المبتسم المُحيِّر.. كيف نفهم السياسي الإيراني محمد جواد ظريف؟
تاريخ النشر: 10th, November 2025 GMT
كان الهواء في قاعات الاحتفالات الكبرى في قصر كوبورغ بفيينا مشبعًا بالإرهاق في منتصف يوليو/تموز 2015. فلعدة أشهر، كان رجلان نظيران غير متوقعين من دولتين تعتبر كل منهم الأخرى -في قصصها التي يرويها الساسة- عدوة لدودة منذ أكثر من ثلاثة عقود، عالقين في مبارزة دبلوماسية مُرهقة.
أحدهما هو جون كيري، وزير الخارجية الأميركي الطويل القامة القادم من خلفية دبلوماسية أرستقراطية، والآخر هو محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، الأقصر قامة والأكثر بدانة، الذي كان يرتدي قميصًا تقليديًّا بلا ياقة، ويبتسم على الدوام.
كان كل من الرجلين ينادي نظيره باسمه مجردا، ذاك يناديه: "جواد"، وهذا يرد بـ"جون". كان الأمر غريبًا بعض الشيء، فالرجلان خصمان بالفعل، لكن ابتسامة ظريف -غير المصطنعة في مقابل ابتسامة كيري التي يبدو كما لو كان يتدرب عليها منذ خمسين سنة عندما بدأ دراسته في جامعة ييل– كانت محيّرة للدبلوماسي المخضرم.
فقد كان ظريف يخفّف حدة التوتر بنكتة كلما ازدادت حدة المفاوضات والنقاشات بشأن أجهزة الطرد المركزي أو تخصيب اليورانيوم أو بروتوكولات التفتيش الأممي والأوروبي. جعل هذا الأمر كيري يصف نظيره الإيراني بقوله إنه "مفاوض صارم وقدير، وطني حارب في كل خطوة من التفاوض من أجل ما يؤمن به"، لكنه لم ينس النصف الآخر من شخصية ظريف فقال: "في نهاية كل اجتماع كنا نضحك ونبتسم".
لا يشبه ظريف الصورة النمطية للسياسي الإيراني؛ فلم يتلق تعليما حوزيًّا، وليس له خلفية عسكرية، ولم يشارك في الثورة الإيرانية أو الحرب مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي.
يعد هذا الأمر نادرا بين سياسيي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وخاصة بالنسبة لمن يتولى منصب وزير الخارجية، حيث إن الخلفيات الثورية والعسكرية كانت تقليديا جزءا من مسار غالبية المسؤولين في هذا الموقع. لكن الصعود الاستثنائي لظريف يكشف خلفية استثنائية أهلته ليكون أحد أهم الدبلوماسيين في تاريخ الجمهورية الإسلامية.
تبدأ قصة محمد جواد ظريف بفصل طويل من الصمت. فالرجل الذي وُلد عام 1960 في عائلة متدينة وثرية ومحافظة سياسيا في طهران، عاش طفولته في عزلة ومداراة. كان الأب تاجرًا متدينًا من أوساط البازار، وكانت الأم من الطبقة التقليدية في المدينة.
إعلانفي كتابه "السفير" يقول ظريف مازحا: "أنا ثمرة تقاطع شارعين: أحدهما شارع الجمهورية، والآخر شارع الجامعة"؛ جملة تختصر، لمن يعرف طهران، منذ البداية ذلك التوتر الخلاق الذي عاشه بين التقليد والحداثة.
في مذكراته، يرسم ظريف صورة قاتمة لطفولة معزولة عن العالم وطفل لا رفاق لديه للعب ولا رغبة في المشاركة في حفلات الزواج أو التجمعات الاجتماعية. حتى سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، يقول ظريف إنه لم يكن قد استمع للموسيقى على الإطلاق. "لو شغّل سائق سيارة الأجرة الموسيقى كنا نقول له من فضلك أطفئها"، وفي مذكراته كتب يقول إنه نشأ في منزل بلا تلفزيون ولا راديو ولا صحف.
أما والده، فقد كان رجل أعمال ناجحًا من جيل آخر، إذ كان يكبره بخمسين عامًا. كان الوالد متدينا ومحافظًا للغاية، لكنه -وهو الذي توفي عام 1983- كان معارضًا للثورة وللجمهورية الإسلامية قبل تأسيسها وحتى وفاته. غير أن علاقة ظريف بالسياسة لم تكن عن طريق والده، ولا عن طريق العائلة والأصدقاء، ولا حتى عن طريق الممارسة الفعلية للسياسة.
ففي سبعينيات القرن الماضي، تزامنت سنوات مراهقته مع المد السياسي لجيل الشباب في إيران. لكنه، على خلاف كثير من أقرانه، لم ينخرط في النشاط السياسي في الشوارع، بل انجذب أكثر إلى النقاشات الفكرية والحوار الديني، وتحديدًا إلى كتابات المفكر وعالم الاجتماع الإيراني علي شريعتي، الذي ألهبت تصوراته عن الإسلام هذا الجيل من الإيرانيين.
ومن خلال هذه الكتابات، تعرّف ظريف على الثورة، واعتنق أفكارها من خلال وسيط مثالي يجردها من تجاوزات الثوار، ولذلك كان التزام ظريف بالثورة التزامًا بإطار فكري ناظم، لا استجابة لفورة شباب أو انخراطًا في حالة شعبوية عامة. في مقابلة مع فصلية الدراسات الدولية في طهران عام 2015 قال ظريف إنه أدرك في تلك السنوات أن "القوة لا تعني بالضرورة الهيمنة، بل القدرة على التأثير"؛ عبارة بسيطة لكنها أصبحت لاحقا ركيزة نظرته إلى السياسة الدولية.
في عام 1977، أي في سن السابعة عشرة، غادر ظريف هذه الحياة بفلسفتها وعزلتها إلى الولايات المتحدة. التحق بمدرسة ثانوية تحضيرية في سان فرانسيسكو قبل التسجيل في جامعة سان فرانسيسكو الحكومية، وحصل في النهاية على درجة البكالوريوس والماجستير في العلاقات الدولية.
هناك اطلع ظريف للمرة الأولى على نظريات الفكر الغربي من الواقعية إلى الليبرالية، لكنه كما قال لاحقا: "لم أرَ في أي منها حقيقة مطلقة، بل أدوات لفهم القوة". ثم أكمل بعد ذلك دراساته العليا في جامعة دنفر حيث حصل على درجة ماجستير ثانية والدكتوراه، وكانت أطروحته بعنوان "التفاعل بين الشرعية والنظام في السياسة الدولية".
كان ظريف في كاليفورنيا عندما أُطيح بالشاه وعاد آية الله روح الله الخميني إلى إيران. لكن المسافة لم تمنعه من الانخراط في الثورة الناشئة التي كان يتابع من بعيد تطوراتها عبر وسائل الإعلام. فأصبح ناشطًا في الجمعية الإسلامية لطلاب الولايات المتحدة وكندا، وشارك في النشاطات الفكرية والدعوية المؤيدة للثورة، وتولى دور ممثل المجموعة الطلابية في القنصلية الإيرانية في سان فرانسيسكو. إذ كانت مهمته التي عينها لنفسه هي أن يكون مراقبًا للتأكد من عدم انحراف ممثلي الدبلوماسية الإيرانية عن مسار الثورة الإسلامية.
إعلانبدأت مسيرة ظريف الدبلوماسية "بالصدفة" كما يقول. ففي عام 1982 كانت الجمهورية الإسلامية التي تأسست للتو في حاجة ماسة إلى موظفين لبعثتها لدى الأمم المتحدة في نيويورك.
كانت الثورة قد طهرت الخارجية الإيرانية من دبلوماسيي الشاه، الذين كانوا قد تعلموا في الغرب واحتفظوا للشاه بالدعم الدولي حتى انفجرت البلاد ضده، لكن هذا التطهير ترك فراغًا هائلًا. ولذلك كان ظريف -الذي لم يكن قد تلقى تدريبًا دبلوماسيا مخصوصا- سلعة نادرة وقيّمة بسبب لغته الإنجليزية الممتازة، ومؤهلاته الأكاديمية الغربية، والأهم، بسبب معرفته بالغرب من غير أن يذوب فيه.
تجربة ظريف في الولايات المتحدة مكّنته من الخروج بفهم عميق لآليات القوة وأدوات الهيمنة في الغرب، وإحساسٍ لا يقل عمقًا بالاغتراب الثقافي والروحي، لكنه لم ينبهر قط بذلك الغرب.
وقد لخص ذلك في مقابلة مع قناة الجزيرة عام 2015 بقوله: "تعلمت في أميركا أن الغرب قوي، لكنه ليس عصيا على الهزيمة. فكل حضارة لها نقطة عمياء، ونقطة عمى الغرب هي اعتقاده بتفوقه الأخلاقي".
في المحصلة، يمكن القول إن العقلية السياسية لظريف تشكلت من ثلاثة مصادر رئيسية: الأول، التعليم الأكاديمي الغربي الذي زوده بأدوات التحليل والنقد؛ والثاني، الخبرة الدبلوماسية في الأمم المتحدة التي عرّفته على واقع القوة في العالم؛ والثالث، الجذور الثقافية الإيرانية الإسلامية التي منحت رؤيته بعدا أخلاقيا وإنسانيا.
وربما يكون هنا مفتاح فهم شخصية جواد ظريف التي مكنته من البقاء في قلب الدبلوماسية الإيرانية ثم على رأسها لما يربو على الأربعة عقود. فقد انغمس ظريف في الغرب، لكن ثلاثين عامًا من الحياة في الولايات المتحدة بصورة مستمرة تقريبًا لم تجعله أميركيًّا، بل خبيرًا في أميركا، ودبلوماسيًّا يعرف الغرب جيدًا لكنه يفاوضه من موقع الند المكافئ، ولعل الدليل هو تأكيده مرارًا أن "نمط الحياة الغربي لا يزال غريبًا" عليه حتى بعد مرور كل تلك السنوات.
العدوّ المحترمحين عاد محمد جواد ظريف إلى إيران في نهايات ثمانينيات القرن الماضي، كانت البلاد تعيش مرحلة إعادة بناء سياسية بعد الثورة، ولا تزال سياستها الخارجية تتأرجح بين المثالية الثورية والبراغماتية الواقعية. وسرعان ما التحق بوزارة الخارجية، التي كانت آنذاك منشغلة بظروف الحرب العراقية الإيرانية وسط رؤية أمنية تسيطر على تفكير الساسة.
بدأ ظريف عمله في إدارة الشؤون الدولية بالوزارة، ثم عُيّن عضوا في بعثة إيران الدائمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك، في وقت كانت فيه طهران تحاول إعادة ترميم صورتها في الساحة الدولية بعد الثورة. وفي مذكراته في كتاب السفير، يروي: "في نيويورك أدركت أن السياسة الخارجية لا تتعلق بالقوة فحسب، بل بالسرد أيضا؛ فمَن يروي قصته على نحو أفضل هو من ينتصر في الرأي العام".
كانت فترة ولاية ظريف الطويلة في بعثة إيران لدى الأمم المتحدة في نيويورك، التي بدأت عام 1982 وشهدت ترقيته من مستشار محلي مبتدئ إلى نائب المندوب الدائم، ولاحقًا إلى مستوى سفير، بمثابة تجربة تعليمية نادرة في الإبحار في التيارات الغادرة للدبلوماسية العالمية فيما بعد الثورة.
في تلك السنوات الأولى، كان الوفد الإيراني معزولًا تمامًا. يتذكر ظريف قائلًا: "لم يكن الدبلوماسيون الآخرون مستعدين حتى لشرب الشاي معنا في الصالونات أو الممرات". ومع ذلك، نحت ظريف ببطء مكانة فريدة، ففي عام 1991 شارك في مفاوضات سرية لتأمين إطلاق سراح رهائن أميركيين احتُجزوا في لبنان، وقد نجح في ذلك ليثبت مبكرًا أنه مفاوض واع ومحاور براغماتي.
كذلك ثبّت الإيرانيون، عن طريق الدبلوماسيين مثل ظريف، سردية متعاطفة مع إيران ضد عراق صدام حسين، وهو ما أدى إلى التوصل لاتفاق مجلس الأمن الأممي لإنهاء الحرب العراقية الإيرانية في يوليو/تموز 1987. وبمرور الوقت، اكتسب ظريف سمعة في واشنطن ونيويورك بأنه دبلوماسي جاد، وذكي، وسهل الوصول إليه، على النقيض من الكثيرين داخل المؤسسة الحاكمة في إيران الذين هيمنوا على الخطاب السياسي العام للبلاد.
إعلانفي عام 1989، ومع تغير أجواء السياسة الخارجية وبداية مرحلة "إعادة الإعمار"، تدرج ظريف في المناصب داخل بعثة الأمم المتحدة، حتى أصبح نائب المندوب الدائم لإيران، ثم تولى لاحقا مساعد وزير الخارجية للشؤون القانونية والدولية. وخلال تلك الفترة شارك في إعداد وثائق مهمة، منها "ميثاق حقوق الإنسان الإسلامي" و"تقرير أوضاع حقوق الإنسان في إيران".
لكن الأهم من المناصب كان حضوره المتزايد في الفضاء الدولي العام، حيث انخرط في حوارات مباشرة مع كبار الدبلوماسيين من الشرق والغرب. وقد وصفه أحد الدبلوماسيين الأوروبيين بأنه "الرجل الذي جعل لغة السياسة الإيرانية قابلة للترجمة". وفي مقابلة مع قناة " PBS" الأميركية في تلك المرحلة قال ظريف: "تريد إيران أن تتحاور مع العالم، ولكنها تريد حوارا متكافئا، لا حوارا مشروطا بالتوبة".
كانت تلك السنوات بمثابة مدرسة عملية للدبلوماسية بالنسبة لظريف، تعلم فيها كيف يوازن بين الشعارات الثورية والواقع الدولي. وفي بيئة صنع القرار المعقدة داخل إيران، سعى دوما إلى تقليص الفجوة بين الرؤية الثورية واللغة الدبلوماسية العالمية. وكتب في مقال نشره في المجلة الإيرانية للشؤون الدولية (1998): "إذا أرادت السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية أن تبقى مستقرة، فعليها أن تتجاوز مرحلة رد الفعل إلى مرحلة الفعل؛ أن تمسك هي بزمام المبادرة في التفاعل العالمي".
ومع وصول محمد خاتمي إلى الرئاسة أواخر التسعينيات، أصبح ظريف نائبا للمندوب الدائم في الأمم المتحدة، وأدّى دورا محوريا في مشروع "حوار الحضارات". وقد نشر في تلك الفترة مقالا في مجلة "المراجعة الدولية لجامعة هارفارد" بعنوان "حوار الحضارات: رؤية إيرانية" وصف فيه الدبلوماسية بأنها "فن رؤية الآخر".
لقد صاغت سنوات عمل ظريف في الأمم المتحدة شخصيته ليصبح أكثر من موظف دبلوماسي؛ بل مفكر عملي يجمع بين المرونة والصلابة. فكما وصفه زملاؤه الأجانب، كان "ليّن الخطاب، صلب المواقف"؛ يتحدث بابتسام، لكنه لا يتراجع قيد أنملة ويظل محافظًا بثبات على الخطوط الحمراء لبلاده.
بالفعل، حاز ظريف إعجاب الأميركيين بشكل متكرر، فقد وصفه السفير الأميركي السابق في أوكرانيا، ويليام ميلر، بأنه شديد الاطلاع على الولايات المتحدة وعميق المعرفة ببلاده. وبعد لقاءاته الخاصة والمتعددة بالمسؤولين الأميركيين في واشنطن ونيويورك منذ وقت مبكر، وصفه جو بايدن حين كان عضوًا في مجلس الشيوخ بأنه "شخص عملي، لا عقائدي".
لكن في عالم السياسة والدبلوماسية هذا، جاءت الشهادة الأهم لظريف من كبير مهندسي الواقعية السياسية الأميركية، وأحد أكثر الدبلوماسيين أثرًا في القرن العشرين، هنري كيسنجر. فعند رحيل ظريف من الأمم المتحدة عام 2007، أهداه كيسنجر نسخة موقعة من كتابه "الدبلوماسية" وكتب عليها: "إلى ظريف، عدوّي المحترم".
تلخص هذه العبارة تمامًا الإستراتيجية الدبلوماسية التي صقلها ظريف على مدى عقدين وأقنع بها أعتى خصومه قبل أصدقائه. فلم يتظاهر ظريف بأن إيران والولايات المتحدة صديقتان أو أن صراعاتهما العميقة يمكن أن تزول ببعض الرتوش. لكنه نجح في فصل الثوابت المبدئية عن المتغيرات السياسية، بعد أن سعى إلى التفريق بين الصراع الأيديولوجي المستعصي والمصالح الوطنية القابلة للتفاوض.
قدم ظريف نفسه لا على أنه شريك أو صديق للأميركيين، بل خصم عقلاني يمكن للمرء أن يتعامل معه. وجدت هذه الفلسفة تعبيرها الكامل في عام 2003، عندما كان لظريف دور فعال في تطوير ما يسمى بـ"الصفقة الكبرى"، وهي خريطة طريق شاملة تهدف إلى حل جميع القضايا العالقة بين البلدين، من برنامج إيران النووي إلى دعمها لحزب الله في لبنان، والمليشيات العراقية، وتصنيف الولايات المتحدة لإيران جزءًا من "محور الشر".
في النهاية لم تلفت إدارة بوش للاقتراح الذي نقله السفير السويسري إلى واشنطن، فقد كان الهدف الرئيس بالنسبة للإدارة حينها هو غزو العراق، وهو ما تم بتفاهمات أخرى مع الإيرانيين.
فوفقًا للسفير الأميركي السابق في العراق وأفغانستان، زلماي خليل زاده، التقى الإيرانيون والأميركيون في فترة غزو العراق مرات عديدة في جنيف، وحضر جواد ظريف جل هذه الاجتماعات. لكن الصفقة الكبرى، رغم أنها لم تمض كما أراد ظريف حينها، أرست الأسس لأهم عمل في حياته السياسية والدبلوماسية بعد اثني عشر عامًا، وهو صياغة الاتفاق النووي الإيراني الذي يُعرف رسميًّا باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة".
إعلانلكن فلسفة ظريف واجهت الاختبار الأقسى عام 2005 مع انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسًا لإيران. باعتباره سفيرًا لإيران لدى الأمم المتحدة من 2002 إلى 2007، أصبح ظريف مكلفًا الآن بالدفاع عن الرئيس الذي كثرت هفوات لسانه عند الغربيين (حيث يعتبرونه منكرًا للمحرقة النازية). كان موقفًا صعبًا لدبلوماسي بنى سمعته على كونه صوت العقل في عالم يعجّ بالمجانين.
كان ظريف يسير على خيط يحاول إعادة صياغة تصريحات أحمدي نجاد بلغة دبلوماسية، دون أن ينحرف ولو مرة واحدة عن الخط الرسمي. كان هذا الأداء ذا قيمة هائلة في نظر المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي كان رأيه هو المهم حقًّا. ففي وقت مبكر من عام 1987، خلال زيارة للأمم المتحدة، كان خامنئي -رئيس البلاد حينها- قد بدأت معرفته وثقته المبكرة بظريف الشاب الذي لم يتجاوز السابعة والعشرين حينها. ومن خلال تمثيل مواقف إيران في عهد أحمدي نجاد بأمانة دون تدمير مصداقيته الخاصة في الغرب، أثبت ظريف فائدته القصوى للبلاد.
يمكن القول إن جواد ظريف استفاد من سنوات أحمدي نجاد أكثر من أي وقت آخر، ففي هذا الوقت قُدمت شخصيته باعتباره "الشرطي الصالح" في مقابل الشرطي السيّئ الذي يخشاه الغرب في طهران.
لقد أثبت أنه يمكن الوثوق به في أكثر الملفات حساسية، لأن آراءه الشخصية كانت دائمًا تأتي متأخرًا بعد أدائه واجبه اتجاه الدولة. لقد اجتاز اختبار الولاء النهائي، مما جعله شخصية وحيدة ذات مصداقية يمكن أن يُعهد إليها بالمهمة الضخمة التي تنتظرها، وهي التفاوض لإخراج إيران من العقوبات الدولية الخانقة.
وزير الخارجية يناور في الداخل والخارجحين تولى حسن روحاني رئاسة الجمهورية في صيف عام 2013، سرعان ما تردد اسم محمد جواد ظريف بوصفه المرشح الأبرز لتولي حقيبة الخارجية. كان ذلك الاختيار ذا دلالة عميقة: عودة دبلوماسي أكاديمي متمرس، ملم بالإعلام ومتقن لـ"لغة العالم"، في لحظة كانت إيران ترزح فيها تحت وطأة العقوبات الاقتصادية القاسية. منح البرلمان ظريف ثقة واسعة، ربما لأن الأمل في "التفاعل مع العالم" كان العامل الأهم في ذلك الوقت.
سريعا شكل ظريف فريقا من المفاوضين المحترفين، وجعل من "تغيير لغة الدبلوماسية" أولويته الأساسية. وكان شعاره الشهير "اتفاق سيئ أسوأ من عدم الاتفاق" لا يعكس روح التحدي بقدر ما يجسد واقعية عملية مستمدة من رؤيته لعالم متعدد الأقطاب.
مثّل ظريف جيلا من المسؤولين الذين كانوا، بحسب تعبيره، "لا ثوريين خالصين ولا تكنوقراطا بلا روح"، بل باحثين عن توازن عملي بين المثالية والواقعية. وفي خطبه ومقابلاته العديدة، ومنها حديثه إلى مجلس العلاقات الخارجية الأميركي عام 2019، شدد مرارا على قوله: "لسنا نسعى إلى تغيير النظام الدولي من خارجه، ولا إلى الخضوع له من داخله؛ بل نريد أن نكون جزءا منه، ولكن وفق قواعدنا نحن".
في الجولة الأولى من المفاوضات النووية في جنيف في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، قدّم ظريف للعالم وجها مختلفا للدبلوماسية الإيرانية؛ ابتسام وذكاء يقترنان بحزم قانوني واضح.
أصبحت المفاوضات، التي عُقدت بشكل أساسي في الفنادق الفخمة في فيينا وجنيف ولوزان، مشهدًا عالميًّا، وفي مركزها كانت العلاقة الثنائية الغريبة بين ظريف وجون كيري. أما ظريف، فقد أطلقت عليه وسائل الإعلام الغربية لقب "ابتسامة طهران"، لكن في الداخل عدت تلك الابتسامة دليلا على ليونة مفرطة.
كانت علاقة جون كيري وجواد ظريف هي محرك المحادثات. لقد أمضيا وقتًا معًا أكثر مما أمضياه مع عائلاتهما، كما سيعلق ظريف لاحقًا. لقد تعاملا مع ضغوط محلية هائلة، حيث واجه كلاهما اتهامات بالخيانة في بلديهما. اتخذ ظريف، في خطوة رائدة لمسؤول إيراني، منصة تويتر، مستخدمًا المنصة لإرسال رسائل باللغة الإنجليزية، وتشكيل السردية العامة، وتجاوز وسائل الإعلام المحلية المعادية.
توقيع اتفاق جنيف المبدئي كان فاتحة الطريق نحو الاتفاق النووي في يوليو/تموز 2015. وفي ذلك اليوم التاريخي في فيينا، شكلت صورة ظريف إلى جانب فيديريكا موغيريني رمزا للحظة بدت وكأنها انتصار الحوار على الأزمة. وفي المؤتمر الصحافي بعد التوقيع قال ظريف: "لقد أثبتنا أن الاحترام المتبادل يمكن أن يفضي إلى نتيجة. فليس ثمة انتصار لطرف على آخر، بل انتصار للدبلوماسية على المواجهة".
عندما عاد ظريف إلى طهران في يوليو/تموز 2015، استقبلته حشود مبتهجة، استقبال الأبطال للرجل الذي رفع شبح الحرب وعبء العقوبات. ارتفعت شعبيته، حيث أظهرت بعض استطلاعات الرأي نسب تأييد تزيد على 75 في المائة. وللحظة وجيزة بدا أن جزءًا كبيرًا من القيادة الإيرانية يتبنى مسار ظريف البراغماتي. لكن هذه اللحظة عبرت بشكل سريع.
فبينما احتُفل به في فيينا، تحول في طهران إلى موضع نزاع داخلي. فقد اتهمه منتقدوه بالسذاجة، وسعت مؤسسات القوة منذ البداية إلى تقييد صلاحيات وزارة الخارجية. وفي مقابلة مع صحيفة إيران عام 2016، قال: "كل اتفاق يجب أن يُفهم في إطار بنية صنع القرار في البلاد. أنا منفّذ، لست صاحب قرار"؛ وهي الجملة التي أصبحت لاحقا مفتاحا لفهم موقعه وحدود سلطته.
في السنوات اللاحقة، عاش ظريف بين الإشادة الدولية والهجوم الداخلي. ففي 2016، وبعد بدء تنفيذ الاتفاق، شوهد للمرة الأولى وزير خارجية إيران يسير إلى جانب نظيره الأميركي جون كيري في شوارع جنيف؛ مشهد خلد في ذاكرة الإعلام الإيراني.
لكن بعد ثلاث سنوات، انسحب دونالد ترامب من الاتفاق، وفي يوليو 2019 فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات شخصية على ظريف نفسه. قال مايك بومبيو حينها إنه "يمثل نظاما مخادعا"، فرد ظريف بتدوينة شهيرة: "لا أحد يستطيع أن يفرض عقوبات على لغة الحوار".
كانت تلك لحظة مفصلية في مسيرته: إذ للمرة الأولى يعاقَب دبلوماسي لا على عمل عسكري، بل على سعيه إلى التفاوض. ورأى محللون في ذلك تحولا في سياسة واشنطن؛ من مواجهة النظام الإيراني إلى مواجهة خطاب الانفتاح ذاته.
في الداخل، ومع تصاعد الأزمة الاقتصادية، ازداد الهجوم على الاتفاق النووي، وكشف مقربون من ظريف لاحقا أنه قدم استقالته أكثر من مرة، لكن روحاني رفض قبولها. وفي مقابلة مع شبكة " CBS" عام 2021 قال: "عدنا إلى طاولة المفاوضات لأن الحرب لم تكن خيارا، لكننا، داخل بيتنا، كنا تحت القصف منذ اليوم الأول".
رغم كل ذلك، ظل ظريف حتى آخر أيامه في المنصب يحاول الحفاظ على صورة إيران في العالم. ففي جلسة مجلس الأمن عام 2020، خاطب الأعضاء قائلا بنبرة غير مسبوقة: "لسنا ملائكة، وأنتم لستم منقذين، لكننا جميعا مسؤولون". اعتبرت هذه العبارة لاحقا خلاصة فكر ظريف في الدبلوماسية: محاولة لجعل المسؤولية المشتركة بديلا عن الهيمنة، في العالم الذي أنهكته الصراعات وموازين القوى.
إخفاق يظهر على إنستغرامحتى بينما كان ظريف يُحتفى به كبطل قومي، كانت أسس إنجازه تُقوَّض من الداخل. فلم يكن الصراع المركزي في فترة تولّيه وزارة الخارجية -التي دامت ثماني سنوات- مع الولايات المتحدة، ولكن مع مركز موازٍ وأكثر قوة لاتخاذ قرارات السياسة الخارجية في إيران: الحرس الثوري الإسلامي. تم كشف هذه الحرب الداخلية في تسريب لشريط صوتي مدته ثلاث ساعات، وهو جزء من مشروع تاريخ شفهي لإدارة روحاني.
ففي أواخر أبريل/نيسان 2021 خرج إلى العلن شريطٌ مدته ثلاث ساعات مقتطعة من مقابلة مدتها سبع ساعات، أجراها الاقتصادي والصحفي سعيد ليلاز مع محمد جواد ظريف ضمن مشروع لتوثيق تجربة حكومة حسن روحاني.
لم يكن الشريط برنامجًا إذاعيًّا بقدر ما كان حديث ما وراء الستار، يتكلم فيه وزير خارجية بحياد المؤرّخ عن سنواتٍ من الاحتكاك بين لغة المكاتب ولغة الميدان، أو بين خطاب الدبلوماسية التي تُفاوض وخطاب القوة التي تُقاتل. لم يُنكر ظريف صحة التسجيل غير أنه شكّك في دوافع تسريبه. قال في حديثه عبارة أصبحت مثلًا "في الجمهورية الإسلامية، يحكم الميدان، والدبلوماسية تُسوّغ"، وهي صياغةٌ مكثّفة لصراعٍ بنيويّ.
في التسجيل، ذكر ظريف مرارًا وتكرارًا أن "الدبلوماسية" قد "تمت التضحية بها" من أجل "الميدان"، وهو تعبير ملطف لوصف العمليات الخارجية للحرس الثوري بقيادة الجنرال القوي قاسم سليماني.
لم تكن الخلافات بين الحرس الثوري ووزارة الخارجية تحت ظريف مجرد حرب نفوذ بيروقراطية؛ بل كانت صراعًا بين نظريتين مختلفتين تمامًا ومتعارضتين للسلطة. ربما رأى ظريف أن أمن إيران وازدهارها يكمنان في خفض التصعيد، والتكامل الدولي، وعلى النقيض اعتقد قادة الحرس الثوري أن أمن إيران يعتمد على الهيمنة العسكرية وتوسيع شبكة الحلفاء والوكلاء.
كانت المظالم التي بثها ظريف على الشريط محددة ودامغة. اشتكى من أن سليماني كان يستخدم الخطوط الجوية الإيرانية، شركة الطيران المدنية الوطنية، لعمليات الحرس الثوري في سوريا، مما يعرضها للعقوبات ويقوض الانفتاحات الاقتصادية ذاتها التي سعى لكسبها في الاتفاق النووي.
وكشف أيضًا أن روسيا، التي كانت ظاهريًّا حليفة في المحادثات النووية، عملت بنشاط لتخريب الاتفاق في الأسابيع الأخيرة، خوفًا من أن التقارب بين الولايات المتحدة وإيران سيقلل من نفوذ موسكو. والأكثر إثارة للصدمة، أنه اعترف بأنه كان يُبقَى في الظلام تمامًا بشأن مسائل الأمن القومي الحرجة.
قال ظريف في التسريب إنه علم لأول مرة بأن إسرائيل شنت أكثر من 200 غارة جوية على أهداف إيرانية في سوريا، وأن علمه بذلك لم يكن من أجهزة مخابراته، بل من جون كيري، الذي نفى الأمر بشدة لاحقا.
تحول التسريب خلال ساعات إلى عنوان رئيس في الصحافة العالمية. وكتبت نيويورك تايمز أن تلك التصريحات "كشفت خريطة تناقضات القوة داخل إيران". أما في الداخل، فقد اتهمه المحافظون بـ"الاعتراف السياسي المضر"، ورأى مقربون من الحكومة أن التسريب جرى عشية الانتخابات الرئاسية بهدف ضرب التيار المعتدل.
الردّ كان سريعًا. فقد أمرَ الرئيس روحاني بتحقيق لمعرفة من سرّب المقابلة المسروقة، وتحوّل التسريب إلى أزمة مؤسسية انتهت باستقالة حسام الدين آشنا، رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية المشرف على مشروع التاريخ الشفهي.
في المقابل، جاء التعليق الأهم من أعلى الهرم حين انتقد المرشد الأعلى علي خامنئي وزير الخارجية بسبب ما تضمّنه الشريط. عند هذه النقطة اعتذر ظريف علنًا وأكد أنه تحدّث في سياق توثيقي لا للنشر، ثم تمدّد التحقيق ليشمل جهات أمنية.
ومع ذلك، في نظر الرأي العام، أظهر التسجيل وجها أكثر إنسانية لظريف؛ دبلوماسيا متعبا من صراع النفوذ، لكنه لا يزال يتحدث بلغة الاحترام. وبعد أيام كتب على إنستغرام: "ليت صراحتي لم تُفسَّر خيانة. ما قلته كان بدافع الغيرة على الوطن، لا التذمر".
قبل ذلك بثلاث سنوات، في مارس 2019، وقعت أزمة أخرى أكثر إيلاما على المستوى الشخصي. فقد وصل بشار الأسد، الرئيس السوري آنذاك، في زيارة مفاجئة إلى طهران، حيث التقى المرشد الأعلى والرئيس روحاني، بينما لم يبلغ وزير الخارجية بالأمر. غيابه عن الصور الرسمية كان رمزيا إلى حد الصدمة، فكتب بعد ساعات على إنستغرام: "ما دمت لم أعد جزءا من عملية صنع القرار، أتقدم بخالص الاعتذار للشعب الإيراني العظيم".
هكذا قدم استقالته المفاجئة، فاشتعلت وسائل الإعلام. عنونت بي بي سي فارسي: "ظريف يرحل.. الدبلوماسية تفقد صوتها".
وفي أقل من 24 ساعة، وجّه أكثر من مئة نائب وعشرات الدبلوماسيين السابقين نداء لعودته. رفض روحاني الاستقالة قائلا: "وجودك ضرورة للوطن". عاد ظريف إلى منصبه في اليوم التالي، لكنه اعترف لاحقا بأن تلك الحادثة تركت "جرحا عميقا في روح الدبلوماسية".
وفي حوار لاحق مع موقع "إيران ديبلوماسي" قال إن "السياسة الخارجية في إيران يجب أن تقوم على التنسيق بين المؤسسات المختلفة. وعندما يغيب هذا التنسيق، يصبح الدبلوماسي مجرد متفرج".
رأى بعض المراقبين في هذه الأزمات دليلا على ضعف ظريف أمام بنية السلطة، لكن آخرين اعتبروها جزءا من إرثه السياسي الأكثر أهمية. إذ بحديثه العلني عن حدود صلاحياته، فتح الباب لأول مرة أمام نقاش عام حول دور وزارة الخارجية في نظام معقد الطبقات. حتى خصومه اضطروا إلى الإقرار بأن عبارته الشهيرة "الميدان يتقدم على الدبلوماسية" أصبحت مفتاحا لفهم السياسة الإقليمية الإيرانية.
بهذين الحدثين، دخلت مرحلة ظريف الوزارية طورها المرهق الأخير. كان الدبلوماسي يتفاوض مع العالم بمهارة، لكنه اضطر في وطنه إلى أن يفاوض ليحافظ على مكانه.
كبش الفداء.. الموت للكاذب!كان انهيار رأس المال السياسي لظريف سريعًا. جاءت الضربة الأولى من واشنطن مع انتخاب دونالد ترامب، الذي بنى حملته على تمزيق "أسوأ صفقة تم التفاوض عليها على الإطلاق". عندما انسحبت الولايات المتحدة من جانب واحد من الاتفاقية عام 2018 وأعادت فرض عقوبات خانقة، ولم تتحقق الفوائد الاقتصادية التي وعد بها ظريف الشعب الإيراني، انهارت العملة الإيرانية، وارتفع التضخم، وتصاعد الإحباط العام.
أصبح ظريف كبش الفداء الوطني. أصبح الآن هدفًا لكل فصيل سياسي، يُلام على فشل لم يكن بالكامل من صنعه. الذين عارضوا الصفقة دائمًا، استغلوا انهيارها باعتباره دليلا على اعتقادهم الراسخ بأنه لا يمكن الوثوق بأميركا. انتقد هؤلاء ظريف ووصفوه بأنه ساذج في أحسن الأحوال، وخائن في أسوئها. في جلسة درامية في يوليو/تموز 2020، قاطعه أعضاء في البرلمان، وهم يهتفون: "كاذب"، "الموت للكاذب".
أما القطاعات المعتدلة التي كانت دومًا من حلفائه، فأصيبت بخيبة أمل أيضا. فمع تحطم الإنجاز المميز، تبخرت مصداقيتهم السياسية. كتبت صحيفة "آفتاب يزد"، وهي صحيفة إصلاحية كبرى، أن "مصداقية ظريف بعيدة كل البعد عما كانت عليه في عام 2015 لأن معظم السياسات التي اتبعها قد فشلت وخطة العمل الشاملة المشتركة شبه ميتة". بل إن الرجل تحول من مرشح رئاسي محتمل إلى عبء سياسي. وكما غرد أحد الصحفيين البارزين، "قد يكون ظريف مفاوضًا قويًّا، لكنه وزير ضعيف، ناهيك عن كونه رئيسًا [محتملًا]".
كان مصير ظريف السياسي مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمصير الاتفاق النووي. لقد كان الوجه العام للصفقة، ولذا فقد تحمل فشلها. كان محاصرًا في موقف شديد الصعوبة، فلا هو قادر على الوفاء بوعوده بسبب سياسات ترامب وتجذر موقف الحرس الثوري، ولا هو قادر على الهروب من المسؤولية أو التراجع عن تلك الوعود. لعل الدرس الأهم من ذلك هو أنه لا يمكن الاعتماد على السياسة البراغماتية في ظل نظام ثوري.
سياسيًّا، جاء الصيفُ وانتخابات 2021 التي انتهت بفوز إبراهيم رئيسي، وتسلَّم حسين أمير عبد اللهيان حقيبة الخارجية. خرج ظريف من الوزارة في أغسطس/آب 2021 بلا ضجيج، وعاد إلى الحقل الأكاديمي والمحاضرات، لكن التسريب بقي يلاحقه في الداخل. فأنصار "الميدان" يلوّحون به لتجريم نهج التفاوض، وأنصار "الدبلوماسية" يتّخذونه شاهدًا على القيود البنيوية للتغيير في إيران. وفي الخارج، صار تسجيل ظريف مرجعًا سريعًا للباحثين لفهم حدود السلطة المدنية في صناعة السياسة الخارجية الإيرانية.
في تلك الأثناء، انطلقت محاولة إحياء الاتفاق النووي في فيينا في أواخر 2021 وأوائل 2022 بلا ثمرةٍ نهائية. كلما كان هناك تقدّمٌ تقني تبعه انسدادٌ سياسي، ثم تحولات إقليمية ودولية تجعل العودة إلى صيغة 2015 أكثر صعوبة. ثم جاء خريف 2022 بما حمله من احتجاجاتٍ عريضة أربكت المجال العام، وانكمش هامش المناورة السياسية، وتعقّدت بيئة أي انفتاح خارجي. لم يكن ظريف في موقعٍ رسميٍّ ليُعلِّق بوصفه ممثّلا للدولة، فحافظ على حضور أكاديمي وإعلامي متقطّع. لكن الأكيد أن ميزان القوة داخل النظام مال أكثر نحو سردية الأمن، وهو ما انعكس تلقائيًّا على مسار النووي والعلاقة بالغرب.
جاءت حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة لتقلب المشهد العالمي رأسًا على عقب، ثم عام 2024 الذي قلب المشهد الإيراني الداخلي رأسًا على عقب أيضًا. حيث قضى الرئيس ووزير خارجيته في حادث تحطّم مروحية غامض، وهو ما فرض انتخاباتٍ رئاسية مبكرة، وأعاد ترتيب البيت السياسي بسرعة.
في هذه اللحظة كسر ظريف صمته وعاد إلى الشاشة، ولكن ليس وزيرًا أو مفاوضًا، بل مؤيدًا لحملةٍ انتخابية ومستشارًا ووجهًا دبلوماسيًّا لمرشح التيار الإصلاحي الطبيب مسعود بزشكيان. خاطب الجمهور بلغة التجربة والخيبة؛ ودافع عن فكرة العودة إلى التفاوض من موقع الكرامة، وهاجم القرار الأميركي بالانسحاب من الاتفاق باعتباره أصلَ الاختناق الاقتصادي.
فاز بزشكيان في يوليو/تموز 2024، وتوالت الإشارات إلى عودة ظريف إلى الساحة العامة من جديد. وفي بداية أغسطس/آب، صدر مرسومٌ بتعيين ظريف نائبًا للشؤون الإستراتيجية ورئيسًا لمركز الدراسات الإستراتيجية في رئاسة الجمهورية، وهو الموقع نفسه الذي سقط فيه مشروع التاريخ الشفهي قبل ثلاث سنوات. كانت لحظةً مشحونة بالرمزية.
كتب حينها ظريف في تدوينة قصيرة على حسابه في إكس: "استجابة لدعوة رئيس الجمهورية بزشكيان، أعود للمساعدة في إحياء الحوار في السياسة الخارجية للبلاد. مهمة مؤقتة، لكنها بنية دائمة".
لاقى دخول ظريف للحكومة الجديدة ترحيبا واسعا من وسائل الإعلام الأجنبية. فقد كانت عودته إلى الساحة تذكر بروح الاتفاق النووي؛ لكن ليس في فيينا، بل في طهران. ومع ذلك، ظهرت منذ البداية علامات على تكرار القيود القديمة، حيث اعترضت بعض المؤسسات المؤثرة على حضوره، ووصفت وسائل الإعلام الأكثر تشددًا عودته بأنها "إحياء السياسة الفاشلة للابتسامة".
في الشهر الأول من نشاطه، أجرى ظريف عدة لقاءات غير رسمية مع سفراء أوروبيين وآسيويين وحاول إعادة إحياء مسار الحوارات الإقليمية حول اليمن وأفغانستان. لكن عمر مهمته كان قصيرا؛ ففي مارس/آذار 2025، قدم خطاب استقالته للرئيس. وفي جزء من تلك الرسالة، التي نشرتها لاحقا وكالة إيرنا الإيرانية، كتب: "مع تقديري لثقتكم، أشعر أن وجودي في الظروف الحالية، أكثر ما يكون سببا لسوء الفهم. دعوني أعمل خارج الحكومة في خدمة المصلحة الوطنية".
رأى المحللون أن استقالته ناتجة عن عاملين، اختلاف الرؤية مع بعض الأجهزة الأمنية حول كيفية إعادة العلاقات الإقليمية؛ وسوء ظن بعض التيارات السياسية بعودته إلى صميم صناعة القرار. ومع ذلك، يقول مقربون منه إن الدافع الأهم كان شخصيا. فقد صرح أحد المقربين لصحيفة شرق الإيرانية بأن جواد ظريف لم يعد يرغب في تكرار التجربة السابقة. كانت عودته اختبارا لمعرفة ما إذا كان فضاء الحوار الداخلي قد تغير أم لا؛ وسرعان ما حصل على إجابة هذا السؤال في الشهر الأول.
بعد الاستقالة، عاد ظريف مرة أخرى إلى الجامعة والمجال الفكري. ففي لقاء بمركز الدراسات الإستراتيجية للشرق الأوسط قال: "لم أمل من الحوار أبدا، لكن الحوار يكون ذا معنى فقط إذا كانت الآذان منفتحة للاستماع".
بهذا الشكل، شكلت العودة القصيرة لظريف إلى حكومة بزشكيان الفصل الرسمي، الأخير ربما، في مسيرته بالسياسة التنفيذية الإيرانية؛ فصل لم ينتهِ بالهزيمة، بل بتقبل القيود الهيكلية. ومن منظور العديد من المراقبين، لم تكن هذه الاستقالة الثانية علامة على التعب، بل تأكيدا على المبدأ الذي لطالما شكل جوهر حياته السياسية، وهو أن الدبلوماسية، دون سلطة حقيقية، تتحول إلى حوار بلا هدف أو مونولوج من جهة واحدة.
من بين دبلوماسيي جيل ما بعد الثورة، ربما كان محمد جواد ظريف الوحيد الذي سعى إلى وضع إطار نظري للسياسة الخارجية الإيرانية. في نظره، الدبلوماسية ليست مجرد أداة لتحقيق أهداف سياسية، بل انعكاس لكيفية فهم القوة والأخلاق في العالم المعاصر.
في سلسلة محاضراته بجامعة طهران (2019) قال: "القوة، إذا لم تصاحب بالشرعية، لا تدوم؛ تماما كما أن الشرعية بدون قوة بلا تأثير".
تختصر هذه العبارة رؤيته للعالم: محاولة لإيجاد نقطة توازن بين الواقعية والأخلاق. وفي نظريته التي أطلق عليها لاحقا اسم "التعددية النشطة"، اعتقد أن أي قوة بمفردها لا تستطيع ضمان أمنها في النظام العالمي الجديد. فالعالم لم يعد أحادي أو ثنائي القطب، بل أصبح شبكة مترابطة، والنجاح يكون للدول التي تستطيع بناء "عقد الحوار" داخل هذه الشبكة.
كتب في مقال نشرته مجلة المراجعة الإيرانية للشؤون الخارجية (2017): "التعددية النشطة تعني استخدام الآليات العالمية ليس للامتثال، بل للمشاركة في وضع قواعد اللعبة".
وبحسب رؤيته، يجب أن تتحول السياسة الخارجية لإيران من الدبلوماسية التفاعلية إلى الدبلوماسية التصميمية؛ أي أن تكون فاعلة ومحددة لإطار الحوار بدلا من الاكتفاء بالرد على الأزمات.
في مقابلاته مع وسائل إعلام دولية، رفع ظريف مفهوم الحوار إلى مستوى أعمق من مجرد تقنية تفاوض. فالحوار، بحسبه، يعني قبول الآخر وليس مجرد الاستماع إليه. وقال في إحدى محاضراته: "يجب أن نتعلم أن نبني الأمن من خلال الاحترام المتبادل، لا من خلال الإقصاء المتبادل".
هذه الرؤية، خلافا للتفسيرات الشائعة في السياسة العالمية، مستندة إلى تراث فكري إيراني إسلامي يجمع بين الحكمة والمصلحة. وفي كتابه المرحلة الانتقالية في الدبلوماسية الإيرانية، أوضح أن السياسة الخارجية يجب أن تعيد تعريف الثلاثية: العزة، والحكمة، والمصلحة في سياق عالم متحول. وأضاف: "يجب أن تتجاوز دبلوماسيتنا التوتر بين العزة والمصلحة؛ فالعزة في الحوار، لا في الانعزال".
يرى ظريف أن إيران ينبغي أن تكون فاعلا مؤثرا لكنه غير سلطوي في النظام العالمي الجاري، وقد شدد في كلمته أمام مجلس الأمن (2020) على هذه الفكرة بقوله: "العالم القادم ليس شرقيا ولا غربيا؛ بل عالم التعاون المتقاطع، ومن يتجاهل الحوار سيستبعد".
يرى المحللون أن هذه الرؤية تمزج بين الواقعية الأخلاقية والبراغماتية الثقافية؛ محاولة للحفاظ على الاستقلال الفكري مع الانخراط البناء في نظام القوة العالمي. وحتى بعد مغادرته الوزارة، أكد ظريف في محاضراته بالجامعات ومراكز الفكر، مثل مؤتمر منتدى الدوحة (2022) على هذا المبدأ: "القوة المستدامة هي التي لا تدمر الآخر، بل تدفعه إلى الحوار".
على المستوى الداخلي، ألهمت فلسفته السياسية جيلا جديدا من الدبلوماسيين الذين يرون السياسة الخارجية ساحة للحوار الحضاري وليس مجرد صراع حزبي.
بعيدًا عن طاولة المفاوضات، قد يكون إرث ظريف الأكثر ديمومة هو دوره في ريادة الدبلوماسية العامة للجمهورية الإسلامية. فقد كان من أوائل كبار المسؤولين الإيرانيين الذين تبنوا وسائل التواصل الاجتماعي، مستخدمًا حسابه على تويتر للتواصل مباشرة بالإنجليزية والعربية والفارسية مع جمهور عالمي من الصحفيين وصانعي السياسات والمواطنين.
كان وجوده في كل مكان في وسائل الإعلام الغربية، حيث أجرى مقابلات لا حصر لها مع منافذ إعلامية من " CNN" إلى النيويوركر، وكان دائمًا مستعدًّا بابتسامة محيّرة، ومثَل مأثور يقول إن "الأمر يتطلب شخصين لرقص التانغو"، ودفاع مقنع ومبني على أسس قانونية عن موقف إيران.
كان أسلوب ظريف بمثابة درس إستراتيجي متقن في حرب المعلومات غير المتكافئة. فقد أدرك أن الجمهورية الإسلامية لديها مشكلة كارثية في صورتها، وكانت شخصيته التي تعرف الغرب وتعرف كيف تخاطبه هي العلاج لذلك. من خلال الانخراط مباشرة مع الصحفيين الغربيين على أرضهم ومنصاتهم، تجاوز حراس البوابة الحكوميين التقليديين وقدم منظورًا عقلانيًّا لدولة تستمر البروباغندا الغربية في تصويرها على أنها جحيم للنساء وغير المتدينين وكل المختلفين.
خلق هذا تنافرًا معرفيًّا قويًّا للجماهير الغربية، فكيف يمكن للرجل المفكر الذي يتحدث ببلاغة على شاشات التلفزيون أن يكون ممثلًا لنظام يهتف ممثلوه ومناصروه "الموت لأميركا"؟ كان هذا التنافر هو الهدف تحديدًا. لقد زرع الشك، وعقّد عملية صنع السياسات لخصوم إيران، ووفر غطاءً سياسيًّا حاسمًا للحكومات الأوروبية الحريصة على الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع طهران، وقدم صورة عن التعقيد الداخلي في إيران التي تسعى "قوى الاستكبار" إلى تسطيحها لتبرير شيطنتها ومن ثم الترويج للعنف ضدها.
في الذاكرة العامة للإيرانيين، لا ينظر إلى ظريف على أنه مجرد سياسي. فلطف لغته، وإتقانه للمفردات الأدبية الفارسية، وسلوكه الرصين، كلّ ذلك جعله نموذجا لـ"الدبلوماسية الثقافية". وفي مقابلة مع مجلة ذا نيويوركر عام 2015 حول الاتفاق النووي، قال: "لم أكن أتفاوض فقط؛ كنت أحاول أن أظهر صورة من إيران لم يرها الغرب من قبل".
حتى في أسوأ الأزمات، لم يتخلّ عن هذه الرؤية الثقافية. فعندما وضع ضمن قائمة العقوبات الأميركية، كتب على إكس: "عقوبة وزير الخارجية تعني فرض عقوبات على الحوار؛ وعندما يعاقب الحوار، لا يبقى إلا الصمت".
من هذا المنظور، يعتبر كثير من باحثي العلاقات الدولية أن جواد ظريف امتداد لتقليد فكري يمتد من علي شريعتي ومحمد خاتمي إلى فكرة "حوار الحضارات". كان يرى الدبلوماسية أداة ثقافية لإعادة بناء الصورة الوطنية، لا مجرد آلية للتفاوض السياسي.
في الوقت نفسه، لم يأت النقد لظريف من التيارات المتشددة فقط. بل اتهمه بعض المقربين منه بأنه اعتمد على الثقة المتبادلة أكثر من اللازم في الاتفاق النووي. حيث بدا وكأن ظريف أراد أن يجعل النظام الدولي أكثر أخلاقية، لكن السياسة العالمية لها قواعد أخرى.
مع ذلك، اعترف منتقدوه بأنه، على خلاف كثير من السياسيين الإيرانيين، تحمل المسؤولية الشخصية لقراراته ولم يُلق اللوم على الآخرين. بعد تركه الوزارة، استخدم بعض المحللين الإيرانيين مصطلح "الظريفية" لوصف مدرسة فكرية في السياسة الخارجية الإيرانية تجمع بين الواقعية وأدب الحوار. واعتبرها خصومه "سذاجة"، في حين وصفها أنصاره بأنها "الطريق الوحيد للخروج من العزلة".
في تاريخ السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، قليلون هم من تمكنوا من الحصول على مثل هذا المكان في الذاكرة العامة. إلى جانب أمير كبير ومصدق، يسجل اسم ظريف في الذاكرة الجمعية بوصفه دبلوماسيًّا تحدث "بلغة العالم". وفي ندوة بجامعة طهران عام 2024، قال أحد أساتذة العلاقات الدولية: "إذا كان مصدق رمز المقاومة، فظريف رمز الحوار. كلاهما فشل، لكن كلاهما ترك إرثا من الكرامة".
بعد استقالته من حكومة بزشكيان، أعلن ظريف مرارا أنه لا يعتزم العودة إلى السياسة التنفيذية. ومع ذلك، يظل حاضرا في المؤتمرات واللقاءات الدولية ويتحدث عن ضرورة إعادة بناء الدبلوماسية الأخلاقية. وكتب في مقال نشرته فورين أفيرز (2024): "القرن الحادي والعشرون هو قرن العودة إلى الحوار؛ حتى الأعداء مضطرون للجلوس على الطاولة، لأن تكنولوجيا الحرب أزالت إمكانية الانتصار".
عند وصوله إلى طهران واستقباله استقبال الأبطال عام 2015، قام ظريف بتحديث حالته على فيسبوك بتأمل أخير وكاشف. كتب: "فن الدبلوماسي هو إخفاء كل الاضطرابات خلف ابتسامته". وفي الحقيقة قلة من الدبلوماسيين في التاريخ الحديث كان لديهم هذا القدر من الاضطرابات لإخفائه، وقلة منهم تمكنوا من إدارته بمثل هذه الابتسامة المستمرة المحيّرة، التي تبدو حزينة في نهاية المطاف.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات أبعاد الجمهوریة الإسلامیة الخارجیة الإیرانیة لدى الأمم المتحدة الولایات المتحدة السیاسة الخارجیة الاتفاق النووی وزارة الخارجیة وسائل الإعلام وفی مقابلة مع فی یولیو تموز الحرس الثوری فی مقابلة مع تلک السنوات العودة إلى بعد الثورة فی السیاسة أحمدی نجاد فی نیویورک فی الداخل فی العالم ظریف على فی إیران فی طهران فی الغرب جون کیری قال ظریف التی کان فی فیینا ظریف إلى کان ظریف سیاسی ا ومع ذلک سعى إلى ظریف فی من خلال جزءا من ظریف من عن طریق أکثر من فقد کان لم یکن تمام ا ا ظریف لم تکن فی تلک ظریف ا فی عام مع ذلک وزیر ا یجب أن رئیس ا التی ت م ظریف فی ذلک ل ظریف وهو ما عام 2015 لا على ظریف ی ما کان
إقرأ أيضاً: