريع) بشكل كامل ودمجها تحت إشراف صارم من الجيش، بما يضمن ولاءها الكامل للدولة ومؤسساتها. إبعاد القيادات المتورطة في ارتكاب الجرائم والانتهاكات بشكل نهائي من المشهد العسكري والسياسي، وتقديمهم للعدالة. سيكون هناك جدول زمني واضح ومُلزم للانتقال التدريجي من مرحلة حمل السلاح إلى مرحلة بناء الدولة المدنية الديمقراطية والمؤسسات القوية. إعلان

أيضًا لضمان قبول أي تسوية محتملة من قبل القوات المسلحة والقوات المتحالفة معها، لا بدّ من إشراك قيادات هذه القوات وممثلين عنهم في عملية صنع القرار وصياغة أي وثيقة للتسوية. يجب أن يشعر هؤلاء الذين ضحوا بأرواحهم أن ما قاتلوا من أجله يتم الحفاظ عليه ولا يتم التنازل عنه في غرف مغلقة أو تحت ضغوط خارجية.

خلاصة القول: إذا كان الجنرال البرهان يسعى حقًا إلى تحقيق تسوية سياسية تحظى بقبول شعبي وعسكري واسع، فعليه أن يقدم هذه التسوية للشعب السوداني باعتبارها ضرورة مؤقتة وملحة لحماية الكيان الوطني من الانهيار الكامل، وليس باعتبارها ترضية سياسية لطرف دولي أو إقليمي.

يجب أن تكون أي تسوية مصحوبة بوضوح تام في ملف المحاسبة، وشفافية كاملة في الترتيبات الأمنية والسياسية المستقبلية، وصدق مطلق في الخطاب الموجّه للشعب.

الجروح التي أحدثتها هذه الحرب لا تزال مفتوحة ونازفة، ولن تلتئم إلا بالحقيقة والعدالة، وليس بالصفقات المشبوهة أو محاولات تجميل صورة من تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات ملیشیا الدعم السریع العام السودانی تسویة سیاسیة أی تسویة

إقرأ أيضاً:

أبو عاقلة كيكل: عودة لصف الوطن تقلب الموازين وتثير حفيظة الخصوم

في خضم المعارك المعقدة التي يشهدها السودان بين القوات المسلحة السودانية ومليشيا الدعم السريع، برز اسم القائد أبو عاقلة كيكل كشخصية محورية ومثيرة للجدل. يمثل كيكل حالة فريدة، حيث انتقل من قيادة فصيل معارض إلى القتال في صفوف الجيش الوطني الذي كان يوماً ما خصماً له. هذا التحول، وتأثيره الملموس على سير العمليات العسكرية، قد جلب له الأنصار والمؤيدين، ولكنه في ذات الوقت أثار حفيظة وامتعاض البعض، وفتح الباب أمام مقارنات غير دقيقة وتساؤلات حول دوافع وأبعاد مشاركته في الصراع.

بدايةً، تجدر الإشارة إلى أن ظاهرة انضمام قادة وعناصر من قوى معارضة أو مسلحة لجيش الدولة بعد فترات صراع أو تسويات هي ظاهرة متكررة في التاريخ الإنساني، وفي السياق السوداني على وجه الخصوص، حيث شهدت البلاد على مر تاريخها الحديث عودة العديد من قادة الحركات المسلحة أو رموز المعارضة الذين حملوا السلاح إلى صف الدولة ومؤسساتها عبر اتفاقيات سلام أو مصالحات وطنية. وبالتالي، فإن فكرة انضمام مقاتلين وقادة سابقين إلى صف الجيش الوطني ليست سابقة فريدة في حد ذاتها، ولكن بروز دور شخص مثل القائد كيكل وتأثيره الكبير في معركة مصيرية بهذا الحجم هو ما يجعله محط الأنظار بشكل استثنائي.
ولفهم مسار كيكل المعقد، لا بد من استيعاب القناعات التي يُعتقد أنها قادته للانخراط في المعارضة المسلحة في مرحلة سابقة. حيث أن دوافعه الأصلية للتمرد كانت تتمحور حول اعتراضه على بعض الاتفاقيات التي أبرمتها الحكومات المتعاقبة مع حركات ومليشيات مسلحة في مناطق مختلفة من السودان، مثل دارفور والنيل الأزرق، وعلى رأسها اتفاقية جوبا للسلام. هذه الاتفاقيات، التي منحت امتيازات ونفوذاً سياسياً واقتصادياً لتلك المليشيات، كان يُنظر إليها على نطاق واسع في مناطق مثل وسط وشمال وشرق السودان على أنها جاءت على حساب حقوق ومصالح إنسان هذه المناطق، وتسببت في اختلال توازن القوى الوطني. من هذا المنطلق، يمكن تفسير موقف كيكل على أنه نابع في الأصل من رفضه المبدئي لظاهرة المليشيات المسلحة المناطقية التي كانت تسعى لفرض أجندتها والتكسب على حساب هيبة الدولة المركزية ووحدة نسيجها الوطني.

على الصعيد الميداني، لا شك أن انضمام القوات التي يقودها أبو عاقلة كيكل، والتي تُعرف بقوات درع السودان، للقتال إلى جانب القوات المسلحة، خاصة في مناطق محورية بالجزيرة والخرطوم وشرق النيل وأم درمان ، قد أحدث فارقاً ملموساً على الأرض، فقد مثلت هذه القوات عاملاً هاماً في ترجيح كفة الجيش، وذلك لما تتمتع به من معرفة عميقة بالتضاريس المحلية وتكتيكات حرب المدن، مما منح الجيش زخماً جديداً وساهم في استعادة السيطرة على مناطق واسعة كانت تحت قبضة مليشيا الدعم السريع. هذا النجاح الميداني لم يمر مرور الكرام؛ ففي الصراعات التي تنقسم فيها الولاءات وتتضارب المصالح، غالباً ما يثير النصر والتقدم غيظ وامتعاض الأطراف المعارضة أو تلك التي ترى مصالحها مهددة. لذا، فإن مساهمة كيكل وقواته في تغيير موازين القوى جعلته هدفاً مباشراً للانتقاد والهجوم من قبل جهات لا يروق لها أي تقدم للقوات المسلحة.

ومن أبرز أشكال الهجوم على القائد كيكل محاولة تشبيهه بقائد مليشيا الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، والإيحاء بتطابق مساريهما أو مصيريهما. ورغم أن كليهما ينحدر من خارج المؤسسة العسكرية التقليدية وقد قادا قوات مسلحة، فإن الفوارق الجوهرية في النشأة والمسار والظروف التي أحاطت بكل منهما تجعل هذه المقارنة قاصرة ومغلوطة بشكل كبير. مليشيا الدعم السريع نشأت وتضخمت كقوة موازية للجيش داخل هيكل الدولة، قبل أن تنقلب عليه وتقاتله للسيطرة على السلطة. حميدتي بنى هذه القوة بدعم مباشر من النظام السابق ثم عبر تحالفات متقلبة، وشكل تحدياً وجودياً للدولة ومؤسساتها. والأهم أن صعود الدعم السريع وتعاظم نفوذه المالي والعسكري ارتبط بشكل وثيق بمشاركاته الخارجية، أبرزها في عمليات “عاصفة الحزم” باليمن، حيث تلقى دعماً مالياً ولوجستياً هائلاً من دول خليجية، مما مكنه من بناء قدرات ضخمة وتجاوز هيكل الجيش التقليدي بشكل مقلق. في المقابل، أبو عاقلة كيكل جاء من خارج هيكل الدولة كمعارض أو متمرد في مرحلة سابقة بدافع رفضه لما اعتبره نفوذاً غير مشروع للمليشيات المناطقية على حساب الدولة ومناطق أخرى، وهو اليوم يقاتل إلى جانب المؤسسة العسكرية الرسمية ضد القوة التي تمثل ذروة ظاهرة المليشيات التي اعترض عليها سابقاً.

ايضا حميدتي وقواته وأنصارهم يقاتلون للاستيلاء على السلطة وتفكيك الجيش، بينما كيكل يقاتل إلى جانب الجيش لاستعادة سيادة الدولة ومؤسساتها في مواجهة تمرد مسلح عليها.
ان الظروف التي أدت إلى صعود قوة كالدعم السريع وتلك التي دفعت شخصيات مثل كيكل لتغيير مواقعهم تختلف كلياً، ولكن المفارقة اللافتة للنظر هنا تتمثل في أن أشد منتقدي القائد كيكل اليوم هم أنفسهم من كانوا في مرحلة سابقة يدعون الدولة إلى التفاوض معه ومع قائده، والتوصل إلى تسوية سياسية مع مليشيا الدعم السريع. كان يُنظر إليهم حينها، عندما كانوا يقاتلون الدولة، كـ”أصحاب قضية” يمكن الجلوس معهم. وهذا التحول الجذري في المواقف يقود إلى استنتاج مؤكد بأن العداء الحقيقي لدى هؤلاء ليس موجهاً لشخص أبو عاقلة كيكل بذاته، أو لتاريخه كمعارض سابق، بل هو في حقيقته عداء للمؤسسة التي يقاتل في صفها الآن: الجيش السوداني. يهاجمون كيكل لأنه أصبح عنصراً فعالاً في دعم جهود الجيش لاستعادة هيبة الدولة وهزيمة التمرد الذي ربما كانت بعض الأطراف تراهن عليه كوسيلة لتحقيق أجندتها السياسية. ان انتصارات الجيش، التي يساهم فيها كيكل، لا تروق لهم، ولذلك يستخدمون تاريخه السابق كذريعة للطعن في دوره وفي الجيش الذي يدعمه.

ختاما، يمثل أبو عاقلة كيكل شخصية تجسد التداخل المعقد بين مسارات التمرد والتسوية والقتال في صف الدولة. حالته تسلط الضوء بوضوح على الطبيعة المركبة للصراعات الداخلية في السودان. وبغض النظر عن تقييم مساره السابق، فإن دوره الحالي في دعم الجيش هو ما جعله هدفاً للعداء المستتر أو المعلن من قبل جهات ترى في تقدم الجيش تهديداً لمصالحها، أو تلك التي تُعرف بمواقفها التاريخية المعارضة للمؤسسة العسكرية.

*بقلم: ود الجزيرة الكاهلي*

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • أبو عاقلة كيكل: عودة لصف الوطن تقلب الموازين وتثير حفيظة الخصوم
  • الجيش السوداني يقتحم آخر معاقل الدعم السريع في أم درمان
  • قصة الثور الأسود.. كيكل حكى طرفة حول عدم دخول مليشيا الدعم السريع إلى مدينة سنار
  • نائب:ضعف السوداني وخيانته وراء تدمير العراق
  • عاصفة من الجدل بالسودان بعد تسريبات كيكل عن حميدتي
  • شاهد.. الفنانة إنصاف مدني تثير ضحكات الجمهور بعد مطالبتها البرهان بــ(ختان) النساء المتخصصات في الإساءة على السوشيال ميديا وتهاجم المليشيا: (انعل أبو الدعم السريع وأبو حميدتي وأبو الحرب)
  • بالنسبة للشعب السوداني فإن حميدتي مات وشبع موتاً
  • مسؤول حكومي سابق يكشف علاقة الإمارات بالنحاس المسروق من السودان.. برفقة حراسة مشددة من قيادات الدعم السريع
  • كيكل يتبرأ من تصريحات عن حميدتي