على عكس الصورة الشائعة التي تربط المافيا بعصابات الشوارع الأميركية مثل آل كابوني، فإن للمافيا جذورها العميقة في الطبقة المتوسطة العليا الصقلية في القرن التاسع عشر، حيث نشأت من الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي أعقبت النهضة الإيطالية ونهاية الاقتصاد الإقطاعي.
وكما يشير المؤرخ جان إيف فريتينييه، المتخصص في كوزا نوسترا (المافيا الصقلية)، فإن المافيا لم تولد بين فقراء الريف، وإنما في المناطق المزدهرة المحيطة بباليرمو حيث أعاد بعض أفراد البرجوازية الجديدة المحرومين من المنافذ الصناعية تدوير ممارسات إقطاعية استغلالية في مجتمع ليبرالي.
ورغم اعتراف فريتينييه بوجود مافيا أخرى مثل كامورا في نابولي وندرانجيتا في كالابريا، فإنه يقدم "النموذج الصقلي" باعتباره الإطار الأفضل لتحليل الظواهر التاريخية للمافيا.
ويلفت الكاتب، في تقريره بمجلة لوبوان الفرنسية، إلى أن البارون التوسكاني ليوبولدو فرانشيتي كان أول من رصد هذه الظاهرة في سبعينيات القرن التاسع عشر، عندما أشار إلى أن المافيا تختلف عن العصابات الإجرامية الشائعة في تنظيمها وعلاقاتها الوثيقة بالنخب.
ويذكر أن البداية الإجرامية للمافيا "نظمها أساسًا أعضاء البرجوازية الجديدة"، مشيرا إلى أن هؤلاء البرجوازيين، لا سيما عناصر الغابيلوتي -وهم وكلاء أثرياء للعقارات الإقطاعية القديمة- استطاعوا التستر على عنفهم وراء "أوميرتا"، وهي قانون صمت مستوحى من المحافل الماسونية والكاربوناري، وهم بذلك يُجسّدون طبقة استغلالية سرية لا تزال تُسيطر على مساحات شاسعة من العولمة حتى اليوم، وفقا لما جاء في تقرير بمجلة لوبوان الفرنسية.
ويؤكد فريتينييه أن هذه المنظمات الإجرامية لم تختفِ بسقوط جدار برلين، بل أصبحت عنصرًا محوريًّا في "الجانب المظلم" للعولمة، ووفقًا لفرانشيسكو بارباغالو، وهو مؤرخ معروف للكامورا، فإن قضية المافيا "أصبحت جزءًا أساسيا من تاريخ السلطة".
إعلانويستذكر فريتينييه أن المافيا شكلت العمود الفقري للعصابات التي هاجرت إلى أميركا (شيكاغو ونيويورك ونيو أورلينز)، في أعقاب تدفق المهاجرين من أصول إيطالية، ويتتبع صعود هذه الطوائف المافياوية، مشيرًا إلى أن أحداث القرن العشرين -النضال ضد النقابات الزراعية ثم الشيوعية- منحت هذه العصابات الإجرامية دعمًا قويًّا، وبالذات خلال الحرب الباردة.
وقد بدأت إيطاليا، من خلال قوانين مثل قانون روجنوني-لا توري (1982) وإصلاحاته (1992)، معركة نموذجية ضد هذه الطوائف، لتصبح بذلك نموذجًا يُحتذى، لا سيما لفرنسا في الوقت الحالي، وفقا للكاتب.
ويوضح فريتينييه أن دور النساء في هذه الظاهرة المافياوية غامض للغاية، فبينما كانت بعضهن من بين الأكثر نشاطًا في مكافحة الجريمة المنظمة، فإن أخريات، على العكس من ذلك، كنّ من بين الأكثر نشاطًا في ترسيخ ما يُطلق عليه البعض "روح المافيا".
ومن المعروف لدى المهتمين بقضايا المافيا، وفقا للمؤلف، أن زوجات زعماء هذه المنظمة غالبا ما يربين أطفالهن بطرح السؤال التالي: "وأنت، هل أنت رجل؟"، لتشجيعهم على مخالفة القانون والتصرف مثل والدهم.
وأخيرًا، يُحذّر المقال من الحلول المُبسّطة، مُذكّرًا بأن نهاية حظر الكحول لم تجعل حدا لمافيات صقلية الأميركية، لأن دخلها يأتي أساسًا من الابتزاز والفساد، لذا فإن مكافحة المافيا تتطلب فهمًا مُفصّلًا للروابط بين القوة الاقتصادية والعنف الخفي والتراث الثقافي، وهو تحدٍّ كبير للمجتمعات الغربية الحديثة، عل حد تعبير الكاتب.
ويختم الكاتب بالذهاب إلى أن الشيء المثير للاهتمام في المافيا هو أن كل ما يبدو إيجابيا في العالم الطبيعي (دور الأسرة، حقوق الدفاع، اللامركزية، العولمة، وما إلى ذلك) يمكن أن يتحول إلى أسوأ الحلول…، مشيرا إلى أن فرنسا بدأت تعترف، وإن بشكل متأخر وبعد عقود من الإنكار، أنها مع المافيا تواجه تحديا إجراميا هائلا.
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الحج حريات الحج ترجمات إلى أن
إقرأ أيضاً:
“إلى أين؟”.. عرض ليبي يُجسّد القلق الوجودي ضمن مهرجان المونودراما العربي في جرش 39 اللجنة الإعلامية لمهرجان جرش بحضور ممثل عن السفارة الليبية في عمان، وجمع غفير من عشاق المسرح، وضمن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان المونودراما المسرحي، قدّمت ا
صراحة نيوز – بحضور ممثل عن السفارة الليبية في عمان، وجمع غفير من عشاق المسرح، وضمن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان المونودراما المسرحي، قدّمت الفرقة الليبية مساء الثلاثاء 30 تموز 2025 على خشبة مسرح مركز الحسين الثقافي – رأس العين، عرضها المسرحي المونودرامي “إلى أين؟”، في تجربة مسرحية مزجت بين القلق الوجودي والتساؤلات العميقة التي يعيشها الإنسان العربي المعاصر.
المسرحية، التي كتبها الكاتب العراقي علي العبادي، مقتبسة عن نصه “حقائب سوداء”، وأخرجها الليبي عوض الفيتوري الذي تولى أيضًا تصميم السينوغرافيا، بينما قام بتجسيدها على الخشبة الفنان حسين العبيدي، يرافقه موسيقيًا الفنان أنس العريبي، الذي أضفى بعدًا شعوريًا ساهم في تعزيز التوتر الدرامي والانفعالي للنص.
وفي إطار مونودرامي متماسك، يقف “الممثل – المسافر” ليحمل حقائبه المادي والرمزية، باحثًا عن إجابة لسؤال وجودي يتردد طيلة العرض: “إلى أين؟”. فالمسرحية لا تكتفي بعرض مشهد فردي عن الرحيل، بل تحوّله إلى سؤال جماعي يمسّ كل من اضطر أن يغادر، أن يهاجر، أن يُهجّر، أو أن يرحل مجبرًا من وطن بات غير قابل للسكن، بفعل الحروب والدمار والنكبات المتتالية، وحتى الإحتلال في العالم العربي.
الحقائب في العرض ليست مجرد أدوات، بل رموزٌ لما نحمله في دواخلنا: ذكريات، أحلام، خصوصيات، جراح، وآمال. المسرحية تفتح مساحة للتأمل في دوافع السفر؛ أهو بحث عن الأمان؟ أم عن الذات؟ أم محاولة مستميتة للهرب من واقع خانق؟
العرض الليبي جاء متقنًا في استخدامه للضوء والظل، للصوت والصمت، للحركة وللسكون، حيث مزج المخرج بين عناصر النص والفرجة والموسيقى والإضاءة، ليصوغ منها كولاجًا بصريًا وصوتيًا نابضًا يعكس نبض الشارع العربي، ويطرح الأسئلة التي قد لا تجد أجوبة، لكنها تُحكى، تُصرخ، وتُهمس على خشبة المسرح.
ويُشار إلى أنّ الدورة الثالثة من مهرجان المونودراما العربي، التي تُقام ضمن فعاليات مهرجان جرش للثقافة والفنون لعام 2025، تستضيف عروضًا من مختلف الدول العربية، تشكّل فسحة للتعبير الفردي الحرّ، وتحاكي هواجس المجتمعات بعيون فنانيها.