أرى في وجهك خيبة أمل مُبرَّرة! إن رددت الانسحاب من الفاشر لتراجع قُدرات القوات المسلحة القتالية وفقدان قادتها زمام المُبادرة في الميدان فمُدَّت للجنجويد من مساحات السيطرة مدَّة واكتسبوا بعض أرض، ولك عليّ بيان ما أرى فيه داعياً للانسحاب أو إن شئت قُل (تولية الدُبر مُتحرفين لقتال)! فهل تعلم أن مقاتلات أجنبية اعتراضية أحالت سماء الفرقة (الثابتة) إلى جحيم وأن مسيرات معادية سممت أجواء المدينة بغاز الأعصاب المحرَّم دولياً؟! وهل كنت تدري أن مخابرات ثلاث دول كبرى أدارت المعركة تقنياً لمصلحة الجنجويد؟! لا ريب أنك الآن فهمت كل شيء!
فهمت أن انحراف مسار الحرب في السودان يتماهى مع مُبتغى التجزئة إلى دويلات ضعيفة العُرى تجتمع على جغرافيا ولا يجمعها تاريخ، ولا تقوى منفردة على صياغة مُستقبلها وإدارة مواردها فتُحال ساحة مُستباحة، كما فهمت من قبل أن الجنوب نُحر على ترانيم المسيح، وفي قبر (جون قرن) هتف باقان أموم (باي باي وسخ خرطوم)!
ثم دار الزمان، فإذا بالشيطان يغوي الجنجويد فيقربوا ذات الشجرة الملعونة في القرآن.
المُعضلة ليست هنا، إنما في ملاحظة أن سقوط الفاشر ارتبط مباشرةً بمشروع التقسيم، حتى أن المستشار (مسعد بوليس) كشف أن مبتغى الرباعية هي هدنة بدواعٍ إنسانية يمكن فرضها بالقوة لتمكِّين الجنجويد من بسط سلطتهم المدنية على ولايات (دار جنيد)!
ولا تكتمل الصورة إلا ببيان أن مطلب الهدنة استوُجب كرتين، كَّرةً من منبر جدة لوقف انهيار الجنجويد فوجدوا فيها ضالتهم متموضعين في الأعيان المدنية، وكَّرةً بعد الفاشر لتدين دارفور بدين التعايشي وعبد العزيز الحلو !
استقبالاً لما أُدبر وعوداً على بدأ وإستدراكاً لما سبق، لم يكن الانسحاب من الفاشر لأجل تمدُّد الجنجويد، إنما هو حلقة من حلقات التآمر أفسدها الجنجويد – وإن أردت افساداً فعليك بالجنجويد – إذ تمادوا في إغراق المدينة بالدماء بما رسَّخ في نفوس السودانيين بغضاء لم تستطع ترسيخها ناقة البسوس والتي بسببها اقتتل أبناء العمومة أعواماً ثقال!
مُغترف الجنجويد في الفاشر وما تفرخ لأجله من حالة بين الغضب والإصرار وبين الأسى والثأر وبين الألم وتوحيد الوجدان وبين اللاوعي والإدراك أو أن شئت قُل حالة اللحظة الفارغة والدوار الميتافيزيقي الذي ساوى بين الهدنة والخروج من الملَّة! فهل بعد مأتي الجنجويد في الفاشر سيقبل الشعب الهدنة؟!
عصام الحسين
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
من خلال تلك الرحلات الافتراضية، توطدت في نفوسنا أواصر المحبة والمودة بيننا وبين شخصيات من مختلف أقاليم السودان
تعود بي الذاكرة لأيام الطفولة، ونحن تلاميذ صغار في قريتنا تنقسي الجزيرة الحالمة على ضفاف النيل، بالصف الثالث الابتدائي، إلى معلم لا يُمحى من الذاكرة، كان واحداً من كوكبة من المعلمين الذين تركوا بصمتهم الخالدة في حياتنا..
لا تزال صورته ماثلة أمامي، وهو يدخل علينا هاشًّا باشًّا، بهندامه الأنيق وشَعره الكثيف المرتب، ليُدرّسنا مبادئ جغرافية السودان من كتاب سبل كسب العيش في السودان لمؤلفه عبد الرحمن علي طه..
الكتاب شارك فيه عدد من أساتذة معهد بخت الرضا، الذين قاموا بزيارات حقيقية إلى مناطق مختلفة من البلاد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً..
كان من بين هؤلاء الأساتذة: مكي عباس، النور إبراهيم، الشيخ مصطفى، عبد العزيز عمر الأمين، عبد الحليم جميل، أحمد إبراهيم فزع، عبد الرحمن علي طه، عثمان محجوب، مستر ومسز سمث، وسر الختم الخليفة..
وشملت الزيارات كلاً من القولد، وريرة، والجفيل، وكيلك، ويامبيو، ومحمد قول، وود سلفاب، وأمدرمان، وعطبرة، وبورتسودان..
في تلك المادة تلاقى جمال المنهج ومتعة المعرفة مع روعة وأسلوب معلمنا الجليل محمد عمر الهمجاوي، الذي غرس في قلوبنا حب جغرافية الوطن، ونحن نُنشد معه بأصوات بريئة ولحن جماعي عذب: “في القولد التقيت بالصديق، أنعم به من فاضل صديق”..
من خلال تلك الرحلات الافتراضية، توطدت في نفوسنا أواصر المحبة والمودة بيننا وبين شخصيات من مختلف أقاليم السودان كنا نحفظ أسماءها عن ظهر قلب: صديق عبد الرحيم في القولد، محمد القرشي في ريرة، سليمان في الجفيل، محمد الفضل في بابنوسة، منقو زمبيري في يامبيو، حاج طاهر في محمد قول، أحمد محمد صالح في ود سلفاب، إدريس إبراهيم في أمدرمان، وأخيراً عبد الحميد إبراهيم في عطبرة..
ذلك كان المنهج المؤثر، وذاك هو المعلم المبدع، اللذان غَرَسا في قلوبنا حب هذا الوطن المترامي الأطراف بلا تفرقة، فعرفنا أقاليمه وأهله وسبل عيشه وأحببناها منذ الصغر، حتى كبر هذا الحب معنا إلى الآن..
ولهذا تدمى قلوبنا اليوم مع كل بقعة تتألم من أرضه، كيف لا، ونحن من ردد يوماً: ومرة بارحت أهلي لكي أزور صاحبي ابن الفضل، ألفيته وأهله قد رحلوا من كيلك وفي الفضاء نزلوا، في بقعة تسمى بابنوسة، حيث اتقوا ذبابةً تعيسة”..
محمد الطاهر