الجزيرة:
2025-10-12@17:34:30 GMT

ماذا يعرف الإنترنت عنّا؟

تاريخ النشر: 26th, June 2025 GMT

ماذا يعرف الإنترنت عنّا؟

مَر الإنترنت بمراحل عدة، حتى وصل إلى ما نعرفه عنه اليوم، إذ بدأ غريبا لا يستخدمه إلا قلّة من المهمشين ومهووسي التقنية، حتى أصبح اليوم ضرورة وأساسا من أساسيات الحياة، وفق تقارير عدة صادرة من الأمم المتحدة والهيئات العالمية.

ولا يمكن القول بأي حال من الأحوال، إن الإنترنت هو ثوب أبيض لا دنس فيه، إذ شابه العديد من النقاط السوداء في تاريخه، وربما كان أكثرها سوادا هو جمع المعلومات عن مستخدميه وتسجيلها من أجل مشاركتها مَن يدفع أكثر.

يستطيع الإنترنت تخزين كل البيانات التي يمكنك أن تتخيلها أو لا تتخيلها عن حياة المستخدم الذي يعتمد عليه، لذلك يمكن الإجابة عن سؤال، ماذا يعرف الإنترنت عنك؟ بشكل مختصر للغاية، فالإنترنت يعرف كل شيء عنك، بما فيها أشياء قد لا تعرفها نفسك، ولكن كيف هذا؟

لماذا يجمع الإنترنت هذه البيانات؟

قبل الحديث عن آلية جمع الإنترنت البيانات، يجب أن نعرف لماذا تجمع هذه البيانات، ومن يقوم بجمعها، فرغم أنها تجمع من الإنترنت، إلا أن دوره لا يتعدى مجرد أداة نقل وجمع للبيانات والوصول إلى المستخدمين في مختلف بقاع العالم.

لذا فإن من يقوم بجمع هذه البيانات في العادة تكون الشركات الكبيرة أو شركات البيانات العميقة، وهي شركات تعمل في تجارة البيانات أساسا، إما في جمعها وتحليلها أو بيع نتائجها للشركات الأخرى حتى يتم استخدامها في التسويق وأشياء أخرى.

البيانات التي تجمع من الإنترنت تستخدم عادة في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي (شترستوك)

ومع انتشار مثل هذه الشركات التي تعمل في جمع البيانات وتحليلها، ظهر مفهوم جديد وهو "البيانات العميقة" (Big data)، وهو مفهوم يشير إلى البيانات كبيرة الحجم التي يتم جمعها من المستخدمين عبر الإنترنت، ومن أجل دراسة هذه البيانات وتحليلها، ظهر علم البيانات وأصبح رائجا.

وتستخدم هذه البيانات في كثير من الأشياء، بدءا من تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي العامة والمخصصة لمختلف القطاعات، وحتى الترويج وتصميم المنتجات وبناء الحملات الإعلانية المخصصة للشركات كبيرة الحجم التي تستطيع تحمل تكلفة دراسة وتحليل هذه البيانات، وذلك من أجل تعزيز مبيعاتها وتحسين نتائجها.

إعلان

كما تعتبر هذه البيانات التي تجمع عبر الإنترنت السلعة الأهم في العصر الحالي، إذ تدفع الشركات مليارات الدولارات للوصول إليها وتحليلها تحليلا كاملا عبر خبرائها، وتعتبر مقولة، إن لم تجد سلعة فاعرف أنك أنت السلعة منطبقة تماما على عالم الإنترنت الذي يبدو مجانيا في ظاهره.

ما البيانات التي تجمعها الشركات عبر الإنترنت؟

يمكن الإجابة عن هذا السؤال بشكل مبسط، إذ إن الشركات تجمع كل البيانات التي يمكن الوصول إليها من الإنترنت مباشرة، سواء كانت هذه البيانات مفيدة في أعين عامة الشعب أم لا، فكل البيانات مفيدة في يد الشركات الصحيحة ويمكن بيعها بمقابل ملائم.

أحيانا تجمع البيانات بشكل غير قانوني (شترستوك)

وللإجابة بشكل مفصل، فإن الإنترنت يجمع بعض البيانات الأساسية مثل:

البيانات الشخصية الأساسية، مثل الاسم والبريد الإلكتروني ورقم الهاتف ومحل الإقامة والجنسية واللغة المستخدمة. بيانات أكثر تقدما، مثل عنوان الإقامة بدقة والفئة العمرية والانتماءات السياسية والاجتماعية والدينية وحتى الجنسية في بعض الأحيان. البيانات ذات الطبيعة الخاصة، وهي بيانات تكون مفيدة لمجموعة من الشركات بعينها، مثل نوع الجهاز أو الهاتف المستخدم لتصفح الإنترنت وسرعة الإنترنت ومزود الخدمة والتفضيلات الشخصية والمواقع التي تقوم بزيارتها بكثرة. بيانات ذات طبيعة تحليلية، ويشير هذا المفهوم إلى البيانات التي يمكن تحليلها بشكل واضح والحصول على معلومات مفيدة منها، مثل مدة بقائك في المواقع المختلفة وطريقة استخدامك لهذه المواقع وتفضيلاتك الشخصية وحتى المواقع التي تقوم بالشراء منها وآليات الدفع فيها. بيانات التجسس والتتبع، وهي بيانات تجمع بغرض التجسس ومطاردة المجرمين، وهي تجمع بمعرفة هيئات الحكومية القانونية أو الهجمات السيبرانية.

وتجمع هذه البيانات من جهات متعددة وليست جهة واحدة، ففي البداية، يوجد المكان الذي تحدث فيه هذه البيانات، مثل المواقع التي تقوم بزيارتها ومنصات التواصل الاجتماعي، ويعرف هذا باسم التتبع وجمع البيانات من شركات الطرف الأول، ويوجد أيضا الجمع والتتبع من شركات الطرف الثالث، وهي أدوات خارجية يتم تثبيتها في المواقع لتتمكن من تتبع المستخدمين الذين يصلون إلى هذه المواقع.

ولا يقتصر أمر البيانات المجموعة على المواقع التي تقوم باستخدامها وزيارتها، بل يمتد أيضا إلى شركات الهواتف المحمولة والحواسيب، إذ تجمع بيانات استخدامك لأجهزتها خاصة من أجل تحليل هذه البيانات وحل المشكلات المتعلقة بها.

كيف تجمع هذه البيانات؟

هناك طرقٌ عدة لجمع مثل هذه البيانات، بدءا من استخدام أدوات التتبع الخارجية والداخلية، مثل ملفات الارتباط والذاكرة العشوائية التي تعرف باسم "كوكيز" (Cookies) أو حتى بإدخال البيانات مباشرة داخل المواقع والتطبيقات المختلفة.

ولكن في جميع الحالات، تقوم جميع الجهات التي تجمع البيانات بسؤالك مباشرة عن موقفك من جمع البيانات، وتجبرك بشكل ما على الموافقة على جمع بياناتك حتى تتمكن من الاستفادة من خدمات هذا الموقع أو الأداة.

هل يمكنني إيقاف جمع هذه البيانات؟

الإجابة المختصرة عن هذا السؤال هي نعم، يمكنك إيقاف جمع البيانات تماما ومنع المواقع والأدوات الخارجية من تتبع استخدامك للإنترنت، وربما كان ما فعله إدوارد سنودن الخبير السيبراني مثالا حيا على ذلك.

إعلان

ولكن يأتي هذا التوقف على حساب خسارة الخدمات التي تقدمها لك المواقع والابتعاد عن الإنترنت تماما، إذ يحتاج الإنترنت والمواقع المختلفة لجمع البيانات عن المستخدمين حتى يعملوا جيدا.

متصفح "تور" مخصص لتصفح "دارك ويب" ويستخدم للتخفي على الإنترنت 2ثي3ر4ق (شترستوك)

ولا يعني هذا غياب الطرق التي تقلل من البيانات المجموعة، وذلك سواء كان باستخدام أدوات الاتصال الآمن أو تطبيقات "في بي إن" أو متصفحات الإنترنت المظلم مثل "تور" (Tor) وغيره.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن وضع التخفي للمتصفحات المعتادة مثل "كروم" لا يخفي كثيرا من البيانات والمعلومات التي تتم بجلسات التصفح منه.

4 خطوات سهلة لحماية البيانات عبر الإنترنت

توجد العديد من الطرق المتقدمة والاحترافية لحماية البيانات الخاصة بالمستخدمين عبر الإنترنت، ولكنّ كثيرا منها يتطلب خبرة تقنية، ولا يعني غياب الطرق سهلة التطبيق والاستخدام لحماية البيانات عبر الإنترنت، وفي ما يلي 4 خطوات سهلة لحماية البيانات عبر الإنترنت.

1- الاعتماد على تطبيقات "في بي إن" وشبكات الاتصال الآمنة

تمثل تطبيقات "في بي إن" وشبكات الاتصال الآمنة خيارا مثاليا لتأمين الاتصال بشبكات الإنترنت والحماية من المتطفلين على الأقل، الذين يمكن لهم التنصت واختراق شبكات الاتصال بالإنترنت، كما يمكن الاعتماد على أجهزة الاتصال الآمنة، سواء كانت موجهات إنترنت "راوتر" (Router) رائدة أم حتى أجهزة تأمين متخصصة.

ويمكن أيضا شراء عناوين الإنترنت الوهمية من أجل حماية عنوان "آي بي" الأساسي للمستخدم، وهي خطوة احترافية تطلب القدرة على تثبيت التطبيقات اللازمة لها.

2- استخدام عناوين البريد الإلكتروني الوهمية

في بعض الأحيان تطلب المواقع عناوين بريد إلكتروني من أجل توفير خدماتها، وقد لا يرغب المستخدم في مشاركة بياناته الحقيقية وعنوان البريد الإلكتروني الحقيقي له.

لذلك ولدت فكرة عناوين البريد الإلكتروني الوهمية والمواقع المسؤولة عن توليدها، وهي مواقع تعمل على منحك عناوين بريد إلكتروني وهمية جاهزة للاستخدام، وهو عنوان يقوم بحذف الرسائل التي تصله مباشرةً ولا يمكن تتبعه لصاحب العنوان الأساسي.

تعتمد فكرة البريد الإلكتروني الوهمية على توليد عناوين بريد إلكتروني غير مرتبطة بالعنوان الرئيسي للمستخدم (شترستوك)

وتوجد العديد من الخدمات المختلفة التي توفر هذه الميزة، منهم اشتراك "آبل" الذي يفعل خاصية "هايد ماي إيميل" (Hide My Email) وموقع "مؤقت" العربي لتوليد عناوين البريد الإلكتروني الوهمية.

3- استخدام متصفحات الإنترنت الآمنة

توجد العديد من متصفحات الإنترنت المتاحة حاليا والتي تعد أكثر أمنًا من غيرها، وفي مقدمتها يأتي متصفح "بريف" (Brave) ويليه متصفح "داك داك غو" (Duck Duck Go).

محرك البحث "داك داك غو" يحافظ على الخصوصية (الجزيرة)

ويمكن أيضا التوجه إلى المتصفحات الاحترافية والتي تعزز الخصوصية مثل "تور" المخصص لتصفح مواقع الإنترنت المظلم، ولكن من الواجب التحذير من مثل هذه المتصفحات المخصصة للمواقع "دارك ويب" (Dark Web)، كونها تمثل خطرا على الحاسوب عموما.

4- استخدام الخدمات ذات الخصوصية المعززة

انتشرت أخيرا مجموعة من البدائل للخدمات الشهيرة تسعى إلى الحفاظ على خصوصية المستخدمين وتأمينهم قدر الإمكان، ومنها محرك بحث "داك داك غو" الذي يعزز الخصوصية، وكذلك خدمة البريد الإلكتروني المقدمة من المنصة نفسها.

 

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات جمع هذه البیانات لحمایة البیانات البیانات التی جمع البیانات عبر الإنترنت العدید من التی تجمع من أجل

إقرأ أيضاً:

ما السبب في موجة الشعبوية العالمية؟

ترجمة - أحمد شافعي

إنه الإنترنت أيها الغبي

منذ عام 2016 حينما صوتت بريطانيا على البريكست وانتُخب ترامب رئيسا، يحاول علماء الاجتماع والصحفيون والخبراء وكل الأطياف تقريبا تفسير صعود الشعبوية العالمية. وثمة قائمة معيارية بالأسباب:

1 - التفاوت الاقتصادي الذي سبَّبته العولمة والسياسات النيولبرالية.

2 - نزعات العنصرية، والمحلية، والتعصب الديني من جانب الشعوب التي فقدت مكانتها.

3 - التغيرات الاجتماعية الواسعة التي صنَّفت الناس حسب التعليم والسكن، والاستياء من هيمنة النخب والخبراء.

4 - المواهب الخاصة لأفراد ديماجوجيين من أمثال دونالد ترامب.

5 - إخفاقات الأحزاب السياسية الأساسية وعجزها عن تحقيق النمو والوظائف والأمن والبنية الأساسية.

6 - مقت أو كراهية أجندة اليسار الثقافية التقدمية.

7 - فشل زعامة اليسار التقدمي.

8 - طبيعة البشر وميلهم إلى العنف والكراهية والإقصاء.

9 - وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت.

وقد أسهمت شخصيا في هذا التراكم، وأشرت -شأن الجميع- إلى السبب رقم 9، أي وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، بوصفه من جملة العوامل المشاركة. غير أنني بعد تأمل هذه الأسئلة لقرابة عقد من الزمن، وصلت إلى نتيجة مفادها أن التكنولوجيا بعامة، والإنترنت على وجه الخصوص، هي التفسير الأبرز لنشأة الشعبوية العالمية في هذه الفترة التاريخية المعينة، واتخاذها الشكل الذي اتخذته.

ولقد توصلت إلى هذه النتيجة عبر عملية الاستبعاد. من الواضح أن جميع العوامل المذكورة في ما سبق قد لعبت دورا ما في صعود الشعبوية العالمية. غير أن الشعبوية ظاهرة عديدة الأوجه، فبعض العوامل المعينة تكون أقوى في تفسير جوانب معينة من الظاهرة، أو في تفسير تجلي الشعبوية على نحو أقوى في بلاد معينة دون أخرى. فعلى سبيل المثال، في حين أن الاستياء العنصري يلعب بوضوح دورا مهما في أمريكا، فهو ليس كذلك في بولندا التي تعد من أكثر المجتمعات تجانسا عرقيا في العالم. وبرغم ذلك وصل حزب القانون والعدالة الشعبوي إلى السلطة هناك قبل ثماني سنوات.

فلنستعرض معا أوجه الضعف في التفسيرات من رقم 1 إلى رقم 8.

السبب (1): من المؤكد أن تنامي الفوارق الاقتصادية كان دافعا قويا لاتجاه أصوات الطبقة العاملة إلى الأحزاب الشعبوية وأمثال دونالد ترامب. غير أن قرابة نصف الأمريكيين صوتوا لترامب في وقت كان فيه التوظيف وإجمالي النمو عاليين نسبيا. فلم نكن في غمار كساد، مثلما كان الحال في عام 1933 عند انتخاب فرانكلين روزفلت وكان معدل البطالة قرابة 25%. وفي حين أن الضغوط الاقتصادية الناجمة عن التضخم قد دفعت يقينا الكثير من الأمريكيين إلى التصويت لترامب في عام 2024، فقد كان التضخم أعلى كثيرا وأشد إلحاحا في سبعينيات القرن العشرين.

السبب (2): فكرة أن دافع الشعوبية يتمثل في غضبة بيضاء محلية فكرة معقولة. في حين أن بلادا من قبيل بولندا والمجر تفتقر إلى تاريخ أمريكا العرقي المأزوم، يمكن أن يذهب المرء إلى أن الخوف من الهجرة وضعف سلطة الجماعات العرقية المهيمنة في البلدين كان دافع قويا للدعم الشعبوي. لكن حتى في أمريكا، ليست المخاوف العرقية غير جزء من القصة. وفي حين أن ترامب يتلقى دعما من جماعات وشخصيات عنصرية سافرة مثل براود بويز ونيك فيونتس، فقد قرر كثير من غير البيض ومنهم الأفروأمريكيون واللاتينيون والآسيويون أن يصوتوا له في عامي 2020 و2024. والحق أن ترامب نجح في ما نجح فيه الديمقراطيون ذات يوم، وهو تكوين تحالف عديد الأعراق من الطبقة العاملة.

السبب (3): تتكرر في الكثير من دول العالم عملية التصنيف الواسع التي أصبح بها الحزب الديمقراطي حزب المهنيين المتعلمين المقيمين في المدن الكبيرة، في حين أن ناخبي الجمهوريين أقل تعليما وأكثر ريفية. لكن هذا التصنيف على الأرجح أثر لتغير اجتماعي عميق أكثر من كونه عاملا دافعا إلى ذلك التغير. فالأمريكيون لم يقرروا الانتقال إلى الريف لأنهم محافظون، وإنما كان في أوضاع المناطق الريفية أمر ما بالمقارنة مع المناطق الحضرية هو الذي يولد وجهات نظر سياسية مختلفة.

السبب (4): لا أحد ينكر ما لدى دونالد ترامب من مواهب خاصة، وبرغم أن له مقلدين كثيرين فإن قليلا منهم هم الذين أظهروا قدرات ديماجوجية كالتي لديه. لكن حركة (ماجا) التي أطلقها نجحت في الاستيلاء بشكل شبه كامل على أحد حزبي أمريكا الكبيرين، وذلك أمر لم يحدث قط بإرادة رجل واحد فحسب. ولقد استوجب الولاء لترامب من كثير من الجمهوريين أن يتخلوا عن قناعات راسخة في أمور كانت سمة فارقة لهم من قبيل حرية التجارة والأممية. وحدوث هذا التحول لهم هو الظاهرة التي تحتاج إلى تفسير.

السبب (5): فشل الساسة الديمقراطيين في حل أو حتى تناول مشكلات النظام العام، والتشرد، وتعاطي المخدرات، والبنية الأساسية، والإسكان، ومن الواضح أن ذلك كان مهما لكثير من الناخبين الوسطيين والمستقلين. وكان هذا عاملا كبيرا في كثير من السباقات الانتخابية التمهيدية، حيث سجلت الولايات والمدن الزرقاء -أي الديمقراطية- سجلات حكم متواضعة. لكن بصراحة، ليس الحكم الرديء بغريب على الساسة ذوي التوجه اليساري منذ بعض الوقت (وتذكروا مدينة نيويورك في ظل حكم آبي بيم وديفيد درنكنز). وقد يذهب المرء إلى أن التبعات الاجتماعية للوباء أثارت وعيا خاصا بهذه العيوب، لكن الترامبية كانت موجودة قبل 2020 بكثير.

السبب (6) و(7): المقت الشديد لقضايا ثقافية ذات طابع يساري من قبيل (التنوع والمساواة والاحتواء-DEI)، والفعل الإيجابي، والصوابية السياسية، وسياسات المثلية، والهجرة، وضعف قيادة الجمهوريين، وهي جميعا مترابطة بوضوح. ولقد كان من سوء تقدير الساسة الديمقراطيين أنهم سمحوا بأن تتحدد هوية الحزب من خلال هذه العوامل الثقافية، لا من خلال إبراز مواقف واضحة في القضايا الثقافية التي لها جاذبية أعم. غير أن مشكلة رؤية القضايا الثقافية باعتبارها قضايا مركزية بالنسبة لصعود الشعبوية هي أنها قائمة منذ وقت طويل. فالنسوية والاختلالات الاجتماعية من قبيل إدمان المخدرات والتفكك الأسري ترجع إلى أواخر الستينيات، أما سياسات الهوية فبدأت في السبعينيات والثمانينيات. وهذه الحركات الاجتماعية أثارت ردود فعل عنيفة وأسهمت في انتخاب رؤساء محافظين من أمثال نيكسن وريجان. غير أنها لم تطلق نوعية ردود الأفعال العنيفة التي نراها في عشرينيات القرن الحالي.

السبب (8): الطبيعة البشرية، مثلما قال مؤخرا بيل جالستن في كتابه الجديد «الغضب والخوف والسيطرة: المشاعر السوداء وقوة الخطاب السياسي»، وقد احتفى جوناثان راوخ بذلك في استعراضه للكتاب. يذهب جالستن إلى أن الاستقطاب والتحزب القبيحين طالما كانا جزءا من السياسة البشرية، وأن اللباقة الليبرالية التي تمتعت بها الديمقراطيات المعاصرة في العقود الأخيرة هي الشذوذ الذي يحتاج إلى تفسير، وما هي بطبع في الوجود البشري.

تكمن مشكلة تفسير ظاهرة اجتماعية انطلاقا من الطبيعة البشرية في هذا السؤال: «ولماذا الآن؟». فمن المفترض أن الطبيعة البشرية ثابتة على مدار التاريخ البشري، ومن ثم فهي لا تفسر تحول سلوك البشر فجأة هذا التحول القبيح في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. لا بد أن طبيعة البشر الدائمة تتفاعل مع ظاهرة أخرى مؤقتة وأكثر ارتباطا بالزمن. وعلى أي حال، يذهب ستيفن بينكر وآخرون إلى أن السلوك البشري ينزع إلى تضاؤل العنف بمرور الزمن، وثمة قدر كبير من الأدلة التجريبية لدعمه في هذا. ويصعب القول إن هذا اللون من التطرف السياسي الذي نشهده في السنين الأخيرة في الولايات المتحد أسوأ من حالات أخرى من الانهيار المجتمعي. أم أنكم نسيتم النازيين؟

أي تفسير مرض لصعود الشعبوية يجب أن يتناول مسألة التوقيت، أي السبب الذي جعل الشعبوية تصعد بصفة عامة في كثير من البلاد المختلفة في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وترتكز حيرتي حول حقيقة أن الأوضاع الاجتماعية والثقافية في الولايات المتحدة وأوروبا، وفقا لأي معيار موضوعي، كانت جيدة للغاية خلال العقد الماضي. بل إن من الصعب القول إنها بلغت مثل هذه الجودة في نقاط كثيرة أخرى من التاريخ البشري. صحيح أننا واجهنا أزمات مالية وحروبا عصية على الحل، وصحيح أننا تعرضنا لتضخم وتفاوت اقتصادي متزايد، وصحيح أننا واجهنا تصديرا للوظائف وفقدانا لها، وصحيح أن قيادتنا كانت ضعيفة وأن تغيرات اجتماعية سريعة قد وقعت لنا، لكن المجتمعات المتقدمة مرت في القرن العشرين بكل هذه الظروف، وبأشكال أسوأ كثيرا من السنوات الأخيرة -من التضخم المفرط، ومستويات البطالة المرتفعة للغاية، والهجرة الجماعية، والاضطرابات المدنية، والعنف المحلي والدولي. ومع ذلك، وفقا للشعبويين المعاصرين، لم تكن الأمور أسوأ قط مما هي الآن، فالجريمة والهجرة والتضخم خارجة تماما عن السيطرة، وتغير المجتمع فلا يمكن التعرف عليه، بل إلى حد أنه «لن يبقى لكم بلد أصلا» بتعبير ترامب. فكيف يمكن تفسير حركة سياسية قائمة على تأكيدات بعيدة أشد البعد عن الواقع؟

مثلما كتبت في مقالة أخيرة، تختلف الحركة الشعبوية الراهنة عن تجليات سابقة للسياسات اليمينية في أنها لا تتحدد بأيديولوجية اقتصادية أو سياسية واضحة، وإنما يحددها تفكير تآمري. وجوهر الشعبوية المعاصرة هو الإيمان بأن الأدلة الواقعية المحيطة بنا مزورة، ويجري التلاعب بها من خلال نخب خفية هي التي تحرك الخيوط من وراء الستار.

ولطالما كانت نظريات المؤامرة جزءا من السياسات اليمينية في الولايات المتحدة. لكن المؤامرات اليوم شديدة الغرابة من قبيل اعتقاد (كيو آنون) أن الديمقراطيين يديرون أنفاقا سرية أسفل العاصمة واشنطن ويشربون دماء الأطفال. وقد ينتقد المتعلمون سياسات ترامب التجارية أكثر مما ينتقدون صلاته بجيفري إبستين، ومع ذلك فقد كان الأخير هو الذي لاحقه بلا هوادة على مدى شهور (برغم أن لدينا هنا مؤامرة فعلية للتغطية على هذه الصلة).

وهذا ما يمضي بي إلى الاعتقاد بأن السبب (9)، أي صعود الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، هو العامل الواحد الذي يبرز على ما سواه بوصفه التفسير الأساسي لمشكلاتنا المعاصرة. بصفة عامة، أزاحت الإنترنت الوسطاء، والإعلام التقليدي، والناشرين، وشبكات الإذاعة والتلفزيون، والجرائد، والمجلات، وغير ذلك من القنوات التي كان الناس يتلقون بها المعلومات في حقب سابقة. وقديما في تسعينيات القرن الماضي، حينما تمت خصخصة الإنترنت للمرة الأولى، قوبل الأمر باحتفاء: لقد صار بوسع أي شخص أن يكون ناشر نفسه، يقول ما يعن له عبر الإنترنت. وذلك بالضبط ما فعله الناس، واختفت المرشحات التي سبق أن كانت موجودة للتحكم في جودة المعلومات. وكان هذا سببا ونتيجة لفقدان عام في الثقة في جميع أنواع المؤسسات التي قامت في تلك الفترة.

أوجد الانتقال إلى الإنترنت عالما موازيا له علاقة ما بالعالم المعيش ماديا، لكنه في حالات أخرى يمكن أن يوجد بشكل مستقل تماما عنه. وفي حين كان إقرار «الحقيقة» يعتمد من قبل بشكل ما على مؤسسات من قبيل الصحف العلمية والإعلام التقليدي وفقا لمعايير المسؤولية الصحفية والمحاكم والكشف القانوني والمؤسسات التعليمية والمنظمات البحثية، بدأ معيار الحقيقة ينجرف إلى عدد الإعجابات والمشاركات التي يحصل عليها منشور معين. وجاء سعي المنصات التكنولوجية الكبرى إلى مصالحها التجارية الخاصة فخلق بيئة تكافئ التهييج والمحتوى الإثاري، وأخذت الخوارزميات توصي بهذا المحتوى، وذلك مرة أخرى لمصلحة تعظيم الأرباح، فساق ذلك الناس إلى مصادر ما كان يمكن أن تؤخذ بجدية في أزمنة سابقة. والأدهى من ذلك أن السرعة التي يمكن أن تتنقل بها الميمات والمحتوى منخفض الجودة تزايدت بشدة، وكذلك الوصول إلى أي معلومة معينة. ومن قبل، كان بوسع أي من كبرى الجرائد والمجلات أن تصل إلى مليون قارئ مثلا، وفي العادة يكون ذلك في نطاق منطقة جغرافية معينة، أما اليوم، فبوسع مؤثر واحد أن يصل إلى مئات الملايين من المتابعين دونما اعتبار للجغرافيا.

وأخيرا، مثلما أوضحت ريني ديرستا في كتابها «الحكّام الخفيون»، ثمة دينامية داخلية للنشر على الإنترنت تفسر صعود الرؤى والمواد المتطرفة. فالمؤثرون يندفعون بضغط من جماهيرهم إلى المحتوى الإثاري. وعملة الإنترنت هي لفت الأنظار، والمرء لا يلفت الأنظار بكونه متزنا أو متأملا أو مفيدا أو حكيما.

وليس أكثر إيضاحا لدور الإنترنت المركزي من انتشار الحركة المناهضة للقاح، وتعيين روبرت إف كينيدي الابن وزيرا للصحة والخدمات الإنسانية في إدارة ترامب. فتأكيدات كينيدي لمخاطر اللقاح ليست فقط خالية من الصحة، ولكنها خطيرة حقا، لأنها تقنع الآباء بألا يعطوا أبناءهم اللقاحات الكفيلة بإنقاذ حياتهم. ويصعب الربط بين معارضة اللقاحات وأي نوع من الأيديولوجيات المحافظة المتماسكة، والحق أن المحافظين في أوقات سابقة كان يمكن أن يرحبوا باختراع اللقاحات وما لها من فوائد. ولكن الإنترنت هو التي يسرت ما توسع إلى شبكات هائلة للمشككين في اللقاحات. وما كان لأي عدد من الدراسات العلمية التجريبية أن تغلب رغبة الكثير من الناس الراغبين في الاعتقاد بأن قوى شريرة في المجتمع الأمريكي تساند أمورا مضرة لهم خاصة وأنهم يرون تأكيدات وفيرة لرؤاهم هذه عبر الإنترنت.

تطرح ديريستا مثالا لكيفية إسهام الإنترنت في هذا الانتشار إسهاما مباشرا. ما من سبب وجيه لأن تنجذب أمهات اليوجا إلى (كيو آنون) والتفكير التآمري. غير أن معلما مرموقا لليوجا نصح أتباعه بالبحث عن الحقيقة لدى (كيو آنون). والتقط أحد خوارزميات الإنترنت هذا الرابط، وقرر فعليا أنه إذا كان هذا المؤثر المرتبط باليوجا قد آمن بـ(كيو آنون)، فلا بد أن يكون ممارسون آخرون لليوجا مؤمنين بنظرات مؤامرة أيضا، فبدأ يوصيهم بمحتوى تآمري. وذلك دأب الخوارزميات: فهي لا تفهم المعنى أو السياق، لكنها تسعى فقط إلى تعظيم لفت الأنظار بتوجيه الناس إلى محتوى شائع.

ثمة نوع آخر من محتوى الإنترنت يفسر الطبيعة الخاصة للسياسة اليوم، وهو ألعاب الفيديو. وقد تجلى هذا الربط في حالة الشاب تايلر روبنسن الذي يقال إنه أطلق الرصاص على تشارلي كيرك. واضح أن روبنسن تطرف من خلال الإنترنت. كان لاعبا ناشطا نقش صورة من ذلك العالم على غلاف الرصاصات التي استعملها. وصدق هذا أيضا على كثير من المشاركين في السادس من يناير الذين تناولوا «الحبة الحمراء» فتسنى لهم أن يروا تآمر القوى الرسمية على سرقة الانتخابات من دونالد ترامب. وعالم ألعاب الإنترنت هائل الحجم، ويدر عائدات من العالم كله تقدر بما يتراوح بين 280 و300 مليار دولار. وإذن فإن ظهور الإنترنت يمكن أن يفسر كلا من توقيت صعود الشعبوية، عن طابعها التآمري الغريب. ففي السياسة اليوم، لا يقتصر تنافس الاستقطاب الأمريكي الأحمر والأزرق على القيم والسياسات، وإنما يمتد إلى المعلومات نفسها، من قبيل من الذي فاز بانتخابات 2020 أو ما إذا كانت اللقاحات آمنة. ويعيش الفريقان في فضاءي معلومات مختلفين كل الاختلاف، وكلاهما يمكن أن يؤمن بأنه يخوض صراع وجود من أجل الديمقراطية الأمريكية لأنهما ينطلقان من فرضيات معلوماتية مختلفة بشأن طبيعة التهديدات الموجهة لهذا النظام.

ولا يعني هذا أن الأسباب من 1 إلى 8 عديمة الأهمية أو لا نفع لها في أن نفهم وضعنا الحالي. لكن صعود الإنترنت وحده، في رأيي، هو الذي يمكن أن يفسر كيف يمكن أن نكون في صراع وجود من أجل الديمقراطية الليبرالية في وقت تحقق فيه للديمقراطية الليبرالية نجاح لم يشهد التاريخ مثله قط.

مقالات مشابهة

  • مسؤول بحريني يشيد بالعلاقات الوثيقة التي تجمع بين بلاده ومصر
  • البريد السعودي ‏يحذر من الروابط المزيفة قبل إدخال البيانات أو الدفع
  • العربي: تكنولوجيا البيانات تقود تطوير الرعاية الجلدية التفاعلية
  • "عمانتل" تطلق منصة ذكاء اصطناعي للرد على استفسارات الموظفين والبحث في البيانات
  • حسن المستكاوي يهاجم أسامة نبيه: كلام غلط ومدرب لا يعرف الفرق بين اليابان ونيوزيلندا
  • متاح الآن.. كيفية إضافة المواليد على بطاقة التموين من خلال استمارة تحديث البيانات؟
  • خرجت من منزل ذويها ولم تَعُد.. هل من يعرف عنها شيئًا؟
  • بدء التسجيل في “جوي فوروم 2025”.. المنصة العالمية التي تجمع قادة الترفيه وأبرز المبدعين من حول العالم
  • Red Hat تدعو المؤسسات العربية لبناء ذكاء اصطناعي خاص لضمان الاستقلالية وحوكمة البيانات
  • ما السبب في موجة الشعبوية العالمية؟