جريدة الرؤية العمانية:
2025-12-10@18:07:54 GMT

القدرة على التخطي

تاريخ النشر: 12th, July 2025 GMT

القدرة على التخطي

د. صالح بن ناصر القاسمي

 

يولد الإنسان ضعيفا، لا يقوى على شيء، يحتاج إلى من يرعاه ويقوم على أمره، ثم تمر السنوات، ويكبر الجسد والعقل، وتتشكل الشخصية، ليصبح كائنا قادرا على اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية، بل وتبدو عليه في بعض الأحيان قوة خارقة تجعله يبدو كالجبل، صلبا لا ينكسر.

غير أن هذه القوة قد تتحول عند البعض إلى صورة من الغلظة والقسوة، وهي وإن كانت موجودة، لكنها تظل استثناء، فالغالب على الناس أن فيهم قلوبا تنبض باللطف، وتفيض بالرحمة، وتعرف كيف تستوعب الآخرين، وتتجاوز الزلات، وتمضي دون أن تبحث في النيات أو تنبش في التفاصيل.

ولعل أعظم ما يميز هؤلاء الناس، هو أنهم يملكون نعمة نادرة تسمى القدرة على التخطي. حيث إنهم لا يحملون الأحقاد، لا يقفون طويلا عند المواقف المؤذية، بل يتجاوزونها بروح خفيفة، وكأنها غبار مر على قلوبهم ولم يترك أثرا.

ومع الأسف، بدأت هذه النماذج تتناقص في عصرنا، إذ أصبح الناس أكثر توترا، والقلوب أكثر ضيقا، وكثرت الضغوط، وتكاثرت المسؤوليات، وازدادت وسائل التواصل التي تنقل لكل إنسان مشاكل الناس وكأنها مشاكله، فجعلت منه إنسانا يضيق بالخطأ، ويغضب من الكلمة، ويستعيد كل موقف كأنه طعنة، حتى نسي أن التسامح راحة، وأن التغاضي حكمة.

وللتخطي وجهان، أحدهما بسيط والآخر عميق. أما البسيط فهو ذلك الذي نمارسه كل يوم، نواجه مواقف بسيطة أو كلمات عابرة، وقد تضايقنا، لكنها تمر، نبتلعها ونكمل يومنا.

وأما الوجه العميق، فهو الأشد صعوبة، وهو ما يتعلق بالمواقف التي علقت بالذاكرة منذ الطفولة، اللحظات التي شعرنا فيها بالضعف، أو الظلم، أو القهر، ولم نستطع وقتها الدفاع عن أنفسنا.

وهنا تستيقظ الذاكرة، لا حين يتكرر الفعل ذاته، بل حين يتكرر الشعور ذاته، فنتحول إلى أطفال من جديد، نعيش مشاعرنا القديمة وكأنها تحدث الآن.

وقد روى أحدهم قصة واقعية تلخص هذا، حيث إن هناك شابا في الثلاثين من عمره، كان ناجحا في عمله، لكنه يعاني من قلق دائم ونوبات غضب متكررة. وبعد جلسات طويلة مع مختص نفسي، اكتشف أن جذور قلقه ترجع إلى طفولته، حيث كان يقابل بالإهمال من والده، وتقمع مشاعره حين يحزن أو يبكي. لم يكن يشعر بالأمان. وحين كبر، ظلت هذه المشاعر تحكم ردود فعله، دون أن يدرك.

كان كل موقف بسيط في الحياة يعيده لا شعوريا إلى شعور الطفولة عندما يتجاهله أحد، أو لا يقدر تعبه، أو يساء فهمه، كان يشعر وكأنه ذلك الطفل المنسي، الذي لا أحد يهتم لبكائه. لكن بعد إدراكه لذلك الجذر العميق، بدأ رحلة شفاء شجاعة، لم تكن سهلة، لكنها كانت صادقة.

بدأ أولا بإعادة بناء صورته الداخلية عن نفسه، توقف عن لومها، وتعلم كيف يكون لطيفا معها. كتب رسائل إلى الطفل الصغير بداخله، يخبره فيها أنه لم يكن مذنبا، وأنه يستحق الحب والطمأنينة، حتى وإن لم يحصل عليهما حين كان صغيرا.

ثم تعلم أن يضع حدودا صحية، وألا يسمح لأحد بأن يعامله وكأن مشاعره لا تهم، وبدأ يواجه المواقف التي تثيره بهدوء، ويتنفس بعمق قبل الرد، ويختار السكوت أحيانا، لا ضعفا، بل حكمة.

وفي إحدى الجلسات، بكى وهو يقول أشعر أنني ولدت من جديد، وكأنني أحمل داخلي شخصا صغيرا تصالحت معه أخيرا.

لم تتغير الحياة من حوله كثيرا، ولكن شيئا عميقا تغير في داخله. لم يعد الماضي يتحكم بالحاضر، ولم تعد الذكريات تحكم ردود فعله. تعلم أن التخطي لا يعني النسيان، بل يعني التحرر.

تلك القصة وغيرها تؤكد أن التخطي لا يكون سطحيا فقط، بل يحتاج إلى وعي عميق، واستعداد شجاع لمواجهة النفس. أن نجلس مع أنفسنا بصراحة، ونعترف بوجود الجرح، ونقرر ألا نحمله معنا بعد الآن.

وحتى إن كانت الذكريات موجعة، فإن الحقيقة تقول نحن اليوم أقوى. نحن نعيش في حاضر لا يشبه ماضينا، ونملك خيارات جديدة لم نكن نملكها وقت الألم.

وبهذا اليقين، نستطيع أن نقول لأنفسنا لقد تجاوزت، لقد مضيت، وهذا الماضي لا يحددني.

والأعظم من ذلك أن العفو عن الناس ليس فقط راحة، بل عبادة. قال تعالى: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله". (الشورى: 40)

أجره على الله... ليس أجرا عاديا، بل أجر لا يقدره بشر، ولا يحده مقدار، لأنه من الله الكريم، العليم بما في القلوب.

ولنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم مثال. فقد جاءه أعرابي، فشده بشدة حتى أثر الرداء في عنقه الشريف، وقال له بخشونة: "يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك).

فلم يغضب النبي، بل التفت إليه، وابتسم، ثم أمر له بعطاء.

تلك الحادثة ليست مجرد قصة، بل هي درس في السمو، في التخطي، في أن تكون فوق الإساءة لا تحتها، لأن نحيا كما عاش الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن نعامل الناس كما علمنا، بروح تسع الجميع، وبنفس تعرف أن الصفح عز لا مذلة.

نسأل الله أن يمنحنا القوة على أنفسنا، لنختار الصفاء على الضغينة، والصفح على الانتقام، وأن نعيش بقلوب خفيفة، لا تثقلها الأحزان، ولا تعيقها الذكريات.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

طرابلسي عن وزيرة التربية: أين الاستراتيجية والخطة التي قالت إنها تعمل عليها منذ أشهر؟

 ذكّر النائب ادكار طرابلسي "بورقة العمل التي وضعتها لجنة التربية النيابية السابقة خلال اجتماعها برئيس الحكومة نجيب ميقاتي والوزير عباس الحلبي وجميع المعنيين في القطاع التربوي يومها والمخصصة لحلّ كل المشكلات التي يعاني منها هذا القطاع التربوي ولم يُنفَّذ منها شي"ء قائلاً: "ما نشهده اليوم من وزيرة التربية ريما كرامة هو إجراءات فردية ما يدفعنا إلى سؤالها: أين الاستراتيجية والخطة التي قالت إنها تعمل عليها منذ أشهر؟"

ولفت  في حديث الى "صوت كل لبنان"  إلى أن "اعتراضه على ملفّ التفرّغ في الجامعة اللبنانية ليس بالدرجة الأولى طائفياً بل لأنه والتكتّل الذي ينتمي إليه في نضال مستمر من أجل تثبيت الأساتذة في الجامعة اللبنانية لكن لا يمكن القيام بهذه الخطوة فيما هناك أساتذة في بعض الفروع يمضون سنوات من دون أن يعلم أحد عن وضعهم وعلينا التأكد من أنّ لديهم مواد يدرّسونها وطلاباً فعليين".

وشرح  أن "ملف التفرغ أُعطي أسبوعين في مجلس الوزراء: الأسبوع الأول خُصّص للشرح وفي الأسبوع الثاني قُدّم عرض تفصيلي أمام الوزراء لكن الموضوع لم يُناقش بجدّية كافية لذلك ناشد رئيس الجمهورية ووزيرة التربية ألّا يُقرّ هذا المشروع قبل دراسته بشكل جيّد ومفصّل". مواضيع ذات صلة هآرتس عن مسؤولين أمنيين إسرائيليين: لم يعقد نقاش استراتيجي بشأن الضفّة منذ أشهر Lebanon 24 هآرتس عن مسؤولين أمنيين إسرائيليين: لم يعقد نقاش استراتيجي بشأن الضفّة منذ أشهر 08/12/2025 10:35:30 08/12/2025 10:35:30 Lebanon 24 Lebanon 24 نقمة على وزيرة التربية: اين قرار الشهادة المتوسطة؟ Lebanon 24 نقمة على وزيرة التربية: اين قرار الشهادة المتوسطة؟ 08/12/2025 10:35:30 08/12/2025 10:35:30 Lebanon 24 Lebanon 24 ممثلة وزيرة البيئة: نعمل على إنشاء هيئة إدارة النفايات الصلبة وتحديث الاستراتيجية الوطنية Lebanon 24 ممثلة وزيرة البيئة: نعمل على إنشاء هيئة إدارة النفايات الصلبة وتحديث الاستراتيجية الوطنية 08/12/2025 10:35:30 08/12/2025 10:35:30 Lebanon 24 Lebanon 24 وزيرة التربية تعليقًا على المدارس التي ستُقفل: اتخذت قرارًا بمنحها فرصة هذا العام Lebanon 24 وزيرة التربية تعليقًا على المدارس التي ستُقفل: اتخذت قرارًا بمنحها فرصة هذا العام 08/12/2025 10:35:30 08/12/2025 10:35:30 Lebanon 24 Lebanon 24 قد يعجبك أيضاً "لا يزال خطيراً".. موقع أميركي يُحذّر إسرائيل من مناورتها الخطيرة ضد "حزب الله" Lebanon 24 "لا يزال خطيراً".. موقع أميركي يُحذّر إسرائيل من مناورتها الخطيرة ضد "حزب الله" 03:30 | 2025-12-08 08/12/2025 03:30:00 Lebanon 24 Lebanon 24 نصار: علينا المسارعة إلى تنفيذ قرار حصرية السلاح Lebanon 24 نصار: علينا المسارعة إلى تنفيذ قرار حصرية السلاح 03:28 | 2025-12-08 08/12/2025 03:28:28 Lebanon 24 Lebanon 24 هل من جديد في ملف المساعدين القضائيين؟ Lebanon 24 هل من جديد في ملف المساعدين القضائيين؟ 03:12 | 2025-12-08 08/12/2025 03:12:35 Lebanon 24 Lebanon 24 "حزب الله" متوجّس وبراك يكشف توجهاً نحو تفاوض مباشر Lebanon 24 "حزب الله" متوجّس وبراك يكشف توجهاً نحو تفاوض مباشر 03:00 | 2025-12-08 08/12/2025 03:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 آتٍ من البحر الأسود: منخفض عاصف سيضرب لبنان.. الحرارة دون معدلاتها وثلوج على هذا الإرتفاع Lebanon 24 آتٍ من البحر الأسود: منخفض عاصف سيضرب لبنان.. الحرارة دون معدلاتها وثلوج على هذا الإرتفاع 02:56 | 2025-12-08 08/12/2025 02:56:09 Lebanon 24 Lebanon 24 الأكثر قراءة هجومٌ من لبنان وأماكن أخرى.. إقرأوا آخر اعتراف إسرائيليّ Lebanon 24 هجومٌ من لبنان وأماكن أخرى.. إقرأوا آخر اعتراف إسرائيليّ 14:00 | 2025-12-07 07/12/2025 02:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 خلاف عائليّ في البقاع يتحوّل إلى كارثة... إليكم ما حصل Lebanon 24 خلاف عائليّ في البقاع يتحوّل إلى كارثة... إليكم ما حصل 09:17 | 2025-12-07 07/12/2025 09:17:10 Lebanon 24 Lebanon 24 صورة سلاف فواخرجي مع ماهر الأسد تُثير ضجّة كبيرة.. ما حقيقتها؟ Lebanon 24 صورة سلاف فواخرجي مع ماهر الأسد تُثير ضجّة كبيرة.. ما حقيقتها؟ 10:19 | 2025-12-07 07/12/2025 10:19:00 Lebanon 24 Lebanon 24 بعيد إقلاعها من مطار بيروت.. هذا ما حصل مع طائرة للميدل ايست Lebanon 24 بعيد إقلاعها من مطار بيروت.. هذا ما حصل مع طائرة للميدل ايست 02:31 | 2025-12-08 08/12/2025 02:31:15 Lebanon 24 Lebanon 24 حقيقة عن أحمد الشرع.. هكذا أنهى "سوداوية نظام بشار" Lebanon 24 حقيقة عن أحمد الشرع.. هكذا أنهى "سوداوية نظام بشار" 11:00 | 2025-12-07 07/12/2025 11:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 أخبارنا عبر بريدك الالكتروني بريد إلكتروني غير صالح إشترك أيضاً في لبنان 03:30 | 2025-12-08 "لا يزال خطيراً".. موقع أميركي يُحذّر إسرائيل من مناورتها الخطيرة ضد "حزب الله" 03:28 | 2025-12-08 نصار: علينا المسارعة إلى تنفيذ قرار حصرية السلاح 03:12 | 2025-12-08 هل من جديد في ملف المساعدين القضائيين؟ 03:00 | 2025-12-08 "حزب الله" متوجّس وبراك يكشف توجهاً نحو تفاوض مباشر 02:56 | 2025-12-08 آتٍ من البحر الأسود: منخفض عاصف سيضرب لبنان.. الحرارة دون معدلاتها وثلوج على هذا الإرتفاع 02:37 | 2025-12-08 لقاء في جامعة الحكمة عن تطور مفهوم القيادة مع الذكاء الاصطناعي فيديو محمد اسكندر يطلق " انسى وطنش ".. وملكة جمال تُشاركه الكليب ! Lebanon 24 محمد اسكندر يطلق " انسى وطنش ".. وملكة جمال تُشاركه الكليب ! 05:09 | 2025-12-06 08/12/2025 10:35:30 Lebanon 24 Lebanon 24 بسعر منافس جداً.. إطلاق هاتف جديد بقدرات تصوير مميزة (فيديو) Lebanon 24 بسعر منافس جداً.. إطلاق هاتف جديد بقدرات تصوير مميزة (فيديو) 04:00 | 2025-12-06 08/12/2025 10:35:30 Lebanon 24 Lebanon 24 بث مباشر.. البابا لاوون الرابع عشر في ساحة الشهداء Lebanon 24 بث مباشر.. البابا لاوون الرابع عشر في ساحة الشهداء 09:14 | 2025-12-01 08/12/2025 10:35:30 Lebanon 24 Lebanon 24 Download our application مباشر الأبرز لبنان فيديو خاص إقتصاد عربي-دولي متفرقات أخبار عاجلة Download our application Follow Us Download our application بريد إلكتروني غير صالح Softimpact Privacy policy من نحن لإعلاناتكم للاتصال بالموقع Privacy policy جميع الحقوق محفوظة © Lebanon24

مقالات مشابهة

  • الأوقاف: زيارة المتنافسين في المسابقة العالمية للقرآن للمتاحف تعزز فهم الحضارة المصرية
  • سمير عثمان: الدوري المصري ضعيف.. ونخدع أنفسنا بأننا الأفضل في المنطقة
  • 6 خصال تفتح لك أبواب الجنة.. مكارم أخلاق وعد بها النبي
  • مشروعية زيارة الأماكن التي تحتوي على التماثيل
  • أهمية الحفاظ على الآثار التي يعود بعضها إلى العصر الإسلامي
  • الاعتصام بالله .. معركة الوعي التي تحدد معسكرك، مع الله أم مع أعدائه
  • فاطمة الزهراء عليها السلام.. سيدة النور وأقرب الناس إلى رسول الله ﷺ
  • 6 خصال تضمن لك الجنة بوعد من النبي.. اغتنمها وداوم على فعلها
  • طرابلسي عن وزيرة التربية: أين الاستراتيجية والخطة التي قالت إنها تعمل عليها منذ أشهر؟
  • لا يضر الشمس إطباق الظلام