كانت وكالة أسوشيتد برس في السابق حاضرة في تغطية أخبار البيت الأبيض، لكنها تحولت مؤخرا إلى وسيلة إعلامية ممنوعة من دخول المكتب البيضاوي، في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

يأتي ذلك في سياق سعي ترامب لترويض الوكالة التي نشأت عام 1846، وبعض وسائل الإعلام الأميركية العملاقة والقضاء على بعضها الآخر، وفق صحيفة واشنطن تايمز.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2حملة تبييض لإسرائيل.. كيف استثمرت تل أبيب زيارة "أئمة أوروبيين" لخدمة دعايتها؟list 2 of 2وكالة الصحافة الفرنسية تخشى وفاة مراسليها في غزة جوعاend of list

ويقول جيف موردوك، وهو مراسل واشنطن تايمز في البيت الأبيض، إن وكالة أسوشيتد برس ليس لها مندوب في البيت الأبيض حاليا بسبب سياسات الرئيس الأميركي تجاهها، في حين كانت الوكالة الوحيدة التي رافقت الرئيس جورج بوش عندما نزل إلى مخبأ تحت الأرض يوم هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.

ولا تزال أسوشيتد برس تغطي أخبار الرئيس ترامب وتحضر المؤتمرات الصحفية، لكنها تواجه قيودا شديدة للغاية بالتغطية، وفق موردوك، إذ يضطر مراسلوها إلى الاعتماد على التلفزيون وزملائهم الصحفيين للحصول على المعلومات. وجراء تصرفات ترامب، خسرت الوكالة في مارس/آذار الماضي، عقد إعلانات بقيمة 150 ألف دولار، بحسب محامي الوكالة، تشارلز توبين.

لماذا غضب ترامب على أسوشيتد برس؟

ولكن ما الذي فعلته أسوشيتد برس حتى أثارت غضب ترامب؟ يقول جيف موردوك إن الوكالة الأميركية مُنعت من البيت الأبيض، لرفضها اعتماد مصطلح "خليج أميركا" اسما بديلا لخليج المكسيك كما يرغب ترامب.

وعقابا لها على ذلك القرار التحريري، حُرمت الوكالة من الوصول إلى طائرة الرئاسة والمكتب البيضاوي وأماكن أخرى في البيت الأبيض، حيث يعقد ترامب فعالياته.

عقابا لها على قرارها التحريري برفض استخدام اسم "خليج أميركا" بدلا عن "خليج المكسيك، حُرمت أسوشيتدبرس من الوصول إلى طائرة الرئاسة والمكتب البيضاوي وأماكن أخرى في البيت الأبيض، حيث يعقد ترامب فعالياته.

بواسطة واشنطن تايمز

وتعليقا على هذه المسألة، قال تايلور بودوفيتش، نائب رئيس موظفي البيت الأبيض، إن قرار أسوشيتد برس بعدم استخدام اسم "خليج أميركا" يكشف عن "التزام الوكالة بنشر المعلومات المضللة"، واصفا تقاريرها بأنها "غير مسؤولة وغير نزيهة".

إعلان

ورفعت الوكالة دعوى قضائية، وفازت بفترة تأجيل قصيرة، بعد حكم قاضٍ فدرالي، بأن الرئيس انتقم بشكل غير عادل من قرارات الوكالة التحريرية، لكن محكمة الاستئناف ألغت هذا الحكم.

وفي تعليقها على محكمة الاستئناف، قالت الوكالة في بيان لها "يُسمح للبيت الأبيض بالتمييز والانتقام بسبب كلمات لا تعجبه، وهو ما يمثل انتهاكا للتعديل الأول للدستور".

وبحسب مراقبين فإن جوهر النزاع يتمثل بتوجه ترامب المتمثل بتمزيق صورة الوكالة باعتبارها مصدرا إخباريا مستقلا وغير حزبي.

في حين علق تيم غراهام، وهو مراسل سابق في البيت الأبيض، ويشغل حاليا منصب مدير تحليل في مركز أبحاث وسائل الإعلام: "إنهم يتحدثون كثيرا عن مدى روعتهم، ولكن بالنسبة لكثير من الناس، يبدو أنهم مجرد أتباع للحزب الديمقراطي".

وأضاف غراهام أن أسوشيتد برس كان بإمكانها تجنب أن تصبح هدفا، لكنها كانت "متكبرة" للغاية في اتخاذ قراراتها، معقبا "هذا هو أسلوب ترامب، وهو أنه إذا هاجمته، فسوف يهاجمك، لن يقول: لا أستطيع مهاجمة وكالة أسوشيتد برس لأنها موثوقة للغاية"، وأضاف "لا، سوف يرد الهجوم، ثم يغضبون جميعا ويقولون: كيف تجرؤ، لأنهم غير معتادين على التعرض للنقد".

أسوشيتد برس: خلافنا حول حرية التعبير

في المقابل، أصرت أسوشيتد برس على أن الصراع يدور حول حرية التعبير، وأنها تُعاقب بسبب آرائها التحريرية، فيما اتهمت جولي بيس، المحررة التنفيذية لأسوشيتد برس إدارة ترامب بمعاقبة الوكالة "بسبب صحافتها المستقلة". ورد البيت الأبيض بأن صحافة أسوشيتد برس ودليل أسلوبها ينطويان على تحيز ليبرالي صارخ.

مراقبون يرون أن جوهر النزاع يتمثل بتوجه ترامب المتمثل بتمزيق صورة الوكالة باعتبارها مصدرا إخباريا مستقلا وغير حزبي (الأوروبية)

وفي شهر مارس/آذار الماضي، اشتبكت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت، والمراسل الصحفي لوكالة أسوشيتد برس، جوش بوك، حول سياسة ترامب التجارية، حيث سأل بوك ليفيت: "هل دفعتِ ضريبة جمركية من قبل، لأنني دفعتُ"، لترد ليفيت بأن سؤاله "مهين"، وتعقب "أعتقد أنه من المهين أن تحاول اختبار معرفتي بالاقتصاد والقرارات التي اتخذها هذا الرئيس، أنا الآن نادمة على إتاحة سؤال لوكالة أسوشيتد برس"، قبل أن تنتقل إلى مراسل آخر.

ويستعد الرئيس الأميركي للقضاء على وسائل البث العامة، وفق "واشنطن تايمز"، عبر توقيعه قريبا على مشروع قانون ينهي تمويل دافعي الضرائب للإذاعة الوطنية العامة "إن بي آر" (NPR) والشبكة التلفزيونية الأميركية "بي بي إس" (PBS).

وبسبب تغطيتها المضطربة وفق وصف واشنطن تايمز، لأنشطة الرئيس ترامب، توصّل الأخير إلى "تسويات محرجة" بملايين الدولارات، مع هيئة الإذاعة الأميركية "إيه بي سي" (ABC)، والشركة الأميركية المتخصصة في إنتاج الفيديو والأفلام (Paramount)، والتي تملك شبكة كولومبيا للبث "سي بي إس" (CBS)، وتعرض برنامج التحقيقات الشهير "60 دقيقة" (60 Minutes)، والذي يبث منذ ستينيات القرن الماضي.

كما ساهم ترامب في تدمير صناعة البرامج الكوميدية الليلية، والتي فقدت الكثير من المشاهدين، لدرجة أن شبكة البث الوطنية "إن بي سي" (NBC) خفّضت عدد حلقات برنامج (The Tonight Show) إلى 4 أيام في الأسبوع، في حين أعلنت شبكة "سي بي إس" CBS أن برنامج "The Late Show" سيتوقف عن البث العام المقبل.

إعلان

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات إعلام فی البیت الأبیض واشنطن تایمز أسوشیتد برس

إقرأ أيضاً:

البروفيسور روبرت كيوهان لـالجزيرة نت: ترامب أنهى قرن أميركا الطويل وجفَّف منابع قوتها الناعمة

في العدد الأخير من مجلة "فورين أفيرز" (يوليو/تموز – أغسطس/آب 2025)، الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، نُشر مقال بعنوان "نهاية القرن الأميركي الطويل" لكُلٍّ من البروفيسور روبِرت كيوهان، أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية المعروف بجامعة برينستون والزميل بمركز هارفارد للشؤون الدولية، والبروفيسور جوزيف ناي، الأستاذ السابق بجامعة هارفارد الذي توفي منذ أسابيع قليلة، وهو صاحب أطروحة "القوة الناعمة" الشهيرة.

يكتسب الحوار الذي أجريناه في الجزيرة نت مع البروفيسور روبرت كيوهان أهمية قصوى، ليس فقط لكونه شريكا فكريا للراحل جوزيف ناي، أحد أبرز منظري الليبرالية الجديدة ومؤسس نظرية "القوة الناعمة"، بل لكونه امتدادا حيويا للنقاش الذي بدأه ناي وكيوهان في مقال "نهاية القرن الأميركي الطويل" بمجلة "فورين أفيرز".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2مؤرخ أميركي يتنبأ بفوضى مقبلة قد تُسقط الحضارة الغربيةlist 2 of 2أفول الهيمنة الأميركية.. صعود الصين والمأزق في الشرق العربي والإسلاميend of list

هذا الحوار المباشر مع كيوهان يتيح فرصة للتعمق في الأفكار التي طرحها كلٌّ من كيوهان وناي، وتقديم تفسيرات إضافية من منظور أبرز أرباب "الليبرالية الجديدة"، مما يعزز فهمنا للتحولات الجيوسياسية الراهنة، انطلاقا من آخر مادة أكاديمية صدرت إلى الآن باسمهما.

وقبل البدء بالحوار المباشر، سنسرد جانبا من أفكار كيوهان الرئيسية التي نرى أنها مهمة لفهم أفكار الرجل، ثم نلج للحوار.

يرى روبرت كيوهان أن هجوم ترامب على المهاجرين وتقييده للهجرة يقدم هدية للصين (جامعة برينستون) نبوءة كيوهان وناي

دون مواربة، وعلى صفحات المجلة الأميركية الأثقل في مجال السياسة الدولية، بشَّر العالِمان المرموقان بصفحة جديدة من تاريخ العالم، وأبرز معالمها هو أفول القوة الأميركية، ما دفعنا إلى تسليط الضوء على هذا الطرح. لم يكتُب روبِرت كيوهان بكثرة لمجلة "فورين أفيرز"، لكن المقالات الخمس التي كتبها للمجلة منذ عام 1998 إلى يومنا هذا، ترسم خارطة تطوُّر أفكاره على مر السنين، وهي أفكار صاغت ما يُمكن تسميته بـ"المؤسسية الليبرالية".

إعلان

ففي عام 1998، وفي مقال بعنوان "القوة والاعتماد المتبادل في عصر المعلومات"، وبينما كان الحديث عن القرن الأميركي وانتصار الرأسمالية في ذروته، قال كيوهان وجوزيف ناي، مستوحيان من كتابهما الشهير "القوة والاعتماد المُتبادل" المنشور عام 1977، إننا بحاجة إلى شق طريق وسط بين المُفرطين في التفاؤل، الذين بشَّروا بأفول الدولة القومية بفضل العولمة، وبين المُحافظين الذين قالوا إن الدولة تظل الكيان الأساسي لوجودنا في العصر الحديث مع التقليل من أهمية التشابك العالمي المتزايد، وهو تشابك قديم كما يقول كيوهان، لكنه ازداد تعقيدا، وازدادت تفاعلاته سُرعة ليس إلا، وهي تفاعلات تُفقِد الدولة بعضا من سطوتها لكنها تمنحها تأثيرا من نوع آخر.

في عام 2012، كتب كيوهان للمجلة من جديد عطفا على أطروحته الأهم في كتابه "بعد الهيمنة" المنشور عام 1984، وقال إن المُتحدِّثين عن محورية الولايات المتحدة وحدها للنظام الدولي والسلام العالمي يُغفِلون الدور الذي لعبه حلفاؤها والمؤسسات الدولية التي أسستها، ورغبة واشنطن ذاتها في مُشاركة الأعباء والمهام مع الدول الكبرى.

في الوقت نفسه، لم يتفق كيوهان وقتها مع القائلين بحتمية أفول القوة الأميركية بالنظر إلى تشعُّب وتعدُّد العوامل التي تُحدِّد القوة الأميركية، ومن ثمَّ آثر أن يترك الباب مفتوحا أمام مجريات الأحداث، بعيدا عن المتفائلين والمتشائمين، ومُتشبِّثا بفكرة مركزية مفادها أن "القرن الأميركي" لم يكن صنيعة القوة الأميركية وحدها، ولم يكُن صنيعة القوة المادية وحدها، وأن اعتقاد المحافظين بذلك يُمكن أن يُدمِّر في الحقيقة أسس القوة الأميركية، تماما كما يعتقد كيوهان أن ترامب يفعل الآن.

في عام 2017، وعلى خلفية صعود دونالد ترامب إلى السلطة، كتب كيوهان مع جِف كولغان، أستاذ الشؤون الدولية بجامعة برينستون، مقالا بعنوان "المنظومة الليبرالية معطوبة"، وبعد أربعة أعوام كتبا مقالا آخر بعنوان "أنقذوا البيئة، أنقذوا الديمقراطية الأميركية".

في المقاليْن، يتبدَّى بوضوح قلق الكاتبَيْن من التحوُّلات الجارية في داخل الولايات المتحدة وخارجها، مع علامات استفهام على التفاؤل الذي أبداه كيوهان سابقا حول أن المؤسسية العالمية بإمكانها أن تُصبح مساحة مُشتركة لتعزيز المصالح وتبادلها بين الدول المختلفة، بشكل يتجاوز القوة الأميركية المباشرة، وقد فات كيوهان آنذاك النظر في احتمالية أن يظهر تيار مُعادٍ للعولمة من داخل المجتمع الأميركي نفسه.

وللمفارقة، كان صعود طبقة اجتماعية جديدة للتأثير من داخل الولايات المتحدة، وليس من الجنوب العالمي، هو ما سلَّط الضوء على ما اعتبرته تلك القطاعات "منظومة غير عادلة" تُجسِّدها العولمة والرأسمالية النيوليبرالية.

وهي قطاعات صَعَدت بخطاب ممزوج بالسخرية من مبادئ الديمقراطية الأميركية، وأثمرت دعما مفتوحا لترامب وسياساته، وعلى رأسها التراجع عن شبكة التحالفات والمؤسسات التي أسَّستها واشنطن بنفسها على مرِّ العقود، وشاركت فيها حلفاءها بعضا من القوة السياسية والاقتصادية، لصالح البحث عن مكاسب مباشرة لواشنطن عبر التلويح بالقوة الخَشِنة، وهو ما يعتبره كيوهان نهاية فعلية للقرن الأميركي، إذ إنه يؤثر سلبا على قوة أميركا الناعمة، بل ويمنحها مكاسب قصيرة الأجل مقابل خسارة بعيدة المدى لتأثيرها بين حلفائها ومكانتها المهيمنة في الاقتصاد العالمي.

عالم السياسة الأميركي جوزيف ناي (غيتي) ليبرالية الخوف

على عكس الكثير من الليبراليين الأميركيين الذين لمع نجمهم في العقود التالية لنهاية الحرب الباردة، كان كيوهان دوما أكثر تحفُّظا في تفاؤله بالقوة الأميركية، وأكثر حِرصا على نقد القوة وممارساتها وحدودها، وخطورة التمدُّد الأميركي غير المحدود، والإشكاليات الأخلاقية التي تطرحها الهيمنة الأميركية، مُعتبِرا أن نقطة الارتكاز الحقيقية لليبرالية هي المؤسسات العالمية التي خلقتها، والاقتصاد العالمي القائم على التشابُك والتداخل في إطار العولمة الاقتصادية، التي تتجاوز هيمنة دولة بعينها، وتُحفِّز دولا عديدة للمشاركة في رسم مصير النظام الدولي.

إعلان

كان كيوهان في هذه الأفكار متأثِّرا بأستاذته جوديث شكلار، اللاتفية اليهودية التي فرَّت من النازية في أوروبا لتصبح أول امرأة تُعيَّن أستاذة في قسم الحكومة المرموق بجامعة هارفارد. وقد صاغت جوديث أطروحة "ليبرالية الخوف"، أي الليبرالية التي لا تقوم على التبشير والتفاؤل بالعِلم والعقل، بل تقوم على التخوُّف مما يُمكن أن تؤدي إليه القوة المطلقة والسلطات بلا حدود، كما جسَّدتها الحالة الفاشية، وكما جسَّدتها بعض التصوُّرات عن الهيمنة الأميركية فيما بعد.

إن الخوف من تغوُّل مجموعة من البشر على أخرى، والرغبة في خلق توازن قُوَى بين الجماعات المختلفة، يُنظَر إليها من الواقعيين دوما على أنها ضمانة الحد الأقصى من الحرية للجميع في أي منظومة سياسية، وهي فكرة ينقلها كيوهان كما نقلها كثيرون غيره إلى مستوى العلاقات الدولية.

هذا الخوف والتشكُّك المستمر في قدرة قوة بعينها على رسم مصير الجميع هو ما يعتقد كيوهان أنه شكَّل القرن الأميركي وجعله أميركيا للمفارقة، رغم أن الكثير من مثقفي ما يُعرف بـ"العالم الثالث" يُمكن أن يختلفوا معه بعد أن رأوا القوة الخشنة الأميركية من فيتنام إلى العراق على مر السنين، وكما يُشير هو بنفسه في مقاله الأخير.

يقول روبرت كيوهان: نحن الآن في حرب تجارية يختبر فيها الجانبان (الصين وأميركا) مدى فعاليتهما في تقييد أو تحديد أو قطع الإمدادات عن الآخر (شترستوك) الترابُط المُعقَّد

اشتهر كيوهان بالتعاون مع جوزيف ناي لوضع نظرية "الترابط المعقد" التي تحدَّت الرؤى الواقعية التقليدية للعلاقات الدولية، وكانت تركز حصرا على الدولة بوصفها فاعلا رئيسيا، وعلى الصراعات العسكرية وتوازنات القوى المادية. وتُبرز هذه النظرية أهمية العوامل غير العسكرية، مثل الاقتصاد والمؤسسات الدولية والفاعلين دون الدولة، في تشكيل السياسات العالمية.

وتتجلى إسهامات كيوهان في تحليلاته لمفهومَيْ القوة الصلبة والقوة الناعمة، وكيف تتفاعلان معا لتحديد نفوذ الدول، فقد أوضح أن القوة لا تقتصر على الإكراه العسكري أو الاقتصادي، بل تمتد لتشمل الجاذبية الثقافية والقيمية. ورغم الأهمية الكبيرة التي قدَّمتها نظرية "الليبرالية الجديدة" في تفسير الظواهر السياسية، ونظرتها للقوة التي أضافت إليها أبعادا جديدة للنفوذ والتأثير المتمثلة بـ"القوة الناعمة"، فإن هذا الاتجاه لم يسلم من الانتقادات.

وقد تناولت "أبعاد" هذا المعطى في مقالات عديدة، أبرزها "جوزيف ناي مطلق الرصاصة الناعمة التي تقتل أيضا"، الذي يستعرض أفكار "الليبرالية الجديدة"، وبعض الانتقادات الجوهرية التي وُجِّهت إليها، خاصة تلك المرتبطة بمدى فاعلية القوة الناعمة في ترجمة الجاذبية الثقافية إلى قبول سياسي حقيقي، وما إنْ كانت مجرد أداة أخرى للهيمنة، لكن بصورة أكثر ليبرالية.

هذه الرؤى النقدية لا تنفي أن الأفكار التي قدَّمتها الليبرالية الجديدة عموما، وضيف "الجزيرة نت" البروفيسور روبرت كيوهان، باعتباره أحد عرَّابي هذه النظرية القوية في العلاقات الدولية والعلوم السياسية، تظل مهمة في دراسة التعاون الدولي، والمؤسسات العالمية، وتأثير الفاعلين المتنوعين على النظام الدولي.

 

فإلى حوار البروفيسور روبِرت كيوهان مع صفحة "أبعاد":

ما جوهر مفهوم القوة في تصوُّر ترامب؟ وهل يقتصر على "القوة الصلبة" فقط؟ وكيف يرتبط ذلك بمفهومَيْ "الاعتماد المُتبادَل غير المُتماثِل" و"مفارقة قوة التجارة" اللذين تحدثت عنهما؟

البروفيسور كيوهان: اسمحوا لي أن أُعلِّق على تصورات الرئيس ترامب للقوة، وكيف تتشابه أو تختلف عن التصورات التي طورتها أنا وجوزيف ناي في أعمالنا مثل "القوة والاعتماد المتبادل".

يؤمن ترامب بالقوة الصلبة، وبتوظيف التهديدات والوعود بالعقوبات المادية أو تقديم المنافع للتأثير على الدول الأخرى لقبول شروطه. لذا فإن سياسته التجارية، وسياسته تجاه غزة أو روسيا، كلها ترتكز على مبدأ "شيء مقابل شيء". إنه نهج مساومة في التعامل مع القوة والتجارة، وجزء من هذا صحيح، أي إنه أصاب في بعض جوانبه. فالولايات المتحدة تمتلك الكثير من القوة الصلبة، التي تستمدها من قوتها الاقتصادية والعسكرية. والمبدأ الأساسي للقوة الصلبة هو ما عبَّرتُ عنه أنا وناي من خلال مفهوم "الاعتماد المتبادل غير المتكافئ".

دعني أوضح ذلك؛ مبدأ "الاعتماد المتبادل غير المتكافئ" يعني أن كلا الجانبين يعتمد على الآخر إلى حدٍّ ما. على سبيل المثال، تعتمد الولايات المتحدة والصين على بعضهما بعضا بشكل كبير، بينما يقل هذا الاعتماد بين الولايات المتحدة وروسيا. لذا، يمكن تتبع أو قياس درجة الاعتماد المتبادل في أي علاقة بين بلدين، لتحديد مدى تأثير ذلك على أيٍّ منهما في حال قام البلد الآخر بقطع أو تقييد التجارة أو تغيير الظروف الاقتصادية الأخرى.

البروفيسور روبرت كيوهان: يؤمن ترامب بالقوة الصلبة، وبتوظيف التهديدات والوعود بالعقوبات المادية أو تقديم المنافع للتأثير على الدول الأخرى لقبول شروطه (الفرنسية)

ولكن بعد ذلك، يجب ألا نسأل عن مدى الاعتماد المتبادل فحسب، بل عن مدى عدم تماثله. فإذا كان الاعتماد متماثلا (أي إن الدولتين تعتمدان على بعضهما بشكل متساوٍ أو متقارب)، كما هو الحال بين معظم الدول الأوروبية مثلا، فلا توجد ميزة قوة معينة لأيٍّ منهما. أما إذا كان غير متماثل، أي إذا كان أحد البلدين يعتمد على الآخر بصورة مفرطة، فإن ذلك يمنح الأفضلية للبلد الأقل اعتمادا.

إعلان

يحسب ترامب أن الولايات المتحدة تتمتع باعتماد متبادل غير متكافئ لصالحها، نظرا لكون وارداتها تتجاوز صادراتها بكثير مع معظم شركائها التجاريين الرئيسيين، وتتراوح هذه النسب من ثلاثة إلى واحد مع الصين، وصولا إلى 1.2 إلى واحد مع كندا. ويعني هذا الفائض في الاستيراد أن الولايات المتحدة تمتلك القدرة على تقييد الواردات.

وهكذا فإن إمكانية تقييد الواردات تُشكِّل مصدرا محتملا للقوة. لذا وبشكل مفارق، يمنح العجز التجاري الأميركي الولايات المتحدة قوة سياسية كامنة، وهذا ما يُعرف بـ"مفارقة قوة التجارة" التي تحدثت عنها في المقال (المنشور في "فورين أفيرز").

إذن للإجابة عن السؤال الأساسي: في أي المواقف الاقتصادية يكون تقييد العلاقات أقل تكلفة على الولايات المتحدة مقارنةً بشركائها؟ الجواب هو عندما تستورد الولايات المتحدة سلعا من بلد ويمكن تصديرها أيضا من قِبَل جهات أخرى، أو يمكن توفيرها بسهولة نسبيا من قِبَل موردين آخرين، ويكون هناك عدد قليل جدا من الصادرات الأميركية التي يمكن لشريكها معاقبتها من خلالها.

وقد قامت الولايات المتحدة بهذا الحساب في أبريل/نيسان، وردَّ الصينيون بإظهار أن لديهم عددا من الصادرات، مثل الليثيوم والمعادن النادرة، التي يمكنهم قطعها أيضا، حيث لا تستطيع الولايات المتحدة العثور بسهولة على إمدادات بديلة لها.

أعتقد أن هذا قد دفع الولايات المتحدة خطوة إلى الوراء. كان الصينيون يوضحون أن الاعتماد المتبادل غير المتكافئ لم يكن مواتيا للولايات المتحدة كما افترضت إدارة ترامب. ولذلك، نحن الآن في حرب تجارية يختبر فيها الجانبان مدى فعاليتهما في تقييد أو تحديد أو قطع الإمدادات عن الآخر.

 

لقد أشرت إلى ما سمّيته "مشكلات بلا جوازات سفر" (مشكلات عابرة للحدود الوطنية)، مثل تغير المناخ والأوبئة، وكيف تؤثر على العلاقات الدولية والتعاون. ما تأثير نهج إدارة ترامب على هذه الجهود، كما يتضح من انسحابها من اتفاقية باريس ومنظمة الصحة العالمية؟ وهل تعزز هذه السياسات نهج ترامب الانعزالي؟

البروفيسور كيوهان: هذا سؤال جيد. لكننا هنا نناقش جانبا مختلفا عن التجارة، إذ نتناول السلع العامة العالمية. فتغير المناخ، بعد نقطة معينة، يصبح سلبيا على الجميع، رغم أن تأثيره أسوأ على بعض البلدان مقارنةً بغيرها، ولا يتساوى ضرره على الجميع. فهو أشد سوءا في المناطق المدارية، بينما قد يكون أقل ضررا أو حتى مواتيا لروسيا. لكن عموما هو أمر سيئ ومحفوف بالمخاطر للجميع، وامتلاك مناخ صالح للعيش يُعد سلعة عامة عالمية.

من ناحية أخرى، بما أنها سلعة عامة، فهذا يعني أن الجميع يتأثرون بأفعال أي فرد، ولكن أفعال كل دولة لا تُشكِّل سوى جزء صغير نسبيا من التأثير الكلي. حتى الولايات المتحدة، التي تُعد مساهما رئيسيا في تغير المناخ، لا تعاني من جميع أو حتى معظم آثار أفعالها لأنها تنتشر في جميع أنحاء العالم.

وينطبق الشيء نفسه على الصين وغيرها. وهذا يعني أنه لا يوجد لدى أي بلد حافز كافٍ لدفع ثمن الحد من انبعاثاته الخاصة، لأنه لا يتضرر إلا بجزء من تلك الانبعاثات. لذا، يجب أن يكون الحل الوحيد هو نوع من الاتفاق العالمي، حيث يوافق الجميع على الحد من الانبعاثات التي تسبب تغير المناخ. وهذا هو اتفاق باريس لعام 2016، الذي جاء بعد عدد من الاتفاقيات الفاشلة، خاصة اتفاقية كيوتو وتعديلاتها اللاحقة.

لدينا الآن اتفاق، فإذا نُفِّذَ بالكامل فسيُسهم في خفض تغير المناخ من مستوياته المرتفعة جدا إلى ربما درجتين إلى ثلاث درجات مئوية، ورغم أنه ليس اتفاقا كافيا، فإنه سيُمثِّل تقدما كبيرا حال تنفيذه.

لكن ترامب تخلى عن هذا الاتفاق، وصرّح بأنه لن يُنفِّذ بنوده، كما يحمل في جعبته عددا من السياسات لزيادة استخدام الوقود الأحفوري، التي ستزيد من وطأة واقع تغير المناخ، وهذا سوف يجعل العالم أكثر خطورة. لذا يُعد هذا مثالا على تخلي ترامب عن الإجراءات التي كانت تُتخذ لتحقيق سلعة عامة عالمية، والتخلي عنها بطريقة ستعود بالضرر على الجميع.

هذا هو المثال الأكثر وضوحا، ولكن هناك أمثلة أخرى لانسحاب ترامب من الاتفاقيات الدولية. فقد انسحب من منظمة الصحة العالمية، التي توفر سلعا عامة عالمية بشأن القضايا الصحية. إنه لا يؤمن حقا بإنتاج سلع عامة عالمية، وبالتأكيد لا يؤمن بذلك إذا كانت الولايات المتحدة، كما كانت غالبا، هي المزود الرئيسي أو أحد المزودين الرئيسيين لتلك السلع العامة العالمية.

 

لقد انتقدت أنت وجوزيف ناي هجوم ترامب على العولمة وقيوده على الهجرة. كيف تنظران إلى التأثير طويل المدى لهذه السياسات على الولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق بالابتكار وجذب المواهب؟ ولماذا تعتبران هذه السياسات "هدية للصين"؟

البروفيسور كيوهان: تُعد الهجرة قضيةً مثيرة للاهتمام ومحل جدل خاص. فمن الشائع جدا أن ترغب الدول الغنية في تقييد الهجرة، لأنها لو لم تفعل ذلك لتدفقت أعداد كبيرة من الناس إلى أراضيها، مما سيؤدي إلى اضطراب من وجهة نظر مواطنيها الذين لا يُفضِّلون قدوم المهاجرين.

إعلان

ينطبق هذا على أوروبا، واليابان التي تقبل القليل جدا من المهاجرين، والولايات المتحدة التي كانت تاريخيا بلدا للهجرة. ولكن بعد نقطة معينة، تُصبح تدفقات الهجرة كبيرة، وقد شهدت الولايات المتحدة أعدادا ضخمة، تتراوح من ربع مليون إلى مليون شخص يعبرون الحدود، وهذا أمر مدمر. لكن ترامب بالطبع شن حملته الانتخابية انطلاقا من برنامج عنصري للغاية ومعادٍ للمهاجرين، حيث لم يرغب في تقييد الهجرة فحسب، بل خطّط لترحيل الأشخاص الذين دخلوا البلاد بشكل غير قانوني، وفي بعض الحالات يحاول ترحيل الأشخاص الذين دخلوا الولايات المتحدة بشكل قانوني.

كانت الولايات المتحدة تاريخيا مستفيدة من الهجرة. إنها تجذب أفضل وأذكى العقول من جميع أنحاء العالم. الهجرة حاسمة للبحث العلمي الأميركي، حيث وُلد العديد من علمائنا في الخارج. كما أنها حاسمة لريادة الأعمال، على سبيل المثال إيلون ماسك من جنوب أفريقيا. وبالتالي، فإن الانفتاح على الهجرة كان مساهما رئيسيا في جعل الولايات المتحدة مركز الابتكار العالمي، والمكان الذي يأتي إليه معظم الناس من جميع أنحاء العالم.

لذا فإن ترامب من خلال مهاجمة الهجرة يقدم هدية للصين. فمهاجمة الهجرة بطريقة واسعة، وليس مجرد تقييد هجرة الأشخاص ذوي المهارات المنخفضة عبر الحدود المكسيكية، وهو ما أعتقد أنه كان على أي إدارة أن تفعله، بما في ذلك إدارة بايدن التي تأخرت في القيام بذلك، يؤدي إلى مهاجمة أنواع الهجرة التي تعود بالنفع على الولايات المتحدة.

ربما كانت سياسة هجرة متمايزة، أو سياسة معايرة بعناية، لتكون أمرا جيدا بدلا من تشديد الهجرة، ولكن ترامب يهاجم الهجرة بمطرقة ثقيلة بدلا من المشرط. وإحدى النتائج هي أن ترامب يقدم هدية للصين، فنحن نشهد عودة العلماء المولودين في الصين إلى الصين، حيث يمكنهم الحصول على مختبرات للعمل، وحيث يمكن قبولهم، بدلا من العمل في الولايات المتحدة أميركيين صينيين.

يجادل كيوهان بأن سياسات ترامب (يمين) ستضر بأميركا التي كانت موطنا للعقول المهاجرة، وكان الملياردير إيلون ماسك إحدى ثمراتها (رويترز)

 

وصفت الهجوم على البحث العلمي والجامعات بأنه جرح ذاتي هائل. كيف يمكن أن يضر بـ"القوة الناعمة" باعتبارها جوهر القوة الأميركية، المتعلقة بالابتكارات والتقدُّم العلمي؟

البروفيسور كيوهان: ينبع هذا مما ذكرته قبل قليل، وهو أن المصدر الرئيسي لقوة الولايات المتحدة، كما يُفترض، يأتي من ريادتنا العلمية. هذه الريادة العلمية تنبع إلى حدٍّ كبير وليس كليا من الجامعات، فالبحث العلمي الأساسي يُجرى في الجامعات عادةً.

أما البحث العلمي التطبيقي فيُنفذ غالبا في الشركات، لكن الشركات لا ترغب في القيام بالبحث العلمي حتى تتمكن من رؤية منتج ذي جدوى تجارية، على الأقل بوصفه احتمالا في الأفق. لذا شكَّلا معا مجموعة متكاملة للغاية من الأنشطة؛ الجامعات تقوم بالبحث العلمي الأساسي، بينما شركات مثل "موديرنا" و"فايزر" وغيرها تقوم بالبحث العلمي التطبيقي الذي يُحوِّل العلم إلى منتجات قابلة للتطبيق تجاريا.

يكره ترامب الجامعات الأميركية بشدة. أعتقد أنه يفعل ذلك لأن الجامعات مليئة بالأشخاص الذين لا يحبونه، وهو يكره ذلك بشدة. وقد اتخذ إجراءات مباشرة خاصة ضد جامعة هارفارد، ولكن ليس فقط ضد هارفارد بعينها، بل لإضعاف الجامعات بصورة عامة. وأحد هذه الإجراءات تَمثَّلَ بسحب الأموال الفيدرالية، كما حدث مع هارفارد، مما يؤثر سلبا بالطبع على البحث العلمي، حيث يُجرى الكثير منه في الجامعات. نحن نمتلك نظاما معقدا جدا ومنتجا للغاية، وترامب يهاجم عنصرا رئيسيا فيه والمتمثل في الجامعات، مما يُعطِّل نظام الابتكار بأكمله.

 

ذكرت أن الصين تستثمر في القوة الناعمة، في الجامعات، وفي العلاقات مع الدول في مختلف القارات. هل ترى أن هذا النوع من الاستثمار الصيني يمكن أن يضع حدًّا للقرن الأميركي الطويل؟

البروفيسور كيوهان: حسنا، لنعد دقيقة إلى الوراء. الصين بلد ديناميكي يبلغ عدد سكانه ثلاثة أضعاف سكان الولايات المتحدة، ويضم أعدادا كبيرة من الأشخاص الموهوبين جدا. وعلى مدى الأربعين عاما الماضية، منذ زوال الماوية، كان لدى الصين حكومة تركز بشكل كبير على زيادة الكفاءة التكنولوجية والعلمية الصينية، والقوة الصينية عموما.

لذلك، لم يكن هناك مفر من أن تصبح الصين منافسا رئيسيا للولايات المتحدة. وبغض النظر عن مدى جودة أداء الولايات المتحدة، كانت الصين ستلحق بها لأنها كانت تبدأ من الخلف على أساس متين. كانت قادرة على القفز، وتمتلك أصولا هائلة وأعدادا ضخمة من الأشخاص الموهوبين والمتعلمين بشكل متزايد. لذا فإن حتمية اللحاق بالولايات المتحدة لا مفر منها على أي حال.

طلاب من جامعة هارفارد يحتجون على الحرب في غزة ويظهرون بجوار تمثال جون هارفارد في 25 أبريل/نيسان 2024 (أسوشيتد برس)

كانت الولايات المتحدة بطيئة في الرد على ذلك في عهد بوش وأوباما، وحتى بايدن الذي غيّر الأمر إلى حدٍّ ما. كانت بطيئة في إدراك حاجتنا إلى جهد أكثر تركيزا، وإلى المزيد من الدعم الحكومي للجهود المبتكرة مثل بطاريات الليثيوم، وإلى مزيد من الاستعداد لتحمل المخاطر. لقد كانت الولايات المتحدة خجولة جدا في القيام بذلك، ويرجع ذلك جزئيا إلى كونها نظاما سياسيا ديمقراطيا، فإذا حدث فشل كبير مثل برنامج "سوليندرا" (برنامج لإنتاج ألواح الخلايا الشمسية بتكلفة تفوق 500 مليون دولار)* وتعرض لهجمات من المعارضة، فإن المسار الطبيعي للحكومة هو التراجع والقيام بعمل أقل. ولكن هذا لم يغير أي شيء من تقدم الصين.

والآن، تزيد الولايات المتحدة الأمر سوءا في عهد ترامب، لأنه بالطبع، من خلال مهاجمة الجامعات الأميركية، يهاجم الابتكار الأميركي. إنه يطرد العلماء، ويدفعهم إلى كندا أو إلى الصين إذا كانوا أميركيين صينيين. لذا فهو يُسرّع من التراجع النسبي الذي كان سيحدث على أي حال. كانت الصين تلحق بالركب على أي حال، وهي تلحق به بشكل أسرع بكثير بسبب سياسات ترامب.

 

نجد أن بعض نظريات الواقعية الجديدة تقول دائما إن الولايات المتحدة انخرطت في حروب خاطئة في الشرق الأوسط، وإن الحرب الحقيقية يجب أن تكون مع الصين، فهل تتفق مع هذا الطرح؟

البروفيسور كيوهان: أتفق أن الولايات المتحدة انخرطت في حروب خاطئة في أفغانستان والعراق بالتأكيد. أعتقد أن الرد على هجوم طالبان في أفغانستان كان ضروريا وحاسما، لكنه تجاوز الحدود بكثير. كانت هناك محاولة طموحة جدا لإعادة تشكيل أفغانستان، ولم تكن واقعية أبدا. لذا، كان ينبغي للولايات المتحدة، في رأيي، أن "تنتقم" من طالبان ثم تنسحب، لكننا لم نفعل ذلك. لقد حاولنا إعادة تشكيل أفغانستان على صورة دولة ديمقراطية غربية، وهو أمر مستحيل.

أما مشروع العراق، فقد اعتقدت أنه فشل منذ البداية. لقد كتبت مقالات افتتاحية ضده قبل أن يحدث. أعتقد أنه كان من المتوقع أن يكون مستنقعا وأنه لن ينجح وسيزيد الأمور سوءا فقط. لذا، أعتقد أن هذين المشروعين كانا فاشلين، وكان ينبغي للولايات المتحدة ألا تكون متورطة فيهما.

علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل معقدة للغاية بسبب السياسات الداخلية. إسرائيل حاضرة في وجدان عدد مهم من الأميركيين، وليس فقط اليهود منهم. هناك الكثير من التقارب مع إسرائيل رغم أن حكومة نتنياهو تجعل هذا التقارب أكثر صعوبة.

لذلك، هناك اليوم الكثير من الناس في الولايات المتحدة يواجهون ضغوطا متضاربة للغاية بشأن إسرائيل، وغير مرتاحين للسلوك الإسرائيلي. ومع ذلك فهم غير مستعدين ليكونوا مؤيدين كاملين للفلسطينيين الذين أظهروا أيضا عدم رغبة في التسوية في لحظات حاسمة. لذا، فهذا وضع متنازع عليه باستمرار.

لقد ذكرت شرق آسيا، وأعتقد أن هذه ستكون قضية رئيسية. سياسة الولايات المتحدة، كما هو معلوم، تجاه الدفاع عن تايوان تتسم بالغموض المُتعمَّد، وهذا الغموض قد يُفضي إلى مشكلات. وقد تجلّى ذلك في حرب كوريا، حين كان موقف الولايات المتحدة من الدفاع عن كوريا الجنوبية ضد هجوم شمالي غير واضح، وربما شجّع ذلك الكوريين الشماليين على الهجوم، لتتدخل الولايات المتحدة لاحقا، مما أدّى إلى نشوب الحرب.

لذا أعتقد أن الوضع في شرق آسيا وتايوان مقلق للغاية. تزداد هذه الصعوبة بسبب نجاح تايوان الباهر في مجال التكنولوجيا الفائقة، لدرجة أنها أصبحت حاسمة لصناعة الذكاء الاصطناعي حاليا، وذلك بفضل الرقائق التي لا يستطيع أحد إنتاجها سوى تايوان. لذا، إذا سألت عن المصدر المحتمل لصراع عالمي واسع النطاق، فسيكون الجواب صراعا أميركيا صينيا حول تايوان، أو حول جانب من جوانب العلاقات الأميركية التايوانية. هذا الأمر يثير قلقي بشدة.

روبرت كيوهان: إذا سألت عن المصدر المحتمل لصراع عالمي واسع النطاق، فسيكون الجواب صراعا أميركيا صينيا حول تايوان (الجزيرة) هل ترى أن الولايات المتحدة خسرت سباقها ضد الصين؟

البروفيسور كيوهان: أعتقد أن هذا السباق ما زال قائما. فالصينيون يحققون أداءً متفوقا بكثير على الولايات المتحدة. ومع ذلك، لا ينبغي الاستخفاف بالولايات المتحدة؛ فهي لا تزال المحور الحقيقي للابتكار. يتميز الصينيون بقدرة فائقة على تبنّي الابتكارات وتطبيقها على نطاق واسع، وقد ظهر ذلك جليا في قطاع السيارات الكهربائية على سبيل المثال. لكن التكنولوجيا الرائدة في هذا المجال طُوِّرت في الولايات المتحدة، من خلال شركات مثل "تسلا".

تفوقت الولايات المتحدة عادةً في الابتكار، بينما أظهر الصينيون براعةً أكبر في التطبيق. أتوقع الآن أن يتحسن أداء الصينيين في الابتكار بشكل متزايد. وعليه، لا أرى أن هذا الوضع دائم. وإذا استمرت الولايات المتحدة، كما في عهد ترامب، في مهاجمة مؤسساتها العلمية، فسوف يُسرِّع ذلك من تقدم الصين. هذا سيجعل تنافس الولايات المتحدة مع الصين على المدى الطويل أكثر صعوبة.

 

كيف تسعى الصين إلى تعزيز قوتها الناعمة وتحدي الهيمنة الأميركية؟ وما العقبات التي تواجهها في هذا المسعى؟ وكيف يمكن لسياسات ترامب أن تؤثر على هذه المنافسة العالمية؟

البروفيسور كيوهان: زادت الصين استثماراتها العسكرية والاقتصادية، وعملت على تعزيز جاذبيتها. في عام 2007، دعا الرئيس هو جينتاو إلى تعزيز القوة الناعمة للصين، حيث أنفقت الحكومة عشرات المليارات لتحقيق ذلك. لكن النتائج كانت متباينة بسبب نزاعاتها الإقليمية وسيطرة الحزب الشيوعي الصارمة. كما تثير الصين استياءً دوليا بانتهاك الحدود وسجن نشطاء حقوق الإنسان.

قبل ولاية ترامب الثانية، تخلَّفت الصين عن الولايات المتحدة في الرأي العام العالمي. أظهرت استطلاعات الرأي من "بيو" (2023) و"غالوب" (2024) جاذبية الولايات المتحدة الأكبر في معظم البلدان، باستثناء أفريقيا، حيث كانت النتائج متقاربة. ومع ذلك، فإن تقويض ترامب للقوة الناعمة الأميركية يمكن أن يغير هذه الأرقام بشكل كبير. تاريخيا، شهدت القوة الناعمة الأميركية تقلبات، خاصة خلال حربَيْ فيتنام والعراق، لكنها تستمد قوتها من المجتمع والثقافة، وليس فقط من الإجراءات الحكومية. يمكن أن يكون المجتمع المدني المفتوح الذي يسمح بالاحتجاج أصلا مهما. ومع ذلك، فإن هذه القوة لن تصمد أمام تجاوزات الحكومة الأميركية إذا استمرت الديمقراطية في التآكل.

من جانبها، تسعى الصين لملء أي فجوات يخلقها ترامب، وتطمح لتصبح زعيمة "الجنوب العالمي" لإزاحة النظام الأميركي. تهدف مبادرة "الحزام والطريق" إلى جذب الدول وتوفير القوة الاقتصادية، وقد أصبحت الصين بالفعل الشريك التجاري الأكبر لعدد أكبر من الدول مقارنة بالولايات المتحدة. إذا اعتقد ترامب أنه يستطيع التنافس مع الصين بينما يضعف التحالفات، ويؤكد الطموحات الإمبريالية، ويدمر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، ويتحدى سيادة القانون، وينسحب من الأمم المتحدة، فسينتهي به الأمر إلى تدمير قوة الولايات المتحدة.

 

هل تسببت العولمة في تحديات اقتصادية واجتماعية للولايات المتحدة؟ وكيف استغل القادة الشعبيون مثل ترامب هذه التحديات في تبنّي سياسات حمائية تهدف إلى عكس مسار العولمة؟ وما الآثار المترتبة على ذلك على القوة الأميركية؟

البروفيسور كيوهان: يُصوِّر الشعبويون الغربيون، ومنهم ترامب، العولمة بوصفها قوة شيطانية، بينما هي في جوهرها تزايد للترابط عبر الحدود الوطنية. يهدف ترامب بتهديده بفرض رسوم جمركية على الصين إلى تقليص الجانب الاقتصادي من هذا الترابط، مُلقيا عليه باللوم في فقدان الصناعات والوظائف. ورغم وجود جوانب سلبية للعولمة، فإن تصرفات ترامب خاطئة، لأنها تهاجم أشكال العولمة المفيدة للولايات المتحدة والعالم، وتُخفِق في مواجهة الجوانب السلبية. لقد عززت العولمة القوة الأميركية، وهجوم ترامب عليها لا يؤدي إلا إلى إضعاف الولايات المتحدة.

المعضلة هي أن النمو الاقتصادي يكون مؤلما في بعض الأحيان. فقدت الولايات المتحدة ملايين الوظائف واكتسبت ملايين أخرى في القرن الحادي والعشرين، مما فرض تكاليف تعديل على العمال دون تعويض كافٍ. كما أدت التغييرات التكنولوجية والأتمتة إلى فقدان الوظائف، وقد تفاقمت هذه الضغوط بسبب زخم صادرات الصين. لكن ردود الفعل القومية الشعبوية على الانتشار المتزايد وسرعة العولمة، من خلال فرض الرسوم الجمركية وزيادة الرقابة على الحدود، يمكن أن تكون سيئة لمستقبل القوة الأميركية، التي تعززت بفضل طاقة وإنتاجية المهاجرين عبر تاريخها، على غرار ما حدث في العقود العديدة الماضية.

 

كلمة أخيرة عن نهاية القرن الأميركي الطويل للجمهور العربي.

البروفيسور كيوهان: أعتقد أننا بلغنا نهاية القرن الأميركي الطويل؛ فالهيمنة الأميركية قد ولَّت، لكننا لم نصل إلى نهاية التاريخ.

وهذا يعيدنا إلى مفهوم جوزيف ناي للقوة الناعمة. لقد كانت الولايات المتحدة فعالة جزئيا على مدى الثمانين عاما الماضية في كونها رائدة عالمية بفضل قوتها الصلبة، لكنها كانت فعالة أيضا بفضل قوتها الناعمة. هذه القوة الناعمة تعتمد على مدى جاذبية المجتمع للمجتمعات الأخرى، وقد كانت الولايات المتحدة جذابة للغاية.

ويمكنك ملاحظة ذلك في استطلاعات الرأي العام؛ فالناس، بما في ذلك في الشرق الأوسط، غالبا ما يرغبون في الهجرة إلى الولايات المتحدة. إنها بلد يرغب الكثيرون في زيارته والعيش فيه، وقد امتلكت الولايات المتحدة الكثير من القوة الناعمة قبل ترامب.

لقد استفادت الصين من تقليل ترامب للقوة الناعمة الأميركية، مما منح بكين ميزة. كما عطَّل ترامب أنماط الصداقة والتحالفات الأميركية، بما في ذلك ما كان مع دول أوروبية نشترك معها في قدر هائل من القواسم المشتركة، وهذا من شأنه أن يجعل الناس يشعرون بالقلق بشأن مدى قربهم من الولايات المتحدة أو اعتمادهم عليها كما كانوا في الماضي. لذا وبكلمة واحدة، فإن ترامب يتخلص من القوة الناعمة الأميركية، وهي فكرة سيئة للغاية.

_______________
* إضافة الكاتب

مقالات مشابهة

  • البروفيسور روبرت كيوهان لـالجزيرة نت: ترامب أنهى قرن أميركا الطويل وجفَّف منابع قوتها الناعمة
  • في ذكرى هدنة الحرب الكورية.. كيم يتعهد بالانتصار على أميركا
  • البيت الأبيض: ترامب منفتح على الحوار مع زعيم كوريا الشمالية
  • البيت الأبيض يكشف عن صورة بطولية جديدة لـ ترامب
  • البيت الأبيض: ترامب لا يزال منفتحا على الحوار مع الزعيم كيم
  • القضاء يوقف قيود ترامب على منح الجنسية بالولادة في أميركا
  • بعد عقدين من القيود.. ترامب يحتفي بفتح السوق الأسترالية أمام لحوم الأبقار الأميركية
  • السفارة الأميركية بطرابلس: أميركا لا تسعى لنقل سكان غزة إلى ليبيا
  • الوكالة الأميركية للتنمية: لا دليل على سرقة حماس مساعدات غزة
  • ترامب يأمر بإزالة خيام المشردين في أميركا