#بلا_مجاملة
د. #هاشم_غرايبه
في أحدث الأنباء، وبعد تزايد حدة الانتقادات حول العالم لممارسات العدو اللقيط الإجرامية التجويعية والتدميرية بحق أهل القطاع، بهدف كسر صمودهم، جاء قرار سماح هذا الكيان بإسقاط المساعدات الغذائية من الجو، لتجاوز عقبة اغلاق المعبر من الجانب المصري.
من المضحك تصديق أن الكيان اللقيط ليس هو من أوحى للنظام المصري بتشديد الخناق، لكن من المحزن أن نرى نظاما يحكم قطرا مسلما عربيا متصهين أكثر من الصهاينة أنفسهم.
وهذا ليس بمستغرب عندما يسقط العربي في حمأة العمالة للمستعمر، فيحافظ على مصالحه أكثر من المستعمر ذاته، ورأينا ذلك تاريخيا مرات كثيرة، فالملك شرحبيل بن عمرو الغساني العميل للروم، اعترض رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم الى هرقل، ولم يكتفِ بمنعه من ايصال رسالته، بل قتله في سابقة تاريخية خطيره، حيث أنه يحرم قتل الرسول، ولم يكن هرقل ذاته ليقدم عل هذا الفعل الشائن، أما الخائن لأمته والعميل لعدوها فقد تجاوز كثيرا القيم والأخلاق فيمكنه الإتيان بأشنع الأفعال وأقذرها.
من المهم أن نعلم ان الحصار العربي المفروض على القطاع لم يكن عقوبة على عملية السابع من اوكتوبر، رغم أن هذه العملية البطولية أرعبت الأنظمة العربية أكثر مما أرعبت الغرب الحامي للكيان اللقيط، لأنها عرّتها وكشفت عورة التخاذل المشينة لديها.
بل هي بسبب وصول إسلاميين للسلطة في القطاع منذ عام 2006، مما أفشل مساعي سلطة أوسلو المكملة لدور الأنظمة العربية في القضاء نهائيا على مطلب استعادة فلسطين، فوجود نظام ما زال يقف ضد هذا المشروع الذي أسس الكيان اللقيط، ينذر بإفشاله تماما، ورغم أنه أصغر الأنظمة وأقلها امكانية بشرية واقتصادية، إلا أنه يحظى بتأييد شامل من كل الجماهير العربية، ويحيي آمالها التي حاولت الأنظمة عبر سلسلة من الهزائم المصنوعة أن تميتها، وتقنع شعوبها بأن للعدو قوة لا تقهر، وأنه لا جدوى من مجابهته عسكريا، فلا خيار الا القبول بما يفرضه بالتفاوض.
هكذا نفهم أن حرص الأنظمة العربية على القضاء عل المشروع الجهادي التحريري، لا يقل عن حرص الغرب على القضاء على الروح الجهادية في الأمة أصلا التي عمادها الإسلام.
من هنا رأينا انخراط تلك الأنظمة في الحرب الصليبية الأخيرة التي أطلق عليها للتمويه الحرب على الإرهاب، وكان دورها حيويا، فأجهزتها الاستخبارية متفرغة لرصد نشاطات الإسلاميين، بعد خروج القوى القومية واليسارية إثر موجة الثورات العربية، من معارضة الأنظمة الى دعمها في قمعها التيار الإسلامي المنافس لها، كما رأينا الطائرات الحربية العربية الرابضة في قواعدها منذ 1973، لا تتصدى لطائرات العدو ولا ترد على عدوانها، بل تقصف أهدافا أرضية عربية بتوجيه من القيادة الأمريكية، اعتبرتها ارهابية.
هكذا نفهم أن حصار الأنظمة العربية لمنابع الروح الجهادية، ليس جميعه انقيادا لأمريكا، بل هو أيضا التقاء مصالح معها، فهذه الأنظمة مثل باقي العلمانيين، يعلمون الحقيقة التي تؤرقهم، وهي أنه لن يكون لها نصيب في تولي السلطة، في حال جرت انتخابات نزيهة أو قيام دولة الإسلام، لذلك يرغبون في إبقاء الحال القائم على ما هو، ويبذلون قصارى جهدهم في إعاقة المشروع النهضوي للأمة.
على أن كافة معادي منهج الله، سواء الغرب المستعمر أو الأنظمة أو منافقو العصر (العلمانيون العرب)، جاهلون بطبيعة شعوب الأمة، فهم يعتقدونها ساذجة لا تعلم جوهر عقيدتها، فيظنون أن المسيسين يقودونها ويوجهونها، ولما كان هؤلاء المسيسون غالبيتهم من المنتمين للإخوان المسلمين، فهم يعتقدون أنهم ببطشهم بهذه الجماعة سوف يقضون على الإسلام الجهادي.
جهلهم هذا هو ما أفشل كل خططهم، فتأثير الإخوان المجتمعي ضئيل جدا، لأن الثقة بهم ضعيفة، كونهم لم ينجحوا الى الآن بتشكيل تنظيم سياسي يرتقي فوق الأنانيات التنظيمية، وذي أيديولوجية برامجية قادرة على اثبات وجودها.
ولأن عمى البصيرة صفة عامة لكل معادي منهج الله، لذلك فجهود الأنظمة الحالية في محاربة الإخوان، استباقا لقرار غربي وشيك باعتبارهم جماعة ارهابية، ستصب في مصلحة الإخوان، لأنها سترفع كثيرا من شعبيتهم المتهاوية، وستسقط كل ادعاءات اليساريين بأنهم عملاء للإستعمار.
لو كانوا يعقلون، لكان في فشلهم في القضاء على الروح الجهادية في القطاع عبرة.
“وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” [يوسف:21]. مقالات ذات صلة تأملات قرآنية 2025/07/24
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: هاشم غرايبه الأنظمة العربیة
إقرأ أيضاً:
من المسؤول عن مأساة غزة وحرب إبادتها؟
من المفترض أو المطلوب لأي تحليلٍ يريد أن يكون عقلانياً أو موضوعياً أن يتجرد قدر الإمكان من العواطف، خاصةً الجياشة الهادرة منها، وما أكثرها هذه الأيام.
نطالب، ممن ينتظرون كلاماً عاقلاً، أو من أنفسنا إذا كنا جادين، ببرودة الثلج لدى التحليل، لكي نصل إلى تصوراتٍ واقتراحاتٍ تطرح حلولاً لما يحيق بنا، خاصةً إزاء مجزرةٍ ودمارٍ لا مثيل لهما، ولكي نتجنب الانسياق بدورنا في المزيد من الإثارة والتهييج، اللذين قد يؤديان إلى إشعال الأمور أكثر مما هي عليه (وإن كان يصعب تصور إمكانية هذا)، ومن ثم إلى الانزلاق إلى المزيد من التهور والدمار في دائرةٍ مفرغة.
للإنصاف، يصعب تصور هذا أيضاً في ضوء العجز العربي الشامل والتام، إلا أنني أرى فائدة محاولة التفكير بهدوء، في خضم حمّامات الدم، وفي قلب الصراع المحتدم، للتمكن من طرح الأسئلة الحقيقية، الأهم، ومن ثم محاولة الخروج من تلك الهوة أو الجُرف الذي لم نزل نتردى فيه دون أي مؤشرٍ على قاعٍ قد نصل له، فنأمل بمعاودة الصعود. أسئلةٌ مثل: كيف وصلنا إلى هذه الحال من الضعف والضعة والهوان؟ كيف نخرج من هذا الوضع؟ ما الذي نتوقعه من إسرائيل وأمريكا؟ والأهم من كل هذا هل هما المسؤولان عن هذه المجزرة؟ فإن لم يكونا فمن المسؤول؟
بدايةً لا بد من الإشارة إلى كون جيلي وما تلاه لم يعش (بل لم يشهد مثيلاً ولا شبيهاً ولو من بعيد)، جولةً من الحرب بهذا الطول بيننا وبين كيان الاحتلال مذ زف إلينا الرئيس المؤمن السادات أن أكتوبر آخر الحروب، وهو الأمر الذي لم يلبث أن كذبه الرصاص والنيران، كما حدث في اجتياح كيان الاحتلال للبنان في عملية الليطاني في 1978، على سبيل المثال، والشاهد أن المعارك لم تتوقف من حينها؛ غير أن الأكيد أنه منذ وضعت حرب 73 وتوابعها أوزارها، لم يعرف الصراع العربي الإسرائيلي جولةً بهذا الطول، أما إذا قيس الأمر بحجم الدمار والنية المعقودة على التهجير، فنحن بصدد الكارثة الثالثة بعد نكبة 48 وهزيمة 67.
الفارق الرئيسي أن العالم العربي لم يكن يوماً بهذا الموات والتشرذم؛ حتى حين كانت جل دوله لم تزل واقعةً تحت الاحتلال بشتى صيغه، بين انتدابٍ واستيطانٍ كالجزائر مثلاً، لم يكن العرب مسكونين بالهزيمة إلى هذا الحد. كانت هناك آمالٌ عريضة بالتحرر والغد الأفضل (في سياق تيارٍ عالميٍ عارم للتحرر ما بين موجة الاستقلال عقب الحرب العالمية الثانية، وتفكيك الاستعمار القديم وموجة مظاهرات الطلبة والحرب الفيتنامية)، كما كان هناك تحدٍ وإرادة وتيارات سياسية لديها رؤى وتصورات للنهوض بهذه المجتمعات وتقديم البدائل والحلول.
نظرياً، أو رسمياً على الأقل، كل الدول العربية باستثناء فلسطين، مستقلة وفي المجمل تملك الدول العربية ثرواتٍ طائلة (خاصة في مصادر الطاقة)، ولم يتغير موقعها الجغرافي، فما زالت على مفترقات الطرق الأهم في حركة التجارة العالمية، وزاد عدد سكانها وصاروا أكثر تعليماً وزاد توافر الكوادر، فما الذي حدث؟ أزعم أننا جميعاً نعلم الإجابة الحقيقية وإن لم يصرح البعض بها.
على الرغم من حيطتي وتحفظي على ما يكتبه الصحافي الراحل هيكل، إلا أنني أجدني لا أتفق معه في شيء بالقدر نفسه حين كان يذكر (نقلاً عن لسان كيسنجر، إذا لم تخني الذاكرة) بأن السادات لم يكن يجيد استخدام أوراقه.
وكان هو أيضاً (السادات) من أشاد بالشاه قبل سقوطه في إحدى محاوراته مع أحمد بهاء الدين، حين قال، إن الشاه هو الأفطن والأحكم، إذ أدرك أن كل الأوراق مع أمريكا (فجلس على حجرها وتعلق بجلبابها) في استعارةٍ بتشبث الطفل بأمه.
لقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه نتيجة خيار استراتيجيٍ واعٍ بالتسليم لأمريكا، بالاصطفاف معها وفي محورها، «بالجلوس على حجرها» والتسليم أو التنازل طوعاً عن كل الأوراق المهمة لها؛ حتى فزاعة الإسلام السياسي، التي كان أمثال مبارك يلعبون بها، لم تكن أكثر من تحسين شروط القران المقرر سلفا.
نسلم في القضايا المصيرية كلها مقابل أن تصبح أمريكا/إسرائيل، الضامن لبقاء النظام
لقد سقطت كل المشاريع الكبرى كالتنمية والنهوض إلخ (بفرض أنها وجدت أصلاً) وصار المشروع الأساسي (إن لم يكن الوحيد) للأنظمة هو بقاء النظام نفسه والطبقة المتحلقة حوله والمستفيدة منه؛ نحن لم نزل نعيش في ظل، وندفع ثمن، رثاثة ورداءة البورجوازية العربية المسكونة بالغرب والمهووسة حد الانسحاق به؛ ربما كان من الأدق أو على الأقل الجائز أن ننظر لعبد الناصر بشخصه (وأحياناً بتوابعه وإن بصورةٍ أقل) كجملةٍ اعتراضية ومحاولة للإفلات من هذا الوضع البائس والتبعية التي كانت البورجوازية المصرية والعربية بوجهٍ عام مستسلمةً مستمتعةً به تجاه رأس المال الغربي، إلا أنها ما لبثت أن تسللت ثم سيطرت مرةً أخرى.
لقد كان التسليم والهزيمة خياراً واعياً للأنظمة العربية، معادلة مفادها: نسلم في القضايا المصيرية كلها مقابل أن تصبح أمريكا/إسرائيل، الضامن لبقاء النظام، أو على الأقل ألا تتآمرا على إسقاطه (أحسب النتيجة واحدة على اختلاف الصياغة والآلية)؛ هذا بالطبع في الخطوط العريضة بما يتحمل ويتيح مساحة للخلاف في صغائر الأمور هنا وهناك.
ما أن نتقبل هذا الطرح أو الفرضية، فإن كل تصرفات وتوجهات الأنظمة تصبح مفهومةً ومنطقية، إذ تصير السيطرة على الشعوب ومنعها من الانجراف الصادق والمفهوم والنبيل في دعم الحق والنضال الفلسطينيين، هي الهم والشغل الشاغل للأنظمة، كما يصبح التناقض الرئيسي بين الأنظمة والشعوب لا مع إسرائيل، فبحساب المكسب والخسارة (من وجهة نظر الأنظمة كالمصري وبعض الأسر الحاكمة في الخليج) فإن تصفية القضية الفلسطينية والكتلة البشرية الفلسطينية، يصبح الخيار الأسهل والأرخص بالنسبة لها، وكما كان رابين يود أن يستيقظ فيجد غزة قد غرقت في البحر فإن هؤلاء «القادة» العرب (مع التجاوز في استخدام الكلمة والإقرار بأن كلمة أخرى قريبة هي الأدق والأليق) ربما يتمنون أن يستيقظوا فيجدوا الفلسطينيين نسلاً وسلالةً قد تبخروا كـ»فلسطينيين» وذابت هويتهم وتلاشت تماماً.
أن تكون هذه منحة من السماء لهم ونهايةً للصداع بزوال صاحب الحق، ومن ثم نهاية المطالبة به وزوال جهة الادعاء؟ ربما يكون هذا الكلام قاسياً، إلا أننا في وقتٍ ومنعطفٍ لم نعد نملك فيه رفاهية تخفيف نبرة الكلام. كما أننا لا نجد تفسيراً آخر لكيف أن هذه الأنظمة والدول تقف عاجزةً تماماً عن وقف هذه المجزرة وإيصال رغيفٍ، أو مجرد كسرة خبز، دون موافقة كيان الاحتلال الإجرامي (الأمر الكفيل بإثارة الجنون) إلا بأنها سلمت كل أوراقها وإرادتها تماماً.
هذه هي الإجابة على السؤال عنوان المقال: إن المسؤول هو تواطؤ الأنظمة العربية التي سحقت شعوبها، وبددت كل القوى السياسية ورؤاها، هو التفكك العربي وعجز الشعوب التي لم تعد تنتظر سوى تغير المزاج الغربي، حين يصل جيل الشباب الذي رأي وفهم وتألم إلى سدة الحكم بعد عقدٍ أو اثنين من الزمان، بعد أن يباد الشعب الفلسطيني لعلهم ينقذون من يتبقى منه.
المسؤول هو الهزيمة الشاملة العربية المتمثلة في فقدان أوراق الضغط التي سلمت كاملةً لأمريكا، ربما تكون إسرائيل هي التي تطلق الرصاص بالسلاح الذي توفره لها أمريكا، إلا أن الأنظمة العربية التي لم توقف ولا حتى تهدد بوقف استثماراتها أو توريدات نفطها، أو أي وسيلةٍ أخرى للضغط هي التي مهدت الطريق لهذه المأساة والاستخفاف بالدم الفلسطيني، بطبيعة الحال فإن الخروج من هذا المأزق يبدأ من حل استعصائنا العربي، لا من الرهان على رحمة الغرب وقلبه الحنون.
القدس العربي