"حين لا أكتب، يجتاحني شعورٌ بفقد شيءٍ ما. إذا طالت بي الحال، تزداد الأمور سوءًا، وأصاب باكتئاب. حينها، يكفُّ أمرٌ مصيريٌّ عن الحدوث، عطبٌ بطيء يشرع في التكوّن. كما لو أنني أهبط من تلّة، بفعل الجاذبية وحدها، لبعض الوقت، لكن بعد ذلك، تصاب أطرافي بالخدر. أمرٌ سيء يحدث، أعرفه.
وكلما طال انتظاري، صَعُب علي البدء بالكتابة مجدّدًا.
حين أكتب المسودّة الأولى، بشكلٍ خاص، أشعر بأنني تُقلت خارج ذاتي، هذه الحالة التي أسعى إلى تحقيقها دائمًا. حين أقوم بكتابة نصٍ أدبي، أنسى من أكون ومن أين جئت. أتسلّل إلى وضع انهمار مطلق. أهوى شعور ارتباطي بالعالم الآخر، حيث أتنصّل برفق من صِلاتي بهذا العالم" جينيفر إيغان بتصرف.
تزداد كل يوم مخاوفنا والتحديات التي نواجهها في الحياة، فمن التكنولوجيا التي تسرق الأعمال، وتسلب الناس تركيزهم وعقولهم وتغيّر بنية الدماغ وتسبب مشاكل مفصلية وحقيقية مثل "اللدونة العصبية" كما في دراسة مارتن كورت المنشورة عام 2020، أو الدراسة الأهم والأخطر التي نشرها جون س.هوتون بعد عامين من الدراسة الأولى، والتي تشير إلى تقلُّص "المادة البيضاء" والمعوقات التي توقف تطورها وتنوعها بفعل الجلوس لوقت طويل أمام الشاشات.
والمادة البيضاء باختصار هي شبكة معقدة وضخمة من الألياف العصبية، مغطاة بطبقة دهنية من المايلين، تنقل الإشارات العصبية بسرعة هائلة بين مناطق الدماغ، فهي تربط مراكز الدماغ ببعضها البعض، لذلك فإن نقصها أو تطورها يتناسب طرديا مع المهارات والقدرات المرتبطة بالانتباه، التعلم، الذاكرة، اللغة والقراءة وغيرها من الوظائف الأساسية للقدرات الذهنية.
هذا التغير الهائل في حياة البشرية في ما يناهز القرن، أحدث هزة عنيفة لا في طريقة التفكير فحسب، بل في بنى التفكير والوعي كله. هذه الهزة التي أدت -كما كل شيء جديد- إلى تنافر معرفي بين الأفكار والمعتقدات القديمة والراسخة، وبين الجديد الذي تثبته العلوم والدراسات، والمشاهدة البصرية كذلك.
بعبارة أكثر وضوحا، فنحن أمام مفترق حقيقي بين ما يحدث فعلا في حياتنا ويكون فاعلا فيها بدءًا من التفكير وعملياته، إلى الأفعال الناتجة عن ذلك التفكير وتلك المعتقدات. وتتنازعنا رغبتان، الرغبة القديمة في معايشة الحياة ببساطتها وبأفكارها القديمة المترسبة على مدى الأجيال، وبين التعقيدات اليومية الطارئة بفضل التقدم العلمي المتسارع الذي يسبب الهلع لمن لا يرسم لنفسه الطريقة.
واحدة من تلك التغيرات الجوهرية في حياة البشر، هي صحتهم والأمراض التي يعانون منها أو تلك التي يخشونها ويواجهونها بالوقاية قبل وصولها. ومن الملاحظ بكثرة وكما تؤكده الدراسات العلمية الكثيرة، فإن إنسان اليوم أكثر عرضة للأمراض العصبية والنفسية كنتيجة مباشرة لطريقة العيش الحالية.
لأجل ذلك، لم تعد مسألة المرض النفسي مرتبطة بالتدين أو المس والجنون، بل هي أمراض تتصل اتصالا مباشرا بوظائف عصبية في دماغ الإنسان وبنيته التي تتغير إما بالتحسين والتطوير وتفعيل المناطق الخاملة، أو باضطرابات لامحدودة وغير متوقعة، يصفها الناس عادة بـ"الجنون".
حسنا، ما علاقة هذا بالكتابة وقولة جينيفر إيغان في بداية المقالة؟. إن الأمر الذي تمنحنا إياه الكتابة -باعتبارها ممارسة ذهنية- ليس مقتصرا على الحالة الإبداعية التي نستلهمها منها فحسب، بل يتعداه إلى التفعيل المباشر والصحي لوظائف الدماغ التي تتعرض للكبح والتلف بفعل الأنشطة الضارة التي نقوم بها في حياة اليوم دون انتباه أو يقظة، بل بشكل آلي تماما.
لذلك فإن قولة إيغان بما تتضمنه من مشاعر وتفكيك لتلك المشاعر، تنقل فعل الكتابة من وجوده الفلسفي المحض، إلى الدائرة النفسية الذاتية. فيغدو فعلا وجوديا حيويا، ينقل ممارسها من الحالة الإبداعية التي تشبه النشوة، إلى أداة للتفكير والتنظيم الذاتي، وبعبارة مكثّفة فإن فعل الكتابة يمنح صاحبه توازنا نفسيا حقيقيا لأنه ينتقل من الأفكار المجردة والمشاعر المتمازجة، إلى الفعل الذي يسكب كل ما بداخل المرء على الورق، فيغدو تحليله أوضح ومعالجته أسهل وأيسر؛ ولذلك فإن الكتابة تتحول من كونها فعلا إبداعيا وامتيازا ثقافيا، إلى علاج حقيقي يمكن أن يغير مُمارِسهُ تغييرا جذريا بتبصيره بمواطن القوة ومكامن الضعف لديه.
لعلها من سخرية القدر أن تكون علاجاتنا النفسية العصبية ليست مقتصرة على التطورات العلمية الحديثة فحسب، بل تغدو العودة إلى الماضي حاجة ملحة لتغيير الحاضر وتطويره والدفع به إلى الأمام. إنني أتذكر ذلك البيت الذي ورد بعدة صيغ، يزيد بعضها وينقص وفقا للمصدر الذي أورده، لا كما يريده الشاعر؛ بل للدلالة على أننا ينبغي أن نتحول من التنظير ومناقشة الفكرة إلى تجريبها ورصد ما تسفر عنه فعليا. والبيت هو
كلّ من يدّعي ما ليس فيه كذّبته شواهد الامتحان
فقد نذهل من شواهد الامتحان وما تمنحنا إياه بعدما ظننا أنها لن تجدي، دون أن نجربها. إن الحاجة النفسية إلى الكتابة وتشريح الأسباب والدوافع التي تختلج فينا، لا ينتفع بها إلا من يجربها. خصوصا المرض الذي ينتشر بسرعة هائلة ويتوسع في عالم اليوم لأسباب كثيرة، وهو مرض الاكتئاب.
لذلك عدت إلى كتاب رائع جميل، وهو كتاب لويس ولبرت "الحزن الخبيث..تشريح الاكتئاب" الذي يقول فيه "هناك جانب آخر لا بد أن ننظر إليه في علاج مرض الاكتئاب وهو أن عددًا كبيرًا من المرضى -قد يصل إلى 80٪- يشفى من الاكتئاب من تلقاء ذاته، دون الاستعانة بأي علاج، وقد يستغرق ذلك عامًا أو أكثر، لكنه شفاء حقيقي، أما تأثير العلاج الوهمي فهو أمر لا شك فيه، إذ إن مجرد إيمان المريض بفاعلية الدواء الذي يتعاطاه قد يعجل بشفائه، وإن كان ذلك الدواء وهميًا ولا يحتوي على أي مواد فعالة، كما يشفى بعض المرضى من مجرد زيارة الطبيب النفسي والتحدث معه، وتصل نسبة استجابة المرضى في هذه الحالة إلى 30٪ أو 40٪ أحيانًا، وقد تختلط كل هذه العوامل مع بعضها، فيصعب تفريق أثر كل منها على حدة، مما يؤثر بالطبع في نتائج التجربة السريرية".
يحكي ولبرت في كتابه هذا عن تجربته الذاتية معتمدا على التجربة العملية مع البحوث والدراسات العلمية. وهو يتحدث ضمنيا عن أهمية الكتابة في مقدمته "استمرت حالتي بالتدهور، ولو كنت كاتبًا عظيمًا لكان بمقدوري، ربما، أن أصف حالي ومشاعري على نحو أفضل، بيد أن طبيعة هذه المشاعر مختلفة تمامًا عن المشاعر المتأتية من الحياة اليومية التي توصف عادة أنها صعبة". فإن جزء كبيرا من العلاج، يكمن في معرفة المشكلة، ووضع الإصبع موضع الألم.
كما أنه يتحدث -وهو صاحب المكانة العلمية المهمة، فهو عالم أحياء تنموي وأستاذ فخري بكلية لندن الجامعية- عن صعوبة الحديث عن مرض الاكتئاب "يُعد الاكتئاب في نظر الكثيرين وصمةً ترادف كل ماهو مشين اجتماعيًا، وهذا أمر مقلق دون شك.
يبادرني الناس كثيرًا بالتهنئة على جرأتي في الحديث علنًا عن اكتئابي، وهذا دليل واضح على الوصمة المرتبطة بهذا المرض، ولكن بالنسبة إليَّ فإن الحديث عن الاكتئاب لم يتطلب شجاعة خاصة، فأنا أكتب وأحاضر في الناس كل يوم من خلال عملي، كما أنني أعتقد أن الاكتئاب لا يحمل أي وصمة عار على الإطلاق".
لطالما آمنت بالتجربة في تغيير حياتي وحياة الناس عامة، لذلك فلنجرب أن نتناول ورقة بيضاء، وننهمر فيها بما نريده للمستقبل وما يمنعنا عن تحقيقه في الماضي أو الحاضر، فهكذا تتبدى جدية العلاج بالكتابة، لا العلاج من الاكتئاب فحسب، بل لعلاج ما يتطلب شجاعة ومواجهة وحسما من أفعال سائبة، كالتسويف مثلا، ولنجعل الادعاء مطابقا لما فينا.. منذ اللحظة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
ساندويتش الجبن الكريمي بالزعتر| وجبة خفيفة غنية بالبروتين
ساندويتش الجبن الكريمي بالزعتر خيارًا صحيًا وسريع التحضير، فهو غني بالبروتين من الجبن الكريمي، ويحتوي على الأعشاب الطازجة مثل الزعتر والشبت التي تعزز الهضم وتضيف نكهة طبيعية مميزة، مما يجعله وجبة مثالية للإفطار أو كوجبة خفيفة.
المقادير
-جبن كريمي : علبة
- المايونيز : نصف كوب
- الزعتر : ملعقة صغيرة
- الخبز الفرنسي : حسب الحاجة
- خيار : 2 حبة (مقطع)
- الشبت : حزمة
طريقة تحضير ساندويتش الجبن الكريمي بالزعتر
في وعاء متوسط، ضعي الجبن الكريمي، والمايونيز، والزعتر، وقلبي جيداً.
ضعي الوعاء في الثلاجة لمدة 6 ساعات على الأقل، ويفضل قبل ليلة.
ضعي ملعقة من خليط الجبن فوق الخبز، ثم ضعي شريحة من الخيار وقطعة من الشبت، وقدمي الساندويش فوراً.