النكبة ليست حدثاً تاريخياً انتهى، بل هي جرح مفتوح ينزف حتى اليوم. من وعد بلفور المشؤوم إلى محرقة غزة البربرية، تستمر آلة الظلم الدولية في اجتثاث شعب بأكمله، لكن الفلسطينيين يصرون على الحياة والكرامة رغم كل المحن. النكبة مستمرة، لكن أيضاً مستمرٌّ معها صوت الحق الذي لن يُخمد. يعيش الشعب الفلسطيني اليوم واحدة من أعنف وأبشع المحارق في التاريخ الحديث، إذ يجد نفسه في مواجهة منظومة استعمارية صهيونية نازية تجاوزت في وحشيتها النازية ذاتها.
ومنذ ذلك التاريخ، دخل الفلسطينيون في مواجهة مفتوحة مع هذا المشروع الاستيطاني العنصري الذي توج بنكبة 1948، والتي أُريد لها أن تكون نهاية الحكاية الفلسطينية، لولا صلابة هذا الشعب الذي أبى أن يُمحى من الجغرافيا والتاريخ. وفي غزة اليوم، تتجدد النكبة بشكل أبشع، حيث تواجه غزة محرقة جماعية تتجاوز حدود الحرب التقليدية، لتتحول إلى جريمة إبادة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، في محاولة لإكمال مشروع التهجير القسري وتفريغ الأرض من سكانها، وفرض واقع استعماري جديد بغطاء دولي وأمريكي مباشر، وبمشاركة بعض الأنظمة العربية التي تواطأت بالصمت أو بالتطبيع مع الكيان المجرم. فما نشهده ليس مجرد حرب، بل خطة مدروسة لإعادة صياغة الجغرافيا السياسية للمنطقة وفق مقاسات سايكس بيكو جديدة، تكون فيها غزة مفتاحاً لإغلاق ملف القضية الفلسطينية نهائياً. الكيان الصهيوني لم يكن يوماً مشروعاً يهودياً صرفاً، بل كان دوماً مشروعاً استعمارياً وظيفياً في خدمة مصالح الإمبريالية العالمية، وتحديداً أمريكا وبريطانيا. ومنذ إنشائه، شُيّد هذا الكيان ليكون أداة تفتيت وإضعاف وإشغال دائم للأمة العربية، وليبقى في حالة قلق وجودي يدفعه لمزيد من الإجرام والعنف والارتماء في أحضان الغرب.
واليوم، تكشف الحرب على غزة هذه الحقيقة بشكل سافر، حيث يظهر الكيان على حقيقته كجسم هش لا يستطيع البقاء إلا تحت حماية الأساطيل الأمريكية والدعم الغربي المباشر، بعد أن انهارت كل نظريات أمنه الداخلية وانهارت معه أسطورة جيشه الذي لا يُقهر. طوفان الأقصى كان بمثابة صفعة قاسية للمنظومة الصهيونية، حيث أسقط أقنعة القوة وأظهر هشاشة منظومته العسكرية والأمنية، وجعل الكيان يرتجف منذ اللحظات الأولى، جاثياً على ركبتيه، عاجزاً عن استعادة هيبته المزعومة رغم كل آلة الحرب الجبارة التي يمتلكها.
لقد سقطت أسطورة الأمن الصهيوني في أول اختبار حقيقي مع مقاومة فلسطينية صلبة، تملك الإرادة والإيمان والقوة المستمدة من جذورها العميقة في الأرض والحق والتاريخ. وفي ظل هذا المشهد التاريخي المتغير، تلوح في الأفق فرصة فلسطينية وعربية لا تتكرر، لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس مقاومة ووحدة حقيقية، بعيداً عن أوهام التسوية وخرافة حل الدولتين الذي سقط عملياً على يد الكيان وحلفائه. اليوم بات من الضروري إطلاق مشروع تحرري فلسطيني جامع، يُعيد الاعتبار للمقاومة بكافة أشكالها، ويجسد الوحدة الفلسطينية الحقيقية، بالتوازي مع تحشيد الأمة العربية والإسلامية ودفعها لتحمل مسؤوليتها التاريخية في حماية فلسطين من محاولات الشطب والتصفية.
غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا محاصرة، بل هي نبض حرية للأمة، وهي محطة فاصلة في تاريخ الصراع مع قوى الاستعمار والهيمنة الدولية، وصناعة وعي جديد للعالم بأسره، يضع فلسطين في قلب المعركة بين قوى الخير والعدالة من جهة، ومنظومات القتل والإبادة من جهة أخرى. إن الدم الفلسطيني النازف في غزة اليوم هو وقود لمشروع تحرري عالمي يعيد كتابة التاريخ، ويسقط أوهام الصهاينة ووكلائهم المحليين والدوليين، ويعيد رسم خارطة المنطقة بلونها الحقيقي: لون الكرامة والسيادة والتحرر.
كاتب فلسطيني
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
خلال فعالية لأحياء ذكرى النكبة بالأمم المتحدة.. عباس يدعو لإنهاء الحرب بغزة
دعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خلال فعالية لإحياء ذكرى "النكبة" في الأمم المتحدة أمس الخميس، إلى بذل مزيد من الجهود لإنهاء الحرب في غزة، مشبها التهجير الجماعي الذي رافق النكبة بالنزاع الدائر حاليا.
وألقى المندوب الدائم لدولة فلسطين لدى الأمم المتحدة رياض منصور كلمة، نيابة عن الرئيس عباس، ثمّن فيها قرار الأمم المتحدة التاريخي بإحياء ذكرى نكبة فلسطين عام 1948.
ودعا عباس في الكلمة إلى "بذل مزيد من الجهود لإنهاء الحرب في قطاع غزة"، مشبها التهجير الجماعي الذي رافق قيام إسرائيل بالنزاع الدائر، مضيفا أن "التاريخ لا يُمحى، والعدالة لا تسقط بالتقادم".
وتابع "نقف اليوم أمامكم ليس فقط لنُحيي هذه الذكرى الحزينة، بل لنُجدد العهد بأن النكبة لم ولن تكون قدرا محتوما ودائما لشعبنا".
واعتبر عباس أن "ما تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ 19 شهرا، على مشهد ومسمع من العالم أجمع، هي جرائم إبادة جماعية، وتدمير وتجويع كاملة الأركان، بهدف تهجير شعبنا من قطاع غزة، إضافة إلى جريمة مواصلة سرقة أرض دولة فلسطين في الضفة الغربية والقدس الشرقية".
وشدّد الرئيس الفلسطيني على أنه "آن الأوان لتحرك دولي حقيقي وفعال لوقف هذا الظلم التاريخي والمأساة المستمرة التي أصبحت وصمة عار في جبين الإنسانية".
إعلانأحيت لجنة الأمم المتحدة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف، بمساعدة شعبة حقوق الفلسطينيين، الذكرى الـ77 للنكبة في مقر المنظمة بنيويورك.
ومنذ العام 2023، تحيي الأمم المتحدة ذكرى "النكبة" حين هُجّر نحو 700 ألف فلسطيني مع إعلان قيام إسرائيل عام 1948.
ويرى فلسطينيون في إحياء الذكرى هذا العام تاريخا يعيد نفسه في غزة والضفة الغربية المحتلة.
ومن المقرر أن تعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤتمرا في يونيو/حزيران المقبل لحشد الجهود نحو المضي قدما بحل قيام دولتين على أن ينظم برعاية فرنسية سعودية.
وقال خالد خياري مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادي إن "السلام يتطلب تقدما ملموسا ودائما نحو حل الدولتين، وإنهاء الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة تكون غزة جزءا لا يتجزأ منها".