في مدينة أنهكها الحصار وحاولت ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران تحويلها إلى سجن كبير، افتتح، السبت، في تعز جنوب غربي اليمن "متحف الذاكرة"، ليكون شاهدًا حيًا على عقد كامل من الحصار المفروض على سكانها من قبل هذه الجماعة التي تنتهج أساليب الإرهاب ضد المدنيين في المحافظة.

المعرض جرى تنظيمه من قبل منظمة سام للحقوق والحريات، ورابطة أمهات المختطفين، ومعهد دي تي، بالشراكة مع مكتب شؤون الحصار، وفرع الهيئة العامة للآثار والمتاحف، ومكتب الثقافة فعالية "متحف الذاكرة"، ضمن أنشطة مشروع إسبارك بمدينة تعز.

 

واستعرض متحف الذاكرة أكثر من 250 لوحة رسم ، و165 صورة فوتوغرافية، و20 مجسمًا فنيًا، بالإضافة إلى شاشة عرض، وركن خاص بالذاكرة، في إطار جهود حفظ الذاكرة الجماعية للضحايا، ورصد المأساة الإنسانية التي عاشتها المدينة خلال السنوات العشر الماضية.

وقال مسؤول التنسيق في مشروع "إسبارك" معاذ الفقيه، أن المشروع يسعى إلى دعم السلام في اليمن من خلال المساءلة والمصالحة وتبادل المعرفة (سبارك)، مشيرًا إلى تمكين منظمات المجتمع المدني من تطوير فهم أعمق لمفاهيم العدالة الانتقالية وتنفيذها وابتكار آليات جديدة، بما يسهم في تعزيز الحوار الوطني والدولي حول العدالة الانتقالية كمدخل رئيسي لتحقيق السلام المستدام في البلاد.

وأضاف أن المشروع يركز على تعزيز المشاركة المجتمعية والوعي المجتمعي، من خلال تنفيذ مبادرات فرعية في مجال العدالة التصالحية وحملات توعوية تستهدف الناجين والضحايا والمجتمع المحلي والأحزاب السياسية. 

صمود اسطوري

بين جدران المتحف تُعرض صور ومواد توثيقية تحكي وجع سنوات طويلة من القصف والقنص والألغام، وصمود المدنيين الذين تحدّوا الموت يومًا بعد آخر من أجل البقاء. مئات العشرات من الصور واللوحات الإنسانية التي وثقت مظاهر المعاناة اليومية التي عاشها السكان على مدى سنوات. 

أطفال حُرموا من مدارسهم، ونساء عبرن طرقًا وعرة لجلب المياه، ومرضى فقدوا حياتهم أمام أبواب المستشفيات بعد أن حالت قيود الحوثيين دون وصولهم إلى الدواء. هذه ليست مجرد لقطات فوتوغرافية، بل ذاكرة مرئية تختزن قصص مدينة محاصرة منذ آذار/ مارس 2015، يعيش فيها نحو 3 ملايين نسمة بلا غذاء كافٍ ولا دواء ولا خدمات أساسية.

عدد من النشطاء الذين زاروا المعرض اعتبر أن الصور "شهادة بصرية على أطول جريمة حصار في التاريخ المعاصر". ومشيرين إلى أن الحوثيين حولوا تعز إلى "سجن كبير لعقد كامل"، ومنعوا الغذاء والدواء عن ملايين المدنيين. المتحف جمع بين الفن والأدلة المادية والتوثيقات الحقوقية ليكون شاهدًا على "جريمة ما تزال تُرتكب كل يوم".

وقال عدد من المشاركين في المعرض  إن المتحف المصور يمثل"ذاكرة حية للمعاناة ولشجاعة أبناء المدينة"، موضحين أنه يضم صورًا ورسومًا تؤرخ الطريق الطويل للحرب والحصار، بما في ذلك انتشار الألغام والقنص، لتذكير الناس بأن الحصار لم ينته بعد. وأكدوا أن فتح معبر وحيد للمدينة لا يعني رفع الحصار، فتعز لا تزال مطوقة بالموت والألغام والقناصة.

معاناة لا تزال مستمرة

وقال الناشط والصحفي عبدالسلام القيسي، الذي حضر فعالية "متحف الذاكرة" في تعز، إن المتحف "لا يكتفي بتوثيق عشر سنوات من الحصار والمعاناة، بل يؤرخ أيضًا لبطولة هذه المدينة وصمودها الاستثنائي"، مضيفًا: "اليوم، وبين جدران القصر الذي كان مقرًا للطاغية أحمد حميد الدين، انتصبت ذاكرة تعز البطولية ضد أحفاد الإمام نفسه، وسيأتي يوم نحتفي فيه بذاكرة النصر من قلب صنعاء"، على حد قوله.

وأشار القيسي إلى موقف إنساني أثر فيه أثناء زيارته، حين التقى سيدة تدعى هناء الشرجبي تحدثت عن المبنى التاريخي الذي يحتضن المتحف، ورأت أنه "لم يكن رمزًا للتواضع كما يظن البعض، بل مظهرًا من مظاهر التخلف في زمنه"، مؤكدًا أن مثل هذه الشهادات تجسد وعي أبناء تعز العميق.

واعتبر القيسي أن متحف الذاكرة "ليس إطارًا يوثق زمناً مضى، بل تذكير حي بمعاناة ما تزال مستمرة"، داعيًا جميع أبناء المدينة لزيارته، ومشيدًا بجهود الناشط الحقوقي ماهر العبسي الذي أسهم بشكل فاعل في إبقاء ذاكرة الحصار والبطولات حية، وقال إن "المتحف يشبه لوحة جبل طالوق الذي كان المنفذ الوحيد لتعز في سنوات الحصار".

أوجاع لا تنسى 

المعرض أعاد التذكير بما يعانيه المواطنين من أوجاع بسبب الحصار الذي خلف أدى إلى وفاة أكثر من 10 آلاف شخص بسبب غياب الرعاية الطبية، ناهيك عن 31 مدرسة مغلقة وحرمان 32 ألف طالب وطالبة من التعليم، وفقدان المدينة 75% من احتياجاتها المائية. إضافة إلى تراجع المؤسسات والشركات من 100 قبل الحصار إلى 17 فقط. وتسجيل 573 حادثًا مروريًا على الطرق البديلة الخطرة أسفر عن 436 وفاة و1,049 إصابة. وتوثيق 1,860 حالة اختطاف من نقاط تفتيش حوثية.

ويشكل "متحف الذاكرة" تحذيرًا ضد أي محاولات للتطبيع مع الحوثيين، ورسالة مفادها أن الحصار ما يزال قائمًا وأن معاناة تعز مستمرة. فبحسب القيسي: "هذا المتحف للحاضر وليس للماضي، لأنه يذكّر الناس بأن المعاناة لم تنته بعد". كما أنه يبقى شاهدًا حيًا على أن تعز، رغم الحصار، لم تفقد ذاكرتها ولا قدرتها على الصمود، وأن محاولات طمس الحقيقة ستسقط أمام نور الذاكرة التي يحتفظ بها أبناؤها جيلًا بعد جيل.

المصدر: نيوزيمن

كلمات دلالية: متحف الذاکرة فی تعز

إقرأ أيضاً:

الشرع يسقط ذكرى حرب تشرين من الذاكرة السورية.. ما الهدف؟

يأتي القرار في سياق تحوّلات أمنية وسياسية متسارعة، تزامناً مع مفاوضات جرت بين دمشق وتل أبيب، كان يُتوقّع أن تُكلّل الشهر الماضي باتفاق أمني. اعلان

أصدر الرئيس الانتقالي في سوريا أحمد الشرع، مرسوماً رئاسياً في عشية الذكرى السنوية لما يعرف بحرب تشرين الأول (6 أكتوبر/ تشرين الأول)، قضى بإلغاء يومَي "عيد الشهداء" (6 أيار) وذكرى حرب تشرين 1973 من قائمة العطل الرسمية في البلاد.

وتُعدّ هذه الخطوة سابقة غير مسبوقة منذ عقود، إذ تمسّ ركيزتين رمزيتين في الذاكرة الوطنية السورية، ما أثار موجة واسعة من الاستنكار في يومٍ كان السوريون يحيون فيه ذكرى واحدة من أبرز المحطات في تاريخهم الحديث.

ويُحيى "عيد الشهداء" في 6 أيار تخليداً لذكرى إعدام العثمانيين لعدد من المفكّرين والوطنيين السوريين واللبنانيين في ساحة المرجة بدمشق عام 1916، بتهمة التآمر ضد الحكم العثماني، وهو يُعتبر محطة تأسيسية في "مسيرة النضال من أجل الاستقلال".

أما ذكرى حرب تشرين 1973، فتُجسّد واحدة من أبرز المحطات العسكرية والسياسية في التاريخ الحديث للبلاد، حين شاركت القوات السورية إلى جانب مصر في مواجهة إسرائيل. وعلى الرغم من التقدّم المبدئي الذي حققته القوات السورية في هضبة الجولان، لم تُكلّل الحرب باستعادة كامل المنطقة، ولا تزال إسرائيل تحتل أجزاءً حيوية منها وفق تقارير الأمم المتحدة.

ويأتي القرار في سياق تحوّلات أمنية وسياسية متسارعة، تزامناً مع مفاوضات جرت بين دمشق وتل أبيب، كان يُتوقّع أن تُكلّل الشهر الماضي باتفاق أمني، قبل أن يتعثّر بسبب خلافات حول فتح "ممر إنساني" إلى السويداء، وفق تقارير إعلامية.

ويُنظر إلى تصريح الشرع خلال مشاركته في نيويورك أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي حين قال: "نحن خائفون من إسرائيل. نحن قلقون بشأن إسرائيل. الأمر ليس العكس" — على أنه انعكاس صريح لتغيّر في الخطاب الرسمي، يتناقض جذرياً مع مواقفه السابقة خلال حكمه لـ"هيئة تحرير الشام" حين كان يدعو إلى القتال "نصرة لفلسطين" وفق مراقبين.

Related اجتماع سوري - إسرائيلي "رفيع" في باريس برعاية أميركية.. هل بدأت دمشق خطوات التطبيع العلنية؟هل تفتح سوريا بوابة التطبيع مع إسرائيل في عهد أحمد الشرع؟وزير الخارجية السوري: الغارات الإسرائيلية على البلاد جعلت التطبيع "أمرًا صعبًا"

وفي الشارع السوري، تباينت ردود الفعل بين الغضب والاستغراب. فقال جمال، موظف حكومي من دمشق ليورونيوز: إلغاء ذكرى حرب تشرين لا يُفسّر إلا كخطوة لإرضاء إسرائيل، خصوصاً بعد فشل الاتفاق الأمني معها، وربما محاولة لكسب ودّ تركيا لضمان توازن بين الشمال والجنوب".

بينما اعتبر سعد الله، من حمص، أن "حذف هذين اليومين من التقويم الرسمي هو هدمٌ للهوية التاريخية، وضربٌ لموروث وطني جمع السوريين عبر عقود. بدلاً من تعزيز الوحدة، نعمل على تمزيق الذاكرة الجماعية وطمس تضحيات من قدّموا أرواحهم من أجل الأرض".

ولم يقتصر الغضب على الداخل السوري. فقد تناول الإعلام المصري القرار بلهجة حادة، مُشدّداً على أن "أحمد الشرع يُكرّس نفسه علناً لمحو ذكرى مشاركة سوريا في نصر أكتوبر"، مضيفاً أن "النظام الجديد قد يختار مساراته، لكن التاريخ لا يُمحى".

ولفتت تقارير مصرية إلى أن إسرائيل لا تزال تحتل أجزاءً حيوية من هضبة الجولان، وسيطرت من جديد على كامل قمة جبل الشيخ، وتتمدد نحو دمشق.

وفي هذا السياق، أفاد محلّلون سوريون تحدثوا إلى يورونيوز، وطلبوا عدم الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن "القرارات الرمزية التي تُتخذ اليوم ليست عفوية، بل تندرج ضمن خطة واضحة: التنازل عن كل شيء لإسرائيل، بما في ذلك الذاكرة، طالما أن ذلك يضمن البقاء في السلطة".

وذهب أحد هؤلاء المحللين إلى القول: "الشرع توجه إلى نيويورك ليؤدّي فروض الطاعة. كلامه لم يكن فيه أي نَدِيّة تجاه إسرائيل، بل كان اعترافاً صريحاً بالخوف، وهو ما يتناقض كلياً مع خطابه السابق حين كان يُطلق على خصومه ألقاباً تتهمهم بالعمالة مع الدولة العبرية ويَعِد بتحرير فلسطين".

وتعد سوريا وإسرائيل خصمين منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، وينص اتفاق فصل القوات الموقع بينهما عام 1974 على إنشاء منطقة منزوعة السلاح في هضبة الجولان تحت إشراف الأمم المتحدة.

إلا أن إسرائيل، منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي 2024، كثّفت ضرباتها الجوية على مواقع عسكرية سورية، ونشرت قوات في جنوب البلاد، في إطار سياسة تصفها بأنها وقائية ضد التهديدات الأمنية.

من جهتها، دعت دمشق إلى العودة الكاملة لاتفاق 1974، ووصفه الرئيس أحمد الشرع في منتصف سبتمبر بأنه "ضروري لاستقرار الوضع"، مشدّدًا على أهمية احترام إسرائيل للسيادة الجوية السورية ووحدة الأراضي.

انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة

مقالات مشابهة

  • غزة .. بين هدنة مزيفة وصمود يصنع الحقيقة
  • أبرزها عين الجمل.. أطعمة تقوّي الذاكرة وتعزّز التركيز
  • غريتا ثونبرغ: قمنا بالدور الذي عجزت عنه الحكومات لغزة
  • إحدى نشطاء أسطول الصمود: قمنا بالدور الذي عجزت عنه الحكومات لغزة
  • الشرع يسقط ذكرى حرب تشرين من الذاكرة السورية.. ما الهدف؟
  • الفاشر تحت القصف: مدينة محاصرة وغازات كيميائية تهدد المدنيين
  • «صائد الطائرات» في حرب أكتوبر.. ابنة الشهيد أحمد حسن تحكي كواليس مؤثرة عن والدها
  • متحف الشرطة يحتفل بـ ذكرى انتصار السادس من أكتوبر
  • متحف الغردقة يحتفل بـ اليوم العالمي للابتسامة
  • «الشارقة للتراث» و«متحف الدمى في بورتو» يبحثان تعزيز التعاون الثقافي