تقرير أمني ينبه أنقرة إلى دروس الحرب الإيرانية الإسرائيلية
تاريخ النشر: 5th, August 2025 GMT
أنقرة- أصدرت الأكاديمية الوطنية للاستخبارات، التابعة لجهاز المخابرات التركي الجمعة الماضية، تقريرا تحليليا بعنوان: "حرب 12 يوما والدروس المستفادة لتركيا"، تناولت فيه الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران التي اندلعت في يونيو/حزيران 2025.
يسلط التقرير الضوء على الثغرات المحتملة في منظومة الاستعدادات التركية لمواجهة سيناريو مشابه، موجها سلسلة من التحذيرات الصريحة والتوصيات العاجلة إلى المؤسسات المعنية بالأمن والدفاع.
ويكتسب أهميته من كونه صادرا عن جهة أمنية رفيعة، وفي توقيت تتزايد فيه احتمالات التصعيد العسكري في المنطقة، ما يجعله بمثابة إنذار مبكر يستوجب التعامل الجاد مع ما يطرحه من تحديات واستحقاقات أمنية عاجلة.
تحذيرات وتوصياتقدم التقرير قراءة أمنية مباشرة لما وصفه بـ"دروس الحرب الإيرانية الإسرائيلية"، مؤكدا أن التجربة الأخيرة تمثل جرس إنذار مبكر يستدعي إعادة النظر في جاهزية أنقرة لأي مواجهة إقليمية مفاجئة. وتضمن حزمة من التوصيات العاجلة، شملت مستويات متعددة من الدفاع المدني والعسكري، إضافة إلى التهديدات غير التقليدية المرتبطة بالأمن السيبراني والاجتماعي والاقتصادي.
وشدد على ضرورة بناء نظام دفاع جوي "متعدد الطبقات"، يوفر مظلة شاملة لحماية المجال الجوي التركي، مع تركيز خاص على الارتفاعات المنخفضة التي تعد أكثر عرضة للهجمات المباغتة. وأوضح أن الحرب الأخيرة كشفت عن تفوق جوي إسرائيلي، ما يحتم على أنقرة تسريع جهود تعزيز دفاعاتها الجوية، خاصة في محيط المنشآت الحساسة كمقار الأمن والاستخبارات والمطارات العسكرية.
كما خصص حيزا موسعا لمراجعة أداء الصواريخ الإيرانية في الحرب، لافتا إلى أن الصواريخ الفرط صوتية، التي استخدمتها طهران بكثافة، شكلت تحديا حقيقيا لأنظمة الدفاع الإسرائيلية المتطورة. ونبه لأهمية تسريع الاستثمارات التركية في تطوير وإنتاج صواريخ باليستية وفرط صوتية، ليس فقط لتعزيز الردع، بل لضمان امتلاك قدرة دفاعية فاعلة ضد هجمات من هذا النوع.
إعلانعلى الصعيد المدني، أكد التقرير أن الجبهة الداخلية لا تقل أهمية عن الخطوط الأمامية، داعيا إلى خطة وطنية عاجلة لإنشاء ملاجئ جماعية تحت الأرض في المدن الكبرى، مزودة بتجهيزات طارئة وممرات آمنة وسعة كافية للاستيعاب السكاني. كما شدد على ضرورة تجهيز المرافق الحكومية الحساسة بملاجئ مستقلة، تضمن استمرار التشغيل أثناء حالات الطوارئ.
وأوصى أيضا بتحديث أنظمة الإنذار المبكر وربطها بشبكات استشعار عالية الكفاءة، مشيرا إلى أن أحد أبرز أسباب ارتفاع الخسائر المدنية في إيران كان غياب أنظمة فعالة للإنذار، مقابل جاهزية واضحة في إسرائيل مكنتها من تقليص الخسائر رغم كثافة الهجمات.
وركزت الأكاديمية الاستخبارية في تقريرها على مسألة "الثغرات الداخلية"، واصفة إياها بأنها مكامن ضعف محتملة قد تُستغل من جهات خارجية. ولفتت إلى أن نجاح إسرائيل في توجيه ضربات دقيقة داخل إيران لم يكن فقط نتيجة تفوق تكنولوجي، بل بسبب وجود شبكات من العملاء المحليين ساعدوا على تحديد الأهداف وتسهيل الاختراقات.
مجتمع متينودعا التقرير الدولة إلى تعزيز مناعة المجتمع التركي بمبادرات إستراتيجية، من أبرزها مشروع "تركيا بلا إرهاب"، الذي يستهدف اجتثاث البنى التحتية للتطرف وتكريس مفهوم التعايش والتضامن بين مكونات المجتمع. كما أوصى بوضع خطط اقتصادية تحصينية تخفف من وطأة الأزمات المعيشية التي قد تضعف تماسك المجتمع وتفتح المجال للحملات النفسية المعادية.
من جانبه، يرى مراد أصلان، الضابط السابق في جهاز الاستخبارات التركية، أن الدولة خاضت على مدار أكثر من أربعة عقود صراعا طويلا ضد الإرهاب، لا سيما المرتبط بادعاءات عن حقوق الأكراد، والذي غالبا ما اتخذ طابعا عرقيا أو مذهبيا بتأثير من قوى خارجية.
ويقول للجزيرة نت، إن هذه القوى الخارجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل، برز دورها بوضوح بعد عام 2016، حين كان يُنظر في تركيا إلى التحريض الغربي كأداة دافعة لتغذية الانقسامات الداخلية. ويستحضر تجربة السبعينيات، حين لعب الاتحاد السوفياتي دورا في تأجيج الصراعات الأيديولوجية داخل تركيا، مما انعكس حينها على شكل مواجهات دامية في الشوارع.
ورغم ذلك، يشدد أصلان على أن أنقرة لم تنزلق قط إلى هاوية الانقسام الداخلي أو انهيار النظام السياسي، بل نجحت في تجاوز فترات التوتر دون أن تتعرض لانكسار حقيقي في بنية الدولة أو النظام. ويذكر بمحاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016، التي كانت أول تهديد مباشر للدستور والنظام الجمهوري من جماعة دينية، مؤكدا أن الدولة نجحت حينها في احتواء التهديد والدفاع عن مؤسساتها.
ويخلص إلى أن مثل هذه "الهشاشة" موجودة نظريا في كل المجتمعات، لكن النسيج التركي ومتانة مؤسساته تمنع استغلالها أو تحولها إلى نقطة ضعف. ويؤكد أن الولاء للجمهورية التركية يبقى حاضرا في مواجهة كل محاولات التقسيم أو التفتيت، مهما اختلفت أشكالها أو الجهات التي تقف خلفها.
إعلانيرى التقرير أن ما يميز حرب 12 يوما، أنها تمثل نموذجا واضحا لصراعات الجيل الجديد، حيث لم تعد الحرب تقتصر على الاشتباك العسكري، بل باتت معركة شاملة توظف أدوات القوة الحديثة، من التفوق الجوي إلى الهجمات السيبرانية، مرورا باختراق الجبهات الداخلية.
طابع استشرافيففي الميدان، برزت إسرائيل بتفوقها الجوي باستخدام مقاتلات "إف-35" والمسيّرات، لكن إيران فاجأتها بصواريخ فرط صوتية كشفت عن ثغرات خطِرة في أنظمتها الدفاعية. وتوازيا، دارت حرب إلكترونية استهدفت البنى التحتية الحساسة، ترافقت مع حملات تضليل رقمي هدفت إلى التأثير على الرأي العام، وهو ما قابلته طهران بتقييد تطبيقات التواصل.
كما لعبت الاستخبارات دورا محوريا، إذ اعتمدت إسرائيل على شبكة عملاء داخل إيران لتحديد الأهداف بدقة، ما سلط الضوء على خطورة الاختراق البشري والتقني. ويحذر التقرير من أن التهديدات المستقبلية قد لا تأتي من الجبهات، بل من الداخل، مستغلة هشاشة اجتماعية أو اقتصادية.
في السياق، يرى المحلل السياسي علي أسمر أن التقرير يحمل طابعا بحثيا واستشرافيا أكثر من كونه وثيقة أمنية عملياتية، لافتا إلى أن توقيت نشره بعد تولي إبراهيم قالن رئاسة جهاز الاستخبارات يمنحه دلالة سياسية وأمنية لافتة.
وأوضح للجزيرة نت، أن التقرير المؤلف من 58 صفحة يتجاوز توصيف الحرب بين إيران وإسرائيل ليطرح رؤية إستراتيجية تركية متقدمة، وأنه يجسد عمليا مقولة الرئيس رجب طيب أردوغان: "إن أردت السلام، فاستعد للحرب".
كما يلفت إلى أن الحديث المفصل عن قدرات إسرائيل العسكرية يحمل رسالة ضمنية مفادها أن تركيا تتابع بدقة، وتستعد لكل السيناريوهات المحتملة. ورغم استبعاده لأي صدام مباشر بين أنقرة وتل أبيب، يرى أسمر أن التقرير يوجه تحذيرا غير معلن لإسرائيل بضرورة احترام التوازن الإقليمي.
ولا تقتصر الرسائل على الخارج، وفقا له، بل تمتد للداخل التركي أيضا، لتؤكد أن الجاهزية العسكرية لا تقل أهمية عن الاستقرار الاقتصادي، مشددا على أن دعم الصناعات الدفاعية ضرورة وطنية في ظل بيئة دولية تتسم بالتقلب ووجود قواعد أجنبية داخل البلاد.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات إلى أن
إقرأ أيضاً:
صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان
في 25 فبراير/شباط 2024، وبعد أشهر قليلة على بدء العمليات الوحشية لجيش الاحتلال في قطاع غزة، الجندي القوات الجوية الأميركية آرون بوشنِل (25 عاما) أمام سفارة إسرائيل في واشنطن بالولايات المتحدة، وأشعل النار في نفسه، احتجاجا على تواطؤ بلاده وجيشه الصريح مع الإبادة الجارية في غزة، وصرخ "فلسطين حرة" حتى فارق الحياة.
لم يكن بوشنِل الوحيدَ الذي لم يحتمل وطأة الإبادة في غزة، رغم أنها تبعد عنه آلاف الأميال.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الرئيس الذي دعا لتحرير فلسطين عبر جيش دوليlist 2 of 2لماذا يريد بلير "الأبيض" حكم غزة؟end of listففي أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد قرار تسليح إسرائيل المفتوح من قبل إدارة بايدن، قال المسؤول الأميركي جوش بول، المدير السابق للشؤون العامة والتشريعية بهيئة الشأن العسكري-السياسي في وزارة الخارجية الأميركية، في خطاب على "لينكد إن": "لقد تنازلت عن معاييري الأخلاقية في هذا المنصب مرات لا حصر لها.. وعاهدت نفسي دوما أن أبقى طالما أن الضرر أقل من الفائدة التي أحققها.. لكنني أرحل اليوم لأنني أعتقد أن مسارنا الحالي.. جعلني أصل إلى نهاية تلك المعادلة".
في يوليو/تموز 2024، لحق به المسؤول بوزارة الخارجية الأميركية، مايكل كيسي.. "لقد سئمت الكتابة عن القتلى من الأطفال.. وأن أبذل جهدا باستمرار كي أثبت لواشنطن أن هؤلاء الأطفال ماتوا بالفعل.. كلما ازداد علمك بتلك القضية، واجهتك حقيقة لا مفر منها وهي أن الوضع سيئ للغاية".. هكذا صرّح كيسي في حوار مع صحيفة الغارديان البريطانية.
على حد وصفه، بدأ بعض زملائه يمزح حول عدم جدوى التقارير في التأثير على صناع القرار في واشنطن، الذين فضّلوا دوما الانحياز إلى السردية الإسرائيلية، قائلا إنه لا أحد في الإدارة يقرأ تقاريره ولو وضع فيها نقودا هدية.
منذ بدء طوفان الأقصى قبل عامين، تباينت ردود الأفعال في أنحاء العالم بين التضامن والصمت والتضييق، وظهر بون شاسع بين التعاطف مع الفلسطينيين في الشارع وبين الرغبة في التضييق على الحقائق وعلى أي محاولة للتضامن من جهة الحكومات الغربية، مما دفع بعض المسؤولين -مثل كيسي وبول- إلى تغليب بوصلتهم الأخلاقية على منصبهم الرسمي.
إعلانوقد جرى الحديث لفترة في الأسابيع الأولى حول "تناسُب" رد الاحتلال على العملية الفلسطينية، لكن مع استمرار الحرب على غزة اتسعت دائرة المتابعين والمهتمين حول العالم، وتغيّرت القناعات واتجاهات الرأي العام لما شكّله الحدث من اختبار حقيقي للأخلاقيات والقيم والمواقف السياسية التي يعتنقها الكثيرون في المجتمعات الغربية، بالإضافة للاختبار الحقيقي الذي مثّلته هذه الحرب للقوانين الدولية التي تدّعي الحكومات التمسك بها.
بعد مرور شهور، وتأمُّل التأثير الواسع للطوفان، يمكن القول إن صدمة عميقة أصابت الشعوب حول العالم إزاء ما يحدث في غزة من إبادة يومية. فمنذ بداية الطوفان، بدأ كثيرون يكتشفون أن رد الفعل الإنساني الطبيعي تجاه ما يحدث للفلسطينيين -وهو التعاطف والتضامن معهم- غير مقبول أو مسموح به من قبل كثير من الحكومات حول العالم.
وتعزَّز ذلك الشعور حين توالت فصول الحرب على غزة، وازدادت بشاعتها بحيث لم يَعُد يمكن الدفاع عنها أو التبرير لها بوصفها "ردا" على عملية 7 أكتوبر. وفي خضم هذا الواقع، أدركت الكثير من الشعوب أننا في نظام دولي يسمح بارتكاب إبادة جماعية على الهواء، ولا يسمح حتى بالتضامن مع المظلومين.
قبل أن ينقضي شهر واحد على طوفان الأقصى، وأمام قتل الاحتلال آلاف الأشخاص في غزة، بدأت المظاهرات تَعُم العواصم الأوروبية والعالمية، في اليابان والنرويج وهولندا وبريطانيا وألمانيا ودول أخرى عديدة، حيث خرج مؤيدو القضية الفلسطينية مطالبين بوقف إطلاق النار في غزة، لكنها لم تمض بسلام. ففي دول كثيرة رفعت الشرطة استعدادها واعتقلت عددا من النشطاء، وتعرّض المتضامنون مع القضية الفلسطينية لمشكلات قانونية.
بدا إذن أن الحكومات الغربية اتحدت في الانحياز السياسي إلى الاحتلال، فقيّدت عدة دول الاحتجاج من أجل فلسطين، واستهدفت الأعلام الفلسطينية. وفي الولايات المتحدة تعرّض كثير من المتضامنين للطرد من وظائفهم وإلغاء عقودهم.
ومع اتساع دائرة الحرب، ودائرة المعرفة بها أيضا وبالقضية الفلسطينية في شتى أنحاء العالم، توالت صور الإبادة والتهجير القسري والمجاعة، وطاردت المشاهدين حول العالم بشكل لا يمكن تجنبه.
بعد عامين من طوفان الأقصى، وبعدما جرت المذابح بالبث الحي والمباشر ودُمِّرت البنية التحتية وانهار النظام الصحي وتلوثت المياه وقُصِفت المساعدات الإنسانية والساعون إليها، ومع مشاهد التهجير وإجبار العائلات على النزوح عدة مرات داخل الأرض المحاصرة بالجوع والجفاف، فإن أكثر ما اتضح للمتابعين حول العالم لم يكُن تجاوز الحد فيما يتعلق بارتكاب الجرائم الإنسانية، وإنما تجاوز الحد في الإفلات من العقاب.
تشير المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إيتشاسو دومينغيث، إلى أنه بعد شهور من النقاش حول مدى تناسب القصف مع الطوفان، يبدو أن المجتمع الدولي اليوم أصبح مستعدا للاعتراف بالانهيار.
إعلانولكن دومينغيث تلتقط أيضا ذلك التحوّل الخطابي الذي جرى في هذه الحرب، والذي يميل إلى إدانة الكارثة الإنسانية في غزة دون النظر إلى الجانب السياسي والعسكري منها، فيُكرِّم الضحايا دون تسمية المسؤولين عن الجريمة، وقد أشارت إلى تداول عدد من وسائل الإعلام لصورة طفل جائع مثلا مع تجاهل صورة الجندي الذي يمنع قافلة المساعدات، أو صورة الساسة الذين اتخذوا قرارات الحرب، وهو استبعاد ليس بريئا على حد وصفها، وينطوي على منطق يُتيح للإبادة أن تتكرّر وللمجرم أن يُفلت من جرمه.
على الهواء مباشرةهذا التدفق المستمر للأخبار والصور التي توثق المذابح، يواجه شعوبَ العالم بصور صادمة للإبادة الجماعية في غزة. ففي ورقة بحثية نشرتها مجلة "إنترناشيونال جورنال أوف مانجمنت" عام 2024، يستكشف الدكتور محمد بوحجي الأضرار والجروح النفسية والعاطفية للمتابعين لمسار الحرب والمعاناة الإنسانية في غزة، ويشير إلى أن متابعة مشاهد الحرب عمّقت الشعور بالعجز والخيانة والذنب والعار، وسبّبت جروحا نفسية في المجتمعات أمام إدراك المتابعين لحجم المعاناة وحجم التواطؤ الذي أدى إلى حدوثها.
وقد عاش البعض أعراض ما بعد الصدمة (PTSD) بسبب التعرض المتكرر والمستمر لهذه الأحداث، وتجلَّت أعراضها في تقلُّب المزاج والقلق والاكتئاب واضطرابات النوم. هذا بخلاف تراكم طبقات من مشاعر الغضب والأسى لدى من يشاهدون الإبادة، مما يجعل أي سلوك طبيعي يعتاد المرء على القيام به في يومه بمثابة "خيانة" لدماء الشهداء ولمعاناة أهل غزة.
في العصر الرقمي حيث تُنتج المواد البصرية بسهولة، وتتعدّد مصادر الصور من الصحفيين ووسائل الإعلام التقليدية ومن السكان المدنيين في قلب الصراع، ومع التعرّض المتكرر لكل ذلك؛ يمكن أن يحدث ما يُعرف بإرهاق التعاطف (Compassion Fatigue) الذي ينشأ عن مشاهدة مكثفة للألم، فيتحوّل إلى نوع من الخدر العاطفي، ومن ثمّ تنخفض الاستجابة العاطفية مع كل مأساة جديدة نتعرض لها.
ومع ذلك، فإن ما يبدو تبلُّدا عاطفيا ليس شعورا نهائيا، بل محطة قد نمُر بها في الصراعات الطويلة. فما يحدث هو أن صورا أخرى سرعان ما تخترق هذا الحاجز العاطفي، فيتجدد التأثير ويتحرّك الشعور بالغضب، لذا فالحرب لا تتوقف عن إيلامنا ولا تُفقدنا إنسانيتنا كما يبدو لأول وهلة.
لذلك، يمكننا اليوم أن نضيف إلى تعداد ضحايا الحرب على غزة؛ آخرين لم يكونوا في القطاع من شعوب العالم التي تابعت العدوان والإبادة، وتعرّضت لما يُعرف باسم "الجرح الأخلاقي". ويشير هذا المصطلح إلى الصدمة النفسية التي يتعرض لها الجنود بسبب عدم قدرتهم على التوفيق بين قيمهم الأخلاقية وما يرتكبونه من أفعال غير أخلاقية مثل التعذيب أو القتل، والذي يظهر في معدلات مرتفعة من الاكتئاب والانتحار لدى المحاربين القدامى.
لكن الجرح الأخلاقي اليوم يُمكن أن يكون أثرا مُحتملا لمشاهدة الفظائع التي يرتكبها آخرون دون الانخراط في القتال، فهو استجابة إنسانية عميقة للأحداث التي تنتهك الأخلاقيات الراسخة، وتُسبّب جُرحا في الروح والضمير، سواء لدى من ارتكب تلك الأفعال أو حتى لدى من شهدها ولم يمتلك القدرة على وقفها.
وبخلاف اضطراب ما بعد الصدمة الذي يقوم على الشعور بالخوف، فإن الجرح الأخلاقي ينشأ من مشاعر الذنب والعار والغضب، ومن أزمة عميقة في المعنى. إنها أزمة يواجهها اليوم متابعو الحرب، وتتسع دائرة المصابين بهذا الشعور حول العالم بسبب قناعاتهم بأنهم لم يفعلوا ما يكفي لوقف الإبادة في غزة. كما ينطوي هذا الجرح الأخلاقي على شعور بالخيانة من سلطات كان يُفترَض أن تكون جديرة بالثقة أو على الأقل أن تفعل شيئا لوقف هذه الحرب، ويمكن لهذا الجرح أن يصيب الأطباء والممرضين والصحفيين وغيرهم حين يشعرون بالعجز عن احتمال معاناة البشر.
إعلانتُرسّخ مشاهد وصور الإبادة، وحقيقة استمرار الحرب، الاعتقاد بأن العالم مكان بشع ومخيف وغير إنساني، وأن الشر يُمكن أن يتغلّب في النهاية، مما يرسخ شعور الشعوب بأنها "مشلولة" وغير قادرة على الفعل الجماعي لمواجهة ما هو إجرامي وغير إنساني.
كما يزداد هذا الجرج الأخلاقي لدى مواطني بعض الدول التي تقدم مساعدات عسكرية للاحتلال بسبب شعورهم بأنهم متواطئون كدافعي ضرائب، وكذلك بسبب فشل المؤسسات الدولية في وقف شلال الدماء، ما يتسبب في الشعور بانهيار الثقة بالنظام الأخلاقي العالمي.
إن الشعور بأن ظلما جسيما يقع بلا عواقب يولّد إحباطا عميقا، فهو خرق لما تعهّدت الإنسانية بعدم تكراره عقب الحرب العالمية الثانية، وتعود خصوصية التأثير العالمي في حرب غزة بسبب كونها أول إبادة جماعية تُبَث فصولها على الهواء مباشرة، بحيث لا يمكن لمشاهدي الأخبار ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي تجنبها أو تجاهل وجودها.
"القيد في أيدينا"يمكن القول إن الادعاءات الأخلاقية الأوروبية فقدت مصداقيتها مبكرا بعد حروب العراق وأفغانستان و"الحرب على الإرهاب".
واليوم بينما يمارس الاحتلال الإسرائيلي معدلات غير مسبوقة من العنف، تتابع شعوب العالم الحر وخاصة شعوب دول الجنوب العالمي وفي ذاكرتها العبارة الشهيرة التي قالها نيلسون مانديلا: "إن حريتنا لا تكتمل دون حرية الفلسطينيين"، والتي لا تعتبر تضامنا فقط، بل عبارة تحليلية تشير إلى أن الإمبريالية ستستمر في تقييد شعوب دول الجنوب طالما أن بإمكانها حرمان الفلسطينيين من حقوقهم على هذا النحو.
ولكن الأمر يمتد إلى الشمال ذاته أيضا، كما أشار السياسي البريطاني جيمس شنايدر في مقال له، فالسعي كي يتحقّق التحرر الوطني للشعب الفلسطيني بقدر ما يُحارب الإمبريالية في الخارج، فإنه يُرسِّخ أيضا الاستقلال والديمقراطية في الداخل بالنسبة للدول المتقدمة التي انتفضت شعوبها للدفاع عن غزة، ولهذا السبب يؤكد شنايدر "لسنا أحرارا حقا حتى تصبح فلسطين حرة".
في ورقة نشرتها مجلة "بابليك أنثروبولوجيست" في مايو/أيار الماضي بعنوان "فلسطين منهجا"، أوضحت الكاتبة آنا إيفاسيوك كيف تابع العالم بذهول العنف الإبادي الذي شنَّه الكيان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وسجَّلت بداية ملاحظاتها بالقول إنه لا يمكن لأحد أن يدَّعي أنه لا يعلم عن الإبادة الجارية، في وقت يُدرِك فيه المتابعون أن ما يحدث على الأرض يفوق ما تنقله الصور والأخبار. وأضافت إيفاسيوك أن هذا الصمت واللامبالاة ما كانا ليحدثا لو تعرض له آخرون، لا سيما من ذوي البشرة البيضاء.
وأشارت آنا إيفاسيوك إلى التناقض الذي كشفته نقاشات داخل المجتمع الأنثروبولوجي الأوروبي بعد نشر بيان الجمعية الأوروبية للأنثروبولوجيين الاجتماعيين (EASA) لإدانة العنف ضد غزة، وكيف رأى كثير من الأنثروبولوجيين أن هناك سردية واحدة في التعامل مع قضية أوكرانيا، في حين تعدّدت السرديات في حالة فلسطين، وأمكن للبعض الوقوف "على الحياد".
وتتساءل آنا في مقالها: "ما هو الحياد في مواجهة الإبادة الجماعية إن لم يكن تواطؤًا؟ وما هو تعريف إسكات من يتحدثون ضد الإبادة إن لم يكن دعم الإمبريالية؟". وختمت آنا مقالها قائلة إن ما يشهده العالم في غزة اليوم يدفعنا إلى نقطة اللاعودة، ونحو فهم ما تتعرض له شعوب العالم يوميا، والعنصرية والاعتراف الانتقائي في التضامن مع ضحايا الصراعات.
ويقول الكاتب الإسباني خافيير خورادو إن مشاهد عشرات الآلاف من الشهداء وبينهم أطفال، وما حدث من تدمير للبنى التحتية، تثير أعمق التساؤلات غير المحسومة في الخيال السياسي الغربي: كيف يمكن الاستمرار في دعم الكيان المحتل وتبني كونه ضحية تاريخية؟ لقد كانت الشهور الماضية للحرب على غزة كاشفة للحقائق بشأن عنف الاحتلال، وكسرت أمام المتابع الأوروبي رواية ظلت لعقود تُبرّر صمت الغرب إزاء الانتهاكات وتؤسس للاستثناء الإسرائيلي.
تشرح رابيا يافوز المتخصصة في علم النفس الاجتماعي في مقال لها، كيف أن هذا الشعور بالحزن يعني أننا ما زلنا بشرا، وكيف أن القضية لا تتعلق بغزة وحدها، وإنما بكيفية استجابة العالم لكل هذا الألم. فحين تتفوّق المصلحة السياسية على مبادئ العدالة، ويتعرّض المؤيدون والمتضامنون للقمع، فهذا يشير إلى فوضى عالمية أعمق، بما تُسبّبه من جرح في الوعي المجتمعي العالمي.
إعلانأما حين يصبح الصمت الخيار الأكثر أمانا فإننا أمام عنف نفسي يُهدّد مجتمعاتنا، ويكشف عن وجه مخيف لعالم اليوم، فهذه "الفظائع" تخلف فراغا أخلاقيا لا يُحتمل، يهدد إحساسنا بتحقق العدالة وبإنسانيتنا نفسها، وتتساءل في النهاية: ما ثمن كبح المشاعر أمام المجازر؟
في مقال له حول أنجع العلاجات للجرح الأخلاقي، أوضح أستاذ علم الاجتماع بجامعة ولاية كارولينا الشمالية، مايكل شوالبي، أن أفضل استجابة لما يجري من حولنا هي التكاتف مع الآخرين كي نحافظ على إيماننا بأنفسنا وبإمكانية أن يكون العالم أفضل وأن يُعرض المجرمون يوما ما للعدالة.
ووفقا لشوالبي، فإن موجات الاحتجاج والمسيرات والبيانات المُندّدة التي تؤيد الحقوق الفلسطينية وتسعى لوقف الحرب ضرورية أيضا، لا لوقف الحرب فحسب، وإنما لإنقاذ هؤلاء الذين يشعرون بالجرح الأخلاقي من الإصابة بالعجز الدائم.
لقد تحوّلت غزة -وهي على أعتاب السنة الثالثة للحرب- إلى مرآة تكشف حقائق مخيفة عن نفاق المجتمع الدولي، والرقابة على ما يمكن قوله حول فلسطين، والضغط الذي يُمارس لإسكات الفلسطينيين أو المتخصصين في إنتاج المعرفة بهذا الشأن، وهو ما يزيد أهميتها كمنهج لكشف زيف العالم "كما يُروى لنا".
اليوم لا يزال العديد من النشطاء والمتضامنين مع غزة حول العالم يواجهون عُنفا يطالبهم بالصمت حتى لا يطالهم العقاب، بينما تُهدِّد الحرب إنسانيتنا ويختار البعض التضامن مع دفع أثمانه، في حين يبقى البعض الآخر رهن الشعور بالعجز ومواجهة الصدمات النفسية التي يُسبّبها إدراكنا أن ثمن هذا التجاهل هو ألا يبقى أحد في أمان.