تفكك الديمقراطية الغربية.. هل ينهار النظام من الداخل؟
تاريخ النشر: 6th, November 2025 GMT
شهدت الساحة الأوروبية في الأسابيع الأخيرة تحولات سياسية لافتة أعادت فتح النقاش حول مستقبل الديمقراطية في الغرب. فقد أظهرت نتائج الانتخابات الهولندية الأخيرة تراجع بعض القوى اليمينية المتطرفة بعد فترة من الصعود السريع، بينما يواصل حزب "البديل من أجل ألمانيا" تعزيز موقعه في استطلاعات الرأي وتوسيع تحالفاته مع قوى قومية في أوروبا الوسطى والشرقية.
وفي فرنسا، لم تعد مارين لوبان على هامش الحياة السياسية، بل باتت قريبة من تحقيق اختراق حقيقي في الانتخابات المقبلة. هذا التناقض بين صعود وهبوط القوى الشعبوية، وبين مقاومة واستسلام المؤسسات الديمقراطية، يطرح سؤالاً أعمق وأخطر: هل تمر الديمقراطية الليبرالية بمرحلة اضطراب عابرة، أم أنها تتآكل من الداخل وتفسح المجال لعودة الاستبداد بأقنعة جديدة؟
يقف الغرب اليوم أمام أزمة ثقة أكثر منها أزمة مؤسسات. القوانين والانتخابات ما زالت قائمة، لكن الإيمان بها يتآكل ببطء. تقول آن أبلباوم إن “نهاية الديمقراطية لا تأتي بصوت المدافع، بل بصمت الرضا الشعبي”.يشير عدد من المفكرين الغربيين إلى أن الديمقراطية الحديثة لا تموت بانقلابات عسكرية كما في الماضي، بل تتآكل ببطء وبموافقة شعوبها. يقول المؤرخ الأمريكي تيموثي سنايدر في كتابه عن الطغيان إن "أخطر مراحل التحول السلطوي تبدأ حين يعتاد المواطنون على التنازل عن حرياتهم باسم الأمن والاستقرار". فالطغيان الحديث، كما يصفه سناير "لا يحتاج إلى دبابات أو محاكم استثنائية، بل إلى تآكل الثقة بالمؤسسات والقبول التدريجي بخرق الأعراف، حتى تصبح الديمقراطية شكلا بلا مضمون وواجهة قانونية تخفي سلطوية ناعمة تتغلغل في مؤسسات الدولة".
وترى المؤرخة والصحفية آن أبلباوم في كتابها غسق الديمقراطية أن "الخطر لا يأتي فقط من الشارع أو من الحركات الشعبوية، بل من النخب نفسها. فجزء من تلك النخب، التي كانت يوما ركيزة النظام الليبرالي بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ يميل نحو السلطوية بدافع الحنين إلى "النظام" بعد عقود من العولمة والانفتاح". هؤلاء، كما تقول، "مستعدون للتضحية بحرية التعبير مقابل الشعور بالانتماء والأمان". بذلك، "لا يكون الاستبداد مجرد تمرّد من الأسفل، بل رغبة من الأعلى في استعادة السيطرة".
ويقدّم ستيفن ليفيتسكي ودانييل زيبلات في كتابهما الشهير كيف تموت الديمقراطيات نموذجا صارخا على هذا التآكل الداخلي. "فالأنظمة المنتخبة لا تنقلب على نفسها فجأة، بل تتغير “قانونياً” خطوة بخطوة: تقييد الإعلام، إضعاف القضاء، تضييق المعارضة. الشعبويون الجدد لا يحتاجون إلى الانقلابات العسكرية، بل إلى برلمانات مطواعة ورأي عام مُرهق بالخوف من المستقبل. وهكذا تتحول أدوات الديمقراطية نفسها إلى سلاح ضدها".
أما المفكر البولندي الراحل زيغمونت باومان فيرى أن "الحداثة الغربية فقدت استقرارها الأخلاقي والاجتماعي، لتتحول إلى “حداثة سائلة” لا يمسك بها شيء". في هذا الفراغ، تبحث المجتمعات الخائفة عن “قائد قوي” يرمز للأمان والنظام. وهنا، تنقلب القيم الديمقراطية إلى مجرد شعارات مكررة تُرفع في الحملات الانتخابية دون مضمون حقيقي.
وتضيف الباحثة الأمريكية شوشانا زبوف بعدا جديدا لمفهوم السلطوية من خلال ما تسميه “رأسمالية المراقبة”. ففي كتابها الصادر عام 2019، تشير إلى أن "الاستبداد لم يعد بحاجة إلى أجهزة أمنية تقليدية، بل إلى خوارزميات تُراقب كل نقرة وتفاعل رقمي". شركات التكنولوجيا الكبرى تعرف اليوم عن المواطن أكثر مما تعرفه الحكومات عن نفسها، وتستطيع التأثير في توجهاته وسلوكياته تحت غطاء الراحة والكفاءة. إنها، كما تقول زبوف، “سلطوية طوعية” تمارس بالإقناع لا بالقهر.
ويربط الكاتب البريطاني إدوارد لوس في كتابه تراجع الليبرالية الغربية بين هذا الانحدار الديمقراطي والأزمة الاقتصادية التي عصفت بالطبقات الوسطى والعاملة خلال العقدين الأخيرين. حين "يشعر المواطن أن النظام الديمقراطي لم يعد يوفر له عدالة اجتماعية ولا حماية اقتصادية، يصبح أكثر ميلا لتصديق وعود الشعبويين، حتى وإن كانت معادية لقيم الحرية والانفتاح". بهذا المعنى، فإن "الديمقراطية لا تسقط فقط بسبب الاستبداد، بل أيضا بسبب الظلم الاقتصادي".
يرى المفكر المغربي المهدي المنجرة، في مقولة استعادت راهنيتها اليوم، أن أزمة الديمقراطية الغربية ليست في آلياتها، بل في قيمها. فحين تتحول الحرية إلى أداة للهيمنة الاقتصادية، وتغدو الديمقراطية وسيلة لتبرير الفوارق لا لتقليصها، فإنها تبدأ بالانهيار الأخلاقي قبل المؤسسي. وهذا، في رأيه، ما يجعل الغرب يواجه "انفجاراً حضارياً" لا عسكرياً، نتيجة فقدانه التوازن بين المصلحة والضمير.وتدعم الإحصاءات هذا الاتجاه المقلق. فبحسب مؤشر الديمقراطية العالمي لعام 2024 الصادر عن وحدة المعلومات الاقتصادية، سجّل العالم أدنى مستوى ديمقراطي منذ بدء التصنيف عام 2006. كما أظهر تقرير فريدوم هاوس السنوي استمرار تراجع الحريات السياسية والمدنية للعام السابع عشر على التوالي، وهي أطول فترة تراجع منذ نهاية الحرب الباردة. أما في الولايات المتحدة، فتشير بيانات مركز بيو للأبحاث إلى أن الثقة في الحكومة الفيدرالية لا تتجاوز 22%، وهو مستوى قياسي من التشكيك بالمؤسسات. هذه الأرقام تعكس أزمة ثقة حقيقية في قدرة الأنظمة الديمقراطية على تجديد نفسها، في ظل تزايد دعوات تقييد الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بحجة مكافحة التضليل أو حماية الأمن القومي، وهي حجج تشبه إلى حد بعيد تلك التي استخدمتها الأنظمة السلطوية التقليدية.
وفي أوروبا، لا يزال اليمين القومي يواصل صعوده: في فرنسا يقترب من الإليزيه، وفي إيطاليا وصلت جورجيا ميلوني إلى الحكم بخطاب قومي محافظ، بينما أعادت حكومات المجر وبولندا صياغة دساتيرها لتكريس سلطاتها وتقليص استقلال القضاء والإعلام. يسمي سنايدر هذا التحول بـ"الاستبداد الانتخابي"، حيث تُستخدم الأدوات الديمقراطية نفسها لإفراغها من مضمونها. والأخطر أن ذلك يجري تحت غطاء “الشرعية الشعبية”، كما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري، الذي يصف الظاهرة بـ"الاستبداد الجماهيري" استبداد يولد من داخل المجتمع نفسه، لا من فوقه.
في قلب هذا المشهد، يبرز بعدٌ جديد أكثر خفاء: الاستبداد الرقمي. يشير المفكر الكندي جوردان بيترسون إلى أن أنظمة المراقبة الذكية تمنح شعورا زائفا بالأمان، لكنها في الحقيقة تقوض الإرادة الحرة للمجتمعات، لتتحول الرقابة إلى ممارسة ناعمة من دون طاغية ظاهر ولا سجون. الناس يظنون أنهم أحرار، لكن خوارزميات الذكاء الاصطناعي تحدد لهم ما يشاهدون وما يعتقدون.
ويرى المفكر المغربي المهدي المنجرة، في مقولة استعادت راهنيتها اليوم، أن أزمة الديمقراطية الغربية ليست في آلياتها، بل في قيمها. فحين تتحول الحرية إلى أداة للهيمنة الاقتصادية، وتغدو الديمقراطية وسيلة لتبرير الفوارق لا لتقليصها، فإنها تبدأ بالانهيار الأخلاقي قبل المؤسسي. وهذا، في رأيه، ما يجعل الغرب يواجه "انفجاراً حضارياً" لا عسكرياً، نتيجة فقدانه التوازن بين المصلحة والضمير.
يقف الغرب اليوم أمام أزمة ثقة أكثر منها أزمة مؤسسات. القوانين والانتخابات ما زالت قائمة، لكن الإيمان بها يتآكل ببطء. تقول آن أبلباوم إن “نهاية الديمقراطية لا تأتي بصوت المدافع، بل بصمت الرضا الشعبي”. فحين يملّ الناس من الجدل وتعدد الأصوات، يحنّون إلى البساطة والانضباط، وهي اللحظة التي، كما يوضح سنايدر، تبدأ فيها الطغيانيات الحديثة بالازدهار. إنه مفترق طرق حاسم: إما مراجعة الذات وإحياء القيم الليبرالية القائمة على الحرية والمساءلة والعدالة الاجتماعية، أو الانزلاق نحو حكم هجين يمزج بين أدوات الديمقراطية وميول الاستبداد، استبداد رقمي، جماهيري، قانوني في الشكل.. قاتم في الجوهر.
وفي النهاية، لم يعد السؤال هل يمكن أن يعود الاستبداد إلى الغرب، بل أي شكل جديد سيتخذه في عالم تحكمه الخوارزميات، ويعيد فيه الخوف تعريف الحرية، حتى تصبح الشعوب مطيعة باسم إرادتها الحرة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الديمقراطية الرأي أوروبا أوروبا سياسة رأي ديمقراطية قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة إلى أن
إقرأ أيضاً:
الشرق الأوسط في مرايا الغرب
5 نونبر، 2025
بغداد/المسلة: كتب رياض الفرطوسي
منذ ولادة الولايات المتحدة، شكلت فكرة التفوق الأبيض حجر الزاوية في تصور الهوية الوطنية والاجتماعية. لم تكن هذه الفكرة مجرد تصنيفات عابرة للبشر وفق لون البشرة أو الدين، بل كانت أداة للهيمنة الاجتماعية والسياسية، تحاول أن تضع “المسيحي النقي” في القمة وتحدد من هو “مستحق” للفرص. هذا التمييز لم يتوقف عند حدود الداخل الأميركي؛ بل امتد إلى تصور الشرق الأوسط، الذي بات منذ نشأة الدولة الأميركية أرضاً غامضة، “حيوانية” في نظر العقل الغربي، يسهل تجاهلها أو إعادة تشكيلها وفق المصالح الاقتصادية والسياسية.
الغرب، خاصة الولايات المتحدة وأوروبا، تبنى منذ البداية سياسة محو التاريخ العربي من المناهج التعليمية، متعمداً خلق فجوة معرفية تجعل الشعوب غير قادرة على فهم الشرق الأوسط إلا من خلال عدسة مغلوطة، تتجاهل إنجازاته التاريخية وحضارته العلمية. الفكرة لم تكن عشوائية؛ فقد وُلدت في عقل المستعمرين الأوروبيين، الذين لم يردوا أن يعرف الرعايا كيف تمكن العرب من بناء إمبراطوريات قوية، أو أن الثقافة الإسلامية أنتجت العلوم والفلسفة وعلم الفلك، وأن هذا التاريخ الغني يشكل تحدياً لسردية الغرب التي تصوره مركزاً للعالم والأمم الأخرى ((تابعة)) ومتكاملة في خدمة مصالحه.
وهذه النظرة المشوهة ترسخت منذ المراحل المبكرة من الولايات المتحدة. بعد الاستقلال عام 1776، كانت الدولة الوليدة مفلسة، تعيش أزمة اقتصادية حادة، ولا تستطيع تمويل جيش أو إدارة مواردها بفعالية. كانت التجارة الوسيلة الأساسية للبقاء، وكان البحر المتوسط ساحة أولى لتجارب القوة الأميركية خارج الحدود. هنا، ظهرت أولى تدخلات الولايات المتحدة في شمال إفريقيا، عندما قررت مواجهة القراصنة البربريين، مؤسِسة بذلك سابقة للحروب الأميركية خارج القارة، ولكن بأسلوب تجاري وعسكري محدود، مختلف عن النهج الأوروبي الذي كان يعتمد على الاحتلال العسكري المباشر.
وفي هذا السياق، نشأت فكرة “الشرق الأوسط العظيم في ماضيه، الضعيف في حاضرِه” في العقل الأميركي. لم يكن الهدف مجرد الغزو أو السيطرة، بل كانت هناك محاولة لإعادة كتابة تاريخ المنطقة وفق تصور محدد: حضارة عظيمة متوقفة، تحتاج إلى “إصلاح” خارجي. هذه النظرة، الممزوجة بالإعجاب والتحقير في آن واحد، ساهمت في ترسيخ صورة الشرق الأوسط في الإعلام والمناهج الغربية، فظهر العرب كأناس متخلفين، غير قادرين على إدارة إرثهم الثقافي والعلمي، بينما تُحذف إنجازاتهم الكبرى من الوعي الغربي.
ولكن الولايات المتحدة لم تكن الوحيدة التي أساءت قراءة الشرق الأوسط. أوروبا، مع ذلك، تبنت مقاربة أكثر تقليدية، مبنية على الاستعمار والهيمنة العسكرية والسياسية، مستغلة الطوائف المسيحية كذريعة للتدخل في شؤون الإمبراطورية العثمانية، دون أن تكون مهتمة فعلياً بالمجتمعات العربية نفسها. في المقابل، اعتمد الأميركيون على ما يمكن تسميته بالقوة الناعمة، من خلال التعليم والمستشفيات والدبلوماسية، لكن هذا النهج لم يكن بريئاً : بل كان جزءاً من رؤية استراتيجية طويلة المدى، تهدف إلى تشكيل الشرق الأوسط بما يخدم مصالحهم الاقتصادية والسياسية.
الاقتصاد، كان المحرك الأساسي لتورط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. بعد اكتشاف النفط في بنسلفانيا عام 1861، أدركت أميركا تدريجياً أهمية الطاقة كمورد استراتيجي. بالمقابل، كانت بريطانيا أسرع وعياً ، متجهة إلى العراق ( اكتشاف النفط في كركوك عام ١٩٢٧). وإيران ( بلاد فارس اكتشاف النفط عام ١٩٠٨)، لتأمين مصادر النفط، في حين بقيت الولايات المتحدة متأخرة نسبياً بسبب وفرة النفط المحلي. مع ذلك، وبحلول عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، بدأت الشركات الأميركية بالتنقيب عن النفط في السعودية، مدفوعة بحاجة البلاد المتزايدة للطاقة وصعود دور النفط في الاقتصاد العالمي.
الحروب الكبرى ساهمت بشكل مباشر في إعادة تشكيل الاقتصاد الأميركي ودوره في العالم. الحرب العالمية الأولى أظهرت هشاشة الاقتصاد الأوروبي، لكنها لم تمنح الولايات المتحدة سوى فرصة لتعزيز تجارتها، بينما كانت الحرب العالمية الثانية استثناءً نادراً، حيث خلقت طلباً هائلًا على الإنتاج العسكري، مما أخرج البلاد من الكساد الكبير في الثلاثينيات. بعد ذلك، دخلت فكرة “التقادم المخطط” حيز التطبيق، لضمان استمرار الاستهلاك وتحفيز الاقتصاد، وهي رؤية تتناغم مع الطبيعة الرأسمالية الأميركية، القائمة على الإنتاج الفائض والتسويق المستمر.
في السياق السياسي، لعبت الولايات المتحدة دوراً محورياً في تأسيس إسرائيل، مدفوعة بمزيج من الشعور بالذنب بعد الهولوكوست والمصالح الجيوسياسية للحرب الباردة. الصهيونية لم تكن مجرد حركة وطنية لليهود، بل مشروعاً لتشكيل أغلبية يهودية اصطناعية في فلسطين، على حساب السكان العرب، ما أدى إلى طرد جماعي وتحويل فلسطين إلى كيان يقيم فصلاً عنصرياً بحكم الواقع. دعم الولايات المتحدة لإسرائيل، سواء في التصويت للأمم المتحدة أو بالتمويل العسكري والسياسي، كان جزءاً من استراتيجية احتواء الاتحاد السوفيتي وضمان حليف في قلب الشرق الأوسط.
هذه السياسات التاريخية والأيديولوجية خلقت صورة نمطية عن العرب، تمتد من التعليم إلى الإعلام، ومن السياسة إلى الثقافة الشعبية الغربية. العرب الذين اخترعوا الحضارة، وأنقذوا الفلسفة اليونانية، وابتكروا العلوم والطب والفلك، أصبحوا في الوعي الغربي “متخلفين”، يُحذف تاريخهم الذهبي من الكتب المدرسية، ويُصوّرون كأعداء أو مستهلكين للنفوذ الغربي، في لعبة سياسية تقوم على مبدأ “فرّق تسد”.
ولا يمكن تجاهل دور السينما الأميركية، التي على مدى المئة سنة الماضية لعبت دوراً حضارياً وثقافياً بالغ التأثير في تشكيل الوعي الغربي. فهوليوود لم تكتفِ بسرد القصص، بل صاغت صوراً نمطية عن الشعوب: الروس دائماً خائنون وجبناء، العرب زير نساء وقتلة وطائفة جاهلة، الصينيون ساذجون. هذا الفن، الذي يرتبط بالفلسفة والموسيقى والأدب والإبداع، أصبح أداة لصناعة الانطباعات الجماعية عن الآخرين، تماماً كما تفعل الآيديولوجيات السياسية، لكنه يصل إلى الناس بطريقة أكثر سلاسة، ويترسخ في اللاوعي الغربي. السينما إذن ليست مجرد ترفيه، بل فعل حضاري وسياسي يساهم في إعادة إنتاج الصورة المشوهة للشرق الأوسط، ويكمل ما حاولت السياسات الغربية والمناهج التعليمية تحقيقه على مدى قرون.
لكن ما لا يمكن تجاهله أيضاً، هو البعد الديني والحضاري للصراع. فالخوف من الإسلام لم يكن مجرد مسألة سياسية أو قومية، بل كان مواجهةً لروح حضارة كاملة، مترسخة في معرفة وعلم وفلسفة، لا يمكن للغرب تجاوزه بسهولة كما يمكن تجاوزه العرب كقومية. الصراع هنا لم يكن على الأرض فحسب، بل على المعنى والروح، على الصورة التي يشكلها الغرب عن الإسلام وعن المسلمين، وهو ما دفع بعض المستشرقين والمفكرين الغربيين، أحياناً بتواطؤ صامت من جماعات يهودية كما تقول الروايات التاريخية، لمحاولة ضرب هذا العمق الحضاري، وإضعاف مصداقيته أمام شعوبهم قبل شعوب العالم الإسلامي. في هذا الضوء، يصبح فهم التاريخ العربي الإسلامي أكثر من مجرد سرد أحداث؛ إنه قراءة للصراع الروحي والفكري الذي لم ينتهِ بعد، والذي يفسر كثيراً من المأساة التي نعيشها اليوم.
ولعل الحلول الممكنة لهذه الصورة المشوهة ولصراعات الشرق الأوسط، خاصة القضية الفلسطينية، تحتاج إلى مواجهة الواقع بعقلانية وموضوعية. النظام الإسرائيلي القائم على خلق أغلبية يهودية اصطناعية يفرض تقسيماً جغرافياً وسياسياً يجعل حل الدولتين شبه مستحيل، في حين تبقى الدولة الواحدة العلمانية خياراً نظرياً لكنه يحمل ضمانات للأقليات ويعيد الحقوق للفلسطينيين. لكن السياسات الأميركية والدعم المستمر لهذا النظام، تعزز الرؤية المعقدة للعالم العربي في العقل الغربي، وتزيد من تعقيد الحلول الواقعية للصراعات في المنطقة.
من هنا، يمكن القول إن ما نراه اليوم من سياسات أميركية تجاه الشرق الأوسط ليس مجرد صدفة تاريخية، بل نتاج منظومة فكرية وتجارية وسياسية تشكلت منذ ولادة الولايات المتحدة، مدفوعة بالعنصرية، بالاقتصاد، وبمخاوف من “الآخر المختلف”. هذه المنظومة اختارت تجاهل التاريخ العربي، إعادة كتابته، وصناعة تصور عن المنطقة كأرض غامضة، ضعيفة، تحتاج إلى إصلاح خارجي، وهو تصور ما زال يترسخ في الثقافة الغربية والإعلام حتى اليوم.
وبينما يختفي التاريخ الحقيقي للشرق الأوسط من المناهج الغربية، يظل السؤال مفتوحاً : كيف يمكن للعالم أن يفهم حقيقة المنطقة، إن لم يتم تصحيح الروايات التاريخية التي شكّلت وعي الغرب؟ إن قراءة التاريخ العربي والإسلامي خارج سياق التحيز الغربي، ومراجعة السياسات الأميركية تجاه المنطقة، ليست مجرد تمرين أكاديمي، بل خطوة أساسية لفهم حاضر الشرق الأوسط والتعامل مع مستقبله بطريقة أكثر عدلًا وواقعية.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author زينSee author's posts