ماذا تعرف عن مشروع سموتريتش لدفن ما تبقى من فلسطين؟
تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT
في 22 يوليو/تموز الماضي، استيقظ أهالي بلدة بيت أولا غرب الخليل على مشهد غير مألوف؛ مستوطن ينصب خيمة على أراضيهم المحاذية لخط الهدنة عام 1949. في الأسبوع التالي، كان محمود العملة ووالده يعتنيان بأرضهما التي ورثاها عن الأجداد، لكن المستوطن اعترض طريقهما. بعد جدال طويل وحضور قوات الاحتلال، غادر الجميع المكان مؤقتا.
عاد محمود مع والده في الأيام التالية، وما هي إلا دقائق حتى وصل الجيش برفقة المستوطن ذاته، لكن هذه المرة كان الأخير يرتدي زي جيش الاحتلال كاملا. تقدّم نحو محمود وهاجمه بعنف، طرحه أرضا، ضغط رأسه على صخرة ووضع قدمه على عنقه لنصف ساعة وهو ينهال عليه بالضرب، قبل أن ينسحب مع الجنود ويُترك محمود مصابا برضوض في رأسه وعنقه نُقل على إثرها إلى المشفى.
اقرأ أيضا list of 3 itemslist 1 of 3قاتل المصلّين مثله الأعلى.. من أين جاء بن غفير بكل هذا القبح؟list 2 of 3أجهزة التنفس التي جعلت إسرائيل حيّة إلى اليومlist 3 of 3شابه أباه فظلم.. من أين جاء سموتريتش وماذا يريد؟end of listيفسر محمود ما حدث بما دار بينه وبين المستوطن في المرة الأولى؛ فقد قال له المستوطن إنه يطردهم لأن هذه "أراضي دولة" (كان الاحتلال في بداية الأمر قد أعلن المنطقة عسكرية مغلقة، ثم في 1983 أعلنها أراضي دولة)، فأجابه محمود: "هذه أرضي وأرض أجدادي، ثم إنك لست مخوَّلا بحراسة أراضي الدولة، إن سلمنا بهذه الصفة".
لكن منطق القانون في دولة الاحتلال يقضي بأن الجيش يحمي المستوطن لكنه لا يمتلك سلطة قضائية عليه، لأنه "مواطن إسرائيلي" تخضع محاسبته للشرطة -التي افتتحت للمفارقة مركزا لها في مستوطنة كريات أربع شرق الخليل عام 2018-، فلجأ محمود لتقديم شكوى هناك. المفارقة أن القانون الدولي يرى العكس تماما، فالقوة العسكرية المحتلة هي التي تتحمل المسؤولية القانونية الكاملة عن الأرض والسكان تحت الاحتلال.
تُجسِّد قصة محمود نموذجا مكثفا لما يجري في الضفة الغربية؛ مشهد "الضم بحكم الأمر الواقع" (De Facto Annexation) كما وصفته محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر بشأن الاحتلال في الأراضي الفلسطينية عام 2024. فالاستيطان ليس مجرد بؤر ومستوطنات، بل منظومة متكاملة تعمل منذ 1967 على إعادة تشكيل الأرض والسلطة والحدود، وتطبق فيها القوانين الإسرائيلية -على المستوطن والمستوطنة فقط- كما لو كانت تل أبيب. لكن تلك القوانين لا تنطبق على الفلسطيني الذي يخضع لمزاجية القوة العسكرية المحتلة.
إعلانهذه السيطرة الشاملة لم تكن كافية في نظر قادة المشروع الاستيطاني الذين بدأوا يهيئون الأرضية لـ"لحظة الحسم"، كما سمّاها سموتريتش في خطته عام 2017.
ورغم أن 13 مستوطنة باتت خاضعة بشكل مباشر لوزارة الإسكان الإسرائيلية -أي إنها ضُمّت فعليا- وأن الوزارات الحكومية كافة تموّل وتدير برامج وخططا في المستوطنات بما في ذلك البؤر "غير القانونية" حتى وفق التعريف الإسرائيلي، فإن سموتريتش، بصفته وزيرا في وزارة الجيش، مضى أبعد من ذلك. إذ عمل على تسريع خطوات الضم القانوني عبر مسارات بيروقراطية متشابكة، وبناء منظومة تُحيل الضفة الغربية إلى مجال إداري إسرائيلي كامل.
لم يكن خافيا أن طموحه يتجاوز الواقع نفسه. ففي مخططاته المنشورة، دعا سموتريتش في 3 سبتمبر/أيلول الماضي إلى أن تعلن إسرائيل ضمًّا رسميا لـ82% من مساحة الضفة الغربية، وهي نسبة تفوق حتى تصورات بعض أكثر أنصار الاستيطان تطرفا.
ومع أن الإعلان القانوني لم يحدث بعد، فإن ما تحقق على الأرض عبر القوانين، والمؤسسات، والميزانيات، والبنى التحتية، يشي بأن الضم الفعلي يتقدم خطوة بعد خطوة، وأن ما نراه اليوم ليس سوى الفصل الأحدث في مسلسل الضم الصامت الذي بدأ منذ 1967 ولم يتوقف.
في هذا المقال سنستعرض كيف تمكّن سموتريتش من ترسيخ الأسس البيروقراطية والمالية لعملية الضم، وكيف اتسعت سيطرة الوزارات الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية من التخطيط والبناء إلى الآثار والموروث التاريخي، في محاولة لصياغة واقع جديد يجعل الضفة الغربية جزءا عضويا من إسرائيل دون الحاجة إلى إعلان رسمي.
بعد ثمانية أيام فقط من احتلال الضفة عام 1967، قال وزير الجيش (الدفاع) الإسرائيلي الأسبق موشيه ديان: "أرى أننا سنقيم قواعد ثابتة على رؤوس الجبال لن نتحرك منها، هذه أرض إسرائيل، ومن هناك لن نتحرك". كان هذا التصريح بمنزلة إعلان مبكر أن النية لم تكن مجرد احتلال عسكري، بل مشروع ضم طويل الأمد.
وبعد شهرين، طرح ديان خطة أولية للاستيطان؛ فاقترح إقامة خمس بؤر استيطانية في خمس محافظات أساسية: الزبابدة جنوب جنين، وحوارة جنوب نابلس، وبيت إيل شمال رام الله، وغوش عتصيون جنوب بيت لحم، وأدوريم جنوب الخليل، بحيث تضم كل واحدة منها قاعدة عسكرية إلى جانب مستوطنة "مدنية"، وهو ما حدث فعلا، كما رُبطت هذه البؤر بإسرائيل عبر شبكة من الطرق وخطوط الكهرباء والماء والاتصالات، في الوقت نفسه الذي عُزلت فيه تماما عن محيطها العربي الفلسطيني.
وكان القائد العسكري والوزير الإسرائيلي إيغال ألون، طرح في الفترة ذاتها خطة تقضي بحصر الفلسطينيين في الضفة بين شريط حدودي مع الأردن تقام فيه المستوطنات، مع خط استيطاني يمتد إلى القدس، بحيث تقسم الضفة فيه إلى شطرين.
لاحقا، قدّم أرييل شارون ما عُرف بـ"خطة الكانتونات"، التي هدفت إلى عزل الفلسطينيين داخل جيوب منفصلة مقطعة بالطرق ونقاط التفتيش، مع تطويق الضفة بمستوطنات شرقية لعزلها عن الأردن، وغربية لتسهيل ضمها لاحقا. على الخط نفسه، جاءت خطة متتياهو دروبلز، التي أكدت ضرورة محاصرة القرى والمدن الفلسطينية بالمستوطنات لمنع قيام كيان فلسطيني مستقل.
إعلانجميع هذه الخطط تكشف أن الهدف منذ اللحظة الأولى كان الضم، وأن المستوطنات والخدمات المرافقة لها لم تكن إلا البنية التحتية لتمدد الاحتلال الإسرائيلي داخل الضفة الغربية.
وبالفعل، تدرجت إسرائيل في تنفيذها حتى وصلت اليوم -وفقا لقسم مراقبة الاستيطان في منظمة "السلام الآن"- إلى السيطرة على أكثر من 50% من مساحة الضفة الغربية، وما يقارب 87% من المنطقة "ج" كما حددتها اتفاقية أوسلو. فكيف وصلنا إلى هنا؟
ضم القدسعلى النهج ذاته كان ضم القدس، لكن بشكل فج وواضح، فما إن مضت أيام قليلة على احتلال شرقيّ القدس في يونيو/حزيران 1967، حتى شرعت إسرائيل بخطواتها الأولى نحو الضم.
البداية كانت بحل مجلس بلدية القدس المنتخب، ثم دعوة نائب الحاكم العسكري الإسرائيلي لرئيس البلدية وأعضائها للقائه فرادى، عارضا عليهم الانضمام إلى بلدية القدس في الجزء المحتل عام 1948. غير أن الأعضاء برئاسة روحي الخطيب رفضوا هذه الدعوة والإجراءات الاحتلالية، وطالبوا بإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الاحتلال.
لكن إسرائيل لم تتراجع، فبعد ستة عشر يوما فقط من الاحتلال، وفي 27 يونيو/حزيران 1967، أقر الكنيست تعديلين جوهريين: الأول؛ تعديل قانون البلديات بما يتيح لوزير الداخلية الإسرائيلي توسيع حدود بلدية القدس، لتضم إلى مساحتها الأصلية (38 ألف دونم) نحو 70 ألف دونم إضافية من الأراضي الفلسطينية، مع استبعاد الأحياء المكتظة مثل الرام وعناتا وأبوديس والعيزرية، بحيث تتضاعف المساحة ثلاث مرات.
أما الثاني فكان تعديل قانون الولاية والإدارة بما يسمح بفرض "السيادة الإسرائيلية" على شرقيّ القدس، واعتبار سكانها الفلسطينيين "مقيمين دائمين" لا مواطنين أصليين.
كانت هذه الإجراءات أولى خطوات الضم الفعلي بعد حرب 1967، ثم جاء التطور الأبرز في 30 يوليو/تموز 1980، عندما أقر الكنيست "قانون أساس: القدس عاصمة إسرائيل"، الذي نص صراحة على أن القدس بشطريها الشرقي والغربي هي "العاصمة الموحدة لإسرائيل".
غير أن هذه الخطوات لم تُشبع الطموح الإسرائيلي، ففي عام 1971، تقدم عضو الكنيست شموئيل نامير بمشروع يوسع حدود بلدية القدس لتشمل 600 كيلومتر مربع (10% من مساحة الضفة الغربية)، تحت اسم "القدس الكبرى". المشروع استثنى البلدات والقرى الفلسطينية، لكنه دمج الكتل الاستيطانية الكبرى المجاورة للمدينة.
وفي التسعينيات، تبنى كلٌّ من أرييل شارون وبنيامين بن إليعازر -حين كانا على رأس وزارة الإسكان- المشروع مجددا، بهدف تقليص نسبة الفلسطينيين في المدينة ومنع تحولهم إلى أغلبية، إذ قد تصل نسبتهم إلى 55% بحلول 2040 بحسب تقديرات "مركز القدس للدراسات الأمنية" اليميني.
لاحقا، جسّد الجدار الفاصل رؤية بلدية القدس وحدودها الفعلية، كما قال رئيس البلدية آنذاك نير بركات: "هنا تبدأ حدود السيادة وتنتهي". وقد أيّد هذا التصور حتى التيار اليساري في إسرائيل، "خوفا مما وصفوه بالخطر الديموغرافي" في اجتماع لحزب العمل عام 2016. أما اليمين الإسرائيلي فتمسّك برؤية "القدس الكبرى" بوصفه أمرا مقدسا غير قابل للتفاوض.
لذلك، عاد عضو الكنيست عن الليكود دان إيلوز قبل أشهر ليطرح مشروع ضم القدس الكبرى وفرض القانون الإسرائيلي داخل حدودها، وهو طرح سبقه في 2017 وزير التعليم الحالي يؤآف كيش ووزير الجيش يسرائيل كاتس، بمشروع لضم 19 مستوطنة في محيط القدس إلى "السيادة الإسرائيلية".
من خلال هذه الإجراءات القانونية والسياسية والميدانية، تحولت القدس إلى النموذج الأول لسياسة الضم التي تتدرج على مراحل: من ضم مباشر عبر الكنيست، إلى إعادة تعريف الحدود، إلى فرض الأمر الواقع عبر الجدار والمستوطنات، وصولا إلى مشاريع التوسع الحديثة. وبذلك يتضح أن قضية القدس لم تكن استثناء، بل شكَّلت اللبنة الأولى في مسار الضم الذي يجري اليوم تعميمه على كامل الضفة الغربية.
إعلان المناطق العسكرية المغلقةبدأ الاحتيال "القانوني" في مسار ضم الضفة منذ الأيام الأولى لاحتلال الضفة الغربية عام 1967، لجأ الاحتلال إلى وسيلة "قانونية – عسكرية" للتحكم في الأرض، من خلال إعلان مساحات شاسعة "مناطق عسكرية مغلقة". بهذا الإجراء منعت الفلسطينيين من استغلال أراضيهم الزراعية أو السكنية، وفتحت الباب أمام تحويل تلك الأراضي إلى مستوطنات أو مشاريع استيطانية مستقبلية.
فما بين أغسطس/آب 1967 ومايو/أيار 1975 أعلنت إسرائيل ما يقرب من مليون ونصف المليون دونم (26.6% من الضفة الغربية) مناطق عسكرية مغلقة يُحظر على الفلسطينيين دخولها إلا بتصاريح خاصة، وتموضع أغلب هذه الأراضي في السفوح الشرقية وغور الأردن. ثم تواصلت العملية على مراحل: ففي عام 1997 أعلنت إسرائيل المسطحات البلدية للمستوطنات (ما مجموعه 540 ألف دونم/10% من مساحة الضفة) بوصفها مناطق عسكرية مغلقة، وفي الانتفاضة الثانية أضافت نحو 180 ألف دونم تحت اسم "مناطق تماس" مغلقة بوجه الفلسطينيين.
وتُظهر معطيات منظمة "كيرم نافوت" أن فريق "الخط الأزرق" (المعني بتحديد "أراضي الدولة") قام حتى عام 2016 برسم أكثر من 68,500 دونم تقع ضمن مناطق تدريب عسكرية مُعلنة، ما يعني تحويلها من تصنيف عسكري مؤقت إلى ملكية حكومة الاحتلال.
وفي دراسة أعدّها درور إتيكس للمنظمة نفسها، وُثِّقَ صدور 1,150 أمرا عسكريا منذ الاحتلال حتى 2014، صادرت نحو 100 ألف دونم، يعود ثُلثاها إلى ملكيات خاصة لفلسطينيين. وقد خُصِّص 47% من هذه المساحات لإقامة مستوطنات إسرائيلية (43 مستوطنة) أو لمشاريع تخدم المستوطنين، لا جيش الاحتلال.
ورغم ادعاء الاحتلال أن هذه الإجراءات مؤقتة، وأن جزءا أساسيا منها مخصص للتدريب، فإن تقرير "كيرم نابوت" يشير إلى أن 80% من المناطق المصنفة للتدريب لا يمارس فيها أي نشاط، كما أن الأوامر لم تُلغَ إلا في نطاق ضيق للغاية: فحتى عام 2016 أُلغيت أوامر تخص نحو 21 ألف دونم فقط، بينما صودر في المقابل 27 ألف دونم إضافية بأوامر جديدة أو بتعديلات على أوامر قائمة. عمليا، تحوّلت "المناطق العسكرية المغلقة" إلى خزان احتياطي للاستيطان، يُفرَّغ تدريجيا لصالح البؤر والمستوطنات.
وبمرور العقود، أخذت هذه المناطق أسماء وتصنيفات جديدة: "محميات طبيعية"، أو "أراضي دولة"، أو "مناطق تماس". لكن الجوهر بقي واحدا: إقصاء الفلسطيني عن أرضه وتسهيل وصول المستوطن إليها.
بهذا يتضح أن سياسة "المناطق العسكرية المغلقة" لم تكن أداة أمنية، بل كانت وما زالت ركيزة أساسية في مشروع الضم: أداة ظاهرها "مؤقت" وباطنها تحويل الأرض الفلسطينية تدريجيا إلى مخزون استيطاني جاهز للضم الفعلي عند اللحظة السياسية المناسبة.
المحميات الطبيعيةإذا كان الدافع الرئيسي للاستعمار الاستيطاني عموما هو إقصاء السكان الأصليين للوصول إلى الأرض، فإن احتلال إسرائيل للضفة الغربية لم يكن استثناء. ولترسيخ أسطورة المشروع الاستيطاني "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، استخدمت إسرائيل الطبيعة ذريعةً لطرد الفلسطينيين من أراضيهم أو منعهم من تنميتها، وتحويلها للاستيطان تمهيدا للضم.
فمنذ عام 1969 وحتى 1997 أعلنت إسرائيل 340 ألف دونم بوصفها محميات طبيعية موزّعة على 51 موقعا. لاحقا، بلغت المساحة الإجمالية حتى عام 2005 (12.35% من مساحة الضفة). وقبل خمسة أعوام أُعلن عن 7 محميات جديدة، كما أعلنت الحكومة الحالية قبل عام 20 ألف دونم إضافية بوصفها أوامر توسيع لمحميات قائمة. وداخل هذه المساحات -التي يملك الفلسطينيون نحو 40% منها ملكية خاصة- يُحظر عليهم البناء والزراعة وتربية الماشية.
وتؤكّد المعطيات أن الهدف من هذه التصنيفات ليس بيئيا بقدر ما هو سياسي استيلائي، فقد أثبتت دراسة أعدّها مازن قمصية وشارلوت ألومبيرت أن 22 محمية من أصل 51 من تلك المحميات لا تفي بالمعايير المنصوص عليها في المواثيق والاتفاقيات الدولية، حيث لا تنطبق عليها مواصفات "المحمية" فعلا.
ويؤكد تقرير حركة "السلام الآن" أن 21 مستوطنة و10 بؤر استيطانية اعتدت على حدود هذه المحميات عبر البناء وشق الطرق وضم مساحات منها داخل أسوار المستوطنات.
وتكشف السوابق عن جوهر الأداة، ففي عام 1996 حوّلت حكومة الاحتلال جبل أبو غنيم من محمية طبيعية إلى حيّ سكني لتقيم عليه مستوطنة هار حوماه، ما أشعل احتجاجات فلسطينية واسعة استمرت لأشهر.
إعلانوفي 24 مايو/أيار 2023، كشفت صحيفة "هآرتس" أن نوّابا في حكومة نتنياهو الحالية يستعدّون لتقديم تعديل على قانون "الحدائق الوطنية والمحميات الطبيعية والمواقع الوطنية والنصب التذكارية" في إسرائيل، يتضمن فرض القانون المدني الإسرائيلي على المواقع الوطنية والمحميات الطبيعية في الضفة الغربية المحتلة.
ورغم أن التعديل لم يمضِ بعد في مسار التشريع، فإن الحكومة وبعد شهر واحد من طرحه أعلنت إنشاء سبع محميات طبيعية جديدة في الضفة الغربية، دلالة عملية على التوجّه، وأصدرت أوامر عسكرية بالولاية على محميات في المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية لأول مرة.
ورغم أن الإدارة المدنية التابعة لجيش الاحتلال هي الجهة التي يفترض أنها تشرف على هذه المحميات بحكم كونها تنسّق نشاطات الوزارات والهيئات الحكومية في الضفة الغربية، فإن وزارة البيئة وهيئة الطبيعة والحدائق الإسرائيليتين تؤكدان قيامهما بأنشطة مباشرة في الضفة، من بينها الإشراف على تسع حدائق ومحميات طبيعية هناك.
عمليا، يعني ذلك التعامل مع هذه المحميات بوصفها جزءا من إسرائيل من حيث الإدارة والولاية، بما يرسّخ خطوة إضافية من خطوات الضم عنوانها بيئيّ ظاهره الحماية، وجوهره إحكام السيطرة على الأرض وإغلاقها أمام الفلسطينيين وتهيئتها للتوسع الاستيطاني والضم الفعلي.
إعلان "أراضي الدولة"بعد احتلال الضفة الغربية مباشرة، أصدر جيش الاحتلال أمرا عسكريا يقضي بوقف تسجيل الأراضي وحقوق الملكية للفلسطينيين، لكنّ هذا الأمر استثنى تسجيل ما يسمى "أراضي الدولة". ومنذ ذلك الحين، لجأت إسرائيل إلى استغلال بعض القوانين العثمانية والبريطانية والأردنية التي كانت سارية في الضفة، ولكن عبر تفسيرات معكوسة منحازة، لتبرير الاستيلاء على مساحات شاسعة من أراضي الفلسطينيين تحت هذا الاسم، رغم أن جزءا كبيرا منها ملكيات فردية خاصة.
وبموجب ذلك، خُصِّصت معظم هذه الأراضي حصريا لأغراض الاستيطان، حيث يُطبَّق فيها القانون الإسرائيلي بشكل كامل، في حين يُفترض أن تخضع للقانون الأردني أو الفلسطيني الساري في الضفة الغربية الذي على أساسه أصلا أُعلنت "أراضي دولة".
فبين عامي 1979-1992 أعلنت إسرائيل عن أكثر من 900 ألف دونم بوصفها أراضي دولة، ثم استؤنفت هذه السياسة عام 1998، لتستمر حتى اليوم. ومنذ ذلك التاريخ وحتى بداية سبتمبر/أيلول 2025، أُعلِنَ أكثر من 53 ألف دونم إضافية بوصفها أراضي دولة، منها 24 ألف دونم في عام 2024 وحده. وإذا أُضيفت هذه المساحات إلى تلك التي كانت مصنفة على هذا النحو منذ الحكم الأردني (نحو 527 ألف دونم) يصبح مجموع الأراضي المصنفة "أراضي دولة" نحو 1,300,000 دونم، أي ما يقارب 22% من مساحة الضفة الغربية.
وتكشف أسماء الأوامر والكيانات الإدارية المرتبطة بهذه السياسة عن نية الضم بشكل صريح؛ فإعلان الأراضي في الضفة بوصفها أراضي دولة استند إلى أمر حكومي يعتبر تلك الأراضي ملكًا لـ"حكومة إسرائيل"، تحت اسم: "الأمر بشأن أملاك الحكومة في يهودا والسامرة". كما ارتبطت إدارتها بموظف في دائرة أراضي إسرائيل يحمل لقب: "القيّم على أملاك الحكومة في يهودا والسامرة".
ويوضح تقرير لمنظمة "السلام الآن" أن 99.76% من هذه الأراضي خُصِّصت حصرا للاستيطان، أما ما خُصِّص للفلسطينيين فلا يتجاوز 0.24% فقط، وغالبا كان ذلك لأغراض لا تنفصل عن خدمة المشروع الاستيطاني ذاته، فهي إما لتهجير بعضهم من مناطق مستهدفة لصالح المستوطنات كما حدث مع بدو الخان الأحمر حين عُرِضَ نقلهم قرب مكب نفايات أبو ديس، أو لتعويض محدود لبعض المالكين الفلسطينيين عن أملاكهم التي صودرت لصالح الاستيطان.
هكذا تحولت "أراضي الدولة" إلى أداة قانونية ظاهرها التنظيم، لكن جوهرها ضم صامت ممنهج: مصادرة الأرض الفلسطينية، وإحالتها إلى ملكية دولة الاحتلال لأنه لا دولة في الضفة، وفتحها حصريا أمام الاستيطان.
إلى جانب الاستيطان العمراني، وظّفت إسرائيل قطاع الزراعة بوصفه أداة مركزية في مشروع الضم الصامت للضفة الغربية. يشير تقرير لـ"كيرم نابوت" إلى أنّ المساحات المزروعة من الفلسطينيين في الضفة الغربية تراجعت بنحو الثلث خلال العقود الأخيرة، مقابل توسّعٍ كبير في الأراضي الزراعية التي يديرها المستوطنون.
فقد وضعت إسرائيل يدها على أكثر من 93 ألف دونم من الأراضي الزراعية، أي ما يفوق المساحة المبنية للمستوطنات مجتمعة (باستثناء ما يُعرف بالقدس الشرقية). ومنذ 1997 استولى المستوطنون عبر نشاطات زراعية على ما يزيد على 24 ألف دونم، منها نحو 10 آلاف دونم مملوكة ملكية خاصة لفلسطينيين، وتقع بمعظمها بمحاذاة المستوطنات والبؤر الاستيطانية في المرتفعات الجبلية.
وفي الوقت الذي مُنع الفلسطينيون من الوصول إلى 170 ألف دونم من أراضيهم الزراعية في المنطقة الحدودية مع الأردن بحجة أنها مناطق عسكرية مغلقة، أُتيح للمستوطنين التوسّع في استغلال هذه الأراضي، خصوصا في زراعة التمور، اعتمادا على بنية تحتية مائية أقامتها إسرائيل، تشمل استخدام مياه الصرف الصحي المعالَجة المنقولة من "القدس الشرقية". بهذه الآلية، تُقوَّض قدرة المزارعين الفلسطينيين على البقاء في أرضهم، ويُعاد توجيه الموارد لخدمة مشروعٍ زراعيّ استيطانيّ يُرسّخ الهيمنة الميدانية ويُمهّد لضمٍّ قانوني لاحق.
ويقود وزير الزراعة الحالي آفي ديختر جهودا تشريعية وحكومية لمحاولة السيطرة على الأراضي التي تقع خلف الجدار العازل، التي مُنع أصحابها من الوصول إليها منذ السابع من أكتوبر. ويسعى ديختر إلى استخدام هذه الحجة -أن الأراضي غير مستغلة- لتحويلها إلى أملاك دولة وفقا لتفسيرات القانون العثماني، رغم أن حكومته هي مَن تمنع الفلسطينيين من استغلالها.
"لشعب إسرائيل حق طبيعي على أرض إسرائيل. على ضوء هذه العبارة وبفضلها، سيقوم رئيس الحكومة ببلورة وتطوير سياسات معينة، ستُفرَض بموجبها السيادة على يهودا والسامرة، مع اختيار الوقت المناسب، ومع الأخذ بعين الاعتبار الحسابات القومية والدبلوماسية الدولية لإسرائيل".
بهذه الكلمات افتُتحت الاتفاقية الائتلافية التي وُقِّعت نهاية عام 2022 بين رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير المالية ووزير الاستيطان في وزارة الجيش بتسلئيل سموتريتش، معلنةً بوضوح أن مشروع الحكومة يقوم على التمهيد لفرض السيادة على الضفة الغربية، أي الضم، وإن جرى الحديث عنه بصيغة "الوقت المناسب".
فعلى مدى أكثر من خمسة عقود، اتبعت إسرائيل سياسة "الضم الصامت"، فكانت تُراكم السيطرة على الأرض والموارد والفضاء الفلسطيني ببطء محسوب، عبر أدوات تبدو قانونية وإجراءات إدارية تُخفي تحتها مشروعا استيطانيا متكاملا. لكن هذا النهج "الهادئ" تغيّر جذريا مع صعود بتسلئيل سموتريتش إلى قلب المنظومة الحاكمة، حيث انتقل الضم من كونه مسارا متدرجا إلى ما يشبه الانقلاب المنهجي في أدوات السيطرة.
لم يعد الحديث عن قرارات متفرقة تصدر من وزارات مختلفة، بل عن هندسة متكاملة لمؤسسات الاحتلال تُعيد توزيع السلطات داخلها لتُصبح المستوطنات مركز القرار لا موضوعه.
يمكن القول إن سموتريتش لم يبتكر الضم، بل ورث بنيته العميقة ثم أطلق العنان لمكنونها، فحوّل التراكم إلى اندفاع منظم، وأعاد رسم العلاقة بين جيش الاحتلال والمستوطنين لتخدم مشروعا واحدا: جعل الاحتلال إدارة مدنية دائمة تحت غطاء قانوني.
ففي يوليو/تموز 2023، صرّح سموتريتش في مقابلة مع "القناة 14" الإسرائيلية متباهيا بما أنجزه خلال الأشهر الستة التي سبقت: "نحن نغيّر حقا البنية التحتية والملكية والقانونية، ونغيّر الحمض النووي لنظام الاحتلال. نفعل ذلك ببطء وبشكل احترافي، نحن نفعل ذلك في عملية مستمرة".
هذا "الحمض النووي" الذي تحدث عنه ليس سوى إعادة إنتاج منظومة الاحتلال بصيغة جديدة: ضم فعلي في ثوب "إدارة مدنية وقانونية". فقد أسس سموتريتش داخل وزارة الجيش جهازا مدنيا يضم المستوطنات كلها إلى مؤسسات حكومة الاحتلال، بعيدا عن سلطة "الإدارة المدنية المؤقتة" التابعة للجيش، وعيّن نائبا مدنيا لرئيس تلك الإدارة ليكون تابعا له مباشرة. كما أنشأ هيئة جديدة لتسجيل الأراضي في المنطقة "ج" ضمن الطابو الإسرائيلي، في خطوة تُحوّل الوجود الاستيطاني إلى منظومة سيادية.
هذه التحولات تأتي بعد أربعة عقود من إنشاء "الإدارة المدنية" عام 1981 في عهد حكومة مناحيم بيغن. فحينها سعت إسرائيل إلى تلميع الوجه العسكري القبيح للاحتلال العسكري الصريح خلف واجهة مدنية، حيث تولت الإدارة الجديدة -التابعة عمليا لجيش الاحتلال- الإشراف على الأرض والسكان، وتنسيق أنشطة وزارات حكومة الاحتلال داخل الضفة الغربية، عبر موظفين مدنيين عُرفوا بـ"ضباط الإدارة المدنية". لكن جوهر هذه الإدارة كان ولا يزال أداةً لإدارة عملية الضم بالتدريج، مع الحفاظ على المظهر "القانوني".
مع ذلك، اعتبر سموتريتش أن هذه البيروقراطية بطيئة وغير فعّالة في تسهيل الاستيطان ومصادرة الأرض، فسعى إلى إعادة تشكيلها لتسريع الضم. وقد عبّر عن ذلك صراحة في يونيو/حزيران 2023 خلال مؤتمر لحزبه في مستوطنة قرب سلفيت بأنه "الضم الفعلي والقانوني للضفة".
أولا: إدارة المستوطناتفي 9 يونيو/حزيران 2024، وبين كروم العنب التي زُرعت مكان مئات أشجار الزيتون المعمّرة التي قطعها المستوطنون عام 2014 برعاية جيش الاحتلال في منطقة "ظهر صبح" من أراضي كفر الديك جنوب غرب سلفيت، وعلى أنقاض آثار رومانية وإسلامية، وقف سموتريتش أمام نحو 100 من أعضاء حزبه في البؤرة التي تحولت إلى "مزرعة شاحاريت لإنتاج الكحول"، ليعلن: "أنشأنا نظاما مدنيا منفصلا. هناك وزارة داخل وزارة الدفاع. هناك وزير. هناك إدارة تُشبه وزارة حكومية. رئيس الإدارة يُعادل الرئيس التنفيذي لوزارة حكومية".
هذا الإعلان جسّد عمليا ما بدأ في فبراير/شباط 2023، حين أُنشئت هيئة مدنية جديدة تُعرف باسم إدارة المستوطنات، بإشراف مباشر من سموتريتش وقرار من الحكومة الإسرائيلية. وقد عُيّن على رأسها يهودا إلياهو، شريكه السابق في حركة "ريغافيم" (التي تراقب البناء الفلسطيني في المنطقة "ج" وتضغط لهدمه).
وإلياهو مستوطن قادم من عائلة كرَّست حياتها للاستيطان، فأبواه استوطنا سيناء ثم غزة ثم الضفة، أما هو فاشتهر بتأسيس بؤر استيطانية عدة قبل أن يستقر في مستوطنة "حرشا" التي كان أحد مؤسسيها وقادتها. واليوم، يتولى إلياهو موقعا مفصليا بصفته أعلى مسؤول إداري عن الاستيطان و"قوننته".
وقد أصبحت الإدارة منذ تلك اللحظة مسؤولة عن جميع مراحل التخطيط للمستوطنات، بما يشمل إنشاء مستوطنات جديدة وتوسعة القائم منها وتطوير البنية التحتية والطرق. بينما يوضع التخطيط العمراني للفلسطينيين تحت رحمة لجان عسكرية مدنية تحدّ من نموهم وتقرر هدم منازلهم.
كما استُنسخت تجربة سموتريتش في "ريغافيم" عبر هذه الإدارة، حيث مُنحت صلاحيات موسعة لهدم البناء الفلسطيني في المناطق "ج"، وهو ما شكّل دائما مدخلا لتهجير الفلسطينيين وتفريغ الأرض لصالح الاستيطان. ووضعت تحت سيطرة هذه الإدارة أيضا جميع عمليات مصادرة الأراضي الفلسطينية وتحويلها إلى "أراضي دولة"، بما في ذلك التسجيل والموافقات على الصفقات العقارية. كما باتت تتحكم في توزيع هذه الأراضي بما يخدم توسيع المستوطنات وتثبيت السيطرة الإسرائيلية.
أما أبرز المهام الإستراتيجية للإدارة فهي العمل على "شرعنة" البؤر الاستيطانية "غير القانونية" ودمجها في المستوطنات القائمة. كما توفر الغطاء القانوني والمالي لتحويل الأراضي الفلسطينية إلى مزارع استيطانية، والتوسع في إنشاء مثل هذه البؤر.
كما أُنيطت بالإدارة مهام السيطرة على الكهرباء والمياه والطرق والاتصالات في الضفة الغربية. وقد تُرجم ذلك خلال العام الماضي عبر تقليص كميات المياه المخصصة للمناطق الفلسطينية ورفع تعرفة الكهرباء عليهم منذ سبتمبر/أيلول 2024، مقابل توسيع الخدمات للمستوطنات.
لم تكن السيطرة على التخطيط والعمران كافية لتحقيق مشروع سموتريتش، بل تطلبت أيضا تفكيك التسلسل القيادي التقليدي داخل الإدارة المدنية نفسها، فجاء تعيين "نائب مدني" ليكون الذراع التنفيذي المباشر له داخل جهاز الاحتلال ويحول الإدارة المدنية من أداة عسكرية "مؤقتة" إلى أداة بيروقراطية دائمة للضم.
قال سموتريتش في المؤتمر ذاته: "الحقيقة أننا فكرنا في البداية في نقلها (إدارة المستوطنات) كليًّا من وزارة الدفاع. في النهاية، فعلنا ذلك بطريقة تُسهّل استيعابها في السياق السياسي والقانوني. القائد العسكري لا يزال هو صاحب السيادة، لكن هناك نائب رئيس الإدارة المدنية، وهو مدني، موظف في وزارة الدفاع، لا يخضع لرئيس الإدارة المدنية، ولا لقائد القيادة المركزية، بل لإدارة الاستيطان".
وأضاف: "الصلاحيات في يد هيليل روث، فهو يُوقّع الأوامر، ويدعو لجنة التخطيط العليا، ويُعلن أراضي الدولة. يوقع على الخطوط الزرقاء، ويدير ضباط الأركان، ويطرح مناقصات الموظفين، ويوقع على استملاكات الطرق، كل شيء بيده".
فعليا عُيِّنَ روث في 29 مايو/أيار 2024، وهو مستوطن يسكن في مستوطنة "ريفافا" المقامة على أراضٍ مصادَرة من قرى حارس وفرخة ودير استيا غرب سلفيت، وهو من رفاق سموتريتش القدامى في حركة الاستيطان، وعضو سابق في مدرسة "عود يوسف شاي" الدينية (Od Yosef Chai Yeshiva)، التي عُرف اثنان من حاخاماتها بتأليف كتاب "توراة الملك" الذي يبيح قتل الفلسطينيين.
لم ينتظر روث طويلا لاستخدام الصلاحيات الممنوحة له، فأول قرار إستراتيجي له كان الإعلان عن أكبر عملية استيلاء على الأراضي الفلسطينية منذ أكثر من ثلاثين عاما، تحت اسم "أراضي دولة". فبعد أقل من شهر على تعيينه، أعلنت الإدارة المدنية (التي يعمل باسمها لكن فعليا بإشراف سموتريتش) عن مصادرة 12700 دونم من أراضي الأغوار الشمالية. جاء ذلك استكمالا لإعلانات سابقة في منطقتي العيزرية وشرقي بيت لحم، ليصل مجموع الأراضي المصادَرة في عام 2024 وحده إلى أكثر من 24 ألف دونم.
تشير مراجعة -قمنا بها لصالح هذا المقالة- لقوائم إعلانات "أراضي دولة" الصادرة بين (28 سبتمبر/أيلول 1998 و9 ديسمبر/كانون الأول 2024) إلى أن مصادرات عام 2024 وحده بلغت 46% من مجموع ما استُولي عليه بهذه الطريقة منذ 1998، أي إن ما جرى خلال عام واحد فقط يعادل تقريبا نصف مصادرات ربع قرن.
ثالثا: التخطيط بيد سموتريتشومع انتقال صلاحيات التوقيع إلى النائب المدني، أصبح الطريق ممهدا لتسريع وتيرة المصادرات، وهو ما تجلى فورا في قرارات مصادرة الأراضي، لتُحوَّل هذه الأراضي المصادرة إلى واقع ملموس على الأرض عبر آلية موازية: السيطرة المطلقة على التخطيط.
ففي يونيو/حزيران 2023، أقرت الحكومة الإسرائيلية تعديلا جوهريا على قرار حكومة نتنياهو رقم 150 (1996)، الذي كان قد أعاد تفعيل الاستيطان بعد تجميد قصير في عهد رابين. كان النظام السابق يفرض مرور مخططات البناء في الضفة عبر ست مراحل متتالية، تتطلب خمس منها موافقة وزير الدفاع، ما جعلها مرتبطة بالحسابات السياسية.
التعديل الجديد قلّص هذه المراحل إلى اثنتين فقط: في البداية احتفظ وزير الدفاع بصلاحية الموافقة على المرحلة الأولى، بينما تولت إدارة المستوطنات مع المجلس الأعلى للتخطيط (التابع للإدارة المدنية) بقية المراحل. لكن في 18 يونيو/حزيران 2023، ألغت الحكومة حتى هذه الصلاحية، ونقلت المسؤولية كاملة إلى بتسلئيل سموتريتش. وبموجب القرار، ما إن يوافق سموتريتش على خطة بناء، تنتقل مباشرة إلى لجان التخطيط ليبدأ تنفيذها.
وقد استخدم سموتريتش هذه الصلاحيات في واحدة من أكثر القضايا حساسية؛ ففي 14 أغسطس/آب 2025 أعلن أن المجلس الأعلى للتخطيط سيصادق بعد ستة أيام على خطط البناء في منطقة E1 التابعة لمستوطنة "معاليه أدوميم"، المشروع الذي ظل معلقا لعشرين عاما بسبب تبعاته الجيوسياسية وخطورته على مستقبل أي دولة فلسطينية.
سموتريتش نفسه وصف المشروع بأنه "سيدفن الدولة الفلسطينية الموعودة"، فالمخطط يقضي بمصادرة نحو 18 ألف دونم من أراضي بلدات شرق القدس، وعزل القدس المحتلة عن محيطها الفلسطيني، وشطر الضفة الغربية إلى قسمين، مع استكمال الجدار العازل حول المنطقة وربطها بمستوطنة "معاليه أدوميم" وربط الأخيرة بالقدس.
على مدار عمر الاحتلال كان التخطيط العمراني أداة للضم السياسي في ثوب "تقني"، إذ تُحاصر القرى الفلسطينية بخرائط هيكلية ضيقة أو قديمة تمنع نموها الطبيعي، بينما تُمنح المستوطنات مخططات واسعة ومرنة تتجاوز احتياجاتها لعقود.
فوفق معطيات منظمة "بمكوم" الإسرائيلية، تبقى 67% من "أراضي الدولة" المخصصة للمستوطنات فارغة بانتظار التوسع، في حين تُرفض 98% من طلبات الفلسطينيين للبناء في المناطق "ج".
لكن البيانات التي جمعناها من موقع هيئة التخطيط (الذي يُعلن فيه عن الخطط) للفترة 1980-2025 تُظهر ارتفاعا مطردا في الموافقات على المخططات الاستيطانية منذ عام 2013، مع توقع أن يكون عام 2025 الأضخم في تاريخها، بفعل التغييرات التي أقرّها سموتريتش.
رابعا: رعاية البؤر ماليا وقانونيالم يكن التخطيط للمستوطنات سوى جزء من المعادلة، فقد أولى سموتريتش اهتماما إستراتيجيا للبؤر الاستيطانية، عبر رعاية البؤر ماليا وقانونيا لتحويلها من أعمال فردية إلى سياسة دولة منظمة. ففي يونيو/حزيران 2024 قال في أحد خطاباته: "خذ مزارعا وألف بقرة وبنسا ونصفا من الاستثمار، تحافظ على 40 ألف دونم"، في إشارة صريحة إلى القيمة الإستراتيجية لهذه البؤر.
وبالفعل، أعدّت إدارة المستوطنات قائمةً تضم 63 موقعا تحتوي على 70 بؤرة استيطانية، وسعت إلى إدخالها في مسار "شرعنة ملتوية" عبر تصنيفها بأنها "مواقع تحت الشرعية"، استنادا إلى قرار حكومي صدر في فبراير/شباط 2023. هذا المسار يتيح ضخ ميزانيات حكومية في هذه البؤر، وبناء مبانٍ عامة، وربطها بشبكات الكهرباء والمياه والطرق، مع الامتناع عن هدم أبنيتها "غير القانونية"، بل والسماح للمجالس الاستيطانية بضمها بوصفها أحياء تابعة لها.
تحدث سموتريتش في مؤتمر "مزرعة شاحاريت" -الذي أشرنا إليه سابقا- عن تخصيص 85 مليون شيكل لهذه البؤر، موضحا أن هذه الأموال ستذهب إلى جميع البؤر "غير القانونية"، سواء المُدرجة على القائمة أو غيرها، عبر قنوات المجالس الإقليمية وإدارة الاستيطان. وتشمل الميزانيات مكونات الأمن والبنية التحتية، من طرق ومبانٍ عامة محمية، وألواح شمسية، ومركبات، وكاميرات، وطائرات مسيرة، وغيرها.
وتؤكد تقارير متقاطعة هذه الإستراتيجية؛ فبحسب مركز أبحاث الأراضي، أُنشئت 94 بؤرة رعوية جديدة بين 2020-2024. وقد سيطرت على 786 ألف دونم، أي ما يعادل 14% من مساحة الضفة الغربية، وفق تقرير أصدرته منظمتا "السلام الآن" و"كيرم نابوت" في أبريل/نيسان 2025.
ويشير التقرير ذاته إلى أن الاحتلال لجأ إلى أدوات "قانونية" للالتفاف على الوضع القائم، عبر عقود رعي منحتها المنظمة الصهيونية العالمية للمستوطنين على 80 ألف دونم من "أراضي الدولة" في الضفة.
وقد سمحت هذه العقود لهم بالسيطرة فعليا على مئات آلاف الدونمات خارج المناطق المتفق عليها، بينها 36% أراضٍ خاصة فلسطينية، وأكثر من 4% في مناطق مصنفة "أ" و"ب" التابعة للسلطة الفلسطينية. الأخطر أن هذه العقود خوّلت المستوطنين استدعاء جيش الاحتلال لطرد الرعاة الفلسطينيين.
أما التمويل فجاء من قنوات متعددة، وفقا للمنظمتين؛ جزء من الدولة على شكل ميزانيات للأمن (85 مليون شيكل)، وأخرى على شكل منح للرعي (3 ملايين شيكل)، وثالثة على شكل دعم لريادة الأعمال (1.6 مليون شيكل)، إلى جانب 4.7 ملايين شيكل ضخها "الصندوق القومي اليهودي" تحت غطاء "برامج تطوعية للشباب". كما جمعت حركة "أمانا" الاستيطانية ملايين إضافية لصالح هذه البؤر، رغم خضوعها لعقوبات بريطانية وأميركية بسبب دعمها لمستوطنين عنيفين، فضلا عن السماح لجمعيات خيرية محلية ودولية بجمع التبرعات لصالحها.
خامسا: التهجيرفي مقابل تعزيز الوجود الاستيطاني، عملت سياسات سموتريتش على تقويض وجود الفلسطينيين من جذرهم، عبر سياسة ممنهجة من التهجير وهدم المنازل، لجعل حياتهم مستحيلة وتفريغ الأرض من سكانها، وهي وإن كانت سياسة قديمة قدم الاحتلال لكن سموتريتش سعى لتعميقها.
فمنذ اللحظة الأولى بعد احتلال 1967، كان التهجير جزءا من سياسة إسرائيلية ممنهجة. فقد وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ليفي أشكول الضفة وغزة آنذاك بـ"المهر"، لكنه أضاف: "المشكلة أن المهر يتبعه عروس [الفلسطينيون] لا نريدها". وعلى النهج نفسه، عبّر وزير الخارجية آبا إيبان للمبعوث الأميركي في الأمم المتحدة عن رغبة إسرائيل في أن تكون غزة خالية من السكان، لكنه لم يجد وسيلة لتحقيق ذلك.
في الضفة الغربية، تجسدت هذه السياسة عبر خطط متعاقبة، من خطة يغآل ألون لحشر الفلسطينيين في مناطق ضيقة، إلى خطة "الأصابع الخمس" لموشيه ديان، ثم الكانتونات عند دروبلز، فخطط شارون ونتنياهو، وصولا إلى رؤية سموتريتش، الذي قال في خطته التي ألقاها في الكنيست عام 2017 إن الهدف هو محاصرة الفلسطينيين ودفعهم إلى قبول "الأمر الواقع" أو الرحيل.
تحقيق ذلك تطلّب جعل حياة الفلسطينيين جحيما لا يطاق، وهو أمر تعرفه جيدا أم محمد جاد الله التي أغلق الاحتلال على عائلتها منزلهم بالبوابة الحديدية بالقرب من مستوطنة نوغوهوت جنوب الضفة الغربية، ولا يسمح لهم بالدخول ولا الخروج إلا كل شهرين، ولا يسمح لأحد بزيارتهم. تضيف أم محمد: "اضطررنا لإرسال أطفالنا إلى أقارب لنا في مدينة دورا ليتمكنوا من الالتحاق بمدارسهم، ولا تتاح لنا رؤيتهم لفترات طويلة".
في 2006، أسس سموتريتش منظمة "ريغافيم" لمراقبة البناء الفلسطيني خصوصا في المناطق "ج"، وتحريض سلطات الاحتلال على هدمه. وحين وصل إلى الحكم، حوّل هذه الرؤية إلى جهاز رسمي عبر توسيع "وحدة الإشراف"، وإنشاء وحدتين جديدتين؛ واحدة لتنفيذ القانون في المناطق المبنية، وأخرى في المناطق المفتوحة، بل إنه طرح فكرة تشكيل قوة شرطة خاصة للهدم فقط، مؤكدا أن إنفاذ القانون ضد الفلسطينيين "ليس مسألة سيادة قانون، بل هدف جيوسياسي وإستراتيجي وأمني".
النتائج مدمرة؛ في الأشهر الأربعة الأولى من 2025، ارتفعت معدلات النزوح بسبب الهدم في المناطق "ج" خمسة أضعاف مقارنة بالعام السابق. وبحسب بيانات "أوتشا" حتى سبتمبر/أيلول 2025، فقد أدى الهدم المتواصل إلى تهجير 11,680 فلسطينيا منذ 2009، شكلت مناطق "ج" وحدها 75% منهم.
تُقدِّر اللجنة الإسرائيلية لمناهضة هدم المنازل (ICAHD) أن الاحتلال هدم نحو 60 ألف منزل منذ 1967 حتى أغسطس/آب 2025 في الضفة والقدس. أما "أوتشا" فتؤكد أن معدل الهدم الشهري في السنوات الثلاث الأخيرة غير مسبوق، إذ يتراوح بين 90-100 منشأة شهريا، كما يمكن الاستخلاص من بيانات دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير أن مقابل كل عشرة بيوت تُبنى للمستوطنين في الضفة يهدم بيت فلسطيني.
في 19 يوليو/تموز 2023، عقدت لجنة الخارجية والأمن في الكنيست جلسة خاصة بعنوان "الرد الإسرائيلي على سيطرة السلطة الفلسطينية على الأراضي المفتوحة"، لكن محور النقاش لم يكن عن الأراضي المصنفة "ج"، كما يوحي العنوان، بل عن كيفية تمكين إسرائيل من هدم المباني الفلسطينية في المنطقتين "أ" و"ب" الخاضعتين رسميا لإدارة السلطة الفلسطينية.
استغل سموتريتش الجلسة للإعلان عن إعداد إستراتيجية جديدة تتيح هدم المباني "غير القانونية" في المنطقتين "أ" و"ب"، قائلا: "السلطة الفلسطينية تعمل بنشاط للاستيلاء على الأراضي. علينا أن نفعل الشيء نفسه. هذا يعني تقنين الأراضي، والبناء، والزراعة".
وأشار كذلك إلى أنه ينسّق مع الصندوق القومي اليهودي لزراعة عشرة آلاف دونم في منطقتين بالضفة الغربية، مؤكدا أن قرارات الهدم يجب ألا تستند إلى القانون، بل إلى ما سمّاه "المصلحة الوطنية والأمنية لإسرائيل".
وفي اليوم السابق لتلك الجلسة، كان قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال قد وقَّع أمرين يمنحان نائب رئيس الإدارة المدنية (هليل روث) صلاحية توقيع أوامر الهدم في المناطق المعروفة بـ"الاحتياطي المتفق عليه" في اتفاقية واي ريفر عام 1998، وهي مناطق مصنّفة محميات طبيعية تمتد على مساحة 167 ألف دونم (نحو 3% من مساحة الضفة الغربية) وتقع داخل المنطقة "ب"، أي تحت إدارة السلطة الفلسطينية، مع السماح فقط بالبناء القائم قبل توقيع الاتفاقية.
بعد شهر واحد من صدور هذا القرار، زار سموتريتش قرية المالحة شرق بيت لحم، وهناك صرّح قائلا: "سنُشمِّر عن سواعدنا، وستعود إسرائيل مالكة البيت". وفي 12 ديسمبر/كانون الأول، نفذت قوات الاحتلال أول عملية هدم لمبانٍ فلسطينية في المنطقة "ب" منذ اتفاق أوسلو، إذ هُدمت ثمانية مبانٍ قيد الإنشاء بحجة البناء غير القانوني، وهي سابقة قانونية خطيرة منحت إسرائيل عمليا السيادة القانونية على أراضٍ في المنطقة.
ورغم أن عمليات الهدم في المنطقتين "أ" و"ب" لم تتوقف تماما خلال السنوات الماضية، فإنها كانت تحت بند "الهدم العقابي"، خصوصا في حالات تنفيذ العمليات الفردية. وتشير تقارير حقوقية إلى أن نحو 4% من مجمل عمليات الهدم الإسرائيلية في الضفة الغربية نُفذت في هاتين المنطقتين، ما يكرّس عمليا طمس الحدود بين مناطق السيطرة الفلسطينية والإسرائيلية، ويعيد رسم معادلة السيادة على الأرض وفق رؤية الضم التي يقودها سموتريتش.
يشار إلى أن الاحتلال الكنيست أقر في يوليو/تموز من العام الماضي بالقراءة الأولى مشروع قانون يكفل السيطرة إضافة إلى المحميات في الضفة الغربية السيطرة على المعالم الأثرية، وهو ما تجلى بتخصيص مبلغ (150 مليون شيكل) لبناء "متنزه السامرة الأثري في منطقة سبسطية التي تحوي آثارا إسلامية ورومانية، ونفذ مشاريع وإجراءات إدارية في المسجد الإبراهيمي، الذي اعتبره الاحتلال آثارا يهودية وأبعد مديره واثنين من موظفيه عن المسجد في شباط الماضي.
سابعا: الميزانيات الضخمةلم تكن السيطرة على الأرض ممكنة دون موارد مالية هائلة، فقد أنفق الاحتلال على مدار العقود الماضية مليارات الدولارات لتثبيت الاستيطان وتجهيز البنية التحتية التي تربطها بالداخل -من طرق ومياه وكهرباء وخدمات أمنية، إلى المدارس والمباني العامة- بحيث تصبح المستوطنات متصلة عضويا بالاقتصاد الإسرائيلي ومحمية من أي تسوية مستقبلية. لكن في عهد الحكومة الحالية فإن تضخم تلك الميزانيات يفوق كل ما سبقه.
فبيانات مركز الإحصاء الإسرائيلي تشير إلى أن النفقات الإضافية (غير الجارية) التي تضخها الحكومة في المستوطنات تتجاوز مليارَيْ شيكل سنويا. لكن عام 2023 تحديدا، بلغ حجم نفقات التطوير والبناء في المستوطنات ذروته التاريخية، متجاوزا مليارَيْ شيكل، مع ارتفاع بنسبة 52% في الربع الأخير من العام الجاري مقارنة بالربع السابق، وزيادة قدرها 40% عن متوسط العقد الماضي.
هذه الأرقام لا تشمل الإنفاق الأمني ولا معظم تكاليف شق الطرق، التي أنشأتها إسرائيل بمليارات الشواكل لتضمن ربط المستوطنات بالداخل المحتل، وقد وصلت الميزانية الموعودة خلال خمس سنوات نحو 3.6 مليارات شيكل بعد أن خُفِّضت بفعل الحرب من 7 مليارات، كما لا تشمل الميزانيات الجارية للخدمات اليومية المقدمة للمستوطنين (من رواتب المعلمين إلى خدمات الرفاه الاجتماعي والصحة والنقل).
أما وزارة الإسكان والبناء، فقد شهدت نفقاتها في المستوطنات قفزة غير مسبوقة، إذ ارتفعت في عام 2023 بنسبة 150% مقارنة بالعام الذي سبقه، وبنحو 200% مقارنة بمتوسط العقد السابق (2013–2022). ويقدّر الباحث شلومو سويرسكي من مركز "أدفا" أن إسرائيل أنفقت 15.2 مليار دولار على الاستيطان بين عامي 1988-2015 فقط، كل تلك الأرقام تبرز حجم الاستثمار الحكومي طويل الأمد في ترسيخ المشروع الاستيطاني بوصفه جزءا من سياسة الضم التدريجي.
ثامنا: الضمّ القانوني الصامتتُظهر البيانات التي جمعناها من موقع منظمة "ييش دين" الإسرائيلية أن الكنيست الإسرائيلي قد ناقش منذ عام 2015 ما مجموعه 175 مشروع قانون يتعلق بضمّ الضفة الغربية أو أجزاء منها، أو بتطبيق السيادة الإسرائيلية على مجالات محددة فيها. وقد أقرّ الكنيست أحد عشر مشروعا منها بشكل نهائي، ومرّر 52 مشروعا آخر بالقراءة الأولى.
ومن اللافت أن 32% من تلك المشاريع قُدّمت في عهد الحكومة الإسرائيلية الحالية، أي ما يعادل تقريبا ما قدّمته الحكومات الأربع السابقة مجتمعة، بما يعكس اندفاعة متسارعة نحو ترسيخ الضمّ القانوني مسارا رسميا.
في 6 فبراير/شباط 2017، أقرّ الكنيست ما عُرف بقانون نزع الملكية، الذي يجيز الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية الخاصة المقامة عليها مستوطنات دون استملاكٍ رسمي من أصحابها. ووفقا للقانون، تُعامل تلك الأراضي معاملة "أراضي الدولة"، فيما يُسمح لمَن يستطيع إثبات ملكيته أمام اللجان العسكرية التابعة للإدارة المدنية -وليس أمام القضاء- بالحصول على تعويض مالي أو أرض بديلة. هذا القانون كان أول خطوة تشريعية مباشرة لتقنين سرقة الأراضي الفلسطينية الخاصة وتحويلها إلى ملكية حكومية إسرائيلية.
بعد عام واحد، في 12 فبراير/شباط 2018، ألغى الكنيست مجلس التعليم العالي التابع للإدارة المدنية (الذي كان يشرف على مؤسسات التعليم العالي في المستوطنات)، ونقل صلاحياته إلى مجلس التعليم العالي الإسرائيلي، ما يعني فعليا ضمّ قطاع التعليم الأكاديمي في المستوطنات إلى منظومة الدولة الإسرائيلية.
وفي 27 يونيو/حزيران من العام ذاته، عدّل الكنيست قانون تشجيع الاستثمارات الرأسمالية ليشمل النشاط الاستثماري في المستوطنات. كما أقرّ قانونا آخر عام 2017 يحظر على الشركات الإسرائيلية رفض تقديم الخدمات للمستوطنات، بما في ذلك البنية التحتية والاتصالات، ثم في عام 2023 أقرّ قانونا جديدا يسمح بتقاسم الإيرادات بين السلطات المحلية داخل إسرائيل ونظيراتها في المستوطنات، أي معاملة الأخيرة كما لو كانت بلديات "إسرائيلية" خاضعة للسيادة الكاملة.
في الوقت ذاته، أقرّ الكنيست قانونا يمنع الفلسطينيين في الضفة الغربية من تقديم الالتماسات للمحكمة العليا الإسرائيلية في قضايا التخطيط والبناء وحرية الحركة والمعلومات والإبعاد، محوّلا صلاحية النظر في هذه القضايا إلى المحكمة الإدارية في القدس.
وقد اعتبرت منظمة "ييش دين" هذا التعديل تمددا مباشرا للولاية القضائية الإسرائيلية على الأراضي المحتلة. أما وزيرة الداخلية السابقة أييليت شاكيد فعلّقت على القرار قائلة: "مهرجان الالتماسات الذي أقامه الفلسطينيون ومنظمات اليسار المتطرف أمام محكمة العدل العليا ضد الاستيطان في يهودا والسامرة ينتهي اليوم".
ومن بين المشاريع الأكثر وضوحا في مسار الضمّ، مشروع قانون أُقرّ بالقراءة الأولى يقضي بتغيير تسمية الضفة الغربية في الوثائق والدوائر الحكومية إلى "يهودا والسامرة"، وقد تقدّم به سيمحا روتمان من حزب "الصهيونية الدينية" في سبتمبر/أيلول 2024.
ووفق البيانات، فقد طُرحت 100 مبادرة تشريعية لضمّ الضفة الغربية أو أجزاء منها، منها 35 مشروعا في عهد الحكومة الحالية وحدها. وكان أخطرها مشروع القانون الذي قدّمه تسيفكا فوغل من حزب "الصهيونية الدينية" في مارس/آذار 2023، الذي ينص على فرض السيادة والولاية القضائية الإسرائيلية على جميع مناطق الاستيطان في الضفة الغربية.
ورغم أن معظم هذه المشاريع لم تتحول بعد إلى قوانين نافذة، فإن التوجه التشريعي والسياسي العام يعكس انتقال الضمّ من الفعل الإداري إلى الإطار القانوني الرسمي. وقد تجلى هذا الاتجاه بوضوح في 18 يوليو/تموز 2024، حين صوّت الكنيست بأغلبية ساحقة على قرار غير ملزم يرفض قيام دولة فلسطينية حتى في إطار اتفاق سلام، في إعلان واضح لتكريس السيطرة الدائمة.
ثم في يناير/كانون الثاني الماضي قُدم مشروع قانون لإلغاء القانون الأردني رقم 40 لسنة 1953 المتعلق بـ"تأجير وبيع العقارات للأجانب"، ما يعني فتح الباب أمام بيع الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية للمستوطنين الإسرائيليين، خطوة اعتبرها خبراء القانون من أخطر محاولات الضمّ القانوني حتى الآن.
أما التطور الأخطر على الإطلاق، فكان في 11 مايو/أيار 2025 حين أعلنت حكومة الاحتلال بدء تسجيل الأراضي في المنطقة "ج" ضمن "سجل الأراضي الإسرائيلي"، وهو ما يُغلق فعليا الباب أمام الفلسطينيين للمطالبة بملكياتهم، ويمهّد لتحويل الجزء الأكبر من أراضي الضفة إلى "أملاك دولة" إسرائيلية، في خطوة تمهّد لضمّ فعلي على الأرض.
وبعد أربعة أشهر فقط من هذا الطرح، أعلنت الحكومة عن مدّ صلاحيات "سلطة أراضي إسرائيل" إلى المنطقة "ج"، عبر إنشاء وحدة جديدة داخل قسم "حماية الأراضي"، وهو ما يُمثِّل تتويجا لمسار الضمّ الزاحف الذي بدأ إداريا ثم أصبح قانونيا كاملا.
تشير سلوكيات حكومات الاحتلال منذ وقوعه عام 1967 إلى أنّ الضمّ لم يكن خيارا طارئا أو نتيجة ظرف سياسي مؤقت، بل كان مسارا إستراتيجيا متدرجا بدأ منذ اليوم الأول للاحتلال، عبر السيطرة على الأرض بأدوات قانونية المظهر وعدوانية الجوهر.
فابتداءً من إعلان المناطق العسكرية المغلقة، ومرورا بمصادرة الأراضي وتحويلها إلى "أراضي دولة"، ثم توسيع الاستيطان ومدّ البنية التحتية، ووصولا إلى بناء منظومة بيروقراطية وتشريعية متكاملة، جرى تحويل السيطرة العسكرية المؤقتة إلى سيادة دائمة بحكم القانون والواقع.
لقد أعدّت إسرائيل للضمّ على مدى عقود كما يُعِدّ أحدهم لعرس طويل التخطيط؛ جُهِّزت الأرض، وبُني البيت، وأُنجزت ترتيبات الإدارة والتمويل والقانون، ولم يبقَ سوى الإعلان الرسمي عن اكتمال هذا المسار. لكن إن كان ذلك عرس الاحتلال، فهو نكبة الفلسطينيين الجديدة؛ نكبة تتجسّد لا في مشهد احتلالٍ عسكريّ مباشر، بل في ضمّ صامت ومتواصل يبتلع الأرض والحقّ معا، ويحوّل الضفة الغربية إلى امتداد إداري وقانوني واقتصادي للدولة التي تحتلها. فهل هم بحاجة إلى "حفلة الإشهار"؟
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات أبعاد فی الضفة الغربیة المحتلة من مساحة الضفة الغربیة المشروع الاستیطانی الأراضی الفلسطینیة مناطق عسکریة مغلقة السیطرة على الأرض بتسلئیل سموتریتش المناطق العسکریة الإسرائیلیة على الإدارة المدنیة فی یونیو حزیران حکومة الاحتلال یهودا والسامرة الإسرائیلیة فی الفلسطینیین من الفلسطینیین فی البنیة التحتیة معالیه أدومیم محمیات طبیعیة أعلنت إسرائیل فی المستوطنات غیر القانونیة أراضی الدولة الاستیطان فی سبتمبر أیلول جیش الاحتلال سموتریتش فی السلام الآن بلدیة القدس هذه الأراضی أغسطس آب 2025 فی مستوطنة یولیو تموز الأراضی فی أراضی دولة فی المناطق ن سموتریتش هذه البؤر من أراضی فی مسار تحت اسم دونم من أکثر من ورغم أن وهو ما فی عام لم تکن عام 2024 أن هذه لم یکن إلى أن
إقرأ أيضاً:
ماذا يعني فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية المحتلة؟
المشروع الذي حظي في القراءة التمهيدية بتأييد 25 صوتا مقابل 24 معارضا، ما زال غير متضح المعالم وبانتظار مداولته ومناقشته داخل أروقة الكنيست. التقرير يسلط الضوء على مشروع قرار بسط السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية المحتلة والسيناريوهات المحتملة لإقراره.
Published On 24/10/202524/10/2025|آخر تحديث: 13:15 (توقيت مكة)آخر تحديث: 13:15 (توقيت مكة)انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعيshare2شارِكْ
facebooktwitterwhatsappcopylinkحفظ