كانت الكاتبة الراحلة أروى صالح (ت: 1997م) من أوائل من انتبهوا لموضوع صراع المال والنجومية الذي يغلي في صفوف السياسيين والمثقفين في فترة السبعينيات في مصر، وأشارت إليه إشارات واضحة وشخّصته تشخيصا دقيقا في كتابها المعروف "المبتسرون"، وقالت رحمها الله عنهم إنهم اتخذوا من العمل العام ومن حرفة "الثقافة" وسيلة للارتفاع فوق الناس العاديين، ومفتاحا سهلا لغزو الدنيا والتعالي على الناس، وأن الحقيقة الوحيدة التي تجمعهم هي الصراع من أجل المال والنجومية والبقاء في دائرة الضوء، وأن جهلهم بالأفكار يعادل جهلهم بالحياة نفسها!
وقد أثبتت المواقف صدق كل كلمة قالتها في وصف من تحدثت عنهم، بل إنهم قد ذهبوا في المسار الذي ذكرته عنهم إلى ما هو أبعد مما وصفتهم به.
* * *
ونحن نسمع الآن عن قدر كبير من الصراعات، يدور بين عدد من السياسيين والمثقفين في عالمنا العربي، وفي داخل الأحزاب والحركات الإصلاحية، وهي في حقيقتها صراعات لها ألف صلة وصلة بما ذكرته الكاتبة، وأبعد ما تكون عما يدّعونه من أسباب معلنة، يفسرون بها مواقفهم وخلافاتهم.
وأكثر ما يدل على ذلك هي لهفتهم على الإعلام ووسائل النشر في الميديا، ومسارعتهم لإبداء آرائهم في الأمور من قبل أن تكتمل مراحلها وتبدو حتى بدايات آثارها، بل وهي لا زالت مفتوحة على تطورات لا يعلمها إلا الله، ومنهم من كان يتعيش (عيشا) ماديا على ما بات الآن ينكره وينقده، والذي لولاه ما كان قد سمع به أحد من خارج أسرته وزملائه.
* * *
وكثيرا ما تأملت في النص القرآني التحذير من "الشرك" في مواضع كثيرة، وفهمت أن النص القرآني المفتوح على كل الزمان وكل المكان، يشير إلى موضوع "الشرك" كونه حالة مرافقة للإنسان، في كل وقت من أوقات انحرافه وضلاله، بعيدا عن وعيه بوجوده ومصيره.. وليس كونه فقط عبادة أصنام بالمعنى المجرد.
* * *
وهذا الانحراف يأخذ بصاحبه إلى ضلالات بعيدة، يلتبس عليه فيها ما للنفس من مطالب وشهوات وخداع، وما للدين من حرمة وطاعة وإتباع، ويغيب عنه النور الذي يعينه على التمييز بين الخطأ والصواب، والحق والباطل، وما يفنى وما يبقى.
وقد أخطأت الحركات الإصلاحية خطأ كبيرا، حين اتجهت في العمل الدعوي والإصلاحي إلى الحشد والتعبئة حول الأفكار العامة والمعاني العامة، ولم تتجه على أعماق الإنسان من حيث كونه فردا يحوي قلبا، إذا صلح، صلح له ولها كل شيء، وإذا فسد، فسد له ولها كل شيء.
ودائما ما تكون "البدايات" هي البشرى والبشارة في مسارات الحياة، ونتأمل في المعنى بالغ العمق وبالغ الوضوح في الحديث الشريف: "كل أمر ذي بال لا يبدأ، فيه بسم الله الرحمن الرحيم، فهو أبتر. والمسألة تتجاوز بكثير ترديد الحروف والألفاظ، بل حضور الوعي حضورا مركزيا مُركّزا، بأن الله على كل شيء شهيد وأنه سبحانه أقرب للإنسان من حبل الوريد.
* * *
دارت في نفسي كل هذه الخواطر وأنا أتابع "لهاث" البعض خلف وسائل الإعلام، للحديث عن "طوفان الأقصى" أو الحديث عن "مستقبل الحركات الإصلاحية".. من أولئك الصنف من الناس الذين يصرون على الجلوس بمحاذاة النافذة، ولو سألتهم عن تفاصيل الطريق لا يعرفون.. كما يقول الكاتب الروسي الشهير ليرمنتوف.
ولا أدرى حقيقة، من يقصدون بأحاديثهم؟ هل يقصدون عامة الناس؟ وغالبا العامة من الناس مشغولون بأمورهم الشخصية، وقليلا ما ينتبهون إلى الأمور العامة، خاصة إذا كانت لا زالت مفتوحة على التطور والتغير والتأثير والتأثر، إذ لا ريب أن هناك في الأمور أمور، خاصة في الأمور ذات التركيب والتعقيد الخاص، وما هو معروف عن أحوالها أقل كثيرا جدا مما هو مجهول.
وإذا كانوا بالفعل يقصدون العامة من الناس، فماذا يرجون من التأثير على وعيهم بهذا الذي يقولونه..؟ هل يريدون من الناس إعلان اللعنة على من قام بالعمل لأن أحدهم أو بعضهم خرج يقول إن عقله وفهمه ووعيه بالأشياء والأحداث لم يستوعب المدى البعيد المقصود من هذا العمل التاريخي الضخم؛ الذي وضع القضية الفلسطينية في دوائر جديدة تماما من دوائر الوجود؟
وإذا ما أعلن الناس لعناتهم، فهل هذا يسعده وتقر بها عينه، وعين كل القوى التي وقفت ضد فلسطين والأقصى على مدار التاريخ البعيد والقريب؟
وإذا كان يقصدون "جهات أخرى" أيا ما كانت، ولا نعلم في حقيقة الأمر ما بينهم وبينها، ويريدون أن يصل إليها صوتهم، لغرض ما، لا نعلمه وهم يعلمونه، فهناك عشرات الطرق الخفية والخلفية التي يريد أحدهم الوصول إليها وهي سهله ومتاحة لأصحاب المطالب المجهولة بعيدا عن الإعلام.
* * *
رحم الله ابن خلدون (ت: 1406م) الذي كان يُعرّف التوحيد بأنه: العجز عن إدراك الأسباب وكيفية تأثيرها، وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها.
أنا لا أريد أن أتطرق إلى النوايا ومكنونات الصدور، لكن هناك أشياء يكون الظاهر فيها من الظواهر غير المفهومة، مدعاة للتساؤل وطلب الفهم، خاصة ما يتعلق منها بالموضوع والتوقيت.
وعلى ذكر الظاهر والظواهر، كان الأستاذ العقاد رحمه الله (ت: 1964م)، يؤمن بالنظرية التي تربط بين مظهر الإنسان وأفكاره! وكان يقول لرواده في الصالون كما ذكر لنا الأستاذ أنيس منصور رحمه الله (ت2011م) في كتابه المهم "في صالون العقاد": انظروا إلى وجه ماركس، انظر إلى وجه سارتر.. الخ.
وأنا أؤمن كثيرا بهذه النظرية، لأنه بالفعل صفحة وجه الإنسان تنبئ بالكثير مما تحويه جنبات نفسه، ودوافعه الخفية.
* * *
يقولون إن الشأن الإنساني هو مجال "الإرادة".. ولا تحكمه الحتمية التي تحكم الظواهر الطبيعية، وهذا صحيح تماما، إنسانيا ودينيا، وقد كانت معركة "الإرادة" من أكثر المعارك تجليا ووضوحا، في "طوفان الأقصى".. ذاك المعول الذي نزل على أم رأس "الدولة الصهيونية" وصدعها تصديعا، ليس فقط في داخلها المشروخ بألف شرخ وشرخ "مجتمع ودولة وجيش".. ولكن وهو الأهم في "الحبل السُري" الذي يربطها بالغرب الاستعماري بكل ما يحويه من دعاية وإعلام ودعم مادي وسياسيي.
* * *
سنة 1926 م خرجت مظاهرات تندد بكتاب د. طه حسين "الشعر الجاهلي"، وذهبت إلى البرلمان، فخرج الزعيم سعد زغلول رحمه الله (ت: 1927م) ليقول لهم: "إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر في هذه الأمة المتمسكة بدينها، هَبوا أن رجلا مجنونا يهذي في الطريق فهل يضير العقلاء شيء من ذلك؟ إن هذا الدين متين، وليس الذي شك فيه زعيما ولا إماما حتى نخشى من شكه على العامة، فليشكّ ما شاء، ماذا علينا إذا لم يفهم البقر؟".
ماذا علينا إذا لم يفهم أحدهم أو بعضهم، وجهل أعماق الصراع ومكوناته وأبعاده، وما يمثله "الطوفان" في مسار هذا الصراع؟
ومن جاهل به، وهو يجهل جهله ويجهل علمنا، أنه به جاهل!
x.com/helhamamy
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الإصلاحية مثقف إصلاحي طوفان الاقصي قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من الناس
إقرأ أيضاً:
فاطمة الزهراء عليها السلام.. سيدة النور وأقرب الناس إلى رسول الله ﷺ
تُعدّ السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام من أعظم نساء البشرية مكانةً وقدراً، فقد كانت أقرب الناس شبهاً برسول الله ﷺ خَلقاً وخُلُقاً، وورثت عنه النور والطهارة والهيبة والمحبة.
شبهها برسول الله ﷺ
اتفق الصحابة على أنّ فاطمة عليها السلام كانت أشبه الناس بسيدنا محمد ﷺ في حديثه ومشيته وحركاته وسكناته. حتى قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: «كان النبي ﷺ وفاطمة إذا استدبراني لم أعرف أيّهما النبي من شدّة الشبه بينهما».
مكانتها عند رسول الله ﷺ
كان النبي ﷺ إذا رأى فاطمة مُقبلةً يقوم لها، ويقبّل وجنتيها، ويبسط لها عباءته، ويجلسها في مكانه، ويقول لها:«مرحباً بأمّ أبيها».كما قال فيها ﷺ: «فاطمة بضعةٌ مني»، وهو دليل على عمق مكانتها في قلبه الشريف.
ملامحها وصفاتها
وُصفت السيدة الزهراء بأنها بيضاء اللون مشربة بحُمرة، طويلة القامة، ويميل جسمها للنحافة من شدة العبادة.وحملت شبهاً من أمها السيدة خديجة عليها السلام، وكذلك من جدتها السيدة آمنة بنت وهب عليها السلام.
علاقتها بأمهات المؤمنين
كانت أمهات المؤمنين إذا أردن شيئاً من رسول الله ﷺ لجأن إلى فاطمة عليها السلام لقربها منه، وثقتهن بمحبته لها.
ميلادها وبشارات النبي ﷺ
عند ولادتها، قال النبي ﷺ للسيدة خديجة: «يا خديجة، إنها النسمة الميمونة الطاهرة، ومنها يكون نسلي»، فكانت بحقّ أمّ النور الممتد في الأمة.
زواجها وحياتها المباركة
تزوجت السيدة فاطمة الزهراء من الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وعاشت حياةً مباركة ملؤها العبادة والزهد والصبر.
وفاتها ولقاؤها بالنبي ﷺ
انتقلت السيدة فاطمة عليها السلام إلى الرفيق الأعلى وهي في التاسعة والعشرين من عمرها، وكانت أول من لحق برسول الله ﷺ من أهل بيته بعد وفاته بستة أشهر.
أبناؤها وذريتها الطيبة
هي أمّ الأولياء والصالحين العارفين:
الإمام الحسن
الإمام الحسين
المُحسَّن
السيدة زينب
السيدة أم كلثوم
عليهم السلام أجمعين.
وهم الامتداد المبارك لبيت النبوة.
وتبقى السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام نموذجاً خالداً للطهارة والعبادة، وقدوة لكل مسلم ومسلمة في الأخلاق والصبر والمحبة.