لجريدة عمان:
2025-08-02@23:01:02 GMT

الرغبة في التاريخ

تاريخ النشر: 31st, May 2025 GMT

كان أحد المعلمين بالمدرسة يمعن في تأنيبنا كلما اكتشف مدى جهلنا بتاريخنا العماني وبأهم رموزه. فحين كان يكرر علينا السؤال عن ناصر بن مرشد، مثلًا، فإننا لا نكاد نستذكر شيئًا من سيرة الإمام اليعربي الأول سوى سلسلة مرتبة من المعلومات المحفوظة: بُويع بالإمامة وهو في العشرين من عمره، سعى لتوحيد القبائل العمانية وإنهاء الاقتتال الداخلي، ثم قاد حملة شهيرة لطرد البرتغاليين من سواحل عُمان.

إجابة نموذجية، منمقة، محفوظة بإتقان، وتستحق عليها العلامة الكاملة في الامتحان.

أستحضرُ مثال ناصر بن مرشد على وجه الخصوص لأن السؤال عنه كان دائمًا ما يتكرر، ولكن دون أن تخرج الإجابة عن تلك المعطيات التلقينية المعتادة إلى تناول سيرة الرجل بشكل أعمق، بطريقة تجعلنا نفكر في الرجل ذاته، في ظروفه، في اختياراته وتحالفاته، وحتى في إخفاقاته. هناك دائمًا سطر مقتضب جاهز للتكرار، يحدد نطاق معرفتنا بأي شخصية أو حدث تاريخي ويوجهها. وهنا تكمن سلطة المنهاج المدرسي على وعي أجيال متلاحقة من العمانيين بتاريخهم الوطني، وهي -لا شك- سلطة معرفية تنتج تاريخًا يقوم على الانتقائية والاختزال والأدلجة. وكما هي عادة التاريخ الرسمي دائمًا، فإنه يعرض الشخصيات التاريخية بوصفها "نماذج" لا بشرًا.

لا أدري حجم التغييرات الجوهرية التي طرأت على منهاج "هذا وطني" الذي درسته قبل نحو عشر سنوات. ولكن حينما تصفَّحت المنهاج الجديد الذي يدرسه اليوم طلاب الصف الثاني عشر وجدتُ ما أثار انتباهي بدءًا من فهرس الموضوعات، حيث تشير الوحدة الأولى من الكتاب أن الطلاب سيدرسون ثلاث مراحل من التاريخ العماني معنونة على هذا النحو: 1. عُمان في عصر النباهنة... حضارة وتواصل، 2. عُمان في عصر اليعاربة... قوة وازدهار، 3. عُمان في عصر البوسعيد... وحدة ومنجزات. يبدأ الأمر أولًا بسلطة المنهاج في فرض تحقيبه الخاص للتاريخ وفقًا لمنظور معين، وثانيًا فإنه يختصر كل عصر من العصور في كلمتين إيجابيتين، بل مفرطتين في الإيجابية إلى حد ينعكس سلبًا على ثقة الطالب الفضولي والشكاك بدرس التاريخ.

لا أبالغ لو قلت إن ثمة شعورًا بالحرمان من تاريخ لم يُقرأ، بل من تاريخ لم يُكتب بعد. حركة الأدب في عُمان خلال السنوات الأخيرة، السردية على نحو خاص، نجدها مسكونة بالرغبة في كتابة التاريخ تحت ضغط هذا الشعور بالحرمان، إذ باتت "الرواية التاريخية" من أهم مساحات التعبير التي يحاول فيها العمانيون التقرُّب من ماضيهم، لا بوصفهم مؤرخين، بل بصفتهم ورثةً لحكايات ناقصة، يحاولون سد فراغاتها اعتمادًا على التخييل الأدبي. فالرواية التاريخية في عُمان لم تعد مجرد موضة أدبية، بل غدت وسيلة لاستعادة التاريخ الهارب من سلطة المناهج وغبار الوثائق.

لا يمكن للأدب أن يحل محل التأريخ، ولكن بوسع الشاعر والروائي والقاص طرح الأسئلة التي يتراجع عنها المؤرخ لأسباب علمية أو سياسية. إذ لا بد من التأكيد على ضرورة الإصغاء لوجهة نظر الأدب في التاريخ، مهما اختلفنا على درجة اتساقها مع الحقيقة التاريخية. تنبع هذه الضرورة من الاعتقاد بأن كتابة الأدب هي شكل من أشكال القراءة للتاريخ الإنساني؛ بكلمات أخرى فإن كتابة الأدب هي طريقة لقراءة التاريخ لا لكتابته.

الرغبة في التاريخ التي تحرك اليوم شريحة من الكتاب والقراء العمانيين، لا تأتي من فائض المعرفة بل من نقصها، رغبةٌ ولَّدها الغياب. فأن تتمكن أجيال متأخرة من العمانيين من قراءة ملامح متفرقة من تاريخ الناس والطبيعة في هذا المكان القاسي، في مرآة الأدب، فهذا بحد ذاته انتصار يجلب السعادة لمن يراقب المشهد، سعادة لا بد أن نعكرها بين الحين والآخر بالحديث عن ضرورة فك الاشتباك بين الأدب والتاريخ، لكي لا يصبح الأدب خادمًا لمهمة التوثيق المنوطة بالمؤرخين، أولئك الذين لم نعثر عليهم بعدُ في أقسام التاريخ بجامعاتنا.

غير أن اضطلاع الأدب العماني بمهمة تدوين ما يُنسى أو يُمحى من التاريخ هو انعكاس معاصر لاستمرار معضلة العمانيين التقليدية في تدوين تاريخهم وأخبارهم على مدى القرون الماضية، فقد ظل تاريخهم منثورًا في كتب الأدب والتراجم والفقه والأنساب، إذ لم يعتنوا به حقلَ كتابةٍ خاصًا له أصوله وقواعده.

لكن الأدب هو أيضًا مدعو للالتفات لحاضره. ففي خضم هذا الانشغال المتزايد بالماضي، حنينًا أو استفهامًا، ينبغي ألا يشيح الأدب بوجهه عن الحاضر. فالأدب ليس محكومًا بالهرع دائمًا إلى جهة الماضي بحثًا عن الخلاص أو الهوية، متناسيًا أن اللحظة الراهنة، بكل ما تحمله من تعقيد اجتماعي ضمن شروطها الاقتصادية والسياسية، تستحق هي الأخرى أن تُكتب، فالحاضرُ دائمًا وأبدًا هو المادة الخام لحبر الكتابة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: تاریخ ا دائم ا

إقرأ أيضاً:

مي حلمي: دعم المصنعين المحليين وراء القفزة التاريخية في الصناعات الهندسية

قفزت صادرات المجلس التصديري للصناعات الهندسية قفزة تاريخية خلال النصف الأول من عام 2025، محققة 3.1 مليار دولار لأول مرة في تاريخ القطاع، بنسبة نمو بلغت نسبته 15% مقارنة بنفس الفترة من عام 2024.

أكدت مي حلمي، المدير التنفيذي للمجلس التصديري للصناعات الهندسية، أن هذا النمو القياسي يعكس قدرة القطاع على تعزيز تنافسيته والنفاذ بقوة إلى أسواق دولية متنوعة، مشيرة إلى أن النتائج المحققة في 6 أشهر فقط تترجم الرؤية الاستراتيجية للمجلس، سواء على مستوى التوسع الخارجي أو دعم المصنعين المحليين بالتقنيات الحديثة والتدريب المتخصص.

وفي سياق متصل، أشار شريف الصياد، رئيس المجلس التصديري للصناعات الهندسية، إلى أن شهر يونيو وحده شهد ارتفاعا في قيمة الصادرات بنسبة 7%، إذ سجلت 475 مليون دولار، مقارنة بـ445 مليون دولار في يونيو من العام السابق، وهو ما يعكس استمرار الزخم التصديري للقطاع، رغم التحديات المرتبطة بتباطؤ الطلب في بعض الأسواق العالمية.

وأكد الصياد أن عددًا من القطاعات الفرعية ساهمت في تعزيز النمو، أبرزها الكابلات ومكونات السيارات والصناعات الكهربائية والإلكترونية والأجهزة المنزلية ووسائل النقل، بينما حقق قطاع المعادن أداء استثنائيا بنمو تجاوز 260%، في مؤشر على تحسن تنافسية المنتجات المصرية في هذا المجال.

وأوضح أن الأسواق التصديرية شهدت توسعًا ملحوظًا، حيث ارتفعت صادرات الصناعات الهندسية إلى عدد من الدول الأوروبية مثل المملكة المتحدة، ألمانيا، إيطاليا، فرنسا، سلوفاكيا، التشيك، المجر، هولندا، وإسبانيا، كما حققت الأسواق الآسيوية نتائج جيدة في الإمارات والعراق والأردن ولبنان وأذربيجان والصين، إلى جانب أداء مميز في عدد من الأسواق الإفريقية شملت الجزائر وكينيا ونيجيريا وكوت ديفوار وتنزانيا وأفريقيا الوسطى، فضلًا عن نمو ملحوظ في السوق الأمريكية.

اقرأ أيضاًشريف الصياد لـ «الأسبوع»: مبادرات من «المركزي» بعد قرار رفع الفائدة

شريف الصياد لـ «الأسبوع»: مبادرات من «المركزي» بعد قرار رفع الفائدة

رئيس التصديري لـ الصناعات الغذائية يستعرض خطة المجلس لزيادة الصادرات حتى 2026

مقالات مشابهة

  • الدكتور خالد النمر: أوميغا 3 ليست آمنة دائمًا لمرضى القلب
  • كاش كوش.. حين تعيد العظام المطمورة كتابة تاريخ المغرب القديم
  • ماذا يحدث للجسم عند المشي نصف ساعة يوميا؟
  • فتح: نرفض تطاول حماس على الأردن ومصر ونثمن مواقف البلدين التاريخية
  • الأدوار التاريخية مجهدة.. عمرو مهدي: بحب أجسد الشخصيات المفعمة بالتحدي
  • مي حلمي: دعم المصنعين المحليين وراء القفزة التاريخية في الصناعات الهندسية
  • الألكسو تُدرج صهاريج عدن التاريخية ضمن قائمة التراث العربي المعماري
  • أهم الأسباب الشائعة وراء الرغبة المفاجئة في تناول الشوكولاته
  • الترجمة الأدبية.. جسر غزة الإنساني إلى العالم
  • بعد تحذير كامشاتكا.. كيف ينشأ تسونامي وما أبرز خسائره التاريخية؟