لجريدة عمان:
2025-06-02@04:26:55 GMT

الرغبة في التاريخ

تاريخ النشر: 31st, May 2025 GMT

كان أحد المعلمين بالمدرسة يمعن في تأنيبنا كلما اكتشف مدى جهلنا بتاريخنا العماني وبأهم رموزه. فحين كان يكرر علينا السؤال عن ناصر بن مرشد، مثلًا، فإننا لا نكاد نستذكر شيئًا من سيرة الإمام اليعربي الأول سوى سلسلة مرتبة من المعلومات المحفوظة: بُويع بالإمامة وهو في العشرين من عمره، سعى لتوحيد القبائل العمانية وإنهاء الاقتتال الداخلي، ثم قاد حملة شهيرة لطرد البرتغاليين من سواحل عُمان.

إجابة نموذجية، منمقة، محفوظة بإتقان، وتستحق عليها العلامة الكاملة في الامتحان.

أستحضرُ مثال ناصر بن مرشد على وجه الخصوص لأن السؤال عنه كان دائمًا ما يتكرر، ولكن دون أن تخرج الإجابة عن تلك المعطيات التلقينية المعتادة إلى تناول سيرة الرجل بشكل أعمق، بطريقة تجعلنا نفكر في الرجل ذاته، في ظروفه، في اختياراته وتحالفاته، وحتى في إخفاقاته. هناك دائمًا سطر مقتضب جاهز للتكرار، يحدد نطاق معرفتنا بأي شخصية أو حدث تاريخي ويوجهها. وهنا تكمن سلطة المنهاج المدرسي على وعي أجيال متلاحقة من العمانيين بتاريخهم الوطني، وهي -لا شك- سلطة معرفية تنتج تاريخًا يقوم على الانتقائية والاختزال والأدلجة. وكما هي عادة التاريخ الرسمي دائمًا، فإنه يعرض الشخصيات التاريخية بوصفها "نماذج" لا بشرًا.

لا أدري حجم التغييرات الجوهرية التي طرأت على منهاج "هذا وطني" الذي درسته قبل نحو عشر سنوات. ولكن حينما تصفَّحت المنهاج الجديد الذي يدرسه اليوم طلاب الصف الثاني عشر وجدتُ ما أثار انتباهي بدءًا من فهرس الموضوعات، حيث تشير الوحدة الأولى من الكتاب أن الطلاب سيدرسون ثلاث مراحل من التاريخ العماني معنونة على هذا النحو: 1. عُمان في عصر النباهنة... حضارة وتواصل، 2. عُمان في عصر اليعاربة... قوة وازدهار، 3. عُمان في عصر البوسعيد... وحدة ومنجزات. يبدأ الأمر أولًا بسلطة المنهاج في فرض تحقيبه الخاص للتاريخ وفقًا لمنظور معين، وثانيًا فإنه يختصر كل عصر من العصور في كلمتين إيجابيتين، بل مفرطتين في الإيجابية إلى حد ينعكس سلبًا على ثقة الطالب الفضولي والشكاك بدرس التاريخ.

لا أبالغ لو قلت إن ثمة شعورًا بالحرمان من تاريخ لم يُقرأ، بل من تاريخ لم يُكتب بعد. حركة الأدب في عُمان خلال السنوات الأخيرة، السردية على نحو خاص، نجدها مسكونة بالرغبة في كتابة التاريخ تحت ضغط هذا الشعور بالحرمان، إذ باتت "الرواية التاريخية" من أهم مساحات التعبير التي يحاول فيها العمانيون التقرُّب من ماضيهم، لا بوصفهم مؤرخين، بل بصفتهم ورثةً لحكايات ناقصة، يحاولون سد فراغاتها اعتمادًا على التخييل الأدبي. فالرواية التاريخية في عُمان لم تعد مجرد موضة أدبية، بل غدت وسيلة لاستعادة التاريخ الهارب من سلطة المناهج وغبار الوثائق.

لا يمكن للأدب أن يحل محل التأريخ، ولكن بوسع الشاعر والروائي والقاص طرح الأسئلة التي يتراجع عنها المؤرخ لأسباب علمية أو سياسية. إذ لا بد من التأكيد على ضرورة الإصغاء لوجهة نظر الأدب في التاريخ، مهما اختلفنا على درجة اتساقها مع الحقيقة التاريخية. تنبع هذه الضرورة من الاعتقاد بأن كتابة الأدب هي شكل من أشكال القراءة للتاريخ الإنساني؛ بكلمات أخرى فإن كتابة الأدب هي طريقة لقراءة التاريخ لا لكتابته.

الرغبة في التاريخ التي تحرك اليوم شريحة من الكتاب والقراء العمانيين، لا تأتي من فائض المعرفة بل من نقصها، رغبةٌ ولَّدها الغياب. فأن تتمكن أجيال متأخرة من العمانيين من قراءة ملامح متفرقة من تاريخ الناس والطبيعة في هذا المكان القاسي، في مرآة الأدب، فهذا بحد ذاته انتصار يجلب السعادة لمن يراقب المشهد، سعادة لا بد أن نعكرها بين الحين والآخر بالحديث عن ضرورة فك الاشتباك بين الأدب والتاريخ، لكي لا يصبح الأدب خادمًا لمهمة التوثيق المنوطة بالمؤرخين، أولئك الذين لم نعثر عليهم بعدُ في أقسام التاريخ بجامعاتنا.

غير أن اضطلاع الأدب العماني بمهمة تدوين ما يُنسى أو يُمحى من التاريخ هو انعكاس معاصر لاستمرار معضلة العمانيين التقليدية في تدوين تاريخهم وأخبارهم على مدى القرون الماضية، فقد ظل تاريخهم منثورًا في كتب الأدب والتراجم والفقه والأنساب، إذ لم يعتنوا به حقلَ كتابةٍ خاصًا له أصوله وقواعده.

لكن الأدب هو أيضًا مدعو للالتفات لحاضره. ففي خضم هذا الانشغال المتزايد بالماضي، حنينًا أو استفهامًا، ينبغي ألا يشيح الأدب بوجهه عن الحاضر. فالأدب ليس محكومًا بالهرع دائمًا إلى جهة الماضي بحثًا عن الخلاص أو الهوية، متناسيًا أن اللحظة الراهنة، بكل ما تحمله من تعقيد اجتماعي ضمن شروطها الاقتصادية والسياسية، تستحق هي الأخرى أن تُكتب، فالحاضرُ دائمًا وأبدًا هو المادة الخام لحبر الكتابة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: تاریخ ا دائم ا

إقرأ أيضاً:

رفقًا بالأردن… صوت الحق في زمن الصمت

رفقًا بالأردن… #صوت_الحق في #زمن_الصمت
بقلم: أ.د. محمد تركي بني سلامة

يا أبناء شعبي الأوفياء…
في هذا الزمن العربي المنكسر، حيث تنزف غزّة كل يوم، وتقاوم #فلسطين بصدور عارية وجراح مفتوحة، نكتب لا لنواسي أنفسنا بالكلمات، بل لنصرخ بالحقيقة، ونعيد تصويب البوصلة، ولو كانت الرياح عاتية.

غزّة اليوم ليست مجرد عنوان للألم، بل مرآة لخذلان عالمي فادح. أطفالها يُقصفون، نساؤها يُدفنّ تحت الركام، وشبابها يواجهون آلة الموت بأمل لا يُكسر، لكن أين العالم؟
الحقيقة التي باتت واضحة حدّ الوجع: غزّة وفلسطين ليستا على أجندة القرار العربي، ولا على جدول اهتمامات العالم الإسلامي، ولا في سلّم أولويات القوى الكبرى.
الكل يتفرّج، يُدين، يندد، لكنه لا يحرّك ساكنًا.

لذلك، لا تنتظروا منهم أكثر مما كان… لا تعلقوا آمالًا على وعود لم تُترجم يومًا إلى أفعال.
لا تستهلكوا أعماركم في انتظار من لا يجيء.

مقالات ذات صلة 22 شهيدا و115 مصابا في إطلاق نار قرب موقع مساعدات غرب رفح 2025/06/01

وفي ظل هذا الصمت، يبرز موقف واحد نقي، ثابت، لا يتلوّن مع المصالح أو يتراجع تحت الضغط… إنه موقف الأردن.

الأردن، هذا البلد الصغير بحجمه، الكبير بمواقفه، لم يتأخر يومًا عن نصرة فلسطين.
قدّم ما يفوق طاقته، احتضن اللاجئين، صرخ بصوته في كل محفل، دعم بالدواء والكلمة والموقف، وتحمّل أعباء تفوق إمكاناته.
لم يكتفِ بالإدانة، بل وقف حيث لم يجرؤ كثيرون على الوقوف.

لكن، يجب أن نكون منصفين… الأردن ليس دولة عظمى، وليس لديه خزائن لا تنفد، ولا يستطيع أن يحمل وحده عبء أمة بأكملها.
إنه قلب كبير في جسد صغير، يرهقه النزيف من دون أن يشكو، لكنه لا يستطيع أن يفعل أكثر مما فعل.

فرفقًا بالأردن…
رفقًا بهذا الوطن الذي لا يتاجر بفلسطين، ولا يساوم على القدس، ولا يساير في الحق.
رفقًا بوطن يقف وحده في العاصفة، ينحاز دائمًا لأمّته، يشعل النور حين يخفت من حوله، ويبقى وفيًّا حين يخذل الآخرون.

علينا أن نُقدّر ما يقوم به هذا البلد، لا أن نُحمّله أكثر من طاقته. علينا أن نكون سندًا له، لا عبئًا فوق أعبائه.

وختامًا، دعونا نرفع الأكفّ بالدعاء:
اللهم احفظ فلسطين، واحمِ غزّة، وانصر أهلها الصامدين.
اللهم احفظ الأردن، أرضًا وشعبًا وقيادة، وأجعل هذا الوطن كما كان دائمًا، منارة للحق، وحصنًا منيعًا في وجه الريح.

والله من وراء القصد.

مقالات مشابهة

  • رفقًا بالأردن… صوت الحق في زمن الصمت
  • الأهلي يكرم «رجال اليد» بعد السداسية التاريخية
  • لودفيغ تيك والموروث الشعبي.. من الحكايات إلى الأدب
  • وداعاً نغوجي واثيونغو
  • التوأمة الاقتصادية بين عمان ودمشق.. بوابة لإحياء العلاقات التجارية التاريخية
  • الإنتر يهدد بتحطيم حلم سان جيرمان في «الثلاثية التاريخية»!
  • غوتيريش يدعو للاعتراف بالمظالم التاريخية المرتكبة في أفريقيا
  • قضية مارادونا تعود للنقطة صفر.. إعلان بطلان المحاكمة التاريخية لـ7 من أطبائه
  • «الملك يودع عرش الأحمر برقصته الأخيرة».. تحليل بالأرقام يكشف رحلة علي معلول التاريخية مع الأهلي