سرديات العنف والذاكرة في التاريخ المفروض
تاريخ النشر: 23rd, October 2025 GMT
في الأزمنة التي يدار فيها العالم بالحكاية أكثر مما يدار بالقانون، ويُعاد فيها تشكيل الذاكرة تحت وطأة الانتصارات المادية، لا يعود التاريخ سجلا لما جرى، بل يصبح ساحة لما يراد له أن يُقال.
في هذا السياق الملتبس، المفعم بأسئلة السرد والسلطة، يجيء كتاب "التاريخ المفروض" للمؤرخ الفرنسي هنري لورنس محاولة لخلخلة المسلّمات، وكشف ما توارى خلف الأسطر المحايدة التي دون بها الغرب حكايته عن الشرق.
والكتاب صادر حديثا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بترجمة جان جبور، ضمن سلسلة "ترجمان"، لا يُقدّم تاريخا بديلا فحسب، بل يسائل مفهوم التاريخ ذاته: من يكتبه؟ ومن يُمنح فيه حق الكلام؟ ومن يُقصى إلى هوامش النسيان؟ ومن يملك حقّ المعنى في عالم يتنازع فيه الأقوياء على ذاكرة الضعفاء؟
تاريخ المقاومة والذاكرةمنذ الصفحات الأولى، يضع لورنس قارئه أمام مرآة لا تعكس الماضي فحسب، بل تفضح آليّة النظر إليه.
فالتاريخ، في تصوره، ليس أرشيفا من الوقائع، بل هو ميدان تدار فيه معركة الرموز، حيث تُصاغ حكايات الأمم على ألسنة المنتصرين. هكذا، يتحوّل السؤال من "ماذا جرى؟" إلى "من قال إن هذا ما جرى؟"؛ من التوثيق إلى النقد، ومن الحكاية إلى تفكيك آليات السرد ذاتها.
ولعل خطورة ما يطرحه لورنس لا تكمن في كشفه لتزييف الرواية الاستعمارية فحسب، بل في فضحه لنُظم التفكير التي أنتجت هذا التزييف وقدّمته بلبوس العقلانية، فالعنف، في قراءته، ليس انفجارا غريزيا همجيا كما تُحبّ الخطابات الرسمية أن تصوّره، بل هو ناتج مباشر للعقل ذاته حين يَستبدّ بالتنظيم والتبرير، والحرب ليست نقيض الحضارة، بل إحدى تجلياتها القصوى.
وهنا يكشف لورنس عن المفارقة المريرة التي تسكن قلب الحداثة: العقل الذي ابتكر الهندسة والفن والسياسة، هو ذاته الذي صاغ هندسة الإبادة، وكتب بروتوكولات القصف، وشيّد معسكرات الموت باسم النظام والعقل والإنسان، وعلى هذا تصبح الحرب لحظة صدقٍ، لا استثناءً من التاريخ، بل استكمالا له حين يسقط القناع عن وجهه الحقيقي. وفي تلك اللحظة يتجلّى الإنسان في أقصى تناقضاته: إنه صانع الجمال ومهندس الدمار في آن معا.
لكن "التاريخ المفروض" لا يتوقف عند تحليل العنف في صورته السياسية أو العسكرية؛ بل يغوص في عمقه الثقافي والنفسي.
إعلانفالتاريخ، كما يرى لورنس، ليس مجرّد سرد للوقائع، بل صراع على الذاكرة. وما يُمحى من الذاكرة لا يقلّ خطورة حقيقةً عمّا يُرتكب في الواقع؛ إذ إن السيطرة على الماضي هي الشرط الأوّل لاحتكار المستقبل، ولهذا، فإن أعنف ما في العنف ليس الرصاص، بل النسيان.
وحين تُطمس ذاكرة الشعوب، تُختزل آلامها في لغة الإحصاءات، ويُختصر وجودها في تقارير الحروب وبيانات الإدانة. عندها، تغدو الذاكرة فعل مقاومة لا يقلّ خطرا عن الثورة.
وهنا يوجّه لورنس بصره نحو ما يسميه "تاريخ المهمّشين"؛ أولئك الذين لم تُتح لهم فرصة الكلام، والذين كُتبت حياتهم بمداد الآخرين؛ في أدب المنفى، وفي رسائل المعتقلين، وفي أفلام الهاربين من الطمس، وفي شهادات الناجين التي لم يُتح لها أن تُروى، ينبض التاريخ الحقيقي، لا بوصفه ماضيا يُستعاد، بل جرحا مفتوحا يُعاد نزفه حتى يُسمَع.
غير أن هذا التاريخ المضاد، على عظمته، ليس بريئا من الصراع، فالذاكرة ذاتها، حين تُحوَّل إلى سلعة أو شعار، قد تُعاد هندستها لخدمة القوة، وعندها يغدو الألم مُقنّنا، يُعرض في وسائل الإعلام بوصفه عاطفة سريعة الاستهلاك، ويأتي الرقم البارد الذي يُسكِت الضمير ولا يُنطقه بدل آلاف الحكايات.
من هنا، يذكّرنا لورنس أن المقاومة ليست في حمل السلاح فحسب، بل في الاحتفاظ بالمعنى وفي القدرة على تسمية الأشياء بأسمائها، وعلى التمسك بحقّ السرد حين يصادره الآخرون.
الذاكرة والسلطةفي القسم الأخير من الكتاب، يتقدّم السؤال إلى ذروته: من يملك حقّ تمثيل العنف؟
ولورنس بأسئلته هذه لا يبحث عن إجابة نهائية، إنما يريد تفكيك البنية التي تُنتج السؤال ذاته. فتمثيل المعاناة، في الأدب والفن والإعلام، ليس فعلا جماليا فحسب، بل صراع على سلطة السرد. مَن يُمنح حقّ الكلام؟ ومتى يُسمَح له أن يتحدث؟ وما اللغة التي يُسمح له بها؟
في هذا المنظور، لا يعود التاريخ ميدانا للأحداث الماضية، بل ساحة دائمة لإعادة إنتاج السلطة من خلال اللغة. فحتى الضحية في أزمنة ما بعد الاستعمار لا يُسمح لها بالحديث إلا ضمن حدود يضعها النظام ذاته؛ يُسمح لها أن تروي، بشرط ألا تطالب بالعدالة، وأن تبقى في حدود الشهادة لا في ميدان الفعل، وهكذا يُعاد إخضاع المهمّشين تحت مسمّى الاعتراف بهم، ويُحوَّل الألم إلى مشهد رمزي يخدم السردية الكبرى بدل أن يزعزعها.
هذا ما يجعل من "التاريخ المفروض" كتابا يتجاوز حدود التخصّص الأكاديمي ليصبح نصا فلسفيا في ماهية الذاكرة والسلطة. فهو لا يكتفي بنقد الوثيقة، بل يُعيد مساءلة معنى الكتابة نفسها: ما معنى أن ندوّن؟ ولمن نكتب؟ وهل يستطيع التاريخ أن يكون فعلَ عدالة لا مجرّد سجلٍّ للوقائع؟
إن لورنس هنا لا يُقدّم نفسه بوصفه مؤرّخا محايدا، بل شاهدا واعيا بأن الحياد ضرب من المشاركة في التزييف.
التاريخ المضادومن هذا المنطلق، يصبح "التاريخ المفروض" صرخةً ضدّ تزييف الذاكرة الإنسانية، وضدّ اختزال الألم في أرقام، وضدّ تحويل المعاناة إلى مادة إعلامية. إنه نداء لاستعادة حقّ الكلام من بين أنياب الصمت، ودعوة لتأسيس تاريخ جديد لا يُروى فيه الإنسان بوصفه موضوعا، بل شاهدا على نفسه، وفاعلا في حكاية العالم.
إعلانفي عالمنا المعاصر، حيث تُعاد كتابة التاريخ كل يوم وفق مصالح الحاضر ووفق رواية المنتصر، ويُصاغ الماضي في مختبرات السياسة والإعلام، يأتي هذا الكتاب ليذكّر بأن أخطر أشكال العنف هي تلك التي لا تُرى؛ أن يُقال للضحية كيف تتحدث، وأن يُفرض على الشعوب كيف تتذكّر. إن ما يسمّيه لورنس "التاريخ المفروض" هو هذا الشكل الخفيّ من السيطرة، الذي لا يُمارَس بالقوة الجسدية، بل بسلطة المعنى.
لهذا، لا يقدّم لورنس وصفة للمصالحة، بل يقترح فعل مقاومة من نوع آخر: مقاومة بالسرد، وبالاستعادة، وبالتفكير، وبالتمسك بحق الإنسان في ذاكرته. فالتاريخ الذي يُراد له أن يكون سردا ناعما للانتصارات، يجب أن يُعاد فتحه ليصير سجلّا للأوجاع، لأن الحقيقة لا تُبنى إلا على الاعتراف، والعدالة الحقة لا تتحقق إلا حين يُمنح الصامتون حقّ الكلام.
إن "التاريخ المفروض" ليس دراسة في نقد الخطاب التاريخي، بل هو تأمل في جوهر الإنسان حين يواجه ذاكرته ودعوة لأن نُعيد النظر في طريقة روايتنا للعالم، وفي الطريقة التي نصنع بها أبطالنا وضحايانا، ففي كل رواية مفروضة، قد يكون هناك رواية أُخرى تُخنق. وفي كل تاريخ رسمي، ثمة تاريخ ظلّي ينتظر أن يُكتَب بدم الذين لم تُتح لهم الكتابة.
وفي النهاية، يتركنا لورنس أمام سؤال مفتوح لا يغلق: هل نكتب التاريخ لنُفسّر العالم، أم لنُبرّره؟ في هذا السؤال يكمن شرف التأريخ، وفي الإجابة عليه يتحدّد مصير الذاكرة البشرية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات
إقرأ أيضاً:
حتى لا نهدر دعاية ترامب المجانية
قال الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى مؤتمر شرم الشيخ إن مصر تتمتع بمعدلات منخفضة من الجريمة. الجملة - سواء قصدها ترامب وبناء على معلومات أو كانت مجاملة دبلوماسية - وصلت إلى الإعلام الدولى وأعطت صورا سريعة عن مصر كدولة آمنة. لكن الحقيقة الميدانية لا تقاس بتغريدة أو تصريح واحد. فبينما تسجل إنجازات فى ملفات الأمن العام، تظهر أمامنا جرائم جديدة ومؤلمة تنقض الصورة المثالية بسرعة: من اعتداءات فردية إلى حوادث دهس وإهمال تصيـب المواطن العادى وتجرح شعور الأمان لدى المجتمع.
خاصة مع انتشار ظاهرة العنف فى الطبقات الراقية فى المجتمع المصرى حادث الدهس الذى وقع فى بيفرلى هيلز - كمثال على الجرائم التى تثير الانتباه إعلامياً — يذكرنا بأن الجريمة لم تختف، بل تغيرت أشكالها وانتقلت بأحيان كثيرة إلى فضاءات لم نعتد على وجود جريمة العنف فيها وعلينا علاجها بفعالية. ولا يهم إن وقع الحادث داخل أو خارج البلاد.. ما يهم هو أن كل واقعة عنف أو إهمال تستغل إعلامياً لتشويه صورة بلدنا إذا لم نرد عليها بإجراءات فعلية ومعلنة.
صحيح ان كل تلك الجرائم يتم محاربتها بالقانون ولايفلت متهم من العقوبة ولكن هل تكفى الإجراءات الأمنية والقانونية وحدها.. بالطبع لا المسألة أبعد من ذلك وتحتاج إلى إصلاح جذرى يبدأ من المنزل والتربية إذا، بدل أن نسمح بأن تهدر دعاية إيجابية متاحة — مهما كان مصدرها — علينا أن نوظفها فى خدمة مجتمعنا واستنهاض طاقة إصلاح حقيقى فى محاربة تلك الظاهرة من خلال عدة إجراءات منها:
أولاً: الاعتراف بالمشكلة ثم قياس حجمها. من الضرورى أن تعلن الجهات المسؤولة عن قواعد بيانات شفافة عن أنواع الجرائم المنتشرة: عنف أسرى، اعتداءات الطرق، جرائم إلكترونية، تهرب ضريبى وغيرها.. الشفافية تقوى ثقة المواطن وتسهم فى وضع حلول تستهدف الجذور.
ثانيًا: تحديث التشريعات وتفعيل العقاب الردعى بشكل متوازن. الكثير من الجرائم المستجدة تنبع من فراغ تشريعى أو ضعف إنفاذ. يجب مراجعة القوانين المتعلقة بالسلامة العامة، جرائم الطرق، الجريمة الإلكترونية، وفرض آليات فعالة لمراقبة تطبيقها، مع مراعاة حقوق المتهمين والضحايا على حد سواء.
ثالثا: الاستثمار فى الوقاية لا الاعتماد فقط على رد الفعل. حملات توعية مرورية، تعليميات حول التعامل مع العنف الأسرى والمدرسى، برامج لمحو الأمية الرقمية لخفض الاحتيال الإلكترونى كل ذلك أقل تكلفة وذلك أثر أكبر من التعامل مع نتائج الجريمة بعد وقوعها.
رابعا: رغم تفوق الشرطة المصرية وتحديثها بشكل مستمر والتدريب بفاعلية على محاربة الجريمة فإننا نحتاج إلى تحصين الأجهزة الأمنية بالمعدات والتدريب والحوكمة. الأمن الفعال يحتاج شرطة قادرة ومحاسبة فى آن واحد. تدريب الضباط على إدارة الحشود، التحقيق الجنائى الحديث، وتعزيز وحدات الجرائم الإلكترونية سيحسن الاستجابة ويخفض معدلات الإفلات من العقاب.
خامسًا: رعاية الضحايا وتأمين شبكات دعم فعالة. الضحية ليست رقمًا إحصائيا؛ تأهيل نفسى، تعويضات قانونية، مسارات للعودة للعمل والحياة الطبيعية كلها تقلص أثر الجريمة على المجتمع وتمنع دورات الانتقام والعنف.
سادسا: إشراك المجتمع المدنى والإعلام إيجابياً واستغلال كل تصريح خارجى لنجعل منه ذريعة لإطلاق مبادرات: حملات لجمعية خيرية لضحايا الحوادث، مبادرات مجتمعية لمراقبة الشوارع بالعمل التطوعى، وتعاون بين مؤسسات خاصة وحكومية لتجهيز مرافق السلامة العامة.
أخيرا: استغلال «الدعاية المجانية» كحافز لا كوسيلة تنتهى اثرها بعد حين مهما بلغت اهميتها. اعتراف شخصية عالمية مثل ترامب بمعدلات منخفضة من الجريمة يجب أن يكون وقودا لرفع سقف الطموح، لا غطاء يدفعنا للراحة. علينا أن نحول هذا التقدير إلى مسئولية: أن نستثمره فى سياسات وإجراءات ملموسة تثبت على أرض الواقع أن مصر بلد آمن ليس لسبب تصريحى فحسب، بل لأن المؤسسات والمجتمع عملا معا لمنع الجريمة وحماية المواطن.
التصريحات الدولية مفيدة حين تستخدم كمرآة تبين ما نحن عليه الآن، وكدافع لنصبح أفضل غدا. لن نضيع مثل هذه الفرص بإحصاءات سطحية أو بيانات معسولة؛ سنحولها إلى مشروع وطنى شامل لمحاربة كل أشكال الجريمة الحديثة. بهذا نضمن أن تكون صورة مصر الحقيقية أقوى من أى دعاية، وأن الأمان يصبح حقيقة يومية يشعر بها كل مواطن مصرى.
[email protected]