في قرانا القديمة، لم يكن لقب "العمدة" مجرد كلمة تُقال أو صفة تُمنح عبثًا، بل كان ثمرة صراع طويل، وحكاية تحمل بين طياتها مآسي الانتصار ومرارة الخسارة. كان العمدة زعيمًا، حاكمًا، وحكيمًا، يختبره الزمان وينتخبه الناس ليقودهم في أحلك الظروف. لم يكن منصبًا يُشترى أو يُورّث، بل حصيلة مواقف وشجاعة وتضحيات حقيقية.

كان صراع العمدية في الماضي أشبه بمعارك الأباطرة، فليس كرسيًا فارغًا، بل قوة تُمارس بحنكة وحكمة. من استطاع أن يوازن بين قوى القرية، ويحافظ على النظام والعدالة، وينقل صوت الجماعة بثقة، كان قائدًا حقيقيًا يستحق الاحترام، بل ويُعتبر روح القرية نفسها.وللحديث عن المهن، كان لكل مهنة احترافها الخاص، من مهندس الري الذي جسد شخصيته الأديب الكبير طه حسين في رواية "دعاء الكروان"، رجل يحمل بين يديه حياة القرية ومصيرها، يشق القنوات ويعيد للماء مساره كأنه يكتب قصيدة لا تُقرأ إلا بأعين الأرض.وكان مهندس الزراعة، والمعلم، من الوظائف الحيوية التي تتطلب صبرًا وجهدًا ووفاءً. فالمعلم لا يزرع في الأرض فقط، بل في نفوس الأجيال، وبذرة الحكمة تنمو في صمت، بعكس الألقاب التي تُوزع على عجل.لكن مع تقدم الزمن، وامتداد موجة الألقاب الفارغة، تحولت هذه المهن التي كانت رمزًا للتميز إلى مجرد أسماء تُنسب بلا محتوى، وفصول تُحذف فيها الروح لصالح البهرجة.في عصر مقاهي شبكات التواصل الاجتماعي، تفشت الألقاب كالنار في الهشيم، خاصة في الإعلام والسياسة. صرت ترى "خبيرًا استراتيجيًا" لا يملك أدنى تجربة مهنية أو خلفية أكاديمية في تخصصه، يطل من خلف شاشة ليمنح آراءً بلا عمق وتحليلات بلا أساس، وكأنه يمارس لعبة الألقاب بدلًا من خدمة المعرفة.ولا ننسى انتشار "حاملي الكرنيهات" في مجالات شتى، و"حاملي الدكتوراه الفخرية" في أكثر المواضع غرابة، من بائع الفول إلى عامل الطعمية الذي صار "دكتورًا في فنون القلي والتتبيل".في هذه البيئة، لم تعد الألقاب تعبر عن جوهر، بل أصبحت أدوات تسويق وديكورًا زائفًا لصناعة المشاهير. صار "الدكتور" و"الخبير" مجرد لافتات تُعلق على جدران الصالات الافتراضية، تُستخدم لجذب المتابعين لا لتنوير العقول أو توجيه الجماهير.كما قال سقراط:"العقل مثل المظلة، لا يعمل إلا إذا كان مفتوحًا." وهي معاناة من يعانق الألقاب من دون أن يفتح مظلة الفهم.القيادة الحقيقية، كما في عهد العمدة، ليست بطاقة تُحمل، ولا منصبًا يُشغل، بل موقف يُختبر في لحظة الانكسار، تضحية تُقاس في لحظات القمع، ومعرفة تُنير الطريق وسط ظلام الفوضى.حتى في القرى التي ظنناها ملاذًا للحكمة والبساطة، بدأ وباء الألقاب الزائفة ينتشر، من "خبير زراعي" لا يعرف رائحة الأرض، إلى "ناشط مجتمعي" لا يعرف أسمى معاني القرب من الناس.كما قال نيتشه:"من لا يملك سببًا للعيش، يستطيع أن يتحمل أي كيفية." فهل من يقبل بهذه الألقاب الوهمية سببًا حقيقيًا للقيادة؟ أم أنهم يختبئون خلفها كي يتحملوا فراغهم؟علينا أن نتذكر، وسط هذه الزحام من الألقاب الورقية، أن القيادة شرف لا يُمنح إلا لمن يثبت نفسه بأفعاله، لا بمنصب فارغ أو لقب مبهر.فلتكن أفعالنا هي التي تُكتب في التاريخ، وقلوبنا هي التي تختار القادة، لا الألقاب التي تُلصق وتُباع في مقاهي الوهم.. .!!

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: التی ت

إقرأ أيضاً:

الفول السوداني غير المملح يحارب الشيخوخة والأمراض المزمنة

أميرة خالد

كشفت دراسة حديثة، أن تناول حفنة صغيرة من الفول السوداني غير المملح يومياً قد يكون سراً لإبطاء الشيخوخة والوقاية من أمراض مزمنة، مثل القلب والسرطان والسكري من النوع الثاني.

وقال الباحثون أن تناول نحو 25 غراماً من الفول السوداني يومياً يساهم في الحد من تقصّر “التيلوميرات” — وهي الأغطية الواقية في نهايات الكروموسومات، والتي يقل طولها تدريجياً مع التقدم في العمر، مما يسرّع ظهور علامات الشيخوخة ويرفع خطر الإصابة بالأمراض.

وأفاد الباحثون، أن هذا التأثير إلى غنى الفول السوداني بمضادات الأكسدة التي تحارب الجذور الحرة الضارة، والتي تُتلف الخلايا وتسرّع الشيخوخة، بينما تساهم في حماية الحمض النووي والحفاظ على صحة الخلايا لفترة أطول.

وأكد الخبراء على ضرورة اختيار الفول السوداني غير المملح، لتفادي أضرار الصوديوم الزائد، مثل ارتفاع ضغط الدم ومشكلات القلب.

مقالات مشابهة

  • الفول السوداني غير المملح يحارب الشيخوخة والأمراض المزمنة
  • فضيحة الشهادات المزيفة تهز تركيا.. و”التعليم العالي” ينفي اختراق نظامه
  • لزيادة الوزن.. سموزى الموز مع زبدة الفول السوداني واللبن
  • حكاية «فلاش باك» الحلقة 3.. زياد يقترب من حل لغز مقتل مريم
  • مسلسل ما تراه ليس كما يبدو.. موعد عرض الحلقة 4 من حكاية «فلاش باك»
  • طريقة عمل سناك الشوفان بزبدة الفول السوداني والكاكاو بدون سكر مضاف
  • بورسعيد .. رفع كفاءة مدرسة الفتح لخدمة أبناء القرية
  • بمبادرة من مركز عبدالله بن إدريس الثقافي.. تنطلق غداً ندوة “من القرية للعالم، كيف نعزز هويتنا”
  • «حكاية عن التلّي».. رحلة بين الأصالة والابتكار