فلسفة زوربا في مواجهة الحياة!
تاريخ النشر: 22nd, November 2025 GMT
ايهاب الملاح
(1)
ما من مرة عاودت فيها الرجوع لأعمال الكاتب اليوناني العظيم نيقوس
كازانتزاكيس، إلا وانتزعني انتزاعا من بين الهموم والأثقال والشواغل والمهام
وألقى بي في رحاب أدبه الباهي ورؤيته الإنسانية المتجاوزة للأزمان والقارات..
شأن كازانتزاكيس اليوناني شأن كل كاتب كبير وعظيم في أي ثقافة من الثقافات
وبأي لغة من اللغات.
الألباني، وطاغور الهندي (البنغالي)، وهو عندي مثل دورنمات السويسري، ودينو
بوتزاتي الإيطالي، وغير هؤلاء، ومن في قامة هؤلاء الكتاب الكبار الذي مسوا
بنصوصهم القلوب والأرواح وتركوا بصمات لا تمحى في تاريخ الإنسانية..
أعود إلى كازانتزاكيس وبالتحديد إلى رائعته التي لا تبلى مهما مرت عليها
السنوات والعقود! عن درته الروائية المذهلة "زوربا" التي صدرت للمرة الأولى من
80 عاما تقريبا (صدرت سنة 1946) ثم ترجمت إلى أغلب لغات الدنيا، ومن بينها
العربية، وصارت من بين الروايات الأكثر اشتهارا ورواجا وقراءة وتوزيعا!
ثم ومع إنتاجها سينمائيا عام 1964 (أي بعد صدور الرواية بنحو ثماني عشرة سنة)
في فيلم من بطولة النجم العالمي أنتوني كوين، والنجمة اليونانية المعروفة
إيرين باباس، ومن إخراج كاكويانيس، صار اسم "زوربا" معروفا في شتى بقاع الأرض
وارتبط اسمه لدى الملايين بالرقصة الشهيرة على اسمه التي أداها أنتوني كوين في
المشهد الأيقونة.. صار لدى اليونان والأمة اليونانية ما يفخرون به بين الأمم
والثقافات والشعوب.. فضلا على تاريخهم الحضاري وتأسيساتهم الفلسفية والمعرفية
إن جاز التعبير.. لقد صار لديهم أيقونة إنسانية أخرى اسمها زوربا قادرة على
إدهاش البشر وكسب تعاطفهم، بل وتواجه استعلاء المثقفين وعزلتهم وانعزالهم
بكثير من السخرية والازدراء وهي قادرة في الوقت ذاته على أن تعلمهم (أي
المثقفين) درسا لن ينسوه أبدا إن كانوا من المتعلمين والمتعظين!
(2)
بعد ما يقرب من ستة عقود من صدور الترجمة العربية الأولى لرواية "زوربا" عن
الفرنسية عام 1965 لجورج طرابيشي عن دار الآداب بيروت، ثم صدرت ترجمة تالية
لها بثلاث سنوات في بيروت أيضًا بتوقيع نخبة من الأساتذة (ولم أطلع على هذه
الترجمة حتى وقتنا هذا). ثم صدرت ترجمة أخرى عن الإنجليزية لخالد جبيلي صدرت
عن منشورات الجمل ببيروت أيضًا، وهما الترجمتان ذائعتا الصيت اللتان تعرّف من
خلالهما القارئ العربي على رائعة كازانتزاكيس "زوربا"، هذا عدا الترجمات
الأخرى التي لم تقع تحت أيدينا ولا نعلم عنها شيئًا!
واكتشفت أنه خلال تلك المدة (60 عاما كاملة) صدر ما لا يقل عن خمس ترجمات (إن
لم يزد) لهذه الرواية البديعة؛ منها -كما أشرت- ما ترجم عن الإنجليزية
والفرنسية، ومنها ما ترجم عن اليونانية مباشرة وإن كان في وقتٍ لاحق ومتأخر عن
الترجمات الوسيطة. تقريبا قرأت كل هذه الترجمات (عدا واحدة أشرت إليها في فقرة
سابقة)، واستمعت بها ووازنت بينها، واكتشفت أن لكل ترجمة منها ميزة خاصة
وفريدة عن غيرها. وذلك قبل أن أطلع على الترجمات المباشرة عن اليونانية، وقد
كان لها مذاق آخر ومختلف بكل تأكيد، خصوصا مع معاودة القراءة بعد سنوات من
الاطلاع الأول عليها، تفعل السنون فعلها بكل تأكيد!
ترجمت "زوربا" مرتين عن اليونانية؛ إحداهما بتوقيع المرحوم الدكتور حمدي
إبراهيم أستاذ الكلاسيكيات واليونانية القديمة، والثانية بتوقيع خالد رؤوف
الأستاذ المتخصص في اللغة اليونانية وآدابها الحديثة، وهي أحدث ترجمة لهذه
الرواية عن اليونانية مباشرة (في حدود ما أعلم) وقد صدرت عن المركز القومي
للترجمة بالقاهرة قبل عدة سنوات من الآن، وجاءت تحت عنوان "*أليكسيس زوربا...
سيرته وحياته*"، وتتضمن الترجمة الجديدة تفصيلات وإشارات لم تتضمنها الترجمات
السابقة عن الفرنسية أو الإنجليزية، بحسب ما أكد مترجمها في صدر الكتاب.
(3)
وأعود إلى "زوربا" هذه الشخصية المحببة الأثيرة "ابن البلد" اليوناني، على
غرار ابن البلد في أي بلد وفي أي ثقافة، هناك ودائما ما يوجد هذا الشخص الذي
قد نلتقيه صدفة وقد لا نلتقيه أبدا لكننا نشعر بوجوده ونشعر بروحه وظلاله تحوم
حولنا إذا ما أرهفنا الإحساس واستشففنا التأمل والبصيرة!
"زوربا" بطل الرواية ومحور أحداثها ووقائعها، شخصية حقيقية لها مرجعها الواقعي
والتاريخي في حياة المؤلف، التقاها كازانتزاكيس في جزيرة كريت، وكان عاملا
عجوزا تعرف إليه واقترب منه، وقرر أن يسجل سيرة حياته في عمل روائي تخليدًا
لذكراه، ولما كان من أثر بالغ تركته هذه الشخصية في نفس ووجدان وعقل
كازانتزاكيس.
يقول كازانتزاكيس عن بطله الأثير: "علّمني زوربا أن أحب الحياة، وألّا أخاف
الموت"، ووصفه أيضًا في صدر الرواية بقوله: "هذا الرجل لديه كل ما يحتاجه أي
شخص مثقف لكى ينجو: العين البرِّية التي ترصد غذاءها بحدة، والإبداع، والبساطة
المتجددة كل صباح بأن يرى كل شيء لأول مرة، ويمنح العناصر اليومية الأبدية
عُذريّة خاصة، الهواء، والبحر، والمرأة، والنور، والخبز، يقين الكفّ وطزاجة
القلب، الشجاعة في أن يسخر من ذاته وروحه، كانت لديه قوة أخرى أقوى وأرقى من
الروح، وأخيرًا ضحكٌ صاخبٌ يأتي من نبع عميق، أعمق من أحشاء الإنسان، ضحكٌ
ينفجر في صدر زوربا العجوز في اللحظات الحرجة فيشفى ويحرّر كل الآلام".
أثّر "زوربا" الحقيقي في حياة كازانتزاكيس تأثيرًا يعادل كبار الأدباء
والفلاسفة، فخلّده في هذه الرواية التي لا تبلى جدتها، ولا طرافتها، ولا روحها
الساخرة.. رواية تنضح بالسؤال والدهشة والبحث عن جوهر الإنسان، الذي تمزق بين
ما اعتبره "*ثقافة ومعرفة*" وبين حالته البدائية، وسعيه إلى امتلاك العالم..
مات زوربا الحقيقي في صربيا بعد أن تزوج وأنجب طفلًا وهو يقترب من السبعين!
وأصبح مالكًا لأحد المناجم، وبقي "زوربا" الذي خلده كازانتزاكيس، زوربا الذي
صوره في مشهد بالغ الدلالة على ثراء هذه الشخصية وتعدد مستوياتها الوجودية
والإنسانية.. يصف "زوربا" كيف واجه موقف فقدانه لابنه الوحيد ذي الأعوام
الثلاثة:
"هناك شيطان بداخلي يصرخ، وأنا أفعل كل ما يقوله لي، كلما انتابني الحزن
يناديني: "اُرقص" فأرقص، فينزاح عني الحزن. في إحدى المرات مات لي ابن،
ديمتريوس الصغير، في خالقيدونيا، فإذا بي هكذا أقوم وأرقص، عندما رآني أقاربي
أرقص أمام رفاته، هرولوا نحوي وحاولوا منعي، "لقد جُنّ زوربا، راحوا يصيحون،
لقد جُنّ زوربا"، لكن أنا، في هذه اللحظة، لو لم أرقص، لأصابني الجنون من فرط
الألم".
(4)
لم تكن شخصية زوربا بسيطة أبدًا، إنه التلخيص الهائل لأسئلة الفلاسفة،
والتجسيد الحي لنزق زيوس، وحكمة أثينا، تعلّم كازانتزاكيس من "زوربا" أن
الحياة أكثر تعقيدًا مما تبدو في الكتب، وأن فيها من العبث ما يستحق أن نواجهه
بالرقص والغناء والضحك والجنون المضاد، وفيها من القسوة ما يستحق أن نواجهه
بروح إنسانية عابرة للقوميات وللأديان والانتماءات الضيقة، يقول كازانتزاكيس
على لسان بطله "زوربا": "شعرت في أعماقي أن السمو الذي يمكن أن يصل إليه
الإنسان ليس هو المعرفة والفضيلة، ولا الخير أو النصر، لكنه شيء آخر أسمى،
أكثر بطولة ويأسًا: الرغبة والرهبة المقدسة".
ذلكم هو "زوربا"، الذي عرّى طبقة المثقفين حتى من ورقة التوت الأخيرة، والذي
دعا صاحبه المثقف المتأمل "المعادل الروائي لشخصية الكاتب نفسه"، بعدما خسرا
مشروعهما وحلمهما، إلى أن يرقصا "رقصة الحياة"، فكانت رقصة زوربا تعبيرا عن
الإرادة الحديدية التي يملكها الإنسان.
رسالة زوربا الأخيرة إلى صديقه وصاحبه، في ختام الرواية، تلخص بحق فلسفة ورؤية
ذلك العجوز العبثي شبه الأمي، الذي استطاع ببساطة وتلقائية وعفوية مدهشة أن
يجمع خلاصة ما خبره في الحياة والمرأة والدين والرب والشيطان، في عبارات
وحكايات ومواقف بالغة الدلالة أعجزت صاحبه "المثقف" وأدهشته، وجعلته كالتلميذ
الصغير الواقف بين يدي حكيم فيلسوف وعارف متأمل، يستقي منه الحكمة ويستشف قيمة
الحياة وجوهرها، معترفًا بأن الكتب وحدها لا توصل إلى الحقيقة، ولا تشفي ظمأ
ولا تريح بالًا..
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عن الیونانیة
إقرأ أيضاً:
“أونروا” : يجب إعادة بناء النظام التعليمي الذي كان قائمًا في غزة
الثورة نت/وكالات شددت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)،اليوم السبت،على ضرورة إعادة بناء النظام التعليمي الذي كان قائمًا في غزة والذي كانت الوكالة تديره إلى حدّ كبير بشكل كامل. وقالت الوكالة في تدوينة، :”يجب أن تكون أولويتنا جميعاً إعادة جميع أطفال غزة إلى بيئة تعليمية بعد عامين من الحرب والصدمات والمعاناة”. وأشارت الوكالة إلى قول رهف، 14 عامًا، نازحة في غزة: ”ما زلت أحلم بأن أصبح صحفية، لأوصل صوتي وأصوات أطفال غزة الى العالم، وأن أدافع عن حقوقنا، وأحكي الحقيقة”. وأضافت رهف :”لا أريد أن تسلبني هذة الحرب حقي من التعليمي،كما سلبتني والدي وطفولتي”. وبدعم أمريكي وأوروبي، ارتكب جيش العدو الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023، جرائم إبادة جماعية وحصار وتجويع في قطاع غزة أسفرت عن استشهاد أكثر من 69 ألف شهيد فلسطيني غالبيتهم من الأطفال والنساء، وما يزيد عن 170 ألف مصاب ، في حصيلة غير نهائية، حيث لا يزال الآلاف من الضحايا تحت الركام وفي الطرقات لا تستطيع طواقم الإسعاف والإنقاذ الوصول إليهم.