«الكيزان» يرحبون بعارهم.. «البلاد» وصكوك الغفران الحصرية من يملكها؟

أحمد عثمان جبريل

بينما تُنصب المشانق في الأزقة، وتُقام محاكم التفتيش تحت الأشجار، وتُصفّى الأرواح على الشبهة؛ خرجت علينا جماعة الإسلام السياسي مجددًا، ببوستات ترحيبية، يُبشّر فيها بعودة الكوز الجنجويدي (إبراهيم بقال) إلى “حضن الوطن” الوطن الذي فرق جمعه (عار الكيزان بقال) وأمثاله من الفاقد التربوي.

. رحبوا به وكأن شيئًا لم يكن، كأنه لم يكن أحد وجوه الجنجويد، ولا حاكمًا باسمها في زمن الدم والنار.

إن اللافت ليس في الترحيب بعودة بقال لحضن الوطن كما كتبوا مرحبين، بل في سياقها السياسي والفكري، حيث لا تزال ذات الجماعة تتصرف كما لو أن السودان “ملك يمينها” تُدير مفاصله كضيعة عائلية، وتوزع صكوك الغفران والبراءة والمواطنة كما تشاء، بمنطق: “من كان معنا فهو الوطن، ومن خالفنا فهو العدو”.. ما هذا المنطق المريض.

هذا التصور، يعني دون لف ودوران، أن السودان ليس دولة، بل غنيمة؛ لا تحكمه القوانين، بل (التمكين).. الناس ليسوا مواطنين، بل (رعية) تُوزَّع عليهم الحقوق والنجاة بحسب درجة الولاء.. فمن ارتكب المذابح ثم عاد إلى “الصفوف” نال المغفرة، ومن طالب بالعدالة، وجد الرصاص أو الإخفاء أو التصفية.

هذه ليست سياسة، بل نسخة محدثة من نظام (الباباوات) حيث الغفران السياسي يُمنح بـ”ختم الجماعة” لا بحكم القضاء.. إنها العدالة الانتقائية، وسوق الولاءات.

إن ما يُزعج حقا، هو هذا الانقلاب المفاهيمي الكامل: فالعدالة لم تعد ميزانًا، بل سوقًا تُباع فيه البراءة وتُشترى التوبة.. والمحاكم تُستبدل بالبوستات والتغريدات، والحقائق بالتحالفات، فالقاتل إذا “تاب” على طريقة الجماعة، يُستقبل بالأحضان، وربما بالمناصب.. أما المواطن البسيط، فمجرد (وشاية) فإنها كافية لإرساله إلى المقصلة، ثم إلى (السماء ذات البروج).. ما هذا الفكر؟ بل ما هذا الدين؟.. إن ذلك بالطبع يجعلنا نتساءل هنا: من يملك حق الغفران؟.

ففي لحظة كهذه، لا بد من طرح ذلك السؤال الجوهري: من يملك حق إصدار صكوك الغفران؟ ومن يملك حق إنزال العقاب؟.. هل هو القضاء؟ أم جماعة ترى نفسها فوق الوطن والدستور؟.

إن سُلطة الغفران ليست وظيفة حزبية، ولا تُمنح بقرارات فقهية، أو فتاوى سياسية.. فالعدالة يا هؤلاء لا تُدار من أقبية التنظيمات، بل من ساحات القضاء المستقل.. لكننا وللأسف، أمام مشهد مقلوب: الغفران يُمنح لمن تورّط في الدم، والقصاص يُنزل بمن طالب بالحياة.. وقال لا للحرب أوقفوا الموت وسفك الدماء.

الواقع أن هذه الممارسات ليست بدعًا من الخيال، ففي التاريخ الإسلامي والأوروبي هناك شواهد كثيرة على هذا النوع من الظلم المُمَنهج: يذكر التاريخ، أنه في كربلاء، دفع سيد شباب الجنة الحسين بن علي، ثمن رفضه الخضوع لنظام يخلط بين الحق والملك، فاعتُبر خروجه “فتنة” لا موقفًا.. سقط سبط رسول الله صل الله عليه وسلم، لا لأنه باغٍ، بل لأنه رفض مبايعة النظام، فكان جزاء كل من تعاطف معه ملاحقة دموية تشرعنها الفتوى باسم الدين.

وفي العصر العباسي، التوبة السياسية كانت تكفي لمسح كل سجل الإجرام، طالما صاحبها كتب نفسه مع أهل الولاء، فقد كان الجزارون يتوبون سياسياً فتُغفر جرائمهم، ويُمنحون المناصب، لقد كانت التوبة على المنبر، لا في قاعة المحكمة.

وفي فرنسا قبل الثورة، كانت النُخبة تسرق وتنهب بلا حساب، بينما يُجلد الفلاح إن نسي أن ينحني للملك.. عاش النبلاء بلاء محاسبة، بينما سُحق الشعب تحت ثقل الضرائب، والسياط تلهب أجسامهم النحيلة، حتى انفجرت الثورة، لا طلباً للخبز فقط، بل للكرامة، انفجرت ثورة لم تترك حجرًا على حجر.

أما في جنوب إفريقيا، فلم تُبن المصالحة إلا فوق منصة “الاعتراف والعدالة” لا الإنكار والغفران المجاني.. اعترف القاتل بجريمته أمام الضحية.. بعدها قال الثائرون حينها: الآن فقط يمكن أن نبدأ من جديد.

إن ما لا يُدركه منظّرو هذه المعايير المزدوجة، أن الشعوب لا تنسى.. فالعدالة حين تُغتصب، لا تختفي، بل تتحوّل إلى جرح يتوارثه الأبناء.

وحين يُكافأ الجلاد، ويُنسى الضحية، يتحوّل الوطن إلى ساحة كراهية صامتة، وتصبح الرغبة في القصاص جزءًا من الهوية الجمعية، فالغبن الشعبي لا يظهر فورًا، لكنه يتراكم.. ويتكاثر كالألم الصامت، حتى ينفجر بثورة جديدة، لا تعترف لا بالغفران ولا بالولاء.

حين يُرى القاتل حراً مكرّماً، ويُدفن البريء بلا محكمة، فإن الضمير الجمعي لا يُشفى، بل يتورم.. يتورم حتى ينفجر.

لذلك من حق الجميع ان يتساءل هل نُدير وطناً فعلاً.. أم نحكم مزرعة؟ فالذي يحدث ليس غفراناً، بل إذلال.. وليس سياسة، بل صفاقة.

وليس مصالحة، بل مساومة على أشلاء شعب كامل.

فهل نحن فعلاً نبني دولة؟.. أم نعيد إنتاج نفس العصابة، بلغة جديدة، وبيانات جديدة، وأقنعة أكثر تهذيباً؟.

إن ما يحدث اليوم ليس مصالحة وغفران، بل تسوية بين (الكوز وأخيه الكوز) تسويه فوق الدماء، دماء الأبرياء.. ليست عدالة، بل إذلال للضمير الجمعي، وإذا لم يُحسم هذا العبث الآن، فلن نكون أمام وطن في أزمة، بل أمام أمة تُدار بمنطق العصابة، لا بمشروع الدولة.

فهل يُعقل بعد كل هذه التضحيات، أن نُسلم مفاتيح الوطن مجددًا لأولئك الذين سرقوه ودمروه واغتصبوا حرائره وذبحوا الأبرياء على قارعة الطريق من قبل؟.

إن ما لا يدركه أصحاب الإسلام السياسي والمشروع الحضاري، أن هذا الموقف لا ينطبق على الجنجويد وحدهم، بل على كل كتائب القتل والولاء على حد سواء.. إنا لله ياخ.. الله غالب.

الوسومأحمد عثمان جبريل إبراهيم بقال التاريخ الأوروبي التاريخ الإسلامي الثورة الجنجويد السودان الكيزان جماعة الإسلام السياسي فرنسا

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: إبراهيم بقال التاريخ الأوروبي التاريخ الإسلامي الثورة الجنجويد السودان الكيزان جماعة الإسلام السياسي فرنسا

إقرأ أيضاً:

مجلس الأمن يناقش الوضع السياسي والإنساني في سوريا

صراحة نيوز- ناقش مجلس الأمن الدولي، الأربعاء، التطورات السياسية والإنسانية في سوريا خلال جلسة علنية تلتها مشاورات مغلقة.

وقالت مديرة قسم التمويل والتواصل في مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، ليزا دوتن، إن أكثر من 16 مليون شخص في سوريا لا يزالون بحاجة إلى مساعدات إنسانية، مشيرة إلى أن انعدام الأمن والصدمات المناخية يفاقمان من حدة هذه الاحتياجات.

وأوضحت دوتن أن الوضع الحالي يحمل بعض الأمل لملايين السوريين، حيث اختار نحو 1.2 مليون شخص العودة من الدول المجاورة إلى سوريا، بالإضافة إلى أكثر من 1.9 مليون نازح داخلياً، لكنها أكدت أن هؤلاء ما زالوا بحاجة إلى دعم لإعادة بناء حياتهم، خاصة مع اقتراب فصل الشتاء.

وطالبت المسؤولة الأممية المجتمع الدولي بالاستمرار في جهود تهدئة بؤر التوتر، ومنع اندلاع أعمال عنف جديدة، وزيادة تمويل العمليات الإنسانية، بالإضافة إلى استثمار ملموس وواسع النطاق في التنمية وإعادة الإعمار.

وعلى الصعيد السياسي، أكدت نائبة المبعوث الأممي الخاص لسوريا، نجاة رشدي، أن العمليات العسكرية والتوغلات الإسرائيلية في الأراضي السورية ما تزال تهدد المدنيين، وتزيد التوترات الإقليمية، وتقوض البيئة الأمنية الهشة، وتعرقل عملية الانتقال السياسي في البلاد.

مقالات مشابهة

  • "ثورة ليست جامحة".. ماذا حدث في أول لقاء بين ترامب وممداني؟
  • ليبيا.. الانتخابات ليست حلا
  • المتحدث العسكري : الأرض المصرية ليست سلعة والكرامة ليست اختيارا .. فيديو
  • خبير أسري: المرأة ليست مجبرة على العمل خارج المنزل
  • القبيلة اليمنية .. ركيزة الصمود الشعبي ودرع الوطن في مواجهة الأعداء
  • انطلاق تخفيضات الجمعة البيضاء على أمازون السعودية مع آلاف العروض الحصرية والخصومات اليومية وبتوصيل سريع
  • التصعيد بهدف الضغط السياسي.. هل وصلنا الى المستوى الاقصى؟
  • ياسر ريان: الوديات ليست معيارًا.. وعلى حسام حسن تجاهل الانتقادات
  • مجلس الأمن يناقش الوضع السياسي والإنساني في سوريا
  • القبائل اليمنية بين الرهان السياسي والصمود الوطني .. دروس التاريخ وتجربة القيادة الحكيمة