من أروقة مختبرات «دكتور ريديز»
تاريخ النشر: 5th, September 2023 GMT
هناك مقولة مشهورة للمستشار الإداري، بيتر دراكر مفادها أن «الثقافة المؤسسية تأكل الاستراتيجية على الإفطار»، هذا الاقتباس يُستشهد به في سياق الأهمية الكبيرة للثقافة التمكينية بوصفها أحد أقصر الطرق للنجاح، ولكن هل يمكن أن نتخيل مقاربة أخرى؟ بالتأكيد نعم! يمكننا مثلا أن ننظر إلى الثقافة المؤسسية وكأنها الهواء الذي لا نراه بأعيننا، ولكنه يحيط بنا في كل اتجاه، وهو شريان الحياة؟ ولكن ما هي الوسيلة لتأصيل ثقافات عمل مرنة، ومبتكرة، حيث تتحول إنتاجية العمل من واجبات مفروضة من قيادة المؤسسة، إلى هدف فردي لكل موظف، وغاية مشتركة؟ في البدء دعونا نفكر بعمق في تعريف الثقافة المؤسسية التي عليها تقوم العمليات والممارسات، نجد أن الأدبيات الإدارية قد عرفت هذه الثقافة بأنها التي تتشكل بتأثير ستة عناصر تشمل القصص المؤسسية، والروتين، والرموز، والهيكل التنظيمي، والضوابط، وأنظمة التحكم والصلاحية، وهي أعقد بكثير من توقعاتنا، فالعلاقات البينية بين هذه العناصر عميقة، وغير مباشرة، وإذا أضفنا للمعادلة الأحداث، والشخصيات المتعاقبة على إدارة المؤسسة يصبح المشهد أكثر تعقيدا، فما نراه اليوم سلوكا إيجابيا قد يصير تصرفا مرفوضا في زمن آخر، وفي سياق مغاير، حتى الهيكل التنظيمي الذي يمثل القالب الرسمي للمؤسسة، لا يعد المركزية الوحيدة، فهناك هياكل قوى أخرى غير مرئية، وهي القوة الاجتماعية للثقافة المؤسسية، وهي تمثل مساحات التفاعل، والتقاطع بين الثقافة الواقعية، وافتراضات الحلم المنشود، مؤكدة بذلك أن الثقافة المؤسسية مجزأة.
وبذلك فإنه بالنسبة للمؤسسات التي تسعى جديا لأن تصبح أكثر تكيفا، وابتكارا، غالبا ما يكون تغيير الثقافة هو الجزء الأكثر تحديا في عملية التحول، لأن الابتكار يتطلب تبني سلوكيات جديدة، وقد تتعارض تماما مع الثقافات التي اعتاد عليها المجتمع الوظيفي، وتنشأ المقاومة حينما يأتي الفكر الابتكاري بمبادرات غير مسبوقة في التعاطي مع التحديات كفرص استراتيجية للنمو، والتطور، وتحقيق الكفاءة التشغيلية، وهذا ما يزيد الأمر صعوبة، لأن التحول لا يمكن تحقيقه من خلال نهج «التفويض من أعلى إلى أسفل الهيكل التنظيمي»، فقائد العمل لديه صلاحيات تُمكنّه من مطالبة الموظفين بالامتثال لتطبيق منهج عمل جديد، لكنه لا يستطيع بكل صلاحيته أن يملي عليهم التفاؤل، أو الثقة، أو الرغبة في الإبداع، لأن الدوافع التي تحول دون الإقبال على دعم جهود التغيير ليست في العمليات المؤسسية، لكنها عميقة في نفوس، وأذهان الموظفين، وتنعكس في أحاديثهم، وسلوكهم، وعاداتهم الجماعية، وفي تصورهم المشترك حول الجزء المحوري للتغيير وهو «لماذا يجب أن نتخلى عن روتين عملنا، ونبدأ بمنهج جديد»؟ إذن مسارات التغيير يجب أن تبدأ من تهيئة العامل البشري، ثم السعي لإضفاء الطابع المؤسسي على المعايير المجتمعية الجديدة، أحد قادة العمل الذين يفهمون هذا جيدا هو جي. في. براساد، الرئيس التنفيذي لشركة دكتور ريديز العالمية للأدوية Dr Reddy›s، والتي تتخذ مقرها الرئيسي في الهند، وتنتج الأدوية والعقاقير ذات الاستخدام العام وبأسعار معقولة، حققت الشركة في بداياتها نجاحات ساحقة، ثم بدأت في التوسع التدريجي حتى أكملت سبع وحدات للأعمال متوزعة في (27) دولة، وبلغ العدد الإجمالي للموظفين أكثر من (20,000) موظفا وموظفة، حينها أصبحت عملية صنع القرار أكثر تعقيدا، وتنوعت الثقافات المؤسسية، واختلفت عن الثقافة الأم التي نشأت في المقر الرئيسي في الهند، فأصبحت فروع الشركة غير متوافقة، لجأت شركة دكتور ريديز إلى بناء الكثير من الإجراءات الجديدة، وأدخلت تغييرات متلاحقة، لكنها لم تجدِ نفعا، بل على العكس من ذلك أدت إلى تباطؤ الشركة، وأصبح الرئيس التنفيذي جي. في. براساد أمام معضلة كبيرة، ففشلُ التدخلات التي قامت بها الشركة ينبئ بوجود مشكلة عميقة، وكثرة المحاولات بدأت تتسبب في ظهور مشكلات جانبية إضافية لم تكن ظاهرة في المشكلة الأساسية، وبذلك فإن الاستمرار في طريقة التعامل مع هذه الحالة المصيرية كان يجب أن يتغير، ولكن كيف؟ قبل أن نتعرف على منهج وفكر الرئيس التنفيذي في إنقاذ الشركة التي كانت تواجه مخاطر التفكك، دعونا أولا نتعرف على شخصية المهندس جي. في. براساد، الذي كان حينها على رأس شركة على حافة الانهيار، وهو لم يكن سوى رجل أعمال دخل عالم ريادة الأعمال بدافع من شغفه في البحث عن الابتكار والتجديد، كان يحمل درجة البكالوريوس في الهندسة الكيميائية من كلية ألاجابا للتكنولوجيا في الهند، ومعهد إلينوي للتكنولوجيا في شيكاغو التي أكمل فيها الفصول الثلاثة المتبقية من دراسته في الهند، تابع براساد دراسة الماجستير في إدارة الأعمال الصناعية في جامعة بوردو، وعاد ليعمل في قطاع المقاولات والتشييد في شركة والده، وبعد سنوات شارك في تأسيس شركة بنزوكس لابز Benzex Labs، لتصنيع العقاقير، والتي استحوذت عليها لاحقا شركة دكتور ريديز، وصعد براساد في سلم العمل حتى وصل إلى منصب رئيس مجلس الإدارة المشارك، والمدير الإداري لها، عرف براساد طوال مسيرته المهنية بتركيزه على الاحترافية، والجودة، وتبني التجديد والابتكار.
تعالوا نقف على خطة عمل المهندس جي. في. براساد، قرر توحيد ثقافة مختبرات دكتور ريديز لتكون ذكية، ومبتكرة، ومتمحورة حول خدمة المريض، هو أدرك بأن الأمر يتطلب رحلة طويلة من الصبر لمواءمة تطلعات الموظفين، وتحفيزهم نحو هدف مشترك، كلف فريقه في مستوى الإدارة العليا بالبحث عن هذا الهدف المشترك الذي يمكنه أن يمد خيوط الاتحاد بين منتسبي الشركة داخل، وخارج الهند، وعلى مدار عدة أشهر من العمل المستمر، ومع وجود المقاومة السلبية، تمكن الفريق من الاجتماع بالجميع، بدءا من العاملين في المصانع، وخطوط الإنتاج، وحتى العلماء، والباحثين، والشركاء الخارجيين، والمستثمرين، تمكن الفريق من تحديد، واستخلاص هدف الشركة في أعمق مفاهيمه، وهي تقديم فرصة الشفاء، والحياة اللائقة للذين يعانون من آلام المرض، وزرع الأمل لمن يواجهون احتمال فقد أحبائهم بالمرض، وتم تقليص هذا الهدف الإنساني السامي، والنبيل إلى أربع كلمات بسيطة وهي: «الصحة الجيدة لا تنتظر».
لا بد أنكم الآن تتخيلون هذا الشعار اللفظي مطبوعا على الملصقات التحفيزية، ويتم تكراره في الاجتماعات الدورية، ويتصدر أخبار الشركة في وسائل التواصل الاجتماعي، لكن ما حدث كان مختلفا جدا، وجه المهندس براساد بأن يبدأ الاستخدام الرسمي للشعار بشكل تدريجي دون ضجيج إعلامي، كانت فلسفته هي أن تنجح الشركة أولا هو إظهار هذه الفكرة على أرض الواقع، وليس الحديث عنها، جاءت المرحلة التي أعقبت اعتماد هدف الشركة مليئة بالحراك الاستراتيجي، تم التركيز على تجويد المشروعات الإنتاجية التي تعكس المرونة، والابتكار، والتركيز على المستفيدين، قامت الوحدات المعنية بضمان الجودة بتنفيذ مبادرات إعادة تصميم عبوة المنتج لتكون أكثر سهولة في الاستخدام بناء على ملاحظات سابقة من المستهلكين، والتي لم يلتفت إليها أحد في الماضي، وكذلك تمت إعادة صياغة دور مندوبي المبيعات ليكونوا أكثر تطورا من الناحية العلمية، مما يعزز الصورة الخارجية لشركة تُعنى بصحة وحياة الناس، وليست شركة استهلاكية تسعى لترويج منتجاتها، ولم تغفل إدارة براساد عن دور التطوير الإلكتروني والرقمي، فتم إنشاء منصات للبيانات الداعمة للاستجابة لطلبات المتعاملين، والشركاء بطريقة سريعة، وفاعلة.
وعندما حان الوقت للإعلان عن هدف الشركة، طلبت الشركة من جميع الموظفين حضور حفل التدشين، وطُلب منهم تقديم وعد شخصي حول التزامهم بدعم هدف الشركة نحو «الصحة الجيدة التي تنتظر»، وفي اليوم التالي، كشف المهندس براساد للعالم عن هوية العلامة التجارية الجديدة، والموقع الإلكتروني لشركة مختبرات دكتور ريديز، وبعد فترة وجيزة من هذا الإعلان، أنشأت الشركة وحدتين في حيدر أباد، ومومباي تحت مسمى «استوديو الابتكار»، لتقديم دعم هيكلي إضافي لجهود الإبداع داخل الشركة، وبذلك تغيرت ثقافة الشركة كليا، وارتفعت الإنتاجية بشكل كبير، وسجلت مختبرات ريديز سبقا تاريخيا بتطوير منتج خلال (15) يوما فقط، وقد كان نفس هذا المنتج يستغرق شهورا من العمل، وصرح قائد فريق التطوير قائلا بفخر: كان لا بد لنا من إكمال العمل، لأن صحة المريض لا يجب أن تنتظر.
عندما يتعلق الأمر بتغيير الثقافة المؤسسية، فإن مجرد شرح الحاجة إلى التغيير لن يفي بالغرض، إنما يجب خلق شعور مشترك بالإلحاح لجعل هذا التغيير واقعاَ، مع الإدراك بأنه من الحكمة التريث في الإعلان عن التحولات المستقبلية، وتسليط الضوء على النتائج الواقعية، بتأطير التغيير في أهداف مركزة ومتاحة لجميع منتسبي المؤسسة، وتخصيص مساحات صغيرة لإعادة إنتاج التوجهات والسلوكيات الداعمة للتغيير، لتكون بمثابة المحفزات الذاتية، وحاضنات للتحول المنشود.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
بناء السمعة المؤسسية
تابعت، كغيري من المتابعين، ما أثير مؤخرًا من تفاعلات وتعليقات حول بعض القرارات الإدارية التي أعلنتها بعض المؤسسات وكان لها تأثير مباشر في حياة الناس اليومية. ما استوقفني فـي كل ذلك لم يكن مضمون القرارات نفسها، فلكل جهة الحق فـي إدارة شؤونها وفق ما تراه مناسبًا، بل ما لفت انتباهي هو الأسلوب الذي طرحت به هذه القرارات، وتوقيتها، وكيفـية التواصل بشأنها مع الجمهور. بدا واضحًا أن جزءًا كبيرًا من ردود الفعل الغاضبة لم يكن ناتجًا عن جوهر القرار ، بقدر ما كان نتيجة لطريقة الإعلان عنه، وغياب التمهيد والتفسير، وكأن الناس طلب منهم فجأة أن يتفهموا، ويقبلوا وينفذوا ما نصت عليه تلك القرارات.
نحن اليوم فـي زمن لم يعد فـيه الجمهور ينتظر تفسيرًا من طرف واحد، ولا يقبل رسائل جاهزة لا تأخذ مشاعره وظروفه فـي الحسبان. كل قرار يمس مصالح الناس، مهما كان بسيطًا، يحتاج إلى تواصل مدروس، وإلى إدراك حقيقي بأن الثقة التي بنتها المؤسسة مع جمهورها عبر سنوات، يمكن أن تتبخر فـي لحظة واحدة من سوء الفهم أو ضعف التواصل.
الثقة المؤسسية - أو ما يُعرف فـي علم الاتصال بـ«السمعة المؤسسية» - لم تعد مفهومًا نظريًّا أو تجميليًّا فـي الهياكل الإدارية، بل أصبحت جزءا أصيلًا من هوية المؤسسة وكيانها. ولتقريب الصورة أكثر، أستشهد بما قالته الكاتبة وخبيرة السمعة الرقمية فاميلا كيوب «السمعة تُبنى على المدى الطويل، لكنها قد تُنسف بلحظة تواصل سيئة واحدة». عبارة تختصر كثيرًا من الحقيقة التي نغفل عنها أحيانًا حين نصدر بيانًا أو نمرر قرارًا دون أن نفكر فـي أثره النفسي والاجتماعي.
السمعة ليست مجرد كلمات لطيفة تقال فـي المؤتمرات الصحفـية، ولا تغريدات تزيَّن بعناية. إنها الانطباع الذي يبقى فـي ذهن الناس بعد كل تواصل، وهي الصورة التي تتشكل عن المؤسسة من خلال أفعالها، وقراراتها، وطريقة تعاطيها مع النقد والاختلاف.
وسائل الإعلام - التقليدية منها والرقمية - تلعب دورًا هائلًا فـي هذا التشكيل، إما فـي البناء أو الهدم. الإعلام يمكنه أن يُسلّط الضوء على الإنجازات، كما يمكنه أن يضخّم الأخطاء، ويجعل من زلة بسيطة أزمة وطنية. وخير شاهد على ذلك ما نراه اليوم فـي الولايات المتحدة، من معارك إعلامية حادة بين الرئيس دونالد ترامب ومؤسسات إعلامية كبرى، حيث أصبحت السمعة ساحة حرب مفتوحة بين الحقيقة والتأويل، بين التواصل والتشويه.
فـي هذا السياق، تصبح المسؤولية أكبر على فرق الإعلام والاتصال داخل المؤسسات. لم يعد كافـيًا أن يكون الموظف الذي يدير الاتصال جيدًا فـي اللغة أو يعرف أدوات التصميم أو النشر، بل يجب أن يكون لديه وعي استراتيجي، وحس إنساني، وإدراك عميق لكيفـية تأثير كل رسالة على الناس. وهنا تأتي أهمية التدريب المتواصل، والتطوير، والاستعانة بأصحاب الخبرة فـي الإعلام عند صياغة السياسات الاتصالية، خصوصًا حين تكون القرارات حساسة أو ذات تأثير اجتماعي واسع.
لقد أصبح من الضروري أن تفكر المؤسسات قبل أن تتكلم، وأن تزن كل عبارة قبل نشرها، لأن الجمهور اليوم لا يغفر بسهولة، ولا ينسى سريعًا. والمشهد الإعلامي الحديث لا يمنحك رفاهية فـي التبرير وإعادة الشرح بعد أن تكون قد خذلت فـي المرة الأولى. من هنا، فإن الاستثمار الحقيقي ليس فقط فـي تطوير الخدمات، بل فـي كيفـية تقديمها والتحدث عنها.
بناء السمعة المؤسسية ليس وظيفة العلاقات العامة وحدها، بل مسؤولية كل من يمثل المؤسسة ويتحدث باسمها. وهي لا تصنع فـي الحملات الإعلامية، بل تبنى بالصدق، والشفافـية، والاحترام. فالناس، فـي النهاية، لا يبحثون عن مؤسسة لا تخطئ، بل عن مؤسسة تعترف بخطئها، وتتواصل معهم بصدق حين تفعل ذلك فهذا هو جوهر التواصل والاتصال.