إردام أوزان يكتب: تراجع القوة الناعمة.. التكلفة الاستراتيجية للغياب
تاريخ النشر: 5th, November 2025 GMT
هذا المقال بقلم الدبلوماسي التركي إردام أوزان، سفير أنقرة السابق لدى الأردن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
نظرة من مفترق طرق تركيافي تركيا، البلد الذي تعلّم الموازنة بين الإقناع والقوة، والثقافة والاستراتيجية، والوساطة والمصداقية، لا يُعدّ تآكل القوة الناعمة مجرد نظرية مجردة، بل هو واضح في كل مكان.
هذا لا يعني انتصارًا للقوة، بل يدل على نقص في البدائل الموثوقة. الأدوات التي حافظت يومًا ما على الاستقرار في الشؤون الدولية، مثل الدبلوماسية والشرعية والتعددية والتعاون الاقتصادي، تتعثر بسبب الإرهاق والانقسام. القوة الناعمة، التي كانت في يوم من الأيام إطارًا للتأثير، تتدهور إلى مجرد مظهر.
من وجهة نظر أنقرةمن تركيا، يمكن للمرء أن يُرى كيف أصبحت القوة الناعمة مجرد استعراض للمظاهر. تستثمر الدول بكثافة في وسائل الإعلام، والفعاليات العالمية، ومراكز الفكر، وبرامج التنمية. ومع ذلك، لا يزال جوهر النفوذ والثقة صعب الفهم.
في العديد من العواصم، أصبح الظهور بديلاً عن المصداقية. ويُستخدم الإبراز المالي، والترويج الثقافي، والاستعراض الدبلوماسي للإشارة إلى الاستقرار والحداثة. ولكن عندما تُبنى الدبلوماسية على الأداء بدلاً من المبادئ، وعندما تُصبح المساعدات أو الاستثمار امتداداً للنفوذ بدلاً من التضامن، تُصبح القوة الناعمة هشة.
ما يبرز هو نوع من الإقناع السام: نفوذ بلا مصداقية، وحضور بلا تأثير. والنتيجة ليست عمقًا استراتيجيًا؛ بل تضخمًا في السمعة.
النمط العالمي والعواقب الاستراتيجيةيتكرر هذا النمط عبر القارات. في فنزويلا، فشل الضغط الأمريكي من خلال العقوبات والإشارات البحرية في استعادة الديمقراطية. بدلاً من ذلك، رسّخ النزعات الاستبدادية. في السودان، انهار الحكم الانتقالي في حروب بالوكالة مُعسكرة. في منطقة الساحل، ترفض المجالس العسكرية الجديدة الشراكات الغربية، وتختار بدلاً من ذلك القوة واستخراج الموارد. في غزة، يُذاع خبر موت الدبلوماسية يوميًا، وهو أوضح دليل على كيف أن القوة الصارمة تمحو الشرعية وتقوض السلطة الأخلاقية.
هذه ليست مآسي معزولة، بل هي علامات على عالم فقدت فيه القوة مركزها الأخلاقي، وحل الإكراه محل التعاون، وانفصلت فيه حتى القوة الاقتصادية عن المبادئ السياسية.
يتسارع التشرذم الدبلوماسي. المنصات متعددة الأطراف، التي كانت في السابق محركات للاتفاق، أصبحت الآن بمثابة غرف صدى للمواقف الوطنية الفردية. أصبح الحوار جامدًا بدلًا من كونه استشرافيًا. تحل الشراكات التكتيكية محل التخطيط الاستراتيجي.
ضعفت القوة الناعمة الاقتصادية. تتدفق الاستثمارات، لكنها تفتقر إلى الهدف. تنمو البنية التحتية، لكن المجتمعات تتدهور. يتحرك رأس المال أسرع من الثقة. فقد أساس الترابط أخلاقياته، وأصبح معاملات بحتة.
ونتيجة لذلك، فإن الشعور بغياب القوة الناعمة الحقيقية لا يظهر في الفقر، بل في التشاؤم واسع الانتشار. عندما يتوقف المواطنون والمجتمع المدني، وحتى النخب، عن الإيمان بصدق الحوار والتعاون، تصبح أزمة الشرعية حتمية.
هذا الفراغ يُنشئ تهديدات جديدة. تستبدل حرب الروايات محل التواصل الحقيقي. تستخدم الدول المعلومات كسلاح لتحل محل الحقيقة. تفقد المؤسسات، المُثقلة وغير الموثوقة، سلطتها. يضعف العقد الاجتماعي لأن الناس لا يرون في السياسة حمايةً، بل كواجهة للفضح.
يمكن للقوة الصلبة السيطرة على الأراضي، لكنها لا تستطيع خلق المعنى. القوة العسكرية والمالية دون شرعية لا تُؤدي إلا إلى سيطرة مؤقتة، لا إلى استقرار دائم. عندما تُجرد واجهة القوة الناعمة من الأخلاق والتعاطف، فإنها لا تُصبح أكثر من دعاية.
الخيار الاستراتيجي المُستقبليمن موقع تركيا، المُستقرة بين القارات وفي خضم الأزمات، يتضح أن النفوذ في المستقبل لن يُحدد بمن يستطيع السيطرة على موجات الأثير أو تمويل مشروع إعادة الإعمار القادم، بل سيذهب إلى أولئك الذين لا يزالون قادرين على الإقناع من خلال العدالة والاستمرارية والتماسك.
القوة الناعمة ليست مجرد علامة تجارية؛ إنها تتعلق بالمصداقية. إنها تنبع من الهدف، لا من الثروة. إنها تتطلب الثقة، لا من الهيمنة. ولا يمكن أن توجد في ظل الإفلات من العقاب.
في زمنٍ تُشجع فيه الدول على التعاطف، لكنها لا تزال تُصدر الصراعات، فإن المقياس الحقيقي للقوة ليس في من يُسمع صوته، بل في من تُوثق أفعاله. لقد بدأت معركة الشرعية. وستكون هذه هي الجبهة الحاسمة لهذا القرن.
رأينشر الأربعاء، 05 نوفمبر / تشرين الثاني 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2025 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.المصدر: CNN Arabic
كلمات دلالية: رأي القوة الناعمة
إقرأ أيضاً:
ليست جغرافيا.. بل روح
حمود بن سعيد البطاشي
في خريطة الوطن، قد تتشابه الولايات في تضاريسها، وجبالها، وأوديتها، ولكن ما يُميز كل ولاية ليس موقعها الجغرافي، بل الروح التي تسكنها، والنبض الذي يحرك أهلها نحو البناء والعطاء.
فالولاية الحيَّة ليست تلك التي تُرسم حدودها بالمسطرة، بل التي تُرسم ملامحها بسواعد رجالها ونسائها، بعزيمة شبابها، وبإخلاص من آمن أن الانتماء ليس شعورًا يُقال؛ بل مسؤولية تُمارس.
في كل زاوية من ولاياتنا العُمانية حكاية نجاحٍ بدأت بفكرةٍ صغيرة، وكبرت بالعزيمة، وتحققت بالصبر والمثابرة. وما دماء والطائيين إلا مثالٌ حيّ على ذلك.. ولايةٌ عرفت كيف تُحافظ على ماضيها، وتزرع الأمل في حاضرها، وتمضي بخطى واثقة نحو مُستقبلٍ أكثر إشراقًا.
هنا لا يتحدث الناس عن التحديات بقدر ما يتحدثون عن الفرص، ولا ينتظرون الحلول من الخارج لأنهم يؤمنون أن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، من روح التعاون، ومن لحظة صدقٍ تُولد فيها فكرة تخدم الجميع.
إنّ مفهوم الولاية لا يكتمل دون المواطنة الفاعلة؛ فالمسؤولية لا تقتصر على المؤسسات الرسمية وحدها، بل تمتد لتشمل كل فردٍ يرى في المكان امتدادًا لذاته. حين يعمل المواطن بضمير، والمسؤول بأمانة، ورجل الأعمال بإخلاص، والمثقف بفكرٍ واعٍ، حينها فقط تتحول الولاية إلى نموذجٍ وطنيٍ ملهم؛ فالنجاح لا يُصنع بالشعارات ولا بالتصفيق، بل بالتخطيط والعمل والاستمرارية، وبأن يتعامل كل شخص مع موقعه في المجتمع كقطعة من لوحة الوطن الكبرى.
في ولايتنا الغالية، حين تتلاقى الإرادة مع النَّية الطيبة، تولد مشاريع تمشي على الأرض: ممشى عام يربط الناس بالرياضة واللقاء، وقريةٌ قديمة تُعاد إليها الحياة بروحٍ تراثيةٍ متجددة، وشبابٌ يبتكرون فرصًا من رحم الواقع الصعب.
وهنا نكتشف أن التنمية ليست ميزانية تُخصص فقط، بل ثقافة عملٍ جماعي يتقنها من يُؤمن بالهدف قبل أن يطالب بالنتيجة.
لقد آن الأوان أن نُعيد صياغة مفهوم "الولاية" في أذهاننا. فالولاية ليست مجرد أرضٍ نعيش فيها، بل هي هويةٌ تُشكّلنا، ومسؤوليةٌ تُحاسبنا، وتاريخٌ يُلزمنا أن نواصل المسيرة. هي الأم التي تحتضن أبناءها جميعًا بلا تفرقة، وتفرح بإنجاز كل واحدٍ منهم كما لو كان إنجازها هي.
ومن هنا تبدأ روح التنافس الإيجابي بين الولايات، لا في من يملك أكثر؛ بل في من يخدم أكثر ويُعطي بصدقٍ أكبر.
وحين تكون الولاية بهذا الوعي، لا تعود بحاجة إلى من "يتحدث باسمها"، لأنّ إنجازاتها تتحدث عنها. يصبح الطريق المعبد رمزًا للتعاون، والمجلس العام ساحة للحوار، والمشروع الصغير درسًا في الإصرار.
وحين تتوحد الجهود، تسقط الفوارق بين المواطن والمسؤول، لأنّ الهدف واحد: أن تبقى عُمان جميلة، من المركز إلى الأطراف.
إنّ روح الإنجاز لا تُستورد، ولا تُفرض بقرارات؛ بل تُزرع في القلوب. تبدأ من فكرةٍ صادقة يهمس بها أحدهم في مجلس، لتصبح مشروعًا يتحدث عنه الجميع. تبدأ من مبادرة شاب، ومن اقتراح شيخٍ حكيم، ومن يدٍ تمتد بالعون لا باللوم.
وحين تتكاتف القلوب بهذا الإيمان، تصبح كل ولايةٍ عُمانية منارةً صغيرة في وطنٍ كبير، تضيء طريق التنمية وتُعلي راية الانتماء الصادق.
إننا بحاجة إلى أن نؤمن أن الولاية ليست جغرافيا نُقيم فيها؛ بل روحٌ تُقيم فينا. وحين نحملها في قلوبنا بهذا الإحساس، سنرى أن كل خطوةٍ نحو الإصلاح هي عبادة، وكل لبنةٍ في البناء صدقة، وكل كلمةٍ صادقة في سبيل الخير جهادٌ في سبيل الوطن.