مشروع تفكيك العالم العربي منذ 1948
تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT
مشروع #تفكيك #العالم_العربي منذ 1948
د. #أيوب_أبودية
منذ إعلان قيام دولة الكيان الإسرائيلي عام 1948، لم يكن مشروعها محصورًا في حدود فلسطين وحدها، بل ارتبط منذ البداية برؤية توسعية واستراتيجية تهدف إلى إضعاف العالم العربي، تمزيقه، وإشغاله بصراعات مستمرة. وعلى مدى أكثر من سبعة عقود، لعبت إسرائيل دورًا مباشرًا وغير مباشر في تدمير بنى دول عربية عديدة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيا.
الحروب المباشرة وإشعال النزاعات كانت نكبة 1948 بداية انهيار بنية المجتمعات الفلسطينية، والإبادة، وتشريد مئات الآلاف إلى الأردن ولبنان وسوريا ومصر والعالم، ما شكّل عبئًا مستمرًا على الدول العربية. العدوان الثلاثي على مصر (بريطانيا، فرنسا، إسرائيل) عام 1956 جاء ردًا على تأميم قناة السويس، وأظهر كيف يمكن لإسرائيل أن تكون رأس حربة في تحالف استعماري ضد دولة عربية مركزية. حرب الأيام الستة عام 1967 مثّلت ضربة قاسية؛ احتلال الضفة الغربية والقدس وغزة والجولان وسيناء، وتكبيد مصر وسوريا والأردن خسائر اقتصادية وعسكرية ضخمة. الأردن 1970 أيلول الأسود: تدخّل إسرائيلي غير مباشر أدى إلى صراع دموي بين الدولة الأردنية والفصائل الفلسطينية. رغم الانتصار الجزئي للجيش الأردني والمقاومة في معركة الكرامة عام 1968 وللعرب في بداية حرب تشرين 1973، فإن إسرائيل استخدمت الدعم الأمريكي لتحويل الصراع إلى استنزاف عسكري واقتصادي للدول المشاركة. لبنان 1975–1990: لعبت إسرائيل دورًا كبيرًا في تأجيج الحرب الأهلية اللبنانية عبر تحالفات مع قوى داخلية، ثم جاء اجتياح 1982 الذي مزق لبنان ودمّر بناه التحتية، فضلًا عن تراجع النشاط التجاري والسياحي الذي كان يشكل أحد أعمدة الاقتصاد اللبناني. كما تسبب الاجتياح في نزوح عشرات الآلاف من المدنيين، وتعطل الخدمات الأساسية، وانهيار الثقة بالاستقرار الأمني، مما عمّق الأزمة الاقتصادية. ومن الناحية السياسية والعسكرية، أدى الاجتياح إلى إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية التي اضطرت إلى مغادرة لبنان، لكنه في المقابل ساهم في بروز قوى مقاومة جديدة، كان من أبرزها الحزب الشيوعي اللبناني وحزب الله الذي تشكل في أوائل الثمانينيات كرد فعل على الاحتلال الإسرائيلي. أما في غزة والضفة الغربية، فقد شهد الوضع سلسلة من الحروب المتكررة والاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، إلى جانب حصار خانق فُرض على قطاع غزة منذ عام 2007، بعد سيطرة حركة حماس على القطاع. هذا الحصار شمل جميع مناحي الحياة — من منع دخول المواد الأساسية ومواد البناء، إلى تقييد حركة الأفراد والبضائع — ما جعل غزة تعيش أزمة إنسانية واقتصادية غير مسبوقة أدت إلى السابع من أكتوبر 2023 وما تبع ذلك من حرب إبادة ضد الغزازوة وتدمير تقريبا كل شيء لديهم، على نحو يذكرنا بتدمير مدينة درسدن الألمانية في نهايات الحرب العالمية الثانية.
تهدف هذه السياسات، في جوهرها، إلى إضعاف المقاومة الفلسطينية واستنزاف قدراتها، لكنها تتجاوز ذلك إلى إحداث انقسامات داخلية بين القوى والفصائل الفلسطينية في غزة والضفة، من خلال تغذية الخلافات السياسية وعرقلة أي جهود لتحقيق وحدة وطنية حقيقية أو إعطاء الاستقلال لدولة فلسطينية التي غدت مقطعة الأوصال أصلا ومحاصرة، فلم يعد أمل للحرية إلا من خلا مشروع الدولة الواحدة لكشف عنصرية إسرائيل ولاإنسانيتها.
وبذلك يصبح المشهد في غزة والضفة ليس مجرد صراع داخلي فلسطيني–إسرائيلي، بل جزءًا من استراتيجية أوسع لإبقاء المنطقة في حالة توتر دائم، تعوق التنمية والاستقرار وتُبقي الكفة العسكرية والسياسية لصالح إسرائيل، وتمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة.
كما حرصت إسرائيل دائمًا على إبقاء الدول العربية المحيطة في حالة ضعف اقتصادي، ففي مصر، شكّلت الحروب المتتالية مع إسرائيل — خاصة حربي 1967 و1973 — استنزافًا هائلًا للموارد الاقتصادية والعسكرية على مدى عقود. فتكاليف التسليح وإعادة بناء الجيش والبنية التحتية بعد كل صراع أثقلت كاهل الاقتصاد المصري. وبعد اتفاقية كامب ديفيد للسلام عام 1979، ورغم توقف الحروب المباشرة، دخلت مصر في مرحلة من الانفتاح الاقتصادي الذي ترافق مع تغلغل المنتجات والشركات الإسرائيلية في السوق المحلية عبر اتفاقيات تجارية. هذا التغلغل ساهم في إضعاف الصناعات الوطنية المصرية، وأدى إلى تحول مصر إلى سوق استهلاكية.
أما في العراق، فقد لعبت إسرائيل دورًا خفيًا لكنه مؤثر في مسار الأحداث. فبعد حرب الخليج عام 1991، كانت إسرائيل من أبرز الأطراف التي حرّضت على استمرار الحصار الدولي ضد العراق، بحجة منعه من تطوير أسلحة تهدد أمن المنطقة. ثم دعمت بقوة الغزو الأمريكي عام 2003. وقد أدى الغزو إلى انهيار مؤسسات الدولة وتفكك النسيج الوطني، وجرّ البلاد إلى صراعات مذهبية وعرقية حادة ما زالت آثارها قائمة حتى اليوم، مانعة العراق من استعادة دوره العربي والإقليمي الفاعل.
وفي سوريا، استمرت إسرائيل في احتلال هضبة الجولان منذ عام 1967، ورفضت جميع القرارات الدولية الداعية إلى الانسحاب منها. ومنذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، نفذت غارات جوية متكررة استهدفت مواقع عسكرية وبنى تحتية داخل الأراضي السورية، مما زاد من إضعاف الدولة السورية. كما عملت إسرائيل بعد هروب الطاغية على إطالة أمد النزاع ومنع استقرار البلاد وتقسيمها، كي لا تشكل تهديدًا استراتيجيًا في المستقبل.
أما في لبنان، فقد ظلت إسرائيل تتعامل معه باعتباره ساحة مواجهة دائمة. فاعتداءاتها المتكررة — من اجتياح 1982 إلى حرب 2006 وصولًا إلى التصعيدات العسكرية في 2023 بعد السابع من أكتوبر — كانت تستهدف بشكل مباشر البنية التحتية المدنية، بما في ذلك محطات الكهرباء والجسور والمرافئ. والنتيجة كانت تدميرًا اقتصاديًا متكررًا، وإغراق لبنان في دوامة إعادة الإعمار والديون.
وفي اليمن، وإن لم تكن المواجهة مباشرة كما في الجبهات الأخرى، فإن إسرائيل تابعت بدقة التوازنات الإقليمية وسعت إلى استثمار الانقسامات الداخلية. فمن خلال التحريض الإعلامي والسياسي، سعت إلى تعميق الانقسام اليمني وإبقاء البلاد في حالة صراع مزمن.
فإسرائيل لم تكن أبدا أداة منفصلة، بل جزءًا من منظومة غربية استعمارية مركزية تعتبر دول الأطراف المتأخرة غنيمة لها يجب استقطابها في علاقات غير متكافئة ونهب خيراتها. فهي القاعدة المتقدمة للولايات المتحدة وأوروبا في قلب الشرق الأوسط، وتستخدم كوسيلة لإبقاء المنطقة تحت السيطرة، بعيدا عن نفوذ روسيا والصين، ومنع أي مشروع نهضوي عربي وحدوي أو مستقل.
نتيجة ذلك كله هو تفكيك العالم العربي بعد أكثر من سبعة عقود، إذ يمكن القول إن وجود إسرائيل أسهم في تمزيق الجغرافيا والديموغرافيا الشرق أوسطية عبر موجات اللجوء والتهجير، وتحويل العالم العربي إلى ساحة نزاعات لا تنتهي، وإضعاف المشاريع الاقتصادية والتنموية الكبرى، بحيث جعل الدول العربية في حالة تبعية دائمة للقوى الغربية بحجة “الأمن الإقليمي” .
فمنذ عام 1948 وحتى اليوم، لم تكن إسرائيل مجرد دولة محتلة لفلسطين، بل مشروعًا يهدف إلى تدمير البيئة العربية المحيطة وإبقائها في حالة تفتت وانهيار دائم. فحيثما وُجد الاحتلال، وُجد الانقسام والحروب والتبعية. ومع ذلك، أثبتت المقاومة في فلسطين ولبنان وغزة واليمن أن المشروع الصهيوني، رغم ما ألحقه من دمار، عاجز عن تحقيق حسم تاريخي، وأن الشعوب العربية قادرة على قلب المعادلة مهما طال الزمن.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: تفكيك العالم العربي العالم العربی فی حالة
إقرأ أيضاً:
د. هويدا مصطفى: العالم العربي "مستهلك" وليس "صانعاً" للأدوات الرقمية
حذرت الدكتورة هويدا مصطفى، عميدة كلية الإعلام السابق، من أن أعظم خطر على الهوية العربية في العصر الرقمي يتمثل في كون العالم العربي "مستهلكاً" وليس "صانعاً" للأدوات والمنصات الرقمية، مما يجعله عرضةً سلبيةً لكل ما يتم تداوله.
وشددت مصطفى خلال مشاركتها في جلسة نقاشية بمنتدى الحوار الإعلامي العربي الدولي في طرابلس، على أن هذه الحالة تضع الجمهور العربي، وخاصة فئة الشباب التي تستهلك المحتوى الرقمي بشكل كبير، في موقف خطر، حيث يصبح عرضة لمحتويات قد لا تتطابق مع قيمه وتقاليده، مما يشكل تهديداً لثوابت الهوية العربية، سواء في اللغة أو القيم أو التقاليد.
ورأت عميدة كلية إعلا أن جوهر التحديات التي يواجهها الإعلام العربي في ظل الانتشار السريع للتكنولوجيا يتمثل في إشكالية تأثير هذه المنظومة على الهوية العربية، مؤكدة أن القضية قديمة وتتجدد مع كل موجة تحول رقمي.
لكنها في المقابل لم تغفل عن رصد الفرصة الكامنة في هذه الأزمة، قائلة: "سرعـة انتشار وسائل الاتصال الرقمي تمثل فرصة يجب استغلالها، حيث يمكنها تقريب المسافات ونشر الأفكار وخلق علاقات تفاعلية". ودعت إلى ضرورة مراجعة كيفية تقديم ذاتنا للآخرين، والتأكيد على قوتنا بما يتوافق مع تقنيات العصر.
واستشهدت بتجربتها الشخصية في زيارة ليبيا، حيث تغيرت تصوراتها المسبقة عن البلد عند الزيارة من مشاعر قلق وصورة قاتمة إلى صورة ايجابية ، مؤكدة على أهمية تقديم صورة حقيقية للذات العربية للعالم. واختتمت بالقول: "نحن في حاجة ملحة حالياً أكثر من أي وقت مضى إلى أن نؤكد وجودنا العربي ونتمسك به".
ناقش المنتدى محاور الهوية العربية وصناعة المحتوى الإعلامي والتدريب المهني وتطوير المحتوى الرقمي وتوظيف الذكاء الاصطناعي في الإعلام، وجمع عددا كبيرا من الشخصيات البارزة من بينهم السفير أحمد رشيد خطابي أمين عام مساعد جامعة الدول العربية لقطاع الاتصال والإعلام، والوزراء زهير بو عمامة من الجزائر، وحمزة المصطفى من سوريا، وأسامة هيكل وزير الإعلام المصري الأسبق، وزياد مكاري وزير الإعلام اللبناني الأسبق، بالإضافة إلى سفراء ومستشارين وإعلاميين وفنانين مصريين بارزين مثل منى الشاذلي وباسم يوسف وأحمد فايق.