بعد أكثر من نصف قرن من التحولات والصراعات، وصولًا إلى الأزمة العميقة التي تعصف بليبيا منذ أربعة عشر عامًا، بات واضحًا أن لا سبيل أمام الليبيين سوى التمسك بالمصالحة الوطنية الشاملة، قولًا وعملًا، كخيار حتمي لإنقاذ الوطن وبناء الدولة.

صحيح أنّ الظروف الراهنة والمعطيات على الأرض، إلى جانب تراكم السلبيات والتجاذبات السياسية والاجتماعية، تُعد من أكبر العقبات التي تعرقل هذا المسار، سواء بقصد بعض الأطراف أو نتيجة الجهل بمخاطر استمرار الانقسام.

لكن مع ذلك، تبقى المصالحة الخيار الأوحد لإنهاء حالة الانسداد وبداية عهد جديد.

إنَّ التعالي عن الجراح والألم، وتجاوز المطالب المؤجلة مهما بدت مُلحة، هو الخطوة الأولى نحو تحقيق هذا الهدف. فالمصالحة ليست تنازلًا عن الحقوق أو تفريطًا في التضحيات، بل هي اتفاق وطني جامع ينطلق من قناعة تامة بأن ليبيا تستحق السلام والاستقرار، وأن بناء الدولة لا يمكن أن يتم في ظل الخصام والاقتتال.

وبكل تأكيد، هناك شواذٌ يرفضون هذا النهج، ولابد من إيجاد حلول لهم، لأن غالبية الليبيين يميلون بطبعهم إلى التصالح والتسامح، ولم يعد هناك مجال للفشل. ولعل اليوم، باتت القناعة بالمصالحة شبه مكتملة لدى معظم الليبيين، رغم أن الجهود السابقة لم ترقَ إلى مستوى مشروع وطني حقيقي جامع.

إننا نعتقد أيضًا بأنه لم تُبذل مجهودات حقيقية وشاملة للمصالحة حتى اليوم، رغم بعض المحاولات المتفرقة، الأمر الذي يستدعي التحرك بروح وطنية خالصة لتجاوز هذه المرحلة الحرجة.

واقع الانقسام وجذوره

منذ 2011، شهدت ليبيا موجةً من الانقسام العميق، قتلًا وتهجيرًا، وسط أطراف رفعت شعار الدفاع عن الثورة واحتكرت السلاح والمال، بينما مارست الإقصاء ضد شركاء الوطن المختلفين معها في الرأي، باعتبارهم «مهزومين» يجب إقصاؤهم. هذا المشهد يعكس نزعةً ثأريةً متجذرة في الثقافة المحلية، تُعيد إلى الأذهان حروبًا قبلية مثل حرب البسوس، حيث تغلب روح الانتقام على منطق الدولة.

هكذا، تجاهلنا أن ليبيا وطنٌ للجميع، وأن الدولة هي البيت المشترك الذي يجب أن يحمي الجميع بعدل وقانون، لا أن تتحول إلى أداة للهيمنة والاستقواء. وبينما نلوم المستعمر الخارجي على انتهاك سيادتنا ونهب ثرواتنا، مارسنا مظالم داخلية لا تقل خطورة بحق أبناء وطننا.

أربعون عامًا من الحكم المركزي والهيمنة السياسية

وفي الحديث عن النظام السابق، يجدر الاعتراف بأن تلك الأربعين عامًا لم تكن صفحةً بيضاء بالكامل ولا سوداء بالكامل؛ فقد كانت حقبة شارك فيها معظم الليبيين بشكلٍ أو بآخر، ومرت بما لها وما عليها: شهدت فترات من الاستقرار النسبي وبعض المشاريع التنموية والعمرانية، لكنها في المقابل رسخت نظامًا مركزيًا وألغت التعددية السياسية ومؤسسات الدولة الحقيقية، وأبقت السلطة مركزة بيد قلة محدودة. لذلك، أصبح من الضروري اليوم ــ لأي مشروع وطني جديد ــ أن يقوم على إنهاء هذا النظام المركزي وبناء دولة مؤسسات تستند إلى القانون والعدالة.

الفرصة الضائعة وغياب المشروع الوطني

بعد أربعة عقود من الحكم المركزي، كان حلم التغيير مشروعًا تمامًا، وكانت أمام ليبيا فرصة تاريخية لتلحق بما فاتها، ليس اعتمادًا على النفط فقط، بل من خلال الاستثمار الأهم: بناء الإنسان الليبي. ذلك الإنسان الغني بالكفاءات والمؤهلات المنتشرة داخل الوطن وفي أنحاء العالم، والذي كان يمكن أن يقود نهضة حقيقية.

لكننا دخلنا سريعًا في دوامة الفوضى والصراع والفساد، طغت فيها النزعات القبلية والمصالح الضيقة على روح الوطن، ففقدنا جزءًا كبيرًا من السيادة الوطنية، وفتحنا الباب أمام تدخلات خارجية أعمق، بينما بقيت الطاقات والكفاءات الليبية المعطلة تنتظر الفرصة لإعادة بناء الوطن.

أسباب تعطيل المصالحة

أهم أسباب تعثر المصالحة الوطنية يكمن في:

الخوض في السياسة بجهل ودون وعي بسبب الصراع على الحكم والثروة.

وجود قلة قليلة تعرقل هذا المسار بدافع الخوف أو لأسباب نفسية، وهي مخاوف يمكن تجاوزها بالعدالة الانتقالية.

الاقتناع الخاطئ بأن القوة والسلاح هما الحل، رغم أن التجربة الطويلة أثبتت أن القتال لم يحقق سوى المزيد من الظلم والخسائر.

تجاهل التحديات والمطامع الخارجية التي تهدد وحدة ليبيا، وتجعل خلافاتنا الداخلية أقل شأنًا أمام خطر ضياع الوطن بأكمله.

تخلّي جزء منا عن دوره الفردي في المصالحة وفتح القلوب، ما أعطى فرصة لقلة تدفع نحو الانقسام لمصالحها الضيقة.

دور المؤسسة العسكرية: ضمانة للأمن ووحدة البلاد

في هذا المشهد المعقد، برز دور المؤسسة العسكرية الوطنية كركيزة أساسية لحماية الوطن وصون وحدة أراضيه. فقد نجحت في فترة زمنية وجيزة في إعادة بناء جيش منظم تمكن من بسط سيطرته على مناطق واسعة، وفي مقدمتها الجنوب الليبي بشرقه وغربه، الغني بمنابع النفط والغاز والثروات المعدنية والزراعية، والذي كان يواجه تهديدات إرهابية وتدخلات أجنبية، فضلًا عن نشاط عصابات التهريب والهجرة غير النظامية. وعلينا أن نسأل أنفسنا: لولا هذه الجهود، كيف كان سيكون مصير بقية التراب الليبي؟»
كما شملت هذه السيطرة المنطقة الوسطى وأجزاء كبيرة من الشرق، ما أعاد شيئًا من هيبة الدولة. والأهم أن هذه الجهود تتم في إطار اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، دعمًا للعملية السياسية والتقريب بين الأطراف، لتؤكد المؤسسة العسكرية أنها ليست طرفًا سياسيًا بل قوة وطنية هدفها حماية الوطن ومقدراته.
التحول الحقيقي: بناء الإنسان واستثمار الفرصة

التغيير أو الثورة ليست في جوهرها مجرد إسقاط نظام، بل هي تحول حقيقي يحتاج إلى مشروع وطني جديد. اليوم، تحتاج ليبيا إلى بناء إنسان حديث مؤمن بقيم الديمقراطية والدستور، ومتسلح بالوعي والسلوك والثقافة التي تؤسس لدولة القانون.

ليبيا استقلت قبل دول كثيرة سبقتها في التنمية، واليوم لا بد أن تستفيد من هذه الخبرة التاريخية لتلحق بما فاتها. رغم انتشار السلاح، هناك قواسم مشتركة توحّد الليبيين: الرغبة العامة في الحل، المبادرات الاجتماعية، الروابط القبلية التي يقدسها المجتمع الليبي، والمذهب الإسلامي الواحد الذي يشكّل مظلة جامعة. والأهم أن الليبيين في حقيقتهم لا يكرهون بعضهم البعض، بل يحتاجون فقط إلى أن يفهموا بعضهم البعض.

ولعلنا سنكتشف قريبًا، ونحن مجتمعون حول مائدة الوطن، أن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا، وأن الخطوة الأولى هي انتهاز الفرصة وتحويل الرغبة في الحل إلى إرادة وطنية عملية.

خيمة ليبيا تنتظركم.. لتمدوا أيديكم وتبنوها معًا

المصالحة الوطنية ليست شعارًا للاستهلاك أو رفاهًا سياسيًا، بل مشروع حقيقي ينقذ ليبيا من الانهيار ويؤسس لدولة قوية عادلة وآمنة. نجاحها يتطلب إرادة سياسية صادقة، وتنازلات شجاعة، ودورًا فاعلًا من كل فرد في المجتمع.

إن الاعتراف بأن ليبيا فقدت جزءًا من سيادتها هو الخطوة الأولى نحو الفهم الصحيح للأزمة، يليه إنهاء الإقصاء السياسي، ودعم المؤسسات الوطنية، لتصبح المصالحة حجر الأساس لبناء ليبيا الجديدة التي نحلم بها جميعًا: دولة القانون والعدالة والمؤسسات والسلام.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

المصدر: عين ليبيا

كلمات دلالية: المصالحة الوطنیة

إقرأ أيضاً:

وزير الدفاع للرئيس: ثورة 30 يونيو صححت مسار الوطن وأعادت بناء مستقبله

بعث الفريق أول عبد المجيد صقر القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربي برقية تهنئة للرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة بمناسبـة الاحتفال بالذكرى الثانية عشر لثورة الثلاثين من يونيو لعام 2025.

جاء فيها: “الرئيس عبد الفتاح السيسى رئيس الجمهورية - القائد الأعلى للقوات المسلحة يسعدنى أن أبعث إلى سيادتكم مهنئاً بذكرى ثورة الثلاثين من يونيو المجيدة التى قام بها جموع الشعب المصرى العظيم لتصحيح مسار الوطن وإعادة بناء حاضره ومستقبله فى يوم خالد من أيام الكبرياء الوطني.. لقد أكد الجيش المصرى بقيادتكم الحكيمة إنحيازه الكامل لإرادة الشعب المصرى بكل فئاته وطوائفه وتقدم رجاله الصفوف دفاعاً عن قدسية الوطن وسلامة أراضيه ولم يقبلوا إلا ما يحقق لمصرمصالحها القومية العليا والحياة الكريمة لشعبها العظيم".

وتابع: “مع الاحتفال بهذه المناسبة الوطنية الخالدة فإن رجال القوات المسلحة يجددون العهد على مواصلة دورهم فى الدفاع عن أمن مصر واستقرارها ، ماضين خلف قيادتكم الحكيمة بكل الكفاءة والإستعداد لتنفيذ ما يكلفون به من مهام ، متمسكين بالمبادئ والقيم العريقة التى تحفظ للأمة المصرية قوتها وتماسكها وشموخ إرادتها الوطنية.. حفظكم الله وسدد خطاكم لما فيه الخير والرخاء لمصر وشعبها الكريم، وكل عام وسيادتكم بخير".

كما بعث الفريق أحمد خليفة رئيس أركان حرب القوات المسلحة ببرقية تهنئة مماثلة لرئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة بهذه المناسبة.

طباعة شارك القوات المسلحة ثورة 30 يونيو 30 يونيو وزير الدفاع

مقالات مشابهة

  • المؤسسة الوطنية للنفط تؤكد حقوق ليبيا السيادية على موارد شرق المتوسط
  • الوطنية للنفط تتمسك بحقوق ليبيا السيادية في استكشاف الموارد الهيدروكربونية شرق المتوسط
  • وزير الدفاع للرئيس: ثورة 30 يونيو صححت مسار الوطن وأعادت بناء مستقبله
  • بمشاركة ليبيا.. البرلمان العربي يضع خارطة طريق لمواجهة الأزمات وتعزيز التكامل
  • ليبيا.. البعثة الأممية تؤكد التزامها بالتواصل مع الليبيين
  • الولايات المتحدة: ملتزمون بدعم السلام في السودان و ليبيا و منطقة الساحل
  • الأعلى للدولة: الهجرة النبوية تذكير بقيم الصبر والوحدة لبناء ليبيا الجديدة
  • «خارجية الحكومة الليبية» تشارك في منتدى ليبيا الدولي للتحول الرقمي
  • الجبهة الوطنية: 30 يونيو يوم استعادة الهوية الوطنية وتحية للرئيس السيسي