الذكاء الاصطناعي ومجتمع ما بعد الندرة.. اقتصادٌ بلا بشر؟
تاريخ النشر: 23rd, July 2025 GMT
مؤيد الزعبي
من أكثر النقاط المثيرة للجدل حول الذكاء الاصطناعي تأثيره في صناعة مجتمع ما بعد الندرة (Post-Scarcity Society)، ماذا لو غدا الذكاء الاصطناعي هو الذي يدير الإنتاج، ويُنتج الغذاء والطاقة والخدمات دون تدخل الإنسان؟ في هذا السيناريو، هل سيخلق الإنسان لنفسه مكانًا جديدًا داخل دائرة الاقتصاد؟ أم سيظل مجرد مراقب وسيخرج منها نهائيًا، وفي هذه الحالة هل سنتقاعد على ال 40، أم سنعمل ل 3 ساعات يوميًا، هذه التساؤلات وإن كانت فلسفية إلا أنها ستُغير عالم الاقتصاد تغيرًا جذريًا، فإذا أزلنا العمل كمصدر دخل للبشر، فهل ستستمر الرغبة بالإنفاق؟ وهل يبقى الاقتصاد اقتصادًا؟ لا أعتقد ذلك، ولكن دعنا نطرحه ونستفيض في مناقشته هنا معك عزيزي القارئ.
في ظل استخداماتنا للذكاء الاصطناعي يبدو أن مبدأ الوفرة المتوقعة في قادم الأيام مبدأ لن يختلف عليه اثنان، فجميع خبراء المجال وشركاته يضعون أمام أعيننا سيناريو واحدًا، ألا وهو الوفرة، ويعدوننا بوفرة لا نهائية، ودقة لا متناهية واستخدام أمثل لمواردنا، وفي هذا المستقبل قد لا يحتاج الإنسان إلى العمل لتغطية ضرورياتنا الأساسية فالروبوتات تؤديها بدقة وكفاءة عالية جدًا، ولكن السؤال الأهم إذا كان الإنسان هو محرك الاقتصاد فمن سيكون محركه حينها، وحتى عجلة الإنتاج ستتوقف لأن الوفرة ستؤدي لعدم حاجة للكثير من الأشياء.
الرأسمالية بوصفها نظامًا مدفوعًا بالحاجة البشرية، يعمل الإنسان لأنه يريد أن يستهلك، ويستهلك لأنه يشعر بالحاجة، وتستمر الحلقة هذه الديناميكية النفسية والاقتصادية تحرّك الاقتصاد، في مثال بسيط ومعتل بعض الشيء، لكن نحن اليوم بمجرد ذهابنا للعمل نحن نحرك الاقتصاد، نستخدم المواصلات (بنزين، مترو، تاكسي)، ونستهلك طاقة (تكييف، إضاءة، كمبيوترات)، ونحرك عجلة البيع في محلات التجزئة والمطاعم، نشتري قهوة صباحًا ووجبة في منتصف اليوم، فتكون مصدر رزق لشخص آخر يعمل، وبذلك نحتاج إلى ملابس عمل، أدوات مكتبية، وهكذا استهلاكنا مثل عجلة التروس يضمن استمرار الحركة، وإذا ما توقفنا عن العمل ستختفي الكثير من القطاعات، لأننا فقط لا نحتاجها وهذا بحد ذاته فكرة عميقة في الاقتصاد الحديث تُعرف أحيانًا ب "الطلب المُحرِّك للاقتصاد"، إذا دعنا نتفق أن العمل ليس مجرد إنتاج، بل هو أداة تنشيط دائم لقطاعات اقتصادية عديدة، وإذا اختفى ذهابنا إلى العمل (بسبب الأتمتة أو الذكاء الاصطناعي الكامل)، فإن هذا "الطلب المصاحب" سيختفي أيضًا.
في ظل ما سبق، نحن سنكون أمام تضخم في الوفرة، يقابله ضمور في الطلب الحقيقي، وهذا ما هو مقلق، فنحن كبشر بأنظمتنا ونفسياتنا وطبيعتنا مصممون لنعمل، لا أن نكون مراقبين على العمل، وصحيح أن هناك من ينادي بأن الحل يكمن في ضرورة توفير الدخل الأساسي الشامل، بحيث نحن كبشر نأخذ راتبًا أساسيًا دون أن نعمل، فقط لنكون محركين للاقتصاد، وبذلك نتحول إلى مجتمع ما بعد العمل، وهناك دراسات ترعاها Google DeepMind وMIT، تتصور أن يتولى الذكاء الاصطناعي الإنتاج، والبشر ينتقلون إلى مجالات أخرى مثل الاستكشاف الفضائي، أو البحث الفلسفي والمعرفي أو الفن والمشاركة المجتمعية، ولكن من قال إن الإنسان سيكتفي بذلك، ومن قال أساسًا أن كل البشر قادرين على القيام بمثل هذه الأدوار.
قد أكون واحدًا ممن يدعمون فكرة أن نستغل الذكاء الاصطناعي في كل ما يسهل ويحسن حياتنا، ولكن يجب ألا نغفل أننا أمام جملة من التحديات الكبرى، أولًا: الفجوة الاقتصادية؛ فالوفرة قد تبقى خيارًا لمن يملك الذكاء الاصطناعي والبيانات، مما سيؤدي إلى عدم عدالة في توزيع الوفرة، وأيضًا في هذه النقطة تحديدًا، من سيكون مسؤولًا عن توزيع الوفرة، من سيقرر حجم الاستهلاك المطلوب لكل فئة أو كل دولة من الناس، هل سنترك الذكاء الاصطناعي نفسه هو من يقيم كيفية توزيع الوفرة ونتركه يقسمها بشكل عادل، أو سيكون هناك من يتحكم به فيقرر أن تكون الوفرة للأقوى، ومن يمتلك علوم الذكاء الاصطناعي وهناك مَن يُهمَّشون.
ثانيًا: من أزماتنا الكبرى الأزمة السياسية، فنحن مع قوة الاقتصاد لدينا اليوم مشكلات توزيع القوة، وغدًا مع قوة التقنية ستصبح المركزية لمن يمتلك التقنية وهو الأقوى سياسيًا، هذا بخلاف أن لدينا مشكلة ثالثة مهمة جداً متعلقة بالبُعد الأخلاقي والروحي، فكل هذه المتغيرات ستأكل من قيمنا الأخلاقية أو تبدلها عزيزي القارئ، وستضعنا أمام ضغوطات جمة تتخبط معها الكثير من المفاهيم والأنظمة والسياسات.
في الختام علينا أن نعي تمامًا أن الوفرة ليست هدفًا نهائيًا، فالبشر في محاولتهم الوصول للوفرة يمضون في الرحلة، رحلة أمضيناها منذ آلاف السنين، فمنا من حقق الوفرة، ومنا من لم يحققها، ولكن أن تصبح الوفرة متاحة دون معنى حقيقي لوجودنا نحن البشر، وأجدها لا تتناسب مع طبيعتنا البشرية خصوصًا أن هذا سيخلق لنا عصرًا من الفراغ، وهذا ما سوف أتحدث فيه معكم في مقالي القادم.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
فيديو.. مباراة تنس بلا نهاية بين روبوتات غوغل لتدريب الذكاء الاصطناعي
في صيف 2010، خاض لاعبا التنس جون إيسنر ونيكولا ماهو واحدة من أكثر المواجهات استنزافًا في تاريخ ويمبلدون، فقد استمرت المباراة 11 ساعة على مدار 3 أيام. وبعد أكثر من عقد، يخوض خصمان من نوع آخر مباراة لا تقل عنادًا، لكن هذه المرة داخل مختبرات ديب مايند التابعة لغوغل، وبلا جمهور.
فبحسب تقرير لموقع بوبيلار سينس (Popular Science)، تتحرك ذراعان روبوتيتان في مباراة تنس طاولة بلا نهاية في مركز الأبحاث جنوب لندن، ضمن مشروع أطلقته ديب مايند عام 2022 لتطوير قدرات الذكاء الاصطناعي عبر التنافس الذاتي المستمر. الهدف لا يقتصر على تحسين مهارات اللعب، بل يتعداه إلى تدريب خوارزميات قادرة على التكيف مع بيئات معقدة، مثل تلك التي تواجهها الروبوتات في المصانع أو المنازل.
من مناوشة بلا فائز إلى تدريب بلا توقففي بدايات المشروع، اقتصر التمرين على ضربات تبادلية بسيطة بين الروبوتين، من دون سعي لتحقيق نقاط. ومع الوقت، وباستخدام تقنيات التعلم المعزز، أصبح كل روبوت يتعلم من خصمه ويطوّر إستراتيجياته.
وعندما أُضيف هدف الفوز بالنقطة، واجه النظام صعوبة في التكيف، إذ كانت الذراعان تفقدان بعض الحركات التي أتقنتاها سابقًا. لكن عند مواجهة لاعبين بشريين، بدأت تظهر بوادر تقدم لافت، بفضل تنوع أساليب اللعب التي وفّرت فرص تعلم أوسع.
ووفق الباحثين، فازت الروبوتات بنسبة 45% من أصل 29 مباراة ضد بشر، وتفوقت على لاعبين متوسطين بنسبة بلغت 55%. فالأداء الإجمالي يُصنّف في مستوى لاعب هاوٍ، لكنه يزداد تعقيدًا مع الوقت، خصوصًا مع إدخال تقنيات جديدة لمراقبة الأداء وتحسينه.
عندما يعلّم الفيديو الذكاء الاصطناعيالتحسينات لم تتوقف على التمرين الفعلي، إذ استخدم الباحثون نموذج جيمناي (Gemini) للرؤية واللغة من غوغل لتوليد ملاحظات من مقاطع الفيديو الخاصة بالمباريات.
ويمكن للروبوت الآن تعديل سلوكه بناء على أوامر نصيّة، مثل "اضرب الكرة إلى أقصى اليمين" أو "قرّب الشبكة". هذه التغذية الراجعة البصرية اللغوية تعزز قدرات الروبوت على اتخاذ قرارات دقيقة خلال اللعب.
إعلان تنس الطاولة بوابة لروبوتات المستقبلتُعد لعبة تنس الطاولة بيئة مثالية لاختبار الذكاء الاصطناعي، لما فيها من توازن بين السرعة والدقة واتخاذ القرار. وهي تتيح تدريب الروبوتات على مهارات تتجاوز مجرد الحركة، لتشمل التحليل والاستجابة في الوقت الحقيقي، وهي مهارات ضرورية للروبوتات المستقبلية في البيئات الواقعية.
ورغم أن الروبوتات المتقدمة ما زالت تتعثر في مهام بسيطة بالنسبة للبشر، مثل ربط الحذاء أو الكتابة، فإن التطورات الأخيرة -كنجاح ديب مايند في تعليم روبوت ربط الحذاء، أو نموذج "أطلس" الجديد الذي قدّمته بوسطن ديناميكس- تشير إلى تقارب تدريجي بين أداء الآلة والإنسان.
نحو ذكاء عام قابل للتكيفيرى خبراء ديب مايند أن هذا النهج في التعلم، القائم على المنافسة والتحسين الذاتي، قد يكون المفتاح لتطوير ذكاء اصطناعي عام متعدد الاستخدامات. والهدف النهائي هو تمكين الروبوتات من أداء مهام متنوعة، ليس فقط في بيئات صناعية بل أيضًا في الحياة اليومية، بأسلوب طبيعي وآمن.
حتى ذلك الحين، ستبقى ذراعا ديب مايند في مباراة مفتوحة، تتبادلان الكرات والمهارات، في طريق طويل نحو مستقبل روبوتي أكثر ذكاء ومرونة.