إن لم نتمكن من ترجمة شعور الإكبار والإجلال والرهبة الذي ننظر به إلى الشهداء والتضحيات التي قدمت في هذه الحرب، إن لم نترجمه إلى شعور بالإحترام والتقديس تجاه الدولة ممثلة في الدستور والقوانين التي تحكمها، بل إلى ممارسة، فنحن لم نتعلم أي شيء من هذه التضحيات.

حقيقة هناك هوة واسعة بين ما يقدم من تضحيات في الحروب والثورات وبين الواقع الذي يفترض أن هذه التضحيات قد تمت من أجله.

ولا يتعلق الأمر بمجرد النسيان أو الأنانية والأطماع الضيقة، وإنما بعجز فكري في الأساس. بعبارة أخرى، المشكلة هنا ليست مشكلة أخلاق بقدر ما هي مشكلة فكر.

يبدو لي أن هناك عجز متأصل في البشر عن القدرة على استيعاب هذه التضحيات فكريا. فنحن نتعاطى معها من خلال الإنفعالات الشعورية، لا من خلال اللغة والفكر؛ ننفعل بمشاعرنا وقد نبكي، ولكن الإنفعال بطبيعته شيء لحظي لا يدوم. لا توجد لدينا قوالب لغوية ومفاهيمية كافية لترجمة التضحيات العظيمة التي نعايشها ونراها أو نسمعها، وكل ما لا يمكن الإحاطة به لغويا في شكل فكرة أو مفهوم، لا يدوم.

هذه مشكلة فلسفية معروفة. ما لا توجد كلمات لتعبر عنه قد يكون موجودا، ولكننا قد لا نراه، وإذا رأيناه وأدركناه سيكون إدراكا مشوشا ووجوده مجرد وجود ذهني قد لا ينتقل من شخص إلى شخص آخر إلا بصعوبة، ناهيك عن رسوخه في الوعي العام. ولكن ما يوجد في اللغة، الفكرة التي تتجسد في شكل كلمات ومفهوم وتعريف، تبقى وتمارس فعلها في الفكر بخلق روابط وعلاقات جديدة مع الأفكار وتخلق مفاهيم جديدة ومعاني جديدة وبالتالي تخلق واقعا جديدا.

ما يحدث أمام أعيننا الآن هو حدث عظيم، هذه الحرب بكل ما فيها من وقائع مادية محسوسة أو وقائع معنوية ذاتية في الأنفس تحتاج إلى إدراك وإلى تعبير مكتوب لتبقى. مثلا، الهجوم على بيت القائد العام ومحاولة اغتياله واقعة مادية، ردة فعل الحرس الرئاسي وقرارهم بالدفاع حتى الموت هذه واقعة ذاتية أو معنوية. هؤلاء العساكر الذين حموا البرهان بأرواحهم لم يفعلوا ذلك حبا في البرهان كشخص، وإنما لأنه يمثل الدولة. ولكن لماذا التضحية من أجل الدولة؟ ماذا تعني دولة؟ هل هي مباني وقصور وسيارات وموظفين؟

لا أحد يقدم روحه من أجل طوب وحديد ومصالح أشخاص. يمكننا، ويجب علينا، افتراض أنهم ضحوا من أجل قيم ومعاني أسمى يجب أن تتجسد في الدولة حتى لو كانت غير موجودة فيها الآن يجب أن يتم خلقها لإيجاد المعنى لهذه التضحيات.

الآن، كيف يمكن أن يفهم شخصا مثل البرهان هذه التضحيات؟

سيفهم منها، لا بقدر ما شعر وانفعل تجاه أشخاص يعرفهم وله معهم ذكريات، وإنما بقدر ما يملك من كلمات لإستيعاب هذه الواقعة، بقدر ما يملك من لغة. فإذا لم تملك اللغة التي تمكنك من التفكير في الواقعة، فأنت قد تكون شعرت بها، ولكنك لم تفهمها. والفهم في السياق الحالي ليس فهما من أجل الفهم، وإنما لكي تتم ترجمته على مستوى الدولة؛ فنحن نتكلم عن حرب تخوضها الدولة.

كنت أحيانا أتساءل، كيف لشخص قاتل ودفن رفاقه الذين استشهدوا أمامه، أن ينسى كل ذلك ويخون أو يتنكر للقضية التي حارب من أجلها؟ وفقا لما تقدم، المشكلة هنا ليست مجرد مشكلة ضمير وأخلاق، ولكنها أيضا مشكلة فقر لغوي وفكري. صحيح الإنسان كائن معقد والعالم أكثر تعقيدا، ولكن إذا لم تفهم قضية ما بشكل صحيح فمن السهل أن تتخلى عنها أو أن تخونها.

الآن، تخيل شعبا كاملا مر بهذه التجربة، تجربة الحرب بكل مآسيها وملاحمها، ولكنه لا يستطيع استيعاب كل ذلك داخل اللغة، لا يفهمه بواسطة كلمات وأفكار ومفاهيم، بواسطة قوالب صلبة تمسك وتخزن وأيضا تعالج (بالمعنى المستخدم في مجال الكمبيوتر).
(هذا الاستطراد خاص للصديق Omar Salam )
وهذا أيضا مثال على ما نقوله، فمعنى كلمة process المستخدمة في مجال الكمبيوتر، يشير إلى عمليات معينة ذات طابع منطقي حسابي. إن لم تكن موجودة في لغتك اليومية، فالمفهوم كذلك لن يكون موجودا في ذهنك.

لا يتعلق الأمر هنا بفقر أو غنى اللغة العربية ووجود كلمات تؤدي نفس المعنى، وهذا الجدل المعروف. بل بالواقع الذي نعيشه، فإذا لم توجد في لغتك الحية المستخدمة الآن، والتي هي جزء لا يتجزأ من عالمك المادي، كلمة بنفس المعنى، فلن تسعفك مفردة قديمة هي بطبيعتها جزء من واقع آخر في زمن ماضي، كانت يوما ما جزءا من لغة حية في واقع حي هو الذي يعطيها معناها، لا واقعك الحالي.

بالعودة إلى موضوعنا، ألخص وأقول، على الرغم من أن هناك الكثير في هذه الحرب الذي نعجز عن التعبير عنه، وقد نشعر أحيانا بأن الصمت حياله هو أبلغ تعبير، سواء كان مأساويا لأبعد حد، أو كان مثاليا ومبهرا لأبعد حد، فإن هذا بالذات هو ما نحتاج أن نتكلم فيه وعنه وحوله، وأن نترجم هذا الكلام بعد ذلك إلى أفعال تجسر الهوة ما بين التضحية والواقع.

وهذه مهمة قد يقوم بها البعض بشكل تلقائي، ويمكن أيضا العمل عليها بشكل منهجي بواسطة مؤسسات توظف الكتابة والإعلام والفن والتربية والتعليم لأجل هذه الغاية.

حليم عباس

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: هذه التضحیات بقدر ما من أجل

إقرأ أيضاً:

مستودعات الموت … من علي الكيماوي إلي البرهان الكيماوي !!

musahak@icloud.com


مستودعات الموت ...من علي الكيماوي إلي البرهان الكيماوي !!
لم يكن علي حسن المجيد والذي عرف ب( علي ال كيماوي ) آخر أبطال الخزي والعار في ذاكرة الحروب والاستبداد في خارطة الوطن العربي .فلقد عرف بذلك لاستخدامه للأسلحة الكيماوية ضد أكراد شمال العراق في العام 2007والتي راح ضحيتها مئات الألوف من أبناء الشعب العراقي الكرد وغيرهم ثم أعدم لاحقاً إمام العدل العراقي في 25يناير 2010 بعد سقوط نظام صدام حسين وبعد أن ألقت عليه القبض القوات الامريكية في أغسطس 2007.
و وفق ذلك الوجدان الشعري العربي (خلف كل قيصر يموت يولد قيصر جديد ) فقد ولد في بلاد السودان ذلك المستبد (الحالم ) عبد الفتاح البرهان الذي إنقلب علي الديمقراطية الوليدة في إكتوبر 2021 ثم عاد ليشعل حرباً كارثية لم تزل فصولها جارية في 15 إبريل عام 2023.
التفكيك البنيوي لخطاب حرب قائد الجيش البرهان ومؤسساته قد تفضحه رائحة غاز الكلور والفوسجين والخردل الذي يفوح من أدبيات تلك الحرب ، وزارة الخارجية السودانية أصدرت أول بياناً حربياً بعد إندلاع الحرب وهي تتوعد عدوها ب (الاستسلام أو الفناء ) إما خطابات البرهان فلم تغادر ذلك الوعيد (ما عندنا ليهم حاجة إما يستسلمو أو حننتهي منهم كلهم ) ،( ولا يكملونا او كملناهم )ثم هو الذي يبتدع في حربه ذلك التعريف (سنقضي علي حواضنهم )وفق ذلك الخلط الاجتماعي الذي لايبقي ولا يذر .
هذا غير إشارات الإبادة التي تصدر من مساعديه،(ياسر العطا ) علي سبيل المثال و غير ذلك الطفح الخطابي علي صفحات الميديا من جنود وإرهابيين وجماعات مسلوبة العقول في خضم تلك الحرب التي إخذت ( الفناء) للخصم شعاراً لها .
إذن فإن خيار استخدام العنصر الكيميائي ليس حالة نظرية لجماعات الهوس الديني أو ذلك الجيش المؤدلج الذي يقوده عبد الفتاح البرهان .
ولعل مستودع البراء بن مالك في كلية التربية بام درمان والذي تحول إلي ترسانة لقنبلة (الفقراء) أي غاز الخردل والذي لعب دوراً رئيسياً في حرب المدن في الأسبوع الثاني من شهر مايو عام 2025 ،
والذي تحاول مؤسسات البرهان تصوير عواقبه التي تجتاح المواطنين بإنه (كوليرا) حيث يقضي مئات من الناس نحبهم جراء استنشاق تلك الغازات الوخيمة ،ففي حين أن حكومة البرهان ظلت وعلي مدي أعوام تنكر كل الإشارات للأوبئة من كوليرا او حمي الضنك وخلافه فها هي تغض مضاجع العالم بالعويل إن موجة من جائحة الكوليرا تجتاح مدينة أمدرمان وذلك في غضون المعارك الاخيرة التي شهدتها مدينة ام درمان .
لم تكن علاقات السودان العسكرية ونظام بشار الأسد في التزويد بالسلاح خافية علي أحد ، فقبل رحيل الأسد بثمان وأربعين ساعة ، رصدت اجهزة الملاحة الجوية طائرة سورية انطلقت من مطار دمشق الي مطار الخرطوم وهي من طراز يوشن روسية الصنع مسجلة تحت المعرف YK-ATAفي تمام الساعة 02:58 و حطت في مطار بورتسودان فجر الجمعة 6 ديسمبر 2025 وقضت ثمان ساعات لتفرغ حمولتها من الأسلحة (السرية ) ثم تغادر الي جهة ما .في عالم لم تعد فيه أسرار الفضاء بذلك الغموض الذي يتصوره نظام بورتسودان .
وفق ذلك التطور الدرامي فقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات علي السودان في يوم الخميس 22مايو 2025 وفق اتهام باستخدام الجيش السوداني لاسلحة كيميائية في الحرب الأهلية الجارية الان ،وبما ان السودان قد وقع علي قانون الرقابة علي الأسلحة الكيمائية والبيولوجية لعام 1991
والتي تعرف إختصاراً ب (CBW) ،فليس له مجالاًللمناورة كما ظل يفعل ويراوغ مع اتفاقية روما الجنائية ، يعني ذلك أن يشرع ابوابه للجان التقصي الدولية والرضوخ لنتائجها وتلك نقلة في حرب البرهان التي يخالها بمنأي من عيون العالم .
وهكذا يأخذ البرهان الدولة السودانية الي مغارة العزلة والعقوبات التي إنفك منها السودان بجهود خرافية عقب انتفاضة ديسمبر وبجهد حكومته الانتقالية التي اطاح بها بانقلابه المشؤوم في اكتوبر 2021 ثم لاحقاً في حربه الكارثية في ابريل 2023.
ليس مستغرباً ردة فعل الحكومة السودانية تجاه تلك العقوبات والتي وصفها وزير إعلام البرهان خالد الأعيسر وهو يشرع قبضة يده تجاهها بانها ابتزاز سياسي وبذلك التبسيط الفج للازمة القائمة وهو يصورها بانها استهداف للجيش السوداني في حرب الكرامة !
وهكذا يدخل السودان في نفق العقوبات الكيميائ الخانق والذي غادرته سوريا هذا الأسبوع .


محمد موسى حريكة

 

مقالات مشابهة

  • عودة لـ «الاتفاق الإطاري»
  • مدبولي: «أول ما بتحصل أي مشكلة بنطلع نقولها.. ومفيش دولة مفيهاش مشاكل»
  • مستودعات الموت … من علي الكيماوي إلي البرهان الكيماوي !!
  • في 65 ساحة.. ريمة تعلن الاستعداد لتقديم التضحيات انتصارا لمظلومية الشعب الفلسطيني
  • اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني
  • مايكروسوف تحظر رسائل البريد التي تحتوي على كلمات فلسطين وغزة
  • ما الدولة التي تراهن عليها أميركا للتحرر من هيمنة الصين على المعادن النادرة؟
  • المغرب يوسّع دعم الأسر الهشة إلى 12 مليون مواطن
  • رئيس إنفيديا يتعاون مع شركة هيومين السعودية ويَعِد بذكاء اصطناعي فيزيائي يفهم قوانين الفيزياء