الجزيرة:
2025-12-14@20:36:02 GMT

سرديات العنف والذاكرة في التاريخ المفروض

تاريخ النشر: 23rd, October 2025 GMT

سرديات العنف والذاكرة في التاريخ المفروض

في الأزمنة التي يدار فيها العالم بالحكاية أكثر مما يدار بالقانون، ويُعاد فيها تشكيل الذاكرة تحت وطأة الانتصارات المادية، لا يعود التاريخ سجلا لما جرى، بل يصبح ساحة لما يراد له أن يُقال.

في هذا السياق الملتبس، المفعم بأسئلة السرد والسلطة، يجيء كتاب "التاريخ المفروض" للمؤرخ الفرنسي هنري لورنس محاولة لخلخلة المسلّمات، وكشف ما توارى خلف الأسطر المحايدة التي دون بها الغرب حكايته عن الشرق.

والكتاب صادر حديثا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بترجمة جان جبور، ضمن سلسلة "ترجمان"، لا يُقدّم تاريخا بديلا فحسب، بل يسائل مفهوم التاريخ ذاته: من يكتبه؟ ومن يُمنح فيه حق الكلام؟ ومن يُقصى إلى هوامش النسيان؟ ومن يملك حقّ المعنى في عالم يتنازع فيه الأقوياء على ذاكرة الضعفاء؟

تاريخ المقاومة والذاكرة

منذ الصفحات الأولى، يضع لورنس قارئه أمام مرآة لا تعكس الماضي فحسب، بل تفضح آليّة النظر إليه.

فالتاريخ، في تصوره، ليس أرشيفا من الوقائع، بل هو ميدان تدار فيه معركة الرموز، حيث تُصاغ حكايات الأمم على ألسنة المنتصرين. هكذا، يتحوّل السؤال من "ماذا جرى؟" إلى "من قال إن هذا ما جرى؟"؛ من التوثيق إلى النقد، ومن الحكاية إلى تفكيك آليات السرد ذاتها.

ولعل خطورة ما يطرحه لورنس لا تكمن في كشفه لتزييف الرواية الاستعمارية فحسب، بل في فضحه لنُظم التفكير التي أنتجت هذا التزييف وقدّمته بلبوس العقلانية، فالعنف، في قراءته، ليس انفجارا غريزيا همجيا كما تُحبّ الخطابات الرسمية أن تصوّره، بل هو ناتج مباشر للعقل ذاته حين يَستبدّ بالتنظيم والتبرير، والحرب ليست نقيض الحضارة، بل إحدى تجلياتها القصوى.

وهنا يكشف لورنس عن المفارقة المريرة التي تسكن قلب الحداثة: العقل الذي ابتكر الهندسة والفن والسياسة، هو ذاته الذي صاغ هندسة الإبادة، وكتب بروتوكولات القصف، وشيّد معسكرات الموت باسم النظام والعقل والإنسان، وعلى هذا تصبح الحرب لحظة صدقٍ، لا استثناءً من التاريخ، بل استكمالا له حين يسقط القناع عن وجهه الحقيقي. وفي تلك اللحظة يتجلّى الإنسان في أقصى تناقضاته: إنه صانع الجمال ومهندس الدمار في آن معا.

هنري لورنس يكشف في "التاريخ المفروض" كيف يصبح السرد التاريخي شكلا خفيا من السيطرة الاستعمارية (مواقع التواصل)صراع الذاكرة

لكن "التاريخ المفروض" لا يتوقف عند تحليل العنف في صورته السياسية أو العسكرية؛ بل يغوص في عمقه الثقافي والنفسي.

إعلان

فالتاريخ، كما يرى لورنس، ليس مجرّد سرد للوقائع، بل صراع على الذاكرة. وما يُمحى من الذاكرة لا يقلّ خطورة حقيقةً عمّا يُرتكب في الواقع؛ إذ إن السيطرة على الماضي هي الشرط الأوّل لاحتكار المستقبل، ولهذا، فإن أعنف ما في العنف ليس الرصاص، بل النسيان.

وحين تُطمس ذاكرة الشعوب، تُختزل آلامها في لغة الإحصاءات، ويُختصر وجودها في تقارير الحروب وبيانات الإدانة. عندها، تغدو الذاكرة فعل مقاومة لا يقلّ خطرا عن الثورة.

وهنا يوجّه لورنس بصره نحو ما يسميه "تاريخ المهمّشين"؛ أولئك الذين لم تُتح لهم فرصة الكلام، والذين كُتبت حياتهم بمداد الآخرين؛ في أدب المنفى، وفي رسائل المعتقلين، وفي أفلام الهاربين من الطمس، وفي شهادات الناجين التي لم يُتح لها أن تُروى، ينبض التاريخ الحقيقي، لا بوصفه ماضيا يُستعاد، بل جرحا مفتوحا يُعاد نزفه حتى يُسمَع.

غير أن هذا التاريخ المضاد، على عظمته، ليس بريئا من الصراع، فالذاكرة ذاتها، حين تُحوَّل إلى سلعة أو شعار، قد تُعاد هندستها لخدمة القوة، وعندها يغدو الألم مُقنّنا، يُعرض في وسائل الإعلام بوصفه عاطفة سريعة الاستهلاك، ويأتي الرقم البارد الذي يُسكِت الضمير ولا يُنطقه بدل آلاف الحكايات.

من هنا، يذكّرنا لورنس أن المقاومة ليست في حمل السلاح فحسب، بل في الاحتفاظ بالمعنى وفي القدرة على تسمية الأشياء بأسمائها، وعلى التمسك بحقّ السرد حين يصادره الآخرون.

الذاكرة والسلطة

في القسم الأخير من الكتاب، يتقدّم السؤال إلى ذروته: من يملك حقّ تمثيل العنف؟

ولورنس بأسئلته هذه لا يبحث عن إجابة نهائية، إنما يريد تفكيك البنية التي تُنتج السؤال ذاته. فتمثيل المعاناة، في الأدب والفن والإعلام، ليس فعلا جماليا فحسب، بل صراع على سلطة السرد. مَن يُمنح حقّ الكلام؟ ومتى يُسمَح له أن يتحدث؟ وما اللغة التي يُسمح له بها؟

في هذا المنظور، لا يعود التاريخ ميدانا للأحداث الماضية، بل ساحة دائمة لإعادة إنتاج السلطة من خلال اللغة. فحتى الضحية في أزمنة ما بعد الاستعمار لا يُسمح لها بالحديث إلا ضمن حدود يضعها النظام ذاته؛ يُسمح لها أن تروي، بشرط ألا تطالب بالعدالة، وأن تبقى في حدود الشهادة لا في ميدان الفعل، وهكذا يُعاد إخضاع المهمّشين تحت مسمّى الاعتراف بهم، ويُحوَّل الألم إلى مشهد رمزي يخدم السردية الكبرى بدل أن يزعزعها.

هذا ما يجعل من "التاريخ المفروض" كتابا يتجاوز حدود التخصّص الأكاديمي ليصبح نصا فلسفيا في ماهية الذاكرة والسلطة. فهو لا يكتفي بنقد الوثيقة، بل يُعيد مساءلة معنى الكتابة نفسها: ما معنى أن ندوّن؟ ولمن نكتب؟ وهل يستطيع التاريخ أن يكون فعلَ عدالة لا مجرّد سجلٍّ للوقائع؟

إن لورنس هنا لا يُقدّم نفسه بوصفه مؤرّخا محايدا، بل شاهدا واعيا بأن الحياد ضرب من المشاركة في التزييف.

التاريخ المضاد

ومن هذا المنطلق، يصبح "التاريخ المفروض" صرخةً ضدّ تزييف الذاكرة الإنسانية، وضدّ اختزال الألم في أرقام، وضدّ تحويل المعاناة إلى مادة إعلامية. إنه نداء لاستعادة حقّ الكلام من بين أنياب الصمت، ودعوة لتأسيس تاريخ جديد لا يُروى فيه الإنسان بوصفه موضوعا، بل شاهدا على نفسه، وفاعلا في حكاية العالم.

إعلان

في عالمنا المعاصر، حيث تُعاد كتابة التاريخ كل يوم وفق مصالح الحاضر ووفق رواية المنتصر، ويُصاغ الماضي في مختبرات السياسة والإعلام، يأتي هذا الكتاب ليذكّر بأن أخطر أشكال العنف هي تلك التي لا تُرى؛ أن يُقال للضحية كيف تتحدث، وأن يُفرض على الشعوب كيف تتذكّر. إن ما يسمّيه لورنس "التاريخ المفروض" هو هذا الشكل الخفيّ من السيطرة، الذي لا يُمارَس بالقوة الجسدية، بل بسلطة المعنى.

لهذا، لا يقدّم لورنس وصفة للمصالحة، بل يقترح فعل مقاومة من نوع آخر: مقاومة بالسرد، وبالاستعادة، وبالتفكير، وبالتمسك بحق الإنسان في ذاكرته. فالتاريخ الذي يُراد له أن يكون سردا ناعما للانتصارات، يجب أن يُعاد فتحه ليصير سجلّا للأوجاع، لأن الحقيقة لا تُبنى إلا على الاعتراف، والعدالة الحقة لا تتحقق إلا حين يُمنح الصامتون حقّ الكلام.

إن "التاريخ المفروض" ليس دراسة في نقد الخطاب التاريخي، بل هو تأمل في جوهر الإنسان حين يواجه ذاكرته ودعوة لأن نُعيد النظر في طريقة روايتنا للعالم، وفي الطريقة التي نصنع بها أبطالنا وضحايانا، ففي كل رواية مفروضة، قد يكون هناك رواية أُخرى تُخنق. وفي كل تاريخ رسمي، ثمة تاريخ ظلّي ينتظر أن يُكتَب بدم الذين لم تُتح لهم الكتابة.

وفي النهاية، يتركنا لورنس أمام سؤال مفتوح لا يغلق: هل نكتب التاريخ لنُفسّر العالم، أم لنُبرّره؟ في هذا السؤال يكمن شرف التأريخ، وفي الإجابة عليه يتحدّد مصير الذاكرة البشرية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات

إقرأ أيضاً:

في ذكرى 11 ديسمبر.. بن مبارك يشيد بوحدة الشعب ويؤكد دور الذاكرة الوطنية في تعزيز السيادة”

أشرف الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، عبد الكريم بن مبارك اليوم الخميس 11 ديسمبر 2025، على ندوة تاريخية بمناسبة إحياء مظاهرات 11 ديسمبر 1960.
وحضر الندوة حشد من الإطارات والمناضلين، حيث كانت سانحة لاستذكار تضحيات أسلافنا من المجاهدين والشهداء.
في كلمته، أكد الأمين العام للأفلان أن مظاهرات 11 ديسمبر تستند إلى عدة مرجعيات روحية ووطنية وسياسية. أولها مرجعية بيان أول نوفمبر، الذي أعلن القطيعة مع الاستعمار وربط المعركة بالحرية والكرامة وبناء الدولة الوطنية المستقلة.

كما أشاد الأمين العام بوحدة الشعب حول جبهة التحرير الوطني، التي حولت كل مواطن إلى خلية مقاومة وكل شارع إلى قلعة صمود.

وأضاف أن هذه المظاهرات تعكس مرجعية الرفض الجذري للمشروع الاستعماري، الذي حاول تفتيت الشعب وتشويه الهوية وتمرير أطروحة “الجزائر فرنسية”.

وأكد كذلك مرجعية الحق القانوني والتاريخي في السيادة، باعتبار الشعب الجزائري صاحب حضارة ممتدة ودولة ذات جذور عميقة قبل الاستعمار.

وتابع بن مبارك قائلا:”إنّ مظاهرات 11 ديسمبر لم تكن مجرد تجمعات احتجاجية، بل كانت معركة سياسية متكاملة نقلت الثورة من الجبال إلى المدن، ومن العلن إلى تأكيد العلن ودعمه، وأجبرت العالم على رؤية الحقيقة التي حاول المستعمر طمسها لأكثر من 130 سنة”.
وأضاف أن مظاهرات 11 ديسمبر تكشف أنّ الشعب الجزائري، رغم القمع والتنكيل والحصار، تمكن من إفشال كل الرهانات الاستعمارية، فقد خرجت الجماهير بمئات الآلاف، ترفع العلم الوطني وتردد بصوت واحد:
“الجزائر مسلمة… الجزائر حرة… جبهة التحرير الوطني تمثلنا …”
وهذه الدلالات التاريخية لا تزال حيّة إلى اليوم وتحتاج إلى قراءة واعية من خلال:
أولًا: إثبات الشرعية الثورية
لقد أكد الشعب الجزائري أنّ جبهة التحرير الوطني هي من تقوده، وأنها ليست تنظيمًا فوقيًا، بل حركة شعبية أصيلة، وبالتالي سقطت كل أطروحات الاستعمار حول ما سماه “الأقلية الصامتة”.
ثانيًا: تدويل القضية الجزائرية
فقد نقلت هذه المظاهرات الثورة إلى المنتظمات الدولية، خصوصًا الأمم المتحدة، ونسفت كل الدعاية الفرنسية التي حاولت تصوير الوضع على أنه “شأن داخلي”.
ثالثًا: انهيار المشروع الاستعماري
بفضل 11 ديسمبر، اقتنع العالم أنّ بقاء فرنسا في الجزائر لم يعد ممكنًا، وأن الشعب قرر مصيره بنفسه، مهما كانت التضحيات.
رابعًا: ولادة الوعي الوطني الحديث
لقد صنعت المظاهرات تحولًا عميقًا في وعي الجزائريين بذاتهم، بقدرتهم، بكتلتهم التاريخية الموحدة، وبحقهم في بناء الدولة الوطنية المستقلة.
السيدات والسادة الأفاضل،
لم تكن المظاهرات غاية في ذاتها، بل كانت وسيلة نضالية لتحقيق جملة من الأهداف الواضحة، التي يمكن تلخيصها في أربعة محاور رئيسية:
— تثبيت استقلالية القرار الوطني:
أي رفض كل أشكال التفاوض التي تتجاوز جبهة التحرير الوطني، وإسقاط ما كان يسمى “مشروع ديغول” الذي حاول الالتفاف على مطلب الاستقلال.
— توحيد الجبهة الداخلية:
فالمظاهرات شكلت إجماعًا وطنيًا شعبيًا حول الثورة، ورسخت وحدة الصف والهدف، وحمت الثورة من محاولات الاختراق الداخلي.
— تأكيد الطابع الشعبي للثورة المسلحة:
وأضاف أن الشعب أثبت أنّ الثورة ليست حركة نخبة، بل حركة أمة كاملة، وهذا ما أعطى الثورة شرعيتها التاريخية والسياسية.
— دعم العمل الدبلوماسي المكمل للعمل المسلح:
حيث ساعدت مظاهرات 11 ديسمبر 1960 في ترجيح الكفة لصالح الوفد الجزائري في المحافل الدولية، ودعمت المفاوضات التي ستقود لاحقًا إلى اتفاقيات إيفيان.
وتابع الأخ الأمين العام للحزب أن استحضار هذه الذكرى المجيدة اليوم لا ينفصل عن الجهود الكبيرة التي يبذلها رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، في مجال حماية الذاكرة الوطنية وترسيخها، فقد جعل رئيس الجمهورية من ملف الذاكرة أولوية سياسية وسيادية، إدراكًا منه بأن مستقبل الأمم لا يمكن أن يُبنى على النسيان، بل على الحقيقة، والاعتزاز بالهوية، واستعادة رموزها وقيمها.

مقالات مشابهة

  • الهباش: الجرائم التي يرتكبها الاحتلال في فلسطين تزيد موجة العنف
  • مستشار الرئيس الفلسطيني: الجرائم التي يرتكبها الاحتلال بفلسطين تزيد من موجة العنف
  • جناح الحرف اليدوية يستحضر الذاكرة في معرض جدة للكتاب 2025
  • روائح طبيعية تعزز الذاكرة والتركيز.. دراسات تكشف السر
  • إطلاق جولة دروب الذاكرة لبيروت لإحياء محطات الحرب وتفجير المرفأ
  • دراسة: الأوميجا 3 تحمي الدماغ من الالتهابات وتدعم الذاكرة لدى البالغين
  • لأول مرة في التاريخ.. الفضة تتجاوز 65 دولاراً
  • دراسة: الجوز يدعم صحة الدماغ ويحافظ على الذاكرة
  • في ذكرى 11 ديسمبر.. بن مبارك يشيد بوحدة الشعب ويؤكد دور الذاكرة الوطنية في تعزيز السيادة”
  • دراسة: نقص فيتامين ب12 يسبب تنميل الأطراف وضعف الذاكرة