أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج

ليس المسرح العالمي، كتلة ثابتة في الزمان والمكان، ولكنه حالة متحركة اجتماعيا وثقافية وفنيا، يتأثر ويتلون بحسب متغيرات الأوضاع، على الرغم من صرامة ضوابطه وقوانينه الداخلية وديمومتها، وأية رؤية تعمل على تجميده في النموذج المطلق فهي تقتله، وتفقده ماهيته التي بني عليها: الحركة.

من هذا المنظور، تطرح هذه الورقة مجموعة من الأسئلة المتعلقة بفكرة “التجريب” التي صاحبت المسرح العربي على مدار العصر الحديث، من خلال السؤال الذي خلفته في رحلتها الطويلة نسبيا: هل غيَّر التجريب العلاقات الأساسية بين المسرح وتاريخه وجماهيره المتابعة والحاملة له، أي هل أمدته التحولات التي مسته جسديا وهزت محيطه، تاريخا ظل يفتقر إليه من أجل فكرة التوطين؟ وبين المسرح والجمهور، هل حل التجريب والممارسة المسرحية الجديدة، مشكلة الهوة الفاصلة بين المسرح كفاعلية فنية وجمهور غير مكون في هذا السياق؟ جمهور شعبي تعود على الفرجات الشعبية كالحلقات العامة، والتجمعات الخطبية الدينية، والأعراس والأسواق التي تتبدى فيها عبقرية الحكواتي. يبدو من الملاحظات الأولية أن التجريب بقدر ما قدم احتمالات جادة عن إمكانية نشوء مسرح جديد، إلا أنه أثار قضايا كثيرة تتعلق بفكرة توطين المسرح نفسه، الذي يعاني من معضلة التقبل في أشكاله التجريبية كالحلقة والمسرح الاحتفالي وغيرهما التي يفترض أنها تستجيب لمعطى ثقافي شعبي، فهي حلت بالتالي مشكلة القابلية والتوطين. المسألة ليست بهذه السهولة وإلا علينا أن نسبق تحليلنا بالمعاينة التالية: هل خلق مسرح الحلقة الذي مثل في القرى والأماكن الشعبية جمهورا مسرحيا يتذوق اليوم ما يقدم له في المسارح أو الساحات العامة؟ لن يخالفنا المسرحي الجزائري الكبير المرحوم عبد القادر علولة في أنّ النتائج المأسوية لم تتأتَّ من كون الجمهور أصم إذ لا يوجد جمهور بلا قابلية للتعلم والاستقبال، الزمن والأجيال والتعلم تفتح أكثر المسالك ضيقا من الناحية الثقافية، ولكن لأن الفعل الثقافي في الوطن العربي والجزائر تحديدا، كان وما يزال من الكماليات الثانوية التي لا تستدعي المتابعة. علبة سجائر مارلبورو أجدر من بطاقة دخول إلى المسرح الوطني؟ هذه هي الخلاصة المفجعة التي كثير ما نقفز عليها. وتحولت الحلقة في نهاية المطاف إلى حلقة ثقافية للنقاش النظري، المهم جدا من الناحية الثقافية ولكنه ضعيف في البنية المسرحية التي كانت تحتاج إلى تغيير عميق. النظري من الناحية المسرحية لا يعوض مطلقا الممارسة المسرحية التأصيلية، الضرورية لأي توطين.

لهذا وجب التفريق منهجيا بين مصطلحين كثيرا ما تداخلا: مسرح التجريب والمسرح التجريبي؟

فإذا كان المعنى في المصطلح الأول يتحدد بالنزعة الفردية بكل ما تحمل الكلمة من محاولات وخصوصيات التفرد، لأن:

أولا: الفعل المسرحي في هذه الحالة لا يدّعي أنه بصدد تكوين مدرسة توطِّن المسرح في أرضه، ولكنه يعترف مبدئيا بالمقاربة الفردية التي قد تصيب وقد تخيب. فهو يخوض تجربة أرضيتها النظرية وسلسلة من التجارب الغربية التي شاهدها أو عاشها أو ربما ساهم فيها في أوروبا، أي في مجتمع مهيكل ثقافيا ومعرفيا وجماهيره مثقفة وأفق انتظارها واسع لهذا يجد المسرحي نفسه مجبرا على تقديم الجيد والأجود لأنه لا يريد أن يخسر جمهورا كونه مسرحيا من خلال تجربته في تمايزها، على مدار عشرات السنين. أي تشويش في أفق الانتظار يضع تجربته في المدارات الحمراء التي تسبق تخلي الجمهور عن تجربة من التجارب المسرحية التي كانت متوهجة في حقبة من الحقب.

ثانيا: المسرح التجريبي، أو التجريبية بمعناها الفعلي ومحاولة توطينه، يتوخي النموذجية المسرحية. أي ما يمكن اعتماده كتجربة يسهل تعميمها؟ من هنا، فالتجريبية تفترض سلسلة من التجارب المسبقة التي استقرت وخلقت فيما بينها مجموعة من التجاذبات بحيث يمكنها أن تتحول إلى نموذج مدرسي للتوطين. فإذا أخدنا هذه الفكرة في البلدان المغاربية، من خلال تجربتي مسرح الحلقة كما أرادها عبد القادر علولة في محاولته الرائدة لتدمير الشكل الأريسطوطاليسي والعودة إلى الأشكال الشعبية القديمة التي يلعب فيها الڤوال الدور الحاسم في عملية السرد والقص، والمسرح الاحتفالي أو الفرجة، في المغرب عند الكاتب المسرحي المجتهد عبد الكريم برشيد الذي جعل من المسرح في النهاية حالة فرجة اعتمد فيها على الأشكال التمثيلية المتولدة عن ممارسات الأسواق، والأماكن الشعبية، حيث يتم التعامل مع جمهور غير مكوّن مسرحيا ولكنه يعرف النموذج الذي يُلعب أمامه ومحب له ولا يشعر تجاهه بأي اغتراب. أي أنه يرى تجليات السوق الشعبية أمامه مسرحيا. ماذا بقي من هاتين التجربتين بعد عشرات السنين؟ من المؤكد أنّ هذه التجارب خلقت أرضية مسرحية شديدة الأهمية ولكنها أفلت للأسف دون أن تتمكن من خلق البدائل المسرحية الجديدة. تعاني المسارح المغاربية، والعربية، من النماذج المسرحية المؤثرة الحاملة لرؤية مميزة وحقيقية. لهذا نجد مسرحية ناجحة ولكن لا توجد تجربة ناجحة. ربما علينا انتظار زمن آخر لنتمكن من توطين التجارب المسرحية الجديدة. مسرحية “جي بي إس” تظل مسرحية جديدة في أفقها اللغوي الخاص الذي محا كل الحدود لتصبح الإشارة المحملة بالدلالات الرمزية، هي لغة المسرح، ولكنها ليست تجربة يمكن تعميم نموذجها على الأقل دون السقوط في التكرار، مقتل المسرح.

خارج التأطير النظري الذي كثيرا ما يحلّ المعضلات الثقافية بسهولة كبيرة، نجد في الحالتين غلبة النموذجية الفردية، أي التجريب الذي لم يُخرج المسرح من دائرة النخبة. المعضلة الكبيرة هي أن هذا المسرح المفترض شعبيا ومؤسسا على النموذج المتداول بسهولة، ظل يؤدَّى في الأغلب الأعم، على خشبة المسرح الإيطالي، ولم تخلق الخشبة الدائرية التي تعيد إنتاج الحلقة أو غيرها، الموائمة لمسرح الحلقة أو الاحتفالي. الجمهور عندما يدخل إلى المسرح أو الأوبرا يترك وراءه السوق والتقاليد الشعبية ويدخل في منظومة قد لا تكون مريحة إلا بالنسبة لعارف بالمسرح. لا يستطيع الجمهور العادي أن يخبئ خوفه من المكان وكأنه يدخل إلى مكان يشبه المكتب، ليس من حقه أن يدخله، أو مستشفى، هناك شعور مبطن بالخوف على العكس من السوق التي يواجهها بفرح ويضحك من حركات الحكواتي الذي يغير في الشخصيات. للاشعور الجمعي ليس مسالة بسيطة أبدا. الجمهور الشعبي في أغلبه عندما يمر على المسارح لا يمكنه أن يتخلص من فكرة أنها ليست له ولكنها لغيره. يحتاج الأمر إلى جهود مضنية للفنانين المسرحيين وخيارات حقيقية للدولة إن أرادت أن تدخل المسرح في الانشغالات اليومية للمواطن. لا يمكن، مهما كانت النوايا حسنة وطيبة، أن تُحل مشكلات مثل التوطين، والتجريب، والتلقي، من دون قراءات حقيقية تقع خارج السياسي والإيديولوجي السهل.

خلاصة الجهود هي أن التجربة المسرحية العربية غلبت عليها الفردية التي، على الرغم من قيمتها وتمايزها، لم تؤهلها للتطور والتعميم. لكنها كلها تجارب أصبحت اليوم تاريخا أو جزءا من التاريخ المسرحي، تستحق أن تدرس بالجدية التي تليق بها ولكن المراهنة عليها لحل معضلات التلقي والتوطين ليست أمرا صائبا. لم تعد هذه التجربة المسرحية سواء الحلقة أو الاحتفالية تغري الكثير من الشباب المتطلع إلى تجارب أخرى جعلت العولمة الثقافية ووسائل الاتصال الحديثة ترتبط أكثر بما يمارس عالميا مع القبول المسبق بالحقيقة المرة والتي مست كل الفنون والآداب، التخلي عن الممارسات الماضية التي على الرغم من حداثتها، لم تخرج أيضا من قدامة قتلتها أكثر مما أفادتها، والقبول بالنموذج الغربي وتأصيلية بمحلية تجعل من تقبله أمرا ممكنا وتضع التجربة المسرحية العربية قابلة للتسويق عالميا. الأشكال المعاصرة التي تتناغم فيها القصة بالسينوغرافية المتحررة من كل القيود والإضاءة المشبعة بالتكنولوجية الحديثة أصبحت مبغى مهما في المسرح الجديد.

من هنا نكتشف أن التجربة المسرحية العربية والمغاربية تحديدا، طرحت مجموعة من المعضلات أكثر مما قدمت حلولا لمشكلة التوطين التي ظلت تشغل جيلا بكامله لأنه بنى على فكرة التوطين كل مشروعه التجريبي. كيف تجلب جمهورا غير مكون مسرحيا بالمعنى الغربي نحو مسرح يستجيب لثقافته ونوازعه الخاصة وثقافته أيضا التي تلقها عير القرون. يبدو لي أن فعلا مثل هذا يحتاج إلى تغيير جوهري في بنى التلقي ليس فقط على المستوى الفكري ولكن على المستوى البنيوي. الجمهور في النهاية، بما في ذلك الجمهور في الغرب هو ثمرة ثقافة تكوين مسرحي وثقافة مسبقة، ولا يمكن أن نبني مشروعا فقط بالاعتماد على المتشابه تاريخيا. ثم حتى ولو افترضنا أنه يمكن الاعتماد على جمهور تعود على الأسواق والأماكن المفتوحة يحتاج افتراض مثل هذا إلى تغيير بنية المسرح والتفكير في هندسة أخرى، ومغادرة الركح الكلاسيكي والنموذج الإيطالي، والخروج نهائيا من منطق المسرح الأريسطوطاليسي؟ وهي معضلات ظلت خارج جوهر اهتمامات المسرحيين، وكأن الأمر يتعلق فقط بالرغبة. النخبة التي تبنت مشروع التجديد ومارسته، مثلت في النهاية مسرحها أمام نخب مدينية أكثر ارتباطا بالمسرح الكلاسيكي، فخلقت اغترابا من نوع جديد؟

لا ننقص مطلقا من جهد المسرحيين العرب والمغاربيين تحديدا، ولكننا نحتاج اليوم إلى تأمل هذه التجربة المفيدة تاريخيا بوصفها حالة تجريب وتوطين ظلت محكومة بظرفية تاريخية كان الهدف من ورائها المسرح في خدمة الجمهور وليس المسرح في خدمة جمالية جديدة. ربما كانت المعضلة الكبرى هنا بالضبط. التسييس الذي يحل كل شيء عن طريق الخطاب ولا شيء غير ذلك في النهاية، فرض نفسه كبديل يقيني لا يقبل أي نقاش أو سجالية.

من المهم جدا من وراء هذا الحديث المسرحي، الوقوف على أسباب الانطفاء والإخفاق المسرحيين. هل هو إخفاق خارجي أي خاضع لعوامل لا علاقة لها بالمسرح، أم بنيوي مرتبط بفكرة التجريب نفسه في الوطن العربي الذي كان يبحث عن فعل التوطين لجنس بدا غريبا عن مجتمعه، فأعاد إنتاج حالة الاغتراب؟ اغتراب النص من خلال محدودية قرائه، واغتراب الفعل المسرحي الذي يغير مختلف العلاقات، بالخصوص علاقة الجمهور بخشبة المسرح وبأفق الانتظار. فقد بدا غريبا وبعيدا ثقافيا لأن الحلقة لم تتحول إلى بديل مسرحي عن السوق. فقد ظل الإحساس الداخلي بالأمان (المسرحي) غائبا بسبب تسيد وهيمنة العلبة الإيطالية.

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: فی النهایة المسرح فی من خلال

إقرأ أيضاً:

مؤمن الجندي يكتب: أشرف محمود.. الذي علق فأنطق الهوية

في بعض الوجوه تسكن أوطان، وفي بعض الأصوات تنام ذاكرة شعب بأكمله.. هناك وجوه لا تُنسى، لا لأنها لامست الشاشات، بل لأنها لامست القلوب دون استئذان.. أشرف محمود… ليس مجرد اسم لمعلق رياضي، بل حكاية مصرية تمشي على قدمين، رجل حين يتحدث، تسمع في صوته رائحة الشاي على مصطبة الجد في آخر النهار، تسمع أنين أبو الهول وصبر الفلاح، ودفء السلام عليكم من جارٍ لا يغلق بابه.

مؤمن الجندي يكتب: مهما صفق الواقفون مؤمن الجندي يكتب: عندما ينطق الوجه مؤمن الجندي يكتب: أزرار السوشيالجية مؤمن الجندي يكتب: بين العرق والذهب وصمت الكادحين

هو لا يعلّق على المباراة فحسب، بل يُمسك بالميكروفون كمن يُمسك بفرشاة ألوان، يرسم بها مشهدًا حيًّا تنقلك من الملعب إلى الحارة، من الهدف إلى الضحكة المصرية الخجولة، ومن تمريرة سحرية إلى حكمة قالها الأب زمان: "اللي ملوش كبير يشتري له كبير".

تراه فلا تتساءل عن معدنه، هو معدن "ابن البلد" النقي، صادق كالنيل، بسيط كالرغيف، نظيف كضحكة طفل في عز المولد.

أشرف محمود لم يجمّل نفسه، لم يصطنع شخصية، بل اختار أن يكون هو... فقط هو، وفي زمن يتصارع فيه الناس على الأضواء، كان هو الضوء ذاته، ضوءٌ يُشبه عيون أمك حين تدعو لك، ويُشبه نبرة أبيك حين يقول لك: "راجل يا ابني".

هو لا يركض خلف "الترند"، بل يمشي على خطى الكبار، لا يلهث خلف اللقطة، بل يصنعها بهدوء، كالفلاح حين يحرث الأرض.. يعلم أن الخير سيأتي.

أشرف محمود ليس ظاهرة صوتية، بل ظاهرة هوية وطنية.. هو مصر حين تتحدث بعقلها وقلبها ولسانها السمح، أثناء التعليق على المباريات.

في هذا الرجل تتجلى الهوية المصرية بكل ما فيها: بشهامتها، بكرامتها، بخفة ظلها، بجدعنتها، بحكمتها، بلغتها العربية، وبإيمانها العميق أن الأصل هو الأصل.. مهما تبدّلت الأزمان.


قبل النهاية، نحن في زمن امتلأت فيه الشاشات بالتصنع، والمنصات بالتصيد، لكن خرج هذا الصوت المصري الدافئ في بطولة مونديال الأندية، من الميكروفون لا يشبه إلا نفسه.. لا يستعير لهجة، ولا يبالغ في تعبير، ولا يتكلّف حماسة رغم خروجه عن شعوره.. لكنه فجأة! أصبح "تريند"، ولم يكن ذلك لأنه يملك خطة تسويق، أو فريق سوشيال ميديا محترف، أو يسعى خلف "اللايك والشير"، بل لأنه فقط قرر أن يكون كما هو: مصريًا جدًا.. بصوته، بكلماته، بنُكاته، بحماسه، وبهدوئه حين يجب أن يهدأ.

أشرف محمود لم يعلّق على المباريات فحسب، بل منحها طعمًا ولونًا ورائحة.. جعل المتابع يشعر أن المباراة تُلعب في ساحة بيتنا، وأن الهدف ليس مجرد كرة في الشباك، بل حكاية تُروى على القهوة، وضحكة تنطلق من القلب، وعصبية ابن بلد يعرف قيمة اللحظة.

لقد أصبح تريند.. لا لأنه أراد، بل لأن الناس اشتاقت لما يُشبهها.. وأشرف يشبهنا جدًا.

للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا

مقالات مشابهة

  • تجاعيدُ النصِّ المسرحيّ
  • “المداح” .. حمادة هلال يصل تونس لحضور حفل افتتاح المهرجان العربي للإذاعة والتليفزيون
  • أمير المنطقة الشرقية يرعى حفل إطلاق وجهة “لازورد” في الخُبر التي تضم أكثر من 8 آلاف وحدة سكنية
  • أمير الشرقية يرعى حفل إطلاق وجهة “لازورد” في الخُبر التي تضم أكثر من 8 آلاف وحدة سكنية
  • “الأغذية العالمي”: المساعدات التي ادخلت أقل من حاجة غزة وتكفي ليوم واحد
  • مؤمن الجندي يكتب: أشرف محمود.. الذي علق فأنطق الهوية
  • الأحد المقبل.. مؤتمر صحفي للإعلان عن تفاصيل العرض المسرحي "الملك لير"
  • يوسف داوود.. "مهندس الضحك" الذي ألقى خطبة الجمعة وودّعنا في هدوء
  • جاي زي يفاجئ الجمهور في إحدى محطات جولة بيونسيه الباريسية
  • إنطلاق أشغال المنتدى العربي الـ 04 من أجل المساواة “حوار وحلول”