خلال الأعوام الثلاثة الماضية، أصبحت منطقة غرب ووسط أفريقيا، مُحَاطَة بـ«حِزام انقلابات عسكرية»، ما يجعل من الصعب توقع ما ستُسفر عنه الفترة القادمة من تحولات دراماتيكية في المشهد الأفريقي.
ما يحدث في القارة السمراء، يؤكد أن الانقلابات العسكرية باتت حَدَثًا منتظِمَ التكرار خلال العقود التي تلت الاستقلال، لكن ما نتابعه مؤخرًا ـ في أبعاده وحقيقته ـ ليس سوى امتداد لحالة «العدوى الانقلابية»، بانتظار «البيان الأول» في بلدان أخرى.
لعل أكثر ما يلفت الانتباه هو إصرار العسكريين الأفارقة على إحداث تغيير سياسي بالاستيلاء على السلطة، وعدم الاكتراث لسجل العقوبات التي فرضتها العديد من الدول الكبرى والمنظمات الإقليمية والدولية.
ما حدث في مالي وغينيا وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر والجابون، يمكن اعتباره «ظاهرة غير عابرة»، تفرض واقعًا جديدًا، بتجاهل ردود الأفعال الدولية «المتطابقة» و«المتكررة»؛ لأن قادة الانقلاب يُدركون جيدًا أن تلك المواقف سرعان ما تتبدل.. فقط مسألة وقت، وسيتعاطى الغرب مع الواقع الجديد، وكأن شيئًا لم يكن!
نتصور أن ما تشهده منطقة غرب أفريقيا ووسطها، من انقلابات عسكرية متعاقبة، ربما يمثل رفضًا حقيقيًّا لانتهاج سياسات ظلت تسير عليها أنظمة ما بعد «الحِقبة الاستعمارية»، من اضطهاد سياسي وأخلاقي ونَهْب الثروات وتغلغل الفساد.
كما نعتقد بأنه ما جاع شعبٌ في أفريقيا أو أي مكان حول العالم، إلا وكان السبب المباشر هو نَهْب دول الاستعمار «الاحتلال» الغربي لمقدراته وثرواته، ومحاولاتها خَلْق الأزمات، لإبقائه تحت الفقر والفاقة والحروب والصراعات والاقتتال الداخلي، لكي تكون هي «المنقذ» للديمقراطية، و«الحامية» لحقوق الإنسان.
في تلك الدول الأفريقية التي لم تتحرر بشكل كامل من «الاحتلال» أو ما يُسمى «الاستعمار» الغربي، خصوصًا فرنسا ـ ينتشر فيها الفقر المدقع، كما تُعاني شعوبها الويلات، رغم أنها تكتنز من الثروات الطبيعية ما يجعل شعوبها تعيش في ترفٍ ورخاء، وفي مستوى معيشي يفوق الشعب الفرنسي ذاته.. فقط لو كانت حُرّةً في التصرف بثرواتها.
لذلك لم ولن نستغرب ذلك الاهتمام المبالَغ فيه من جانب فرنسا وأمريكا، والقوى الأوروبية الأخرى مثل بلجيكا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا والبرتغال، حيث أثارت تلك الانقلابات انفراط «عقْد التبعية»، وبالتالي قد يجف «ضَرْع» تلك الدول الأفريقية، وبالتالي حرمان «المستعمرين» من ثروات الطاقة والغاز والنفط والمعادن والذهب واليوارنيوم.
أخيرًا.. لم يعد مقبولًا أن يُتاجر الغرب «المنافق» بقضية الديمقراطية، والتباكي على حقوق الإنسان والحريات؛ لأنه «حَلَبَ» القارة السمراء على مدار عقود طويلة، ووضعها في غياهب سجون الفقر والجوع والعَوَز، وأحاطها بأسوار شائكة من الهيمنة والتبعية والخوف، عبر قواعده العسكرية المنتشرة هنا وهناك.
فصل الخطاب:
يقول المفكر الجزائري «مالك بن نبي»: «نحن لا نستطيع أن نصنع التاريخ بتقليد خُطا الآخرين في سائر الدروب التي طرقوها».
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: اليورانيوم ثروات افريقيا القارة السمراء محمود زاهر النيجر والجابون الاستعمار فرنسا
إقرأ أيضاً:
النزعة إلى إعادة النظر في العلاقات الدولية.. ظاهرة قديمة ومسار مُستجد
إن السلوك الدولي للولايات المتحدة في الولاية الثانية لرئاسة ترامب لا يُقارن بولايتِه الأولى فحسب، بل قلّما يجد نظيرا له في عهود إدارة السياسة الخارجية الأمريكية. فمجموع ما صدر من أقوال وأفعال دولية خلال هذه الفترة ليس سوى نزعة إلى «إعادة النظر» في بنية العلاقات الدولية. ومع ذلك؛ فهذه النزعة ظاهرة راسخة وقديمة في المعاملات الدولية، وستبقى كذلك.
غير أنّ اللافت اليوم هو «طبيعة» هذه النزعة في العلاقات الدولية المعاصرة. والمهم أيضا أنّها ليست حِكرا على الولايات المتحدة؛ إذ يمكن رصد صور شتّى لها في عالم العلاقات الدولية. فكيف يمكن تناول ظاهرة «إعادة النظر» بالبحث والتحليل؟ في الإجابة ينبغي التوقف عند ثلاثة محاور: «رسوخ الظاهرة في العلاقات الدولية»، و«تنوع السرديات والنزعات المُراجِعة»، و«ماهية النزعة المعاصرة إلى إعادة النظر».
أمّا رسوخ الظاهرة فمرده أنّ منظومة توزيع القوة في العالم تختلف أوّلا عمّا يجري داخل الوحدات السياسية والدول، وثانيا أنّ الأنساق والنُّظم التي استقرّت عالميّا إنما وُلدت من رحم الحروب والهزائم والنجاحات. ومن الطبيعي أن تُخلّف كلُّ تسوية تُقيم نظاما دوليا حالات تبرم كامنة أو ظاهرة؛ لذا فالنظام الدولي ليس كنظام الداخل، لكنه ليس فوضى أيضا.
في كل حقبة سادت مجموعة من الأعراف والقواعد والمؤسسات العلاقات الدولية، وأقامت ـ بدرجة ما ـ نظاما نسبيّ الاستقرار. ومع ذلك؛ كان السخط من الوضع القائم حاضرا دائما وبالتوازي. فلأسباب متعدّدة لم يكن الفاعلون راضين عن النظام الجاري: بعضُهم سعى إلى تقويضه كليا، وبعضُهم طلب نصيبا أوفر في منظومة القوة النهائية، وفريق ثالث ـ بمزيج من الدوافع والقدرات ـ اندفع إلى التعديل والتغيير في النظام القائم؛ لذلك واجهنا ـ وما نزال ـ طيفا متنوعا من السرديات والأقوال والأفعال «المراجِعة» في العلاقات الدولية.
ماضيا وحاضرا شهدنا أوّلا نُظما متعددة في العلاقات الدولية، وثانيا سرديات وممارسات مراجِعة؛ فمنذ نحو خمسة وعشرين قرنا صاغت إيرانُ «الأخمينية» نظاما عالميا؛ ذلك الذي نُسميه اليوم «النظام العالمي» كانت إيران قد أقامته وسَاسَته. وفي قرون لاحقة نظّمَت روما النظامَ العالمي، ثم في قرون تالية أرسى أحفاد المغول ـ
وقد بسطوا سلطانهم على رقعة تمتد من الصين إلى أوروبا ـ نظاما مغوليا. وعلى المنوال ذاته أقام الغرب وقواه خلال القرون الخمسة الماضية منظومة النظام العالمي، لكنها واجهت تحوّلات داخلية وخارجية من شتى الأنواع. وخلال القرون الماضية شهدنا مراجعات متنوعة عسكرية وأيديولوجية داخل الفضاء الغربي نفسه؛ فالنزعة النابليونية إلى إعادة تشكيل النظام في مطالع القرن التاسع عشر ـ وقد انتهت إلى غزو روسيا والبلوغ المؤقت إلى موسكو عام 1812 ـ كانت مراجعة استراتيجية ثقيلة استدعتْ ردا أوروبيا حاسما. أمّا النزعة الألمانية المنطلقة من إهانات سابقة لهذه القوّة الأوروبية الجسيمة فقد أفضت إلى حربين عالميّتين.
كانت النزعة الماركسية إلى إعادة النظر ـ بوصفها مزيجا من الأيديولوجيا وشهية القوة لدى الاتحاد السوفييتي ـ سببا في ولادة الحرب الباردة. وعلى هذا المنوال يمكن الإشارة إلى طيف واسع من نزعات المراجعة التي شهدها العصر الحديث.
والمثير في نزعات إعادة النظر المعاصرة في العلاقات الدولية هو تنوّع طبيعتها وأشكالها وأنماط فعلها؛ فنحن أمام مراجعات استراتيجية ذات نزعة احتكارية عسكرية، وبقاء حلف شمال الأطلسي بعد الحرب الباردة، وتمدده خلال العقود الثلاثة الماضية مثال دال في هذا السياق.
ونحن أيضا أمام أنماط متعدّدة من «المراجعات المعيارية»؛ فالرؤى والتأويلات لما يُعد «نظاما عالميا مرغوبا» تُشكل اليوم قوس قزح من القراءات ناجما عن هذا التنوّع المعياري إزاء النظام الدولي ونمط المراجعة الفكرية له: السردية الصينية للعلاقات الدولية، والسردية الروسية، وسردية «العالم الثالث»، والسردية الإسلامية، بل حتى سرديات الفاعلين دون الدول كلها مرايا تعكس هذا المنحى المراجِع.
غير أنّ أكثر السرديات جِدّية وخطورة ربما هي سردية الإدارة الأمريكية الراهنة للعلاقات الدولية. ينبغي التذكير بأن الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كانت ـ على نحو ما ـ مهندس النظام العالمي؛ أركانه المركبة ضمت حزمة من المؤسسات الدولية، وقواعد ومعايير القانون الدولي، وتحالفات وارتباطات عسكرية، وممارسات اقتصادية.
صحيح أنّ النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية مر بمنعطفات ومطبات كثيرة، ولم يكن سلسا تماما، غير أن درجة من الاستقرار ـ خصوصا على صعيد القواعد والمعايير ـ كانت ملموسة فيه. لكن ما يميز المراجعة الأمريكية الراهنة هو هدم تلك المؤسسات والقواعد نفسها التي أنشأتها واشنطن، وحثّت الآخرين ـ قسرا أو طوعا ـ على الالتزام بها.
إنّ مسار تفكيك «النظام العالمي الأمريكي الصنع» ـ وإن بلغ ذروته في الولاية الثانية لترامب ـ له سوابق معتبرة في تحولات الداخل والخارج الأمريكيين خلال العقود الأخيرة. فصعود المحافظين الجدد قبل أكثر من عقدين كان إشارة مبكرة لهذه المغايرة الذهنية، وقد أفضى إلى احتلال العراق وأفغانستان، وها هو ترامب اليوم يريد احتلال فنزويلا.
لم تكن الولايات المتحدة يوما أكثر نزوعا إلى إعادة النظر مما هي عليه الآن. فأمريكا ترامب غير راضية عن موقعها العالمي، وتسعى إلى فرض هيمنة كونية، غير أنّ هذه النزعة ـ على ما تُخلفه من أضرار وتخريب ـ لن تنتهي إلى هيمنة عالمية لأمريكا.
سيد محمد كاظم سجادبور دبلوماسي إيراني، والرئيس السابق لمركز الدراسات السياسية والدولية بوزارة الخارجية الإيرانية، وأستاذ في تخصص العلاقات الدولية وعضو هيئة التدريس في كلية العلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية الإيرانية.
عن صحيفة إطلاعات الإيرانية
تمت الترجمة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.