ياسر عرفة لـ«الوفد»: أراهن على عودة الثقة بين المواطن ونائب البرلمان
تاريخ النشر: 5th, November 2025 GMT
- برنامجي الانتخابي يرتكز على تنمية الإنسان أولًا- الصحة والتعليم والتنمية الاجتماعية.. ثلاثية بناء الإنسان في منشأة القناطر وأوسيم والوراق- مدارسنا تحتاج روحًا جديدة.. والتعليم يبدأ من القدوة قبل المناهج- نفّذنا 12 قافلة طبية ووفّرنا ألف فرصة عمل.. والمرحلة المقبلة هي مرحلة تشريع يخدم الناس- أرفض ثقافة انتظار التعيين الحكومي.
في مشهدٍ انتخابي يزداد سخونة مع اقتراب استحقاقات برلمان 2025، يبرز اسم «ياسر عرفة» كأحد الأسماء التي رسخت حضورها بين الناس قبل أن تطرق أبواب السياسة.
ابن قرية أتريس التي لم تغب ملامحها عن مواقفه، حمل همومها على كتفيه كما يحمل الجذر ظلال الشجرة، فظل قريبًا من الناس بقدر ما ظل وفيًّا للأرض التي أنبتته.
من قاعات كلية الحقوق إلى حقول الزراعة وساحات التجارة نسج مسيرته، فجمع بين فكر القانوني وحنكة الميداني، وباسمه نُفذت فعاليات ومبادرات امتد أثرها في كل زاوية من الدائرة؛ من تطوير المدارس وتشطيبها وتكريم الأوائل وحملة الماجستير والدكتوراه لإحياء روح القدوة في شبابٍ عطش للقيم بعد أن غابت.
وأطلق مسابقات قرآنية شارك فيها الآلاف، وأحيا "عيد العلم" ليعيد للتفوق مكانته وللمعلم هيبته، فصار العلم في دائرته عيدًا متجددًا لا مناسبة عابرة.
وامتد عطاؤه إلى ميادين الصحة والعمل، فسيّر القوافل الطبية والبيطرية، ووفر فرصًا للشباب وأطلق مشروعات صغيرة للنساء، حتى غدت إنجازاته حديث الناس في كل وقتٍ وحينٍ.
واليوم، يطلّ «ياسر عرفة» على المشهد مرشحًا عن حزب الوفد، ممثلًا للتحالف الوطني بدائرة منشأة القناطر وأوسيم والوراق، حاملًا الرقم 4 ورمز النخلة.
جاء برنامجه الانتخابي قائمًا على الإنسان أولًا، باعتباره حجر الأساس في أي نهضة حقيقية، مؤكدًا أن السياسة بلا ضمير خدمة ناقصة، والنيابة عن الناس شرف لا يُنال إلا بالعمل الصادق.
في هذا الحوار الخاص.. يفتح «ياسر عرفة» قلبه وعقله، متحدثًا عن رؤيته لمستقبل منشأة القناطر وأوسيم والوراق، وأبرز الملفات التي يحملها إلى قبة البرلمان، ورهانه على أن العمل الميداني الصادق كفيلٌ بإحياء الثقة التي افتقدها المواطن طويلًا.
وإلى نص الحوار:* في البداية.. من هو «ياسر عرفة» الذي يراه أبناء منشأة القناطر وأوسيم والوراق ممثلًا حقيقيًا لهم في البرلمان؟- أنا ياسر مشحوت عرفة، من مواليد قرية أتريس بمركز منشأة القناطر بالجيزة، والدي الحاج مشحوت عرفة كان «شيخ البلد»، كان دائمًا يسعى لحل مشاكل الأهالي، يلمّ الشمل ويفضّ النزاع، وهذا ما تعلمته منه.
تخرجت في كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1996، وعملت بالمحاماة نحو خمس سنوات، ثم اتجهت للعمل التجاري في مجال الزراعة والتصدير والاستيراد.
أسست شركة «عرفة» وأصبحت رئيس مجلس إدارتها، وتمتلك الشركة مزارع في مختلف أنحاء مصر لضمان الإمداد المستمر بالمحاصيل الزراعية.
أما على الصعيد السياسي، فبدأ نشاطي منذ الجامعة في الحزب الوطني الديمقراطي، ثم أصبحت عضو مجلس محلي بمركز إمبابة لدورتين حتى 2010، بعد الثورة توقفت عن السياسة وعُدت إليها عام 2017 عبر حزب مستقبل وطن حتى وصلت لمنصب الأمين المساعد بأمانة المتابعة المركزية، واليوم أواصل مسيرتي في إطار التحالف الوطني عن حزب الوفد في انتخابات مجلس النواب 2025، إيمانًا بتاريخه الوطني ودوره الممتد في خدمة الوطن والمواطن.
* ما الدوافع الأساسية التي جعلتك تخوض الانتخابات البرلمانية هذه الدورة تحديدًا؟- الدافع الأساسي هو استكمال ما بدأناه من أعمال وخدمات لأهالي الدائرة.. فخلال السنوات الماضية نفّذنا فعاليات كثيرة هدفها تنمية المجتمع المحيط بنا من خلال شركة عرفة للتصدير وجمعية الرأفة للأعمال الخيرية.
رأينا أن أهم محوري تنمية هما الصحة والتعليم، فبدأنا بتطوير المدارس وتشطيبها وتحسين بيئتها التعليمية، إلى جانب تكريم أوائل الطلبة والمتميزين وحفظة القرآن الكريم بهدف إعادة القدوة للشباب والطلاب، وتنمية القيم والمبادئ التي تراجعت بعد الثورة.
نظمنا مسابقات قرآنية شارك فيها أكثر من 22 ألف متسابق، وأقمنا «عيد العلم» الذي أطلقناه تزامنًا مع ذكرى تأسيس جامعة القاهرة، وكرّمنا خلاله أوائل الطلبة وحملة الماجستير والدكتوراه، وكرّمنا المعلمين ومديري المدارس ومديري الإدارات؛ لخلق جو تنافس في العملية التعليمية، فضلًا عن القوافل الطبية والبيطرية، وعقدنا - أيضًا - بروتوكولات تعاون مع مديرية الشباب والرياضة لدعم مراكز الشباب في القرى.. هذه الأنشطة كلها كانت نواة لفكر تنموي نريد تعميمه من خلال البرلمان.
* ما أبرز محاور برنامجك الانتخابي؟- برنامجي الانتخابي يرتكز على ثلاث محاور رئيسة؛ الصحة - التعليم - التنمية الاجتماعية.
الصحة تأتي في المقام الأول، تليها التعليم، ثم المشروعات الصغيرة ودعم المرأة والشباب.
أما المحور السياسي والاقتصادي فهما إطار عام لرسم سياسة الدولة، لكن الأهم بالنسبة لي هو المحور الذي يمس حياة المواطن اليومية.
* خلال الفترة الماضية كنت قريبًا من أبناء الدائرة عبر فعاليات وخدمات متنوعة.. ماذا أنجزت على أرض الواقع؟- نفّذنا أكثر من 12 قافلة طبية استفاد منها 12 ألف مواطن، إضافة إلى قوافل متخصصة في أمراض العيون والطب البيطري، كما وفرنا فرص عمل لأبناء الدائرة عبر ملتقيات توظيف، ووظّفنا أكثر من ألف شاب في شركتنا وشركات صديقة، ما بين مهندسين وفنيين وعمّال.
وأطلقنا أيضًا مشروعات صغيرة للنساء، حيث نفّذنا أكثر من 100 مشروع صغير؛ منها الأكشاك وتربية الدواجن والخياطة والتطريز ضمن مبادرة «كرامتي في حرفتي» بالتعاون مع كرم أصلان، لتدريب السيدات ومنحهن أدوات العمل بعد التدريب ليصبح لديهن مصدر دخل ثابت.
* ما أول ثلاثة ملفات ستضعها على مكتبك فور دخولك قبة البرلمان؟الملفات الشائكة وخصوصًا في الريف هي «الصحة، التعليم، والخدمات».. فالملف الصحي تحديدًا يحتاج إعادة تنظيم للكوادر والأجهزة، مستشفيات مثل مستشفى وردان ومبارك تحتاج تطوير عاجل، نُخطط لتفعيل عمليات اليوم الواحد، وزيادة عدد أسِرّة العناية والطوارئ، ولدينا استعداد كشركة وكفريق عمل للتعاون مع رجال الأعمال لدعمها بالأجهزة المطلوبة.
* كيف ستواجه مشكلات البنية التحتية في القرى من مياه وصرف ونظافة وطرق ومواصلات؟- قرى منشأة القناطر ضمن المرحلة الثانية من مبادرة حياة كريمة، وسأسعى لتسريع وتيرة التنفيذ والتشغيل، وهدفنا أن تنتهي كل مشاكل البنية التحتية بالكامل خلال عامين أو ثلاثة على الأكثر بتوفيق من الله وتعاون الأهالي.
* التعليم في بعض القرى يبدو أفضل على الورق من الواقع.. ما رؤيتك لتحسينه؟- لدينا كوادر تعليمية جيدة لكن نحتاج إعادة الانتماء والروح للمدارس.. نواصل تكريم المتميزين وتحفيز الطلاب على التميز، ونسعى لزيادة عدد الفصول وتقليل الكثافات، خصوصًا في القرى ذات النمو السكاني المرتفع.
* في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة.. ما رؤيتك لدعم المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر داخل الدائرة؟- أرفض ثقافة انتظار التعيين الحكومي.. السوق في حاجة إلى عمال وفنيين في قطاعات كثيرة، وعلى الشاب تطوير نفسه وتعلم حرفة بجانب شهاداته، فلا يوجد عيب في أي عمل طالما شريف، والبلد مليئة بالمشروعات الكبرى التي تحتاج سواعد شابة.
وبالنسبة للمشروعات الصغيرة فهي مفتاح التنمية، وسنواصل دعم التدريب والتشغيل، وتشجيع الشباب، فشبابُنا طاقة تحتاج من يفتح لها الأبواب.
* وماذا عن كبار السن وذوي الهمم؟- نحتاج فقط إلى تفعيل نسبة الـ5% في التوظيف داخل الشركات الخاصة والحكومية.
القوانين موجودة، لكن ينقصها الرقابة الجادة.. إذا فُعلت هذه النسبة بصدق، فلن نجد أحدًا من ذوي الهمم أو كبار السن يعاني.
* كيف ترى دور النائب داخل البرلمان.. تشريعي أم خدمي؟- النائب دوره تشريعي ورقابي في الأساس، لكن التشريع في النهاية هدفه خدمة المواطن، فالتشريع يسن القانون، ومادة قانون تعني مادة عامة مجردة تنطبق على الجميع، فالقوانين وُجدت لتنظيم حياة الناس، لذلك يجب أن تكون واضحة ومنصفة للجميع دون استثناء؛ مثلًا في القبول الجامعي أو مشروعات الإسكان يجب أن تكون اللوائح حاكمة، لا الأهواء، فيجب أن يرافق القانون لائحة تنفيذية وقرارات وزارية منضبطة حتى يحصل كل مواطن على حقه.
* حدِّثنا عن علاقتك بأهالي الدائرة.. وما آليتك للتواصل المباشر معهم حال الفوز في المجلس؟- علاقتي بالأهالي علاقة أخوة وجيرة وصداقة، وحال الفوز إن شاء الله سننشئ ثلاثة مكاتب رئيسة في الوراق وأوسيم ومنشأة القناطر، إلى جانب فرق عمل متخصصة لتلقي الشكاوى ومتابعتها، وسنعلن عنها مواقع التواصل الاجتماعي لضمان القرب من الناس.
* كيف تقيّم أداء البرلمان السابق؟- البرلمان السابق أدى دوره بشكل جيد، خاصة في آخر ستة أشهر، حيث ناقش قوانين مهمة مثل قانون الإجراءات الجنائية وقانون الإيجار القديم.. ورغم وجود اختلاف في وجهات النظر، إلا أن البرلمان ساهم في إقرار تشريعات تخدم الدولة والمجتمع.
* ما رؤيتك لدور حزب الوفد في المشهد السياسي؟- حزب الوفد حزب عريق وتاريخي، لكن يحتاج إلى إعادة ترتيب أوراقه وتفعيل وجوده في الشارع، عبر فتح مقرات جديدة، وتجديد الدماء، وإجراء انتخابات داخلية نزيهة.. فالوفد كان منبر التشريع ومنبع الحكم، وأتمنى أن يستعيد مكانته الطبيعية في الحياة السياسية المصرية.
* ما أبرز القوانين التي ترى أنها بحاجة إلى إعادة نظر أو تعديل خلال المرحلة المقبلة؟القوانين التي تحتاج إلى إعادة نظر عاجلة فهي قوانين المحليات؛ لما لها من أثر مباشر على حياة المواطنين، فغياب المجالس المحلية المنتخبة أضعف المتابعة الميدانية وقلّل من سرعة حل المشكلات الخدمية.
كما أن قانون البناء الموحد والأحوزة العمرانية بحاجة إلى مراجعة شاملة تتناسب مع طبيعة الريف المصري، بما يتيح البناء الرأسي بدل التوسع الأفقي، ويحمي الرقعة الزراعية، ويضع حلولًا منصفة للمخالفات، بحيث تُحوَّل الغرامة إلى رخصة قانونية بدلًا من أن يُجرَّم الفلاح بسبب احتياجاته السكنية.
* كيف ستوازن بين مصلحة الدائرة والمصلحة الوطنية؟- لا فرق بينهما؛ لأن مصلحة الدائرة جزء من مصلحة الوطن، فعندما ننجح في تطوير قرية أو مدينة نكون قد ساهمنا في تقدم مصر كلها.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: قرية أتريس أتريس برلمان 2025 انتخابات 2025 انتخابات النواب 2025 رمز النخلة حزب الوفد الوفد منشأة القناطر دائرة منشأة القناطر التحالف الوطنى الانتخابات البرلمانية مركز منشأة القناطر قرى منشأة القناطر حزب الوفد أکثر من
إقرأ أيضاً:
عمّان التي تسكنني
يصف عبدالرحمن منيف مدينة عمّان في كتابه سيرة مدينة (ص 395) وصفًا ينطبق على المُدن الكبيرة بوجه عام، قائلاً: «المدينة هي الحياة بتعددها وتنوعها، هي الأمكنة والبشر والشجر ورائحة المطر، وهي التراب أيضًا، وهي الزمن ذاته، ولكن في حالة حركة. المدينة هي طريقة الناس في النظر إلى الأشياء، وطريقة كلامهم، كيف تجاوزوها. المدينة هي الأحلام والخيبات التي ملأت عقول الناس وقلوبهم، التي تحققت وتلك التي طاشت ثم خابت، وكم تركت من العلامات والجروح. المدينة هي لحظات فرح الناس وأوقات حزنهم».
وتطفو بعد تأمل هذا الوصف أسئلة عديدة: كم عدد المدن التي سكنت في داخلنا، وتركت أثرًا لا يُمحى؟ كيف نتعامل معها إذا عدنا بعد غياب؟ ما الذي يحرّك ذاكرتنا؟ أهي ذاكرة السعادة أم الألم؟ من الوجوه التي نتذكّر صعوبتها، أو مرونتها معنا؟ ما مذاقات الطعام المختلفة، أكانت لاذعة أم باردة؟ ما الروائح الأثيرة؟ ما الأمثال الشعبية والأغاني والأناشيد التي شكلت وجداننا؟ ما الحراك المدني الذي خضناه وصاغ تكويننا؟ ما أول عنوان شدّنا إليه عنوان جريدة أو غلاف مجلة ملونة على الأسفلت؟ ما أول سيارة أجرة أو حافلة أو سرفيس أو دلمش؟
تنبع أهمية المكان من مجموع الإحالات التاريخية والمرجعيات الثقافية التي يختزنها؛ فلا قيمة لأي مكان في بعده الجغرافي إلا بمقدار ما يحدثه في داخل المرء من اتصال أو انفصال، وهو فعل يشبه التناصّ.
سكنتني مدينة عمّان منذ أن قررت دراستي الجامعية فيها، بعد حوار طويل مع والدي - رحمه الله - الذي قال إنه لا يمانع دراستي خارج عُمان شريطة ألا تكون في مجال السياسة ناصح ألا أتجاذب فيها أي شكل من أشكال الجذب.. وافقته على مضض، لكن حين سجّلت في عمادة القبول والتسجيل بالجامعة الأردنية كان تخصص العلوم السياسية هو هدفي الحقيقي؛ إذ فعلت كل ما بدا ممكنًا للهروب من دراسة ما لا أريده.
سجّلت المواد المطلوبة، وشققت طريقي كقطار يشق قلب المدينة ــ وهذا التشبيه لم أكن لأكتبه عن عمّان التي ليس فيها قطار لولا أني شاهدت القطارات وركبتها في دول أجنبية. فلماذا أعود إلى الذكرى اليوم؟
لماذا أعود إلى الذكرى اليوم؟ لم أقطع وعدًا على نفسي بالكتابة عن عمّان، لا كتابة سردية ولا مسرحية، لكن هناك ما يشدّني إليها؛ المدينة التي تأتي في المقام الثاني بعد بلدي عُمان. غبت عنها بعد التخرج من البكالوريوس والماجستير، وعدت إليها في مناسبات متباينة: مرة للعلاج برفقة الأهل، وأخرى عضوة في لجنة تحكيم الدورة السادسة لمهرجان المسرح الحر الدولي عام 2011م، وثالثة للمشاركة في الدورة (12) لمهرجان الهيئة العربية عام 2020م
في مهرجان الهيئة العربية للمسرح. لكن زيارات العلاج كانت الأوفر، وهي الملاحظة التي أكدها أخي النمير حين ردّ على سائق الأجرة الذي سألنا عن الأماكن السياحية التي زرناها.
في كل زيارة تمنحني عمّان وجوهًا مختلفة، بعضها جديد وبعضها ينتمي إلى الذاكرة. أظنّ ذلك مرتبطًا بما لا أستطيع نسيانه أو محوه من عقلي تمامًا؛ لأن المرء لا يمكن أن يتحدث عن الجديد إلا بالعودة إلى أشيائه القديمة، فهي وحدها القادرة على منحه الطلاقة في الحديث بأريحية مع الآخرين.
لا أنسى سكن الرابطة للطالبات المغتربات في الجبيهة، مقابل البوابة الشمالية للجامعة الأردنية، الذي أقمتُ فيه قبل أن أغيره إلى آخر، حيث تعلّمتُ ورأيت النور ونضج وعيي. ولا أنسى مقر نادي طلبة سلطنة عمان القابع على ربوة عالية في الجبيهة، يحيل منظره إلى قلعة عُمانية شامخة. كما لا أنسى دورة الانتخابات الأولى والأخيرة التي خضناها كطالبات لتشكيل مجلس إدارة النادي، ولا تلك الصديقات اللواتي رافقنني وما زلن حتى اليوم. وفي عمّان أخرجتُ للمرة الأولى مسرحيتي الطعنة عام 1995 في مدرج سمير الرفاعي، وهي تجربة شكّلت منعطفًا مهمًا في مساري الفني وأسهمت في تعميق صلتي بالمدينة.
تسكن ذاكرتي الطرق المؤدية إلى مدينة ملاهي الجبيهة الترويحية، وصويلح، والزرقاء، ومَعان، ودور النشر والمكتبات وأقربها إلى قلبي مكتبة الطليعة العلمية في وسط البلد، وكذلك الفعاليات الثقافية والمسرحية التي حضرتها في المركز الثقافي الملكي، ورحلات الطلبة العمانيين إلى العقبة والقاهرة. هذه الذكريات تكوّنت في مشاهد اجتماعية، فكوّنت تاريخًا شخصيًا نحو المدينة.
فهل هذه هي عمّان حقًا؟ هل هذه الذكريات هي كل ما سكنني منها وسكنته فيها؟ المدينة التي أحببتني وأحببتها؟ ثمة شعور أعمق وغائر جدا أحاول فهمه في جوهر العلاقة بالمكان، وهو ما يدفع إلى تخليده بالكتابة.
تغيّرت عمّان في تفاصيلها كلها؛ ازدادت كثافتها السكانية، وانتشرت المجمعات السكنية والفنادق والمجمعات التجارية، وتعددت المطاعم والمقاهي، وتنوعت أطعمتها ومشاربها، وظلّت أكشاك القهوة المغلية أو «الصَب» علامة بارزة تتعاقبها الأجيال. في سيارة الأجرة يمكنك أن تقف أمام أي كشك أو محطة بنزين وتطلب قهوتك. تغيّرت الذائقة وتبدّل الناس، كَثُرت الارتباطات وتداخلت شبكة العلاقات وتعقّدت، وتضخّمت الهموم السياسية، وكان للمتغيرات الديمغرافية أثر هائل على الاقتصاد.
هل يمكن تأطير ذلك كله في قصيدة، أو رواية، أو مسرحية، أو فيلم درامي، أو وثائقي؟ أو كتابة نقدية؟ هل ما زال هناك مكان لأفكار التنوير؟ وهل بقي لرسالة التعليم والجامعات أثر إزاء المتغيرات العالمية الكاسحة للقيم والمبادئ؟ وماذا عن اللغة التي نتكلم بها؟ أهي الأخرى خضعت لإغراءات الزمن السهل؟
مثلما للتداعيات والاستذكارات حنينٌ خاص، فإن لها لغة ووظيفة. فعند مروري صباحًا نحو المخبز، تعلق في أنفي رائحة خبز الحَمَام الطازج، وهي رائحة يمكن التقاطها في أي مكان في العالم، كأنها لغة كونية. الحنين بمفرداته التي يستخدمها وعناصره التي يستدعيها يؤدي وظيفة الوسيط أو المترجم؛ كأن الماضي بمرجعياته وإحالاته يتحول إلى لغة ثانية غير مفهومة في العصر الحديث، ما يجعلنا بعُدَاتنا القديمة عصيّين على الاستسلام التام لأفكار الجيل الجديد، بما يملكه من طاقة لاستقبال كل شيء بشكل سلس.
إن التداعيات التي توقظها المدينة يقف خلفها ما أشار إليه منيف من «الأحلام والخيبات التي ملأت عقول الناس وقلوبهم، التي تحققت وتلك التي طاشت ثم خابت، وكم تركت من العلامات والجروح».
في سيارة الأجرة، وأثناء الانتقال من دُوار إلى جبل إلى ضاحية في عمّان، دار حديث عن دوريات الشرطة الراصدة لحركة المرور. انبعثت رسالة تحذيرية من الهاتف تنبّه إلى وجود شرطة بعد مسافة معينة، فسألتُ السائق: هل كانت هناك صيغة متفق عليها بين السائقين قبل وجود هذا الاختراع التقني؟ قال: نعم، كنّا نقول لبعضنا: هناك طبق كنافة!
ضحكت وعلّقت: ونحن في عُمان نقول: هناك حريم يبعن خبزًا!
ذلك الاتفاق الشعبي بين السائقين يدخل في باب علم اللغة والدلالة؛ إذ اتفقت الجماعات في عمّان وعُمان على توظيف لغة رمزية تحذيرية، لكنها في جوهرها لغة محبة للحياة... لغة تشبه المدينة ذاتها: متعددة، متحركة، لا تكفّ عن خلق المعاني.