د. صالح بن نصر القاسمي
النفس البشرية عالمٌ من الأسرار، دهاليزُها عميقةٌ، فيها النورُ والظلمة، والطمأنينةُ والاضطراب. فالإنسان بمكوّناته الجسدية والروحية والعقلية، كائنٌ متكاملٌ يسير على الأرض، تحرّكه نفسه في اتجاهاتٍ شتّى. وفي لحظةٍ واحدةٍ تتزاحم في داخله الأفكار، منها ما يحمل الخير له ولمجتمعه، ومنها ما يختبئ فيه الشرّ متنكّرًا في هيئة الرغبة أو المصلحة.
وحين ذكر الله تعالى النفس في كتابه العزيز، أوضح أن الإنسان وُهب الاختيار بين طريق التقوى وطريق الفجور، وأن تزكية النفس أو تدسيتها هي مسؤولية الإنسان نفسه، فقال تعالى: "ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها" (الشمس: 7-10).
ذلك الاختبار الإلهي الدقيق هو ميزان الثواب والعقاب، وهو الذي يجعل الإنسان سيّد نفسه حين يوجّهها نحو الصلاح، أو أسيرها إن تركها للهوى والضعف.
إن النفس هي مركز الإدراك ومصنع الأخلاق، فهي التي تصوغ سلوك الإنسان وترسم معالم روحه. ومن خلالها تتشكّل العواطف الإنسانية، فيميل الإنسان بحبّه ولطفه، أو ينفر ببغضه واستنكاره. فهي جوهر العلاقات الإنسانية وأساس الاتزان النفسي.
ومع كثرة تلاقي الناس وجلوسهم معًا في أسرٍ وصحبةٍ وأخوة، تبقى النفوس صناديق مقفلة، لا يطّلع أحد على خبايا الآخر وما يجول في داخله من خواطر وهواجس وظنون. وما يدور في النفس ينعكس مباشرةً على السلوك، فيؤثّر في علاقات الإنسان بالآخرين، إيجابًا حين تسكنه النية الطيبة، وسلبًا حين تتسلل إليه الشكوك والأوهام.
ولأن النفس تتعرض لما لا يُرى بالعين ولا يُلمس باليد، فهي أكثر عرضةً للأمراض التي تُنهكها من الداخل، وتسرق منها صفاءها دون أن يشعر صاحبها. تبدأ تلك الأمراض بخيوطٍ رفيعة من الظنون، ثم تمتد جذورها في أعماق النفس حتى تحيلها إلى موطنٍ للكآبة والندم. ومن أخطر هذه الأمراض سوء الظن، إذ إن من سمح له بالدخول إلى نفسه، صار يرى في الجميع خصومًا، ويتعامل معهم بريبةٍ وشكٍّ دائم. لذلك حذّر الله تعالى عباده من هذا الداء فقال: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم" (الحجرات: 12).
وقد جاء التعبير الإلهي بصيغة الكثرة للدلالة على أن النفس البشرية كثيرة الظن بطبيعتها، وأن الإثم قد يختبئ حتى في القليل منه. وما يثير القلق أن سوء الظن لا يقف عند حدّه، بل يجرّ وراءه أمراضًا أخرى أشد خطرًا، كالتجسس والغيبة، وهما داءان يهدمان العلاقات الاجتماعية ويقوّضان أسس المحبة والثقة، وقد صوّر الله قبحهما في مشهدٍ بليغٍ حين قال في تتمة الآية نفسها:
(ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه).
فيا له من تصويرٍ مهيبٍ يبعث الرهبة في النفس، ويكشف مدى قبح تلك الآفات حين تبتعد النفس عن صفائها.
ومن الأمراض التي تُهلك النفس وتطفئ فيها نورها البخل والجشع، إذ يضيق القلب بالكرم والعطاء، ويغدو الإنسان عبدًا لما يملك لا سيّدًا عليه. ولقد أبدع الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي في وصف هذه الحال في كتابه النظرات، حين تحدّث عن الغني والفقير وقسّم الناس إلى أربعة أصناف:
من يُحسن إلى غيره ليحسن إلى نفسه، ومن يُحسن إلى نفسه ولا يُحسن إلى غيره وهو الشره المتكالب، ومن لا يُحسن إلى نفسه ولا إلى غيره وهو البخيل الأحمق الذي يجيع بطنه ليشبع صندوقه، ثم ختم بقوله البليغ: أما من يُحسن إلى نفسه وإلى غيره، فلا أعلم له مكانًا ولا أجد إليه سبيلًا.
كلمات المنفلوطي تلك تختصر مأساة النفس حين تستسلم للطمع وتنسى أن المال وسيلة لا غاية، وأن الكرم دواءٌ يطهّر القلب من قسوة الأنانية.
وحين نتحدث عن النفس وما يعتريها من أمراض، فإن القصد ليس التعليم بقدر ما هو التذكير والتنبيه، لأن هذه الآفات حين تتفشى في النفوس تنتقل إلى المجتمع كله، فتضعف أواصره وتطفئ نوره الداخلي. فصلاح النفس صلاحٌ للمجتمع، وفسادها نذيرٌ بهلاكه.
إن النفس البشرية بحرٌ لا يهدأ إلا بذكر الله، وسفينة لا تنجو إلا بتزكيتها. فمن زكّاها بالإيمان والصدق والعفو، وجد الطمأنينة في دنياه، ونال الفلاح في آخرته، مصداقًا لقوله تعالى: "قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها".
فيا أيها الإنسان، اجعل تزكية نفسك عبادةً يومية، وراقب ما يدخلها من ظنٍّ أو شحٍّ أو كِبر، فإن سلامها هو سرّ سعادتك، ونقاؤها هو جوهر إنسانيتك.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الصليب الأحمر عن مجازر السودان: التاريخ يعيد نفسه
صراحة نيوز-قالت رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر ميريانا سبولياريتش، إن التاريخ يعيد نفسه في منطقة دارفور بالسودان، وذلك بعد تقارير عن عمليات قتل جماعي خلال سقوط مدينة الفاشر في أيدي قوات الدعم السريع شبه العسكرية الأسبوع الماضي.
رويترز