لجريدة عمان:
2025-08-09@06:46:29 GMT

جورج دبليو ترامب

تاريخ النشر: 23rd, June 2025 GMT

بدأت الدعوات الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية لغزو العراق بزعم امتلاك هذا البلد أسلحة دمار شامل، وأسلحة نووية على وجه الخصوص، ما استُخدم حينها مبررًا للقيام بعمل عسكري لمنع العراق من امتلاك تلك الأسلحة. وعلى أساس هذه الحجة، جرى التحشيد الإعلامي والشعبي بشكل مكثف لتبرير الغزو. واليوم، تتكرر ذات السيناريوهات تقريبًا، حيث يُعاد التحشيد ضد إيران بالمنطق ذاته، أي الادعاء بامتلاكها برنامجًا للأسلحة النووية.

وعلى الرغم من نفي مديرة المخابرات الوطنية الأمريكية، تولسي جابارد، امتلاك إيران لأي أسلحة نووية، في تقرير منشور على موقع مكتب مدير الاستخبارات الوطنية بتاريخ 25 مارس 2025، والذي جاء فيه (والنص مترجم):

«لا يزال مجتمع الاستخبارات يقيّم أن إيران لا تصنع سلاحًا نوويًّا، وأن المرشد الإيراني علي خامنئي لم يصرّح ببرنامج الأسلحة النووية الذي علّقه في عام 2003»،

إلا أن الرئيس السابق دونالد ترامب سارع إلى تكذيب هذا التصريح علنًا أمام وسائل الإعلام، قائلًا: «إنها مخطئة».

بهذه التصريحات، يحاول دونالد ترامب أن يسلك المسار ذاته الذي سار عليه جورج بوش الابن عام 2003، عندما قرر غزو العراق دون وجود أدلة موثوقة على امتلاكه لأسلحة دمار شامل، متجاهلًا بذلك الشرعية الدولية، والقوانين الأممية، والتحالفات السياسية، ومُعيدًا إنتاج ذات المنطق الذي استخدم لتبرير حرب ثبت لاحقًا أنها افتقرت إلى المصداقية.

لقد بدا ترامب في هذه المواقف كنسخة مكررة من جورج بوش، وكأن الأخير يحكم بعنجهية الأول، في مشهد سياسي يتماهى فيه الرجلان إلى درجة بات من الممكن القول: إننا اليوم أمام «جورج دبليو ترامب».

تستخدم أمريكا دائمًا فكرة (الخطر الخارجي) الذي يمثل خطورة بالغة على مصالحها، فتنتقل من خطر لآخر، فيتنام فأفغانستان فالعراق فإيران، وبينها جميعا دائما ما تكون الصين وروسيا حاضرة في التحشيد الإعلامي، وفي الدول الثلاث الأولى -على الأقل- توجهت أمريكا لخيار الحرب، وخرجت من أغلبها خاسرة، لكنها واليوم تحشد لمساندة حليفها في الشرق الأوسط، فإنها تستعمل منطق العمليات أكثر من منطق الحرب، لذا تجد بأنها قصفت المواقع النووية الإيرانية بعملية خاطفة وسريعة، دون إعلان الحرب، لأنها استطاعت أن تعي بعد عنجهيات كثيرة أن الحرب مكلفة وخاسرة، لكن هذا لا ينفي وجود خيار انطلاق الحرب على إيران في حال معرفتها أن الأخيرة قد نقلت فعلا مفاعلاتها النووية من المناطق المقصوفة، أو هذه العملية لم تؤثر فيها بشكل كبير واستمرت الضربات على إسرائيل، ويُمكن النظر إلى هذا أيضا على أنه هرب من المشاكل والأزمات الداخلية التي تواجه الإدارة الأمريكية، لا سيما بعد احتجاجات لوس أنجلوس ونشر ترامب لقوات الحرس الوطني والمارينز دون دعوة حاكم الولاية، مما يعني تجاوزًا لصلاحياته الفيدرالية.

تصنع الحكومة الأمريكية التحشيد الإعلامي عن طريق إيجاد البعبع المهدد لمصالحها، ثم إعادة تأطير السردية على أنها قضية عادلة يجب على أمريكا أن تقوم بها، من خلال استدعاء الرموز الأخلاقية مثل السلام، الحرية، الديمقراطية، الكرامة..إلخ وقد استُخدم هذا في الغزو العراقي، ويستخدم الآن، وبمنطق جديد بالنسبة لترامب، منطق السلام بالقوة، الذي لم يكن حاضرًا حتى في حملته الانتخابية، فما كان يروّج له تحديدا هو إنهاء الحروب، أما الآن فهو ينفذ عمليات ضد إيران، لإيجاد السلام، لكنه ليس سلام مفاوضات أو تفاهمات، وإنما سلام خضوع!

في هذا التشابه الفج بين 2003 و2025، يحضر في الأذهان سؤال مهم: ما الذي تغير فعلاً؟ الذي تغيّر هو الداخل الأمريكي، فإن الرأي العام الحالي يعارض أي تدخل أمريكي في إيران، ويرى بأنه مجرد استنزاف للموارد الأمريكية دون أي جدوى، فضلا عن الجانب الأخلاقي الذي يقتضي أن دخول أمريكا في الحرب يعني إزهاق أرواح الإيرانيين، فبحسب استطلاع مركز بيو للأبحاث (Pew Research Center) أجري خلال الأشهر الماضية، ينظر أغلب الأمريكيين بنسبة 53% لإسرائيل بشكلٍ سلبي، كذلك فإن شخصيات مؤثرة مثل ستيف بانون، وتاكر كارلسون، ومارجوري تايلور جرين، قد عارضوا التدخل الأمريكي في الحرب، على اعتبار أن ذلك يتنافى مع وعود ترامب في عدم خوض أي «حروب أبدية»، علما أن هذه الأسماء تعتبر من داخل معسكر (أمريكا أولا)، وقد نشر الناشط الجمهوري تشارلي كريك في منصة إكس استطلاعا يسأل فيه ما إذا كان ينبغي للولايات المتحدة التدخل في ضربة ضد إيران فأجاب 90% من مناصريه بالرفض.

فضلا عن المنشورات والحلقات المرئية والمسموعة التي تعارض التدخل الأمريكي في الحرب. ومما تغيّر كذلك، أن إعلام مواقع التواصل الاجتماعي أصبح هو الأكثر شهرة وتأثيرًا في تشكيل الرأي العام من الإعلام التقليدي الذي كان سابقًا يعمل على خلق حالة التوهم بضرورة التدخل العسكري، أو أن الرأي العام موافق لقرار الدخول في الحرب، ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي استطاع الأمريكيون التعبير عن رفضهم لهذا التدخل العسكري، وعدم جدواه، بل وتناقضه من وعود ترامب في حملته الانتخابية.

ومن الأشياء التي تغيرت كذلك، أن الهيمنة الأمريكية في المنطقة لم تكن ذاتها التي كانت في بداية الألفية، إذ إنها تغيرت وقلّت، لم تنته على الإطلاق، لكنها تراجعت أمام الحضور الصيني، ولذلك فإن هذا من الأسباب التي تجعل الإدارة الأمريكية راغبة في الدخول للحرب، إذ الهدف ليس دعم إسرائيل فقط، وإنما للتضييق على الصين والإضرار بمصالحها، وكذلك فإن في حالة سقوط النظام الإيراني تكون الولايات المتحدة قادرة على زيادة الحرب التجارية وحرب الجمارك على الصين، فضلا عن إضعاف حليفٍ روسي مهم في المنطقة، والتضييق على منظمة بريكس.

إن دور شعوب المنطقة لا يقتصر على المراقبة فقط كما يحدث الآن في الضربات الجوية الإيرانية - الإسرائيلية، وإنما يتعدى الواجب الأخلاقي والسياسي ذلك إلى مشاركة الرأي الداخلي الأمريكي في معارضته لتدخل الولايات المتحدة في هذه الحرب؛ لأن عمليتها التي قامت بها السبت الماضي، أو تدخلها في الحرب بشكل مباشر، يُمكن أن يؤجج الصراع ويدفع بالمنطقة لحرب أكبر مما يضر بمصالح الجميع، وأولها شعوب المنطقة ذاتها.

إن الأدوات المتاحة في الوقت الحالي، مثل وسائل التواصل الاجتماعي، تتيح لشعوب المنطقة أن تشارك في ضغطها على الإدارة الأمريكية بعدم تدخلها بأي شكل من الأشكال، سواء إعلان الحرب أو مجرد عمليات في إيران، وتشكيل الضغط هذا يتولد بعدة أشكال، منها الضغط الشعبي الإعلامي الذي لا شك تقرؤه الولايات المتحدة وإن كانت تظهر عدم اهتمامها به باستعلائها المعهود، ومنها كذلك الطلب من الحكومات في المنطقة رفض استخدام أراضيها أو مجالها الجوي لتنفيذ ضربات ضد إيران، مما يجعل الوضع أكثر تعقيدا على الإدارة الأمريكية في قرارها لتنفيذ العمليات العسكرية، لأنها تراعي مصالحها في المنطقة بشكل كبير جدا، وزيادة النظرة السلبية تجاهها، الذي يُمكن أن يؤدي لأن تكون دولة غير مرحب بها سياسيا وشعبيا (في الحالة المثالية للنظرة السلبية)، يجعلها تستشعر الخطر لا سيما بعد زيادة الاستثمارات والشراكات التجارية مع الصين.

كما يجب أن يتم تجاوز الخطابات العاطفية التي تنطلق ارتجالاً من اللحظة، لبناء سردية عقلانية مساندة للداخل الشعبي الأمريكي، لتشكيل الضغط الكافي لتوقف الولايات المتحدة تدخلها في الحرب. فإن لم يحدث هذا ولم تبنِ شعوب المنطقة الضغط الملائم، لا يُستبعد تكرار سيناريو 2003، مما يضر بالجميع، بمن فيهم الأفراد، وبعدها لا يكون للطم الخدود على الخسارات المتتابعة أي فائدة أو جدوى.

في الختام أقول: إن التاريخ لا يكرر نفسه بنسبة متطابقة، لكنه عقابٌ لمن لا يقرؤونه ويفهمونه، فإن لم ندرك خساراتنا الكبرى في الغزو الأمريكي للعراق في 2003، وزيادة نفوذ الولايات المتحدة بعدها، وبقينا في حالة المتفرج السلبي، عدنا مرة أخرى للخسارات الكبرى، وأدركنا بعد عقود سوء ما فعلناه اليوم.

إن الصوت الشعبي العربي، بل وكل صوت شعبي في المنطقة، مهم ومؤثر، إذ العالم لم يعد ذاك الذي تتحكم فيه أمريكا لوحدها، ولم يعد لوسائل الإعلام التقليدية قدرتها على التحكم الكامل في الخبر وتشويش الحقيقة، بل أصبح لكل فرد القدرة على أن يكون ذا رأي ومنطلق، وإن لم ننطلق من مصلحتنا ونفكر فيها، لم يفكر فيها أحد عنا، ولذا فإن الفهم السياسي لديناميكيات القرار الأمريكي والقدرة على التأثير فيه ليس ترفًا خارجًا عن المهام اليومية الضرورية، فإن الأحداث الأخيرة تدعونا جميعا لبناء معرفتنا وقدرتنا وإدراك أهميتنا لنكون في أمان سواء من جر المنطقة لحرب شاملة لا جدوى منها، أو من التضرر بالإشعاعات النووية التي يُمكن أن تطلق أمريكا سراحها في حال تدخلها. ومن يدري، ربما قد أطلقتها بالفعل في عمليتها الأخيرة!

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الإدارة الأمریکیة الولایات المتحدة فی المنطقة ضد إیران فی الحرب

إقرأ أيضاً:

طيار هيروشيما الذي لم يندم.. كيف تقتل 140 ألف إنسان بلا رحمة؟

في تمام الساعة 2:45 من صباح 6 أغسطس/آب 1945، انطلق سرب من الطائرات من مطار نورث فيلد بجزيرة تينيان الخاضعة لسيطرة الولايات المتحدة في المحيط الهادئ، وضم هذا السرب الطائرة الأميركية من طراز "بي-29" التي سُميت لاحقا "إينولا غاي". وبعد 6 ساعات من الطيران في جو صيفيّ هادئ، وصلت الطائرة إلى وجهتها فوق مدينة هيروشيما اليابانية.

بدأت الطائرة تلقي حمولتها فوق المدينة، هذه الحمولة لم تكن سوى قنبلة نووية أُطلق عليها "ليتل بوي" (Little Boy) أو "الولد الصغير"، كانت كافية لتحويل هيروشيما إلى ركام تنبعث منه رائحة الموت والدمار والخوف الذي امتد من المدينة اليابانية نحو سائر العالم.

هي لحظة واحدة، مجرد ضغطة زر، مجرد تنفيذ لأمر، لكنها استطالت وتعمقت لتصبح ندبة غائرة في جسد التاريخ، وغيّرت معها تاريخ الحروب الحديثة، وأدخلت العالم عصر الأسلحة النووية المرعب، لا كفكرة، بل كتجربة ميدانية على أجساد وأرض وأرواح.

لم يتمكن طاقم الطائرة "إينولا غاي" ورفاقهم من استيعاب ما حدث، ففي غضون ثوان قليلة اختفت مظاهر الحياة تدريجيًا تحت عمود هائل من الغاز والغبار والدخان، له قلب أحمر ناري ارتفع نحو 40 ألف قدم فوق سطح الأرض، وكان وهج الانفجار شديدًا إلى درجة أن بعض أفراد الطاقم اعتقدوا أنهم أصيبوا بالعمى، وعندما نظروا إلى الأسفل وجدوا الحرائق تشتعل في كافة أنحاء المدينة.

 بعد سنوات، سيدوّن المشاركون في تلك العملية مشاعرهم التي وصفوها بـ "المختلطة" عن تلك اللحظة الدموية المدمرة. بعضهم سيعبّر عن الندم الشديد، مثل الرائد كلود إيثرلي، قائد طائرة الاستطلاع الجوي التي دعمت قصف هيروشيما. وقد عانى إيثرلي طوال حياته من نوبات هلع متكررة جعلته عاجزًا عن النوم، تطارده كوابيس عن نساء وأطفال تلتهمهم النيران.

وعلى خلاف إيثرلي، التزم أغلب أفراد الطاقم الأميركي طوال حياتهم تقريبا بالسردية الرسمية للأحداث، وعلى رأسهم قائد المهمة الطيار بول وارفيلد تيبيتس، الذي صرح في فيلم وثائقي أنه نظر من شباك الطائرة ورأى القنبلة التي خلّفت وراءها سحابة سوداء تشبه فطر "عيش الغراب"، ودُفنت تحتها مدينة هيروشيما المنكوبة.

في تلك اللحظة، يذكر تيبيتس أنه أدار الطائرة في انعطافة حادة وقام بمناورة الهروب التي كان يتدرب عليها منذ شهور، لم يفكر في مصير من هم على الأرض، لم يشعر بتأنيب الضمير، ولم يندم قط على إلقاء أول قنبلة ذرية في التاريخ، بل على العكس من ذلك، أمضى 62 عامًا من حياته يدافع عن إلقاء القنبلتين الذريتين في هيروشيما وناغازاكي، مبررًا ذلك بأنه "لا أخلاق في الحرب".

ليلة الهجوم على هيروشيما، وبينما كان الفريق منهمكًا في التجهيز لأداء المهمة، نزل بول تيبيتس إلى مكان تجمع الطائرات وخطّ اسم والدته "إينولا غاي" على جانب القاذفة الأميركية الأكثر تطورا آنذاك "بي-29".

ستشارك "إينولا غاي" بعدها بعدة أيام ضمن سرب الطائرات المكلف بالهجوم على ناغازاكي، ليظل هذا الاسم مرتبطًا للأبد بالحرب العالمية الثانية وعمليات إلقاء القنابل الذرية، حيث تُعرض الطائرة حتى اليوم ضمن المقتنيات الأثرية في مركز "أودفار هازي" التابع للمتحف الجوي الفضائي الأميركي في ولاية فيرجينيا، وما زال اسم "إينولا غاي" مرسومًا على جانبها.

حين سُئل تيبيتس في أحد الحوارات عن السبب الذي جعله يكتب اسم والدته على الطائرة، قال إن والده بول وارفيلد تيبيتس أراد له أن يصبح طبيبًا، ورفض تشجيعه على ترك دراسة الطب والالتحاق بأحد مدارس الطيران، فكانت والدته "إينولا غاي" هي من شجعه على متابعة حلمه، ولهذا السبب أطلق اسمها على الطائرة التي قادها نحو هيروشيما، وذلك لإيمانه العميق بأن الطائرة سينالها جزء من شهرة الهجوم الذري، فكانت تلك طريقته في تكريم والدته.

ولد بول وارفيلد تيبيتس الابن في 23 فبراير/شباط 1915، بولاية إلينوي وسط غرب الولايات المتحدة، وبعد عدة سنوات انتقلت العائلة إلى مدينة ميامي بولاية فلوريدا، حيث قضى تيبيتس أغلب سنوات نشأته.

يحكي تيبيتس في مذكراته المنشورة عام 1978 بعنوان "قصة تيبيتس"، كيف بدأ شغفه صغيرًا بمهنة الطب، حيث كان يقضي فصول الصيف في مزرعة جده بولاية أيوا، وهناك افتتن بمتابعة عمليات ولادة الحيوانات وعلاجها. أما المثير للغرابة فكان ذكره أن رؤية الدم في هذه السن الصغيرة لم تسبب له أي نوع من الانزعاج.

كان ذلك قبل أن يكتشف لاحقًا أن الإثارة التي تقدمها مهنة الطب لا تقارن بالمشاعر الغامرة التي يوفرها التحليق في الهواء، ففي سن الثانية عشرة، وأثناء عمله ضمن حملة ترويجية لأحد مصانع الحلوى، جلس الشاب اليافع في المقعد الأمامي لطائرة تحلق على ارتفاع منخفض وتسقط قطع الحلوى بالمظلات على الجماهير.

 شعر تيبيتس وكأنه أمير يركب بساطًا سحريًا، ومنحته التجربة إحساسًا لم يختبره من قبل بالمتعة والإثارة، والأهم من ذلك شعورًا بالتفوق على الجنس البشري، مثل بذرة مبكرة لطبيعة شخصية مثيرة للجدل.

في عام 1937، سيترك بول تيبيتس دراسته لينضم إلى سلاح الجو الأميركي، وسرعان ما أظهر الشاب موهبة استثنائية في الطيران جعلته يشق طريقه ويتدرج في المناصب والرتب، حتى إنه تولى قيادة سرب القنابل رقم 340 لمجموعة القصف رقم 97 في أغسطس/آب 1942، ليشارك تيبيتس بعدها في الغارات الجوية على الأهداف الألمانية في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، حيث قاد 12 طائرة من طراز "بي-17" وشارك في عشرات العمليات القتالية.

وكانت تلك هي الفترة التي أهلته فيما بعد ليتولى مسؤولية التحليق بالقاذفات الأميركية الأحدث في العالم من طراز "بي-29" أو "سوبر فورتريس" (Superfortresses).

قضى تيبيتس عامين يتدرب على طائرة "بي-29″، وهو ما مكنه من تجربتها بكل الطرق الممكنة، حتى أصبح بشهادة قائد القوات الجوية الجنرال هنري هاب أرنولد، أفضل طيار في سلاح الجو الأميركي.

وبحلول أغسطس/آب 1944، استدعي تيبيتس لمقابلة العقيد جون لانسديل، مسؤول الأمن والاستخبارات في مشروع مانهاتن (مشروع إنتاج القنبلة الذرية الأميركي)، وذلك في اجتماع حضره قائد القوات الجوية الثانية الجنرال أوزال جيرارد إنت، والقائد البحري ويليام ديك بارسونز الذي شغل منصب المدير المساعد لمختبر "لوس ألاموس" التابع للمشروع، وإلى جانبهم العالم الأميركي الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1989، نورمان رامسي.

خلال هذا الاجتماع سيجري إطلاع بول تيبيتس على الدور الخاص الذي سيلعبه داخل مشروع مانهاتن، وفي الوقت الذي يعمل فيه العلماء على تطوير أول سلاح ذري أميركي، سيعمل تيبيتس على التخطيط وتدريب الطاقم المناسب من الطيارين وقاذفي القنابل وعاملي الرادار، من أجل تسليم هذا السلاح إلى وجهته الأخيرة.

حتى ساعة الصفر، كان تيبيتس الوحيد بين أفراد طاقمه المطلع على طبيعة السلاح الذي سيستخدم في الهجوم على هيروشيما، فقد التقى 3 مرات بمدير مشروع مانهاتن، الفيزيائي الأميركي جي روبرت أوبنهايمر، الملقب "أبو القنبلة الذرية"، كما شرح له الفيزيائي رامسي كيف أن هذه القنبلة تنفجر بقوة تعادل 20 ألف طن من مادة "تي إن تي" المتفجرة. ورغم إدراكه للأعداد الهائلة من الضحايا المدنيين، قبِلَ بأداء المهمة دون تردد.

كان تيبيتس، وعمره آنذاك 29 عاما، مبهورًا بالسلطة التي مُنحت له في هذه السن الصغيرة، فاختار الطاقم "الأفضل" لمشاركته في أداء المهمة، مثل قاذف القنابل الرائد توماس فيريبي، والملاح الجوي ثيودور فان كيرك.

وفي قاعدة ويندوفر الجوية المهجورة بولاية يوتا، اجتمع أفراد الطاقم وخضعوا للتدريب على مناورات الطيران ومحاكاة القصف. وتميزت تلك الفترة الشاقة بإجراءات أمنية مشددة، ويصف تيبيتس هذه التجربة قائلًا إنها علمته كيف يصبح كاذبًا محترفًا، حيث لم يكن يُفترض أن يعلم أي شخص طبيعة العملية التي كُلف بها، هذا الأمر دفعه لأن يمارس الكذب على مدى 10 أشهر، كان يضطر خلالها لاختلاق الأحداث التي سيحكيها لزوجته وأفراد عائلته.

 كان التحدي الأكبر الذي واجهه تأهيل طائرة "بي-29" لتصبح قادرة على حمل قنبلة مدمرة تزن 10 آلاف رطل، ولهذا عمل تيبيتس على ابتكار طرق جديدة من أجل تخفيف وزن الطائرة.

وفي 6 أغسطس/آب 1945، صعد تيبيتس إلى قمرة القيادة، تغمره أضواء الكاميرات لتوثيق هذه اللحظة التاريخية، ابتسم الطيار الشاب ملوحًا بيديه، في حين اجتمع أفراد الطاقم لالتقاط الصورة الأخيرة أمام "إينولا غاي". كانوا جميعًا يشعرون وكأنهم نجوم في افتتاح أحد الأفلام الهوليودية، لم يسبق لبول تيبيتس أن شعر بمثل هذه القوة.

بعد إقلاع الطائرة سيجمع تيبيتس أفراد طاقمه ليخبرهم عن سر القنبلة الذرية. وتشير رواية شائعة أنه وزع على رجاله قبل انطلاق الرحلة كبسولات مادة "السيانيد" السامة، كما تلقى تعليمات بإطلاق النار على أي رجل يرفض الانتحار في حال فشل الهجوم، حيث لم يكن يُفترض أن يقع أفراد الطاقم في الأسر.

استغرقت عملية القصف بأكملها 7 دقائق، وانفجرت القنبلة بعد 43 ثانية من إسقاطها، وبعدما تجاوزت "إينولا غاي" مرحلة الخطر، زف مسؤول الاتصالات اللاسلكية "رسالة النصر" عبر موجات الراديو إلى السلطات الأميركية، ويقال إن الرئيس هاري ترومان تلقى هذه الرسالة وهو عائد من أوروبا، وقد تهللت أساريره بما اعتبره أعظم خبر في التاريخ.

في طريق العودة، نام تيبيتس قليلا، حيث كان مستيقظًا من الليلة السابقة، في حين أطبق الصمت والصدمة على أفراد طاقم الطائرة، وذلك حتى وصلوا إلى جزيرة تينيان، حيث استقبلهم القادة والجنود استقبال الأبطال احتفالا بنجاح أول عملية قصف ذري.

 شرب الجنود ورقصوا وشاهدوا فيلما سينمائيا، وقد صرح بعضهم أن انغماسهم في مظاهر الاحتفال لم يكن إلا للهروب من هول المشهد، فقد تفحم أقرب الناس إلى نقطة الانفجار، واختفت المدينة بالكامل عن وجه الأرض، ولقي 70 ألف ياباني حتفهم جراء الانفجار الأوّلي للقنبلة.

وفي الأسابيع التالية للهجوم، تزايدت أعداد القتلى الناجمة عن التسمم الإشعاعي حتى بلغت بحلول نهاية العام إلى 140 ألفا، بخلاف 70 ألفًا آخرين قتلوا في ناغازاكي.

لم يزر بول تيبيتس مدينة هيروشيما ثانية، ومع ذلك -وربما بدافع الفضول- ذهب لمعاينة الدمار في مدينة ناغازاكي المنكوبة بعد استسلام اليابان، وهناك شاهد عن قرب ما يمكن أن تفعله القنبلة الذرية على الأرض. وبعد انتهاء الحرب، عاد معظم أفراد طاقم "إينولا غاي" إلى ديارهم، حيث تزوجوا وأسسوا عائلات وانخرطوا في الحياة المدنية، واعتبرهم أغلب الأميركيين أبطالا.

هكذا، وتنفيذا "للأوامر"، وفي 7 دقائق مثّلت المدة الكاملة للعملية، قُتل أكثر من 140 ألفا. تنفيذا للأوامر، يصبح القاتل في عُرف الوطن بطلا، وتنزاح عن كتفيه ورأسه أعباء الدم المسفوك والدمار الذي ستمتد ندوبه لأجيال.

لم يكن فرعون ليصبح من هو، دون جنود يُذبّحون الأطفال ويستحيون النساء، ودون سَحرةٍ يهيمنون على عقول الناس بنشر الوهم وبث الرعب في قلوب الناس. ولم يكن لقصة أصحاب الأخدود أن تجري دون جنود يحفرون الخنادق، وآخرين يشعلون النار، بينما يراقب صاحب الأمر مُحتفيا بقوته وجبروته.

 ويتقادم الزمن، وتعيد السنن دورتها، فالقاتل، وجنوده، والضحايا، حاضرون مهما اختلفت الجغرافيا وتغير الزمان وتغيّرت المبررات.

بالعودة لعقلية الجندي، يرى تيبيتس نفسه عسكريًا منضبطا تربى على اتباع القواعد وتشبّع بأفكار الدفاع عن الوطن، فكان قرار إسقاط القنبلة الذرية على هيروشيما بالنسبة إليه واجبًا وطنيًا أنهى الحرب وجلب السلام إلى العالم.

وقد كانت سردية تيبيتس للأحداث تحاكي الخطاب الأميركي الشائع الذي روّج -بتبجح يحسد عليه- للقنابل الذرية باعتبارها الطريقة الأكثر إنسانية لإنهاء الحرب وإنقاذ ملايين الأرواح من الأميركيين واليابانيين على حد سواء.

تأثر هذا الخطاب الأميركي بشكلٍ كبير بالمقال البارز الذي نشره السياسي والمحامي الأميركي هنري ستيمسون في مجلة "هاربر" عام 1947 بعنوان "قرار استخدام القنبلة الذرية"، الذي وضع الأسس الأولى لما أصبح فيما بعدُ السردية الرسمية للأحداث.

المحامي الأميركي هنري ستيمسون هو الذي وضع الأسس للرواية التي تبنتها أميركا لتبرير قصفها اليابان بالقنبلة النووية (غيتي)

شغل ستيمسون منصب وزير الحرب مرتين، الأولى بين عامي 1911 و1913، والثانية بين عامي 1940 و1945. وأثناء توليه المنصب، عيّنه الرئيس فرانكلين روزفلت عام 1941 ضمن اللجنة المختصة بتطوير سلاح ذري والتي عرفت بعد ذلك باسم "مشروع مانهاتن".

اعتمدت تبريرات ستيمسون لاستخدام الولايات المتحدة القنبلة الذرية على نقطتين محوريتين؛ الأولى هي الأرواح التي "أنقذتها" القنابل الذرية بإنهاء الحرب وعدم الاضطرار إلى غزو اليابان، دون الالتفات إلى الأرواح التي أزهقت بفعل هذه الأسلحة المدمرة.

 والنقطة الثانية كانت المجادلة بأن اليابانيين كانوا مصممين على القتال حتى اللحظات الأخيرة، وبالتالي لم يكن أمام الولايات المتحدة أي خيار آخر سوى اختصار أمد الحرب بهذه الطريقة.

وقد صُممت هذه التبريرات لإراحة ضمير الأمة الأميركية من تبعات هذه الكارثة، وقد استمر بول تيبيتس في ترديدها حتى نهاية حياته لإقناع نفسه.

آتت الدعاية أكلها في البداية على ما يبدو، بعدما أيد غالبية الشعب الأميركي قرار قصف هيروشيما. وذكر تقرير المتحف الوطني للحرب العالمية الثانية أن الأميركيين لم يكترثوا كثيرًا لمصير اليابانيين، حيث كان القصف المروع للمدن إحدى سمات هذا العصر، كما أظهر استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة "غالوب" الدولية في أغسطس/آب 1945، أن 85% من الأميركيين أيدوا قرار القصف من منطلق اعتقادهم بأن هذا القرار قادر على وضع أوزار الحرب العالمية الثانية.

لكن بعدما هدأت زهوة النصر، وتسربت الصور الأولى لضحايا القصف الذري المروع على هيروشيما، خيّمت نبرة شك على الجو العام في المجتمع الأميركي، حيث أدرك العسكريون والمدنيون -على حد سواء- ما الذي يعنيه أن تكون هناك قنبلة واحدة قادرة على محو مدينة كاملة عن وجه الأرض، وأن تمتلك البشرية سلاحًا قادرا على تدمير الحضارة الإنسانية بضغطة زر.

في ذلك الوقت، أشعل دخول العصر الذري حربًا ثقافية حول "المعضلة الأخلاقية" لحيازة الأسلحة النووية واستخدامها، فقد أطلق الجنرال الأميركي المتقاعد دوغلاس ماك آرثر، على قنبلة هيروشيما اسم "وحش فرانكشتاين"، نسبة إلى رواية الرعب الشهيرة التي ألفتها الكاتبة البريطانية ماري شيلي في القرن 19، وألقت الضوء على الوجه الأسود للعلوم الحديثة من خلال قصة طبيب شاب عاكف في مختبره الصغير، وبدلًا من أن يقدم هذا الطبيب إنجازًا علميًا يفيد البشرية، صنع كائنًا مشوهًا ووحشًا مدمرًا، لتتنبأ شيلي عام 1818 بعالمٍ جديد تسيطر فيه العلوم والتكنولوجيا على البشر، وتتسبب في نهاية المطاف بالقضاء على إنسانيتهم.

ناقش عالم النفس والفيلسوف الألماني الأميركي، إريك فروم، هذه المعضلة باستفاضة في مقال نشره عام 1963 بعنوان "العصيان كمشكلة نفسية وأخلاقية"، معترفا أنه بينما يدخل العالم عصر الذرَّة، لا تزال نفوس مَن هم على رأس السلطة عالقة في العصر الحجري، وتتحكم فيها الأهواء البدائية الدنيئة، مثل الكراهية والجشع والرغبة المدمرة في الانتقام.

نشر فروم مقاله في أوج الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، حين تراكمت أعداد الرؤوس النووية على الجانبين وتزايدت التهديدات باندلاع حرب عالمية ثالثة، الأمر الذي دفعه للتصريح بأن البشرية لو كُتب عليها أن تفنيَ نفسها عبر حرب نووية، فسيكون السبب في ذلك وجود أشخاص عازمين على الانصياع الأعمى لأوامر السلطة، حتى عندما يأمرونهم بالضغط على أزرار الدمار.

على مدار السنوات التي تلت الحرب، تعرضت السردية الأميركية لانتقادات لاذعة، وقد فندها المؤرخون والقادة العسكريون (وبعضهم في الولايات المتحدة نفسها) الذين شككوا في جدوى القصف قائلين إنه لم يكن ضروريًا لإنهاء الحرب، وبالتالي لا يمكن اعتباره مبررًا أخلاقيًا.

على سبيل المثال، أكد القائد البحري الأدميرال إرنست جوزيف كينغ، أن حصار اليابان جويًا وبحريًا كان كافيًا لإجبارها على الاستسلام، فاليابان كانت قد هُزمت بالفعل قبل الهجوم، ووصل أسطولها وسلاحها الجوي إلى أضعف حالاته.

كما أشار الأدميرال ويليام إف بول هالسي، أحد أشهر قادة البحرية الأميركية، أن القنبلة الذرية بالنسبة للعلماء كانت مجرد لعبة جديدة أرادوا تجريبها. وقد امتلك الأدميرال وليام دي ليهي، الجرأة الكافية لأن يصف المعايير الأخلاقية لاستخدام القنبلة النووية في هيروشيما بأنها بلغت مرحلة متدنية أشبه بتلك التي كانت سائدة عند برابرة عصور الظلام.

أشارت العديد من الأدلة التاريخية الحاسمة في دار المحفوظات الأميركية واليابانية إلى أن الرئيس ترومان وغيره من صناع السياسات في الولايات المتحدة، كانوا على دراية تامة بأن اليابانيين مستعدون للاستسلام قبل إسقاط القنبلة الذرية، وذلك إذا مُنحوا شروطًا جيدة أهمها عدمُ المساس بالإمبراطور أو محاكمته وإعدامه، وذلك نظرًا للمكانة الكبيرة التي يتمتع بها في المجتمع الياباني، وبالفعل عرض اليابانيون على الاتحاد السوفياتي التدخل للوساطة مع دول الحلفاء في يوليو/تموز 1945، وهو ما يدحض الحجة الرئيسية التي استخدمت في تبرير استخدام القنابل الذرية.

بل إن وزير الخارجية السوفياتي الأسبق فياتشيسلاف مولوتوف، ذهب إلى أبعد من ذلك في تصريحاته، إذ قال إن قصف هيروشيما وناغازاكي -مع أنه يبدو موجهًا إلى اليابان- كان في حقيقة الأمر موجهًا ضد الاتحاد السوفياتي بهدف إظهار القوة الأميركية وإرساء القواعد الجديدة لعالم ما بعد الحرب، وهو أمر تناوله أيضا المؤرخ غار ألبيروفيتز في كتابه الصادر عام 1965 بعنوان "الدبلوماسية الذرية"، مشيرا إلى أن قرار إلقاء القنبلة الذرية بهدف الإنهاء الفوري للحرب جاء لتجنب التدخل السوفياتي الواسع في منطقة الشرق الأقصى، كما حدث في دول أوروبا الوسطى والشرقية.

في مقاله سابق الذكر، استشهد الفيلسوف وعالم النفس الأميركي إريك فروم، بإحدى روائع الشاعر اليوناني القديم سوفوكليس، وهي مسرحية "أنتيغون" التي أعاد المؤلف والمخرج برتولد بريشت كتابتها عام 1945، وفيها واجهت ابنة الملك أوديب أزمة أخلاقية حادة، تمثلت في الحكم الذي أصدره الملك كريون في حق أخيها الميت، آمرًا بألا يدفنه أو يبكيه أحد، وأن يُترك فوق التراب لتأكل جثمانه الطيور الجارحة وتنهشه الكلاب.

هذا الحكم غير الإنساني جعل أنتيغون طوال الأحداث ممزقة في اختيار قاس بين الانصياع للسلطة العليا -التي يمثلها "صوت الملك"- من أجل إنقاذ نفسها، أو الاستماع إلى صوت ضميرها ومواجهة مصيرها المحتوم بشجاعة. فما كان من ابنة أوديب إلا أن ذهبت لتنثر التراب فوق جثة أخيها، ضاربة بأوامر الملك عرض الحائط، فقدمت بذلك نموذجا للتمرد على الحاكم، والانتصار للمبادئ الإنسانية وصوت الضمير.

هذه المعضلة تتقاطع مع الطريقة التي برر بها الطيار الأميركي بول تيبيتس سلوكه أثناء الحرب، فقد صرح غير مرة أن قضية أخلاقية القنبلة الذرية من عدمها لا تعنيه، مبررًا ذلك بأنه لم يكن الشخص الذي صنع القنبلة أو أمر بإسقاطها، بل كان مجرد فرد يطيع الأوامر، وهو ما يلقي الضوء على الطريقة التي رأى بها تيبيتس نفسه باعتباره أداة في يد السلطة، ويثير العديد من التساؤلات حول النقطة التي ينبغي عندها التوقف عن "طاعة رمز السلطة"، والانتصار بدلا من ذلك للأخلاق وقانون الضمير الإنساني.

 قسّم فروم الطاعة إلى نوعين: طاعة ذاتية (Autonomous Obedience)، تتجلى عندما يطيع المرء قانونًا أخلاقيا نابعًا من داخله، وطاعة أخرى موجهة من قبل سلطة خارجية تعمل على تجريد الفرد من استقلاليته بهدف التحكم به وتوجيه سلوكياته نتيجة للخوف أو الضغوط الخارجية.

وبالمثل، تباين مفهوم الضمير عند فروم، بين "الضمير الإنساني" الذي يعبّر عن الحدس الفطري ويجعل الإنسان قادرًا على التمييز بين الأفعال التي تتوافق مع القيم الإنسانية وتلك التي تناقضها، وبين "الضمير السلطوي" الذي يتماهى فيه الصوت الداخلي للإنسان مع صوت السلطة العليا التي يتوق إلى إرضائها ويخشى عقابها.

وفي بعض الحالات، تختلط تلك الأصوات داخل الوعي البشري، فلا يعود الإنسان قادرًا على التمييز بشكلٍ واعٍ بين ضميره الإنساني وصوت السلطة الخارجية.

على نحو مشابه، فسّرت باحثة الأنثروبولوجيا تين مولينديك، المتخصصة في دراسة تأثير البيئة الحربية والعسكرية على السلوك، هذا النهج المتبع في التنصل من المسؤولية بإلقاء العبء الأخلاقي على السلطة؛ بأنه أحد الطرق المتبعة في التأقلم لدى الجنود المحاربين، حيث يتبرؤون بهذه الطريقة من سلوكياتهم خلال الحرب بدعوى أنهم مجرد أدوات في يد السلطة ويتبعون التعليمات، وبالتالي فمن وجهة نظرهم لا يمكن تحميلهم مسؤولية أفعالهم، بل ويؤمن أغلبهم بأن تجاهل نداءاتهم الداخلية والانصياع لتعليمات الرؤساء جزءٌ لا يتجزأ من واجبهم العسكري.

وفي ورقة بحثية نشرتها مولينديك عام 2023، استخدمت مصطلح "الإصابة الأخلاقية" أو "الجرح الأخلاقي"، الذي صاغه الطبيب النفسي الأميركي جوناثان شاي عام 1994، وذلك لتفسير الضرر النفسي الناجم عن ارتكاب الجنود أفعالا تنتهك القيم الأخلاقية ومعتقدات الفرد، خاصة في أوقات الحروب التي يضطر فيها الجنود العسكريون للتصرف بطريقة تتناقض مع القيم الإنسانية أو "الضمير الأخلاقي".

أبرزت الباحثة الدور المحوري الذي يلعبه التدريب العسكري في تخفيف الموانع الأخلاقية للقتل، من خلال تعزيز مفاهيم مثل طاعة أوامر رمز السلطة، وتقديم المصلحة الجماعية على المصلحة الفردية، مشيرة إلى أن الجنود العسكريين عادة ما يلجؤون إلى اتباع استراتيجيات خاصة للتأقلم بهدف تخفيف حدة المعضلات الأخلاقية التي يواجهونها في ساحة المعركة.

ومن ضمن هذه الاستراتيجيات، تجاهل مشاعرهم الداخلية، وتجنب التفكير في الضحية أو التعاطف معها، بل واعتبر أغلبهم أن الانفصال العاطفي والأخلاقي جزء من صميم عملهم العسكري ودليل على الاحتراف وحسن السلوك، وهو ما يفسر طريقة تفاخر بول تيبيتس بعدم الشعور بالندم، بل والقدرة على النوم براحة نفسية، مبررًا ذلك بقوله "لقد تعودت عندما أقرّر عدم التفكير في شيء، أن أمحوه من ذهني".

كانت طبيعة شخصية تيبيتس مسار جدل بين العديد من الباحثين والكتاب، فبينما اعتبره البعض شخصًا قاسيًا ومتحفظا وعنيدًا، رفض بتعنتٍ واضح الفرص العديدة التي منحت له عبر السنين لإظهار إنسانيته، يُرجح آخرون أنه تعلم كيف يخفي شعوره بالندم. يقول عنه أستاذ التاريخ ومدير معهد الدراسات النووية بالجامعة الأميركية، بيتر كوزنيك، إنه لا أحد يجزم -بالتحديد- هل كان شخصًا بارد المشاعر حقًا، أم أنه احترف إخفاء صراعاته الداخلية حتى لا يشعر بالندم.

 

في عام 1985، كتب الصحفي الأميركي ديفيد رمنيك، مقالا عن تيبيتس نشرته صحيفة "واشنطن بوست" بعنوان "هيروشيما بلا ندم"، ذكر فيه أن طيار هيروشيما رغم مرور 40 عامًا على الواقعة ما زال يرد على الانتقادات التي توجّه له بجملة واحدة: "لم أشعر بالذنب، لم أتردد لحظة واحدة، لقد أدت القنبلة مهمتها وأنهت الحرب".

وفي عام 1989، عندما ظهر بول تيبيتس في فيلم وثائقي شارك في إنتاجه بالتعاون مع دار نشر أميركية متخصصة في مجال الطيران، تحت عنوان "تأملات حول هيروشيما"، سأله المذيع توم رايان عما إذا كانت نظرته للقنبلة الذرية والحرب قد تغيرت بمرور السنين، أجاب تيبيتس برد قاطع أنه ظل طوال حياته فخورًا بإنجازاته.

تشبث تيبيتس إذن بسرديته المقتضبة عن قصة الحرب، حتى بعدما تكشفت الحقائق التاريخية بمرور الوقت وأثبتت الأدلة أن إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي لم يكن ضروريًا لإنهائها. وقد وصف مؤلفا كتاب "هيروشيما في أميركا.. 50 عاما من الإنكار" الذي نشر عام 1995، الطبيب النفسي روبرت جاي ليفتون، والصحفي غريغ ميتشل، هذا السلوك بأنه نوع من "التخدير النفسي"، وقالا إن رفض تيبيتس الاعتراف بالندم لا ينمّ إلا عن محاولاته الجاهدة لدرء مشاعر الذنب، نتيجة إحساسه بضرورة التغلب على مشاعره وعدم التعاطف مع ما يحدث على الأرض.

بالعودة إلى باحثة الأنثروبولوجيا، تقدم مولينديك مقاربة أخرى تدور حول "التبرير العقلاني لفعل القتل"، قائلة إن أغلب المحاربين عادة ما يميلون إلى اختلاق مبررات تعمل على إضفاء الطابع الأخلاقي على أفعالهم، وذلك حتى لا تهتز صورتهم الخاصة عن أنفسهم كأشخاص أخلاقيين.

 وتخلص في دراستها إلى أن العسكريين حين يصطدمون بموقف أخلاقي معقد يعمل على إثارة الصراعات الداخلية في أعماق نفوسهم، عادة ما يلجؤون إلى استراتيجية هروب، يقسمون خلالها ذواتهم إلى أجزاء منفصلة لكلٍ منها سياقها الخاص، ويعملون على تفعيل هذه الهُويات المتنافرة وفقًا للظروف وما تقتضيه الحاجة، إذ توفر لهم استراتيجيات مثل الإنكار والاستخدام المرن للتبريرات؛ وسيلة فعالة للتحايل على أنفسهم ومواجهة المعضلات الأخلاقية العصية على الحل.

طوال حياته، لم يشكك تيبيتس -ولو للحظة واحدة- في معتقداته، بل كان مؤمنًا بأن الأمم المتحاربة ستستخدم أي أسلحة تمتلكها، وأن المرء يدخل الحرب للفوز بها بأي وسيلة، لذا عليه أن ينحّي مسألة الأخلاق جانبًا، وقد قال صراحةً إنه لو وُضع في نفس الظروف مرة ثانية، لفعلَ الأمر ذاته.

وذهب إلى أبعد من ذلك برفضه نزع الأسلحة النووية بشكلٍ قاطع حتى لو تكلف الأمر إراقة الدماء، مبررًا ذلك بأن الولايات المتحدة عليها أن تحافظ على تفوقها النووي الذي يشكل ضمانة رئيسية من أجل الردع وعدم الاضطرار إلى خوض حرب كبرى واسعة.

ربما كانت تصريحات تيبيتس القاسية هذه، هي ما جعله يخشى الدفن في مقبرة عامة، فقبل وفاته بعامين، صرح بأنه لا يريد شاهدا على قبره أو أي شكل من أشكال التكريم في مكان دفنه، بل أراد أن تحرق جثته وينثر رمادها في مياه "القناة الإنجليزية"، وهي المكان الذي أحب الطيران فيه، وذلك خشية أن يصبح شاهد قبره نقطة تجمع للنشطاء من معارضي استخدام الأسلحة النووية، أو مكانا للاحتجاج والتظاهر.

 وبالفعل، عندما توفي الطيار الأميركي بول تيبيتس يوم 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2007 عن عمر يناهز 92 عامًا، امتثلت العائلة لوصيته، لينتهي الحال بطيار هيروشيما بلا قبر، تماما كما اختار أن يعيش حياته الطويلة بلا ندم.

 

وكالات

مقالات مشابهة

  • بالأرقام.. عدد الصواريخ التي أطلقتها البحرية الأمريكية للدفاع عن إسرائيل من الهجمات اليمنية
  • خلال زيارته للمملكة المتحدة.. جيه دي فانس: أمريكا لا تعتزم الاعتراف بالدولة الفلسطينية
  • ما الذي في المنطقة ؟
  • أمريكا… إمبراطورية النار .. من هيروشيما إلى غزة
  • تفاصيل حول روزبه وادي الذي أعدمته إيران بتهمة التجسس لصالح الموساد
  • ماذا نعلم عن الرقيب الذي أطلق النار على خمسة جنود في قاعدة فورت ستيوارت الأمريكية؟
  • طيار هيروشيما الذي لم يندم.. كيف تقتل 140 ألف إنسان بلا رحمة؟
  • أمريكا التي عرفناها.. تنسرب من أيدينا
  • شاهد| بي إم دبليو سبيد توب التي بيعت جميع نسخها قبل إنتاجها
  • الصحة الأمريكية تُصلح نظام زراعة الأعضاء الذي خان أمريكا.. كيف؟