اتفاقية أوسلو بعد 30 عاما من توقيعها.. فشل ذريع في تحقيق السلام
تاريخ النشر: 13th, September 2023 GMT
13 سبتمبر، 2023
بغداد/المسلة الحدث: عبر أنحاء الضفة الغربية المحتلة تشكل حواجز التفتيش الأسمنتية والجدران العازلة والجنود رمزا ودليلا على فشل جهود إقامة سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ توقيع اتفاقية أوسلو التاريخية في مثل هذا الأسبوع قبل 30 عاما.
تجمدت الاتفاقية، التي وقعت كإجراء تمهيدي لبناء الثقة وإفساح الطريق أمام اتفاق سلام دائم، منذ زمن طويل وتحولت إلى نظام لإدارة صراع لا تبدو له نهاية في الأفق.
وفي ظل الاضطرابات بالضفة الغربية، ومع وجود حكومة قومية في إسرائيل ترفض أي احتمال لإقامة دولة فلسطينية، واستعراض حركة حماس الإسلامية لقوتها خارج مقرها في غزة، تبدو احتمالات السلام أبعد ما تكون عن أي وقت مضى.
وبمجرد مغادرة الرئيس الفلسطيني محمود عباس (87 عاما) لمنصبه سيترك فراغا ربما يدفع الأزمة إلى ذروة جديدة.
وقالت الناشطة المدنية والمتحدثة السابقة باسم الوفد الفلسطيني في عملية السلام بحقبة التسعينيات حنان عشراوي “نحن في نهاية حقبة في فلسطين وإسرائيل، وربما في المنطقة كلها”.
وأضافت “ذلك الجيل بأكمله.. (الذي عاصر) حقبة الحديث عن الاعتراف المتبادل والدولتين والتسوية عن طريق المفاوضات والحل السلمي، يصل إلى النهاية (ينتهي) في فلسطين”.
ويعتقد قليلون جدا على كلا الجانبين في وجود احتمال واقعي لحل الدولتين بإقامة دولة فلسطينية مستقلة جنبا إلى جنب إسرائيل. وقالت عشراوي إن هذه الفكرة أصبحت الآن “محض خيال”.
وفي ظل حواجز تفصل بين الجانبين بالضفة الغربية معظمها تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية نشأ جيل جديد من الإسرائيليين والفلسطينيين لا يعرفون شيئا يذكر عن بعضهم البعض حيث وقعت الاتفاقية الأولى في 13 سبتمبر أيلول 1993.
وقال الناشط القانوني مهند قفيشة من مدينة الخليل “أوسلو وأنا ولدنا في العام ذاته” وأضاف “بالنسبة لي، ولدت وكانت حولي وحول منزلي نقاط تفتيش، إذا تركت منزلي للذهاب إلى المدينة لزيادة أصدقائي أضطر لعبور نقطة تفتيش”.
وبحسب أرقام الأمم المتحدة هناك نحو 700 ألف مستوطن يهودي يعيشون الآن بأنحاء الضفة الغربية والقدس الشرقية، والمفترض أن يكونا محور أي دولة فلسطينية بالمستقبل. ويتواصل بناء المستوطنان بسرعة.
ويقدر عدد الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية بنحو 3.2 مليون والذين يعيشون في غزة 2.2 مليون.
وأسفرت أعمال العنف خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية عن مقتل عشرات الإسرائيليين من بينهم مدنيون وجنود في هجمات لفلسطينيين بالضفة الغربية وإسرائيل وهجمات سافرة لمستوطنين إسرائيليين على بلدات وقرى فلسطينية.
وأدت المداهمات شبه اليومية التي تشنها القوات الإسرائيلية لمقتل مئات النشطاء الفلسطينيين والعديد من المدنيين، في حين ظهرت مجموعة من الجماعات المسلحة الجديدة في بلدات مثل جنين ونابلس ليس لها صلة تقريبا بالجيل الأقدم من القادة الفلسطينيين.
وقال المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط تور وينسلاند في مؤتمر هذا الأسبوع “لم يسبق لي على الإطلاق أن رأيت الضفة الغربية على الحال التي هي عليها الآن، كنت أذهب وأعود هنا منذ قرابة 30 عاما ولم أر الوضع أسوأ من هذا”.
وتبقى السلطة الفلسطينية الشريك المفضل لإسرائيل حتى ولو لم تكن موضع ثقة في كثير من الأحيان رغم فقدها السيطرة على غزة بعد سيطرة حماس عليها في 2007. وتعتمد على التمويل الأجنبي مع عدم وجود تفويض وتراجع شعبيتها بين المواطنين حيث تتأرجح بين دورها كممثلة للفلسطينيين ومفاوضة مع إسرائيل.
وقال مايكل ميلشتاين المسؤول السابق في مكتب تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وهي الهيئة العسكرية المشكلة بعد أوسلو للتنسيق بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية “إنها ضعيفة للغاية، وسيئة للغاية لكن هذه الاتفاقية لا تزال قائمة”.
وأشاع توقيع الاتفاقات التفاؤل لفترة وجيزة جسدتها صورة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، وهما يتصافحان في حديقة البيت الأبيض، تحت رعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون. واغتال إسرائيلي يميني رابين عام 1995، وتوفي عرفات عام 2004.
ويرى يوسي بيلين، وزير العدل الأسبق والمفاوض الإسرائيلي، أن عدم تحقيق الاتفاقات للسلام جاء نتيجة تفضيل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تحويل ما كان في الأصل هدنة مؤقتة إلى وضع قائم دائم.
ومع انقسام المجتمع الإسرائيلي بسبب النزاع الدائر حول محاولة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تقليص سلطة المحكمة العليا، أصبحت احتمالات تحقيق أي جهود سلام منسقة أمرا بعيد المنال فيما يبدو.
وقال بيلين، وهو سياسي سابق في حزب العمل، إن “الحكومة الحالية في إسرائيل لا تبدي أي بوادر على استعدادها للتوصل إلى اتفاق دائم. ومن ثم، فعلى الذين يتحدثون عن اتفاق دائم أن يتحدثوا عن حكومات في المستقبل”.
ويخشى مسؤولون إسرائيليون أنه بمجرد رحيل عباس، سينفتح الباب إما أمام توغل حماس في الضفة الغربية التي يتزايد فيها نشاط الجماعة الإسلامية أو الفوضى مع تناحر متنافسين على القيادة.
وتحدث عدد من أعضاء الحكومة الإسرائيلية صراحة عن ضم الضفة الغربية بالكامل، لكن الصعوبات العملية أمام مثل هذه الخطوة أثبتت تعذر تنفيذها.
ويتهم الفلسطينيون، وعدد من المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، إسرائيل بالفعل بإدارة نظام فصل عنصري في الضفة الغربية.
وترفض إسرائيل وحلفاؤها، ومنهم الولايات المتحدة، هذا الاتهام، لكن الضم يجبرها على أن تسلك أحد طريقين فإما أن تمنح الفلسطينيين وضعا مساويا للإسرائيليين مما قد يغير شخصية إسرائيل كدولة يهودية أو أن تصنع لهم إطارا منفصلا وهو ما لا يتوافق مع الديمقراطية.
وقال روتيم أوريج (29 عاما) من التحالف الديمقراطي الإسرائيلي وهو مركز أبحاث ليبرالي “كلانا هنا وكلانا باقون هنا”.
وأضاف “ومن ثم، يتعين علينا العثور على طريقة، أولا، للبقاء على نفس الأرض، وثانيا، دون قتل بعضنا البعض، وثالثا، مع الحفاظ على دولة يهودية ديمقراطية”.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
المصدر: المسلة
كلمات دلالية: الضفة الغربیة
إقرأ أيضاً:
الأوقاف: اتفاقية السلام انتصار للحكمة المصرية ورسالة دينية تؤصل لثقافة الإعمار بغزة
تُثمن وزارة الأوقاف الدور الوطني والإنساني الذي قامت به القيادة المصرية في إتمام اتفاقية السلام الخاصة بقطاع غزة، مؤكدة أن هذا الاتفاق يُعد انتصارًا للحكمة المصرية الراسخة، وتجسيدًا لرؤية القيادة السياسية في ترسيخ قيم السلام والاستقرار والتنمية في المنطقة.
وقالت وزارة الاوقاف في بيان لها اليوم، بعد أكثر من عامين من الدمار الذي شهده قطاع غزة، تطل علينا بشائر اتفاقية سلام تاريخية، هذا السلام ليس مجرد توقيع على وثيقة، بل هو مشروع حضاري أصيل، جاءت به الشرائع السماوية، وتطلعت إليه الإنسانية عبر العصور، إنه انتصار لإرادة الحياة على ثقافة الموت، وتجسيد للحكمة الربانية التي أرادت للبشر أن يعمروا الأرض لا أن يدمروها.
المشروعية الدينية للسلام من ثوابت الأديان
بينما تحاول بعض الأصوات تشويه مفهوم السلام في الإسلام ووصفه بتنازلٍ أو ضعف، تنهض النصوص الشرعية لتروي قصةً أخرى؛ قصة تأسيسٍ لمشروعية السلام كقيمةٍ عليا في بناء الأمم وتحقيق المصالح. فالإسلام الذي جاء رحمةً للعالمين، لم يغفل عن تأصيل هذه القيمة في نصوصه المؤسسة، بل جعلها منهجاً لإقامة العدل ودرء المفاسد.
ففي القرآن الكريم، يأمر الله تعالى المؤمنين بالسلام بأبلغ صيغة للعموم والشمول، ويوجب الاستجابة لنداء السلام حين يطلقه الطرف الآخر: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} [الأنفال: ٦١] . وهذا ما أشار إليه الإمام القرطبي بقوله: "إن مالوا- يعني الذين نبذ إليهم عهدهم- إلى المسالمة، أي الصلح، فمل إليها، هذا أمر من الله تعالى لنبيه والمؤمنين بأن يقبلوا الصلح إذا جنح إليه العدو" [الجامع لأحكام القرآن، ج٨، ص ٣٩].
قال القاضي ابن العربي: "وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه". [أحكام القرآن لابن العربي، ج٢، ص ٤٢٧].
ويؤكد هذا المعنى ما جاء في تفسير ابن كثير: "{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ} أَيْ: مَالُوا {لِلسَّلۡمِ} أَيْ: الْمُسَالَمَةِ وَالْمُصَالَحَةِ وَالْمُهَادَنَةِ، {فَٱجۡنَحۡ لَهَا} أَيْ: فَمِلْ إِلَيْهَا وَاقْبَلْ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمَّا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ، عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الصُّلْحَ، وَوَضْعَ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تِسْعَ سِنِينَ، أَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ مَعَ مَا اشْتَرَطُوا مِنَ الشُّرُوطِ الْأُخَرِ" [تفسير ابن كثير: ج٤، ص٧٤].
ولم تكن السنة النبوية بمعزلٍ عن هذه القيمة الانسانية والشرعية، بل قدمت أروع النماذج التطبيقية عبر صلح الحديبية، الذي مثل نقلةً استراتيجية في فهم السلام كخيارٍ استباقي وليس ردّة فعل. فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن بنود الصلح: «وَاللهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» [مسند أحمد - ٣١/٢١٣].
ولم يكن هذا الصلح مجرد اتفاقيةٍ سياسية، بل كان حدثاً استثنائياً نزل القرآن مؤيداً له: {إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: ١] .
ولا ينفرد الإسلام بإعلاء قيم السلام بين البشرية، فالرسالات السماوية تتشارك في التأكيد على قيمة السلام كأساسٍ للتعايش.
ففي الرسالة المسيحية، يعلن الإنجيل: "طوبى لصانعي السلام فإنهم أبناء الله يدعون" [إنجيل متى ٥: ٩]، ويؤكد القديس بولس: "إنْ كَانَ مُمكنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ" [رسالة رومية ١٢: ١٨].
وفي الرسالة اليهودية، تنص التوراة على السعي الحثيث نحو السلام: "اطلبوا السلام واسعوا وراءه" [سفر المزامير ٣٤: ١٤]، وتؤكد التعاليم اليهودية أن "السلام العظيم هو أساس العالم" [التلمود البابلي].
هذه المعاني كلها سبق وبينها الرئيس الراحل بطل الحرب والسلام محمد أنور السادات في زيارته التاريخية للقدس : "لقد جئت إليكم اليوم على قَدَمَيْن ثابتَتَيْن، لكي نبني حياة جديدة، ولكي نُقِيم السلام. وكلنا على هذه الأرض، أرض الله، كلنا (مسلمون ومسيحيون ويهود) كلنا نعبد الله، ولا نشرك به أحداً، وتعاليم الله ووصاياه، هي حب وصدق وطهارة وسلام". [السادات: خطاب الكنيست، بتاريخ ٢٠ نوفمبر ١٩٧٧].
فوجود هذا التوافق بين الرسالات السماوية يؤكد أن السلام ليس خياراً ثانويًّا، بل هو قيمةٌ أصيلة وغاية سامية في الشرائع السماوية، وجزءٌ لا يتجزأ من رسالتها الإنسانية، إنه الجسر الذي تعبر عليه الأمم من ظلمات الصراع إلى نور التعايش، ومن قاع الصراع والتناحر إلى قمم المجد والتعاون.
السلام والتحول من دموية الصراع إلى آمال المستقبل
في اللحظة التاريخية التي تنتقل فيها العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية من ساحة المعركة إلى طاولة المفاوضات، بوساطة مصرية جريئة، ندرك أننا أمام نموذج فريد للسلام الذي لا يشبه أي اتفاقية سابقة. إنه ليس سلام المستسلمين، بل سلام الحكماء الذين أدركوا أن مستقبل أبنائهم أهم من انتصارات الماضي.
فلقد حوّلت الوساطة المصرية طاقات الصراع الهائلة إلى طاقات بناء، حيث أصبحت الموارد التي كانت تُنفق على الحرب تُوجّه الآن نحو إعادة إعمار غزة، وبناء المؤسسات، وخلق فرص العمل. هذا التحول ليس هزيمة، بل هو انتصار للإرادة الإنسانية على منطق الدمار.
فالآن يأتي السلام كتحول استراتيجي من منطق القوة إلى قوة المنطق، من منطق القوة العسكرية إلى قوة المنطق الإنساني، فالقرار المصري بقيادة سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي بالوساطة لم يكن تنازلاً عن الحقوق، بل كان ارتقاءً بآليات تحقيقها، إنه الانتقال من ثقافة "الموت في سبيل القضية" إلى ثقافة "الحياة من أجل تحقيق القضية".
يقول الرئيس الراحل أنور السادات في خطاب الكنيست التاريخي ١٩٧٧: "لقد جئت إليكم اليوم على قواعد متينة من قواعد الحق، لا على قواعد استعراض القوة الغالبة، إنّ الروح التي تزهق في الحرب، هي روح إنسان، إنَّ الأطفال الأبرياء الذين يفقدون رعاية الآباء وعطفهم، هم أطفالنا جميعاً، لهم علينا المسؤولية الكبرى في أن نوفر لهم الحاضر الهانئ، والغد الجميل. من أجل كل هذا، ومن أجل أن نحمي حياة أبنائنا وأخواتنا جميعاً، من أجل أن تنتج مجتمعاتنا وهي آمنة مطمئنة، من أجل تطور الإنسان وإسعاده وإعطائه حقّه في الحياة الكريمة، من أجل مسؤوليتنا أمام الأجيال المقبلة، من أجل بسمة كل طفل يولد على أرضنا" [خطاب الكنيست، ٢٠ نوفمبر ١٩٧٧].
العبقرية المصرية ودورها في صناعة السلام
تتجسد عبقرية الدور المصري في صناعة السلام من خلال ثلاث دوائر متكاملة، تبدأ بالوساطة التاريخية القائمة على رصيدٍ متراكم من الحكمة والمصداقية، فمصر التي أرسى دعائم دورها التاريخي الراحل الرئيس أنور السادات، تواصل اليوم بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي حمل راية السلام العادل، حيث يؤكد في بيانه الرسمي (٢٠٢٤): "إن مصر ستظل دوماً داعمة للحق الفلسطيني وساعية لتحقيق السلام العادل". هذا الإرث الدبلوماسي الفريد جعل من مصر الوسيط الأمين والقادر على جمع الأطراف حول طاولة واحدة.
أما الدائرة الثانية فتتمثل في ذلك العطاء الإنساني الذي لا ينضب، حيث ظل معبر رفح شريان حياة ينبض بالرحمة والعون لأهالي غزة. فخلال فترة الحرب، لم يكن المعبر مجرد نقطة عبور، بل كان تجسيداً حياً لوقوف مصر إلى جانب أشقائها، حيث عبرت خلاله أكثر من ١٥ ألف شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية، كما وثقته تقارير الهلال الأحمر المصري (٢٠٢٤). لقد تحول هذا المعبر إلى رمز للصمود والتضامن العربي الأصيل.
وتأتي الدائرة الثالثة متمثلة في الرؤية المستقبلية التي تنتقل بالعلاقات من دائرة السلام إلى آفاق التنمية الشاملة، فقد أسست الاتفاقية لمرحلة جديدة من التعاون الفلسطيني الإسرائيلي من خلال خمس لجان مشتركة تعمل في مجالات الأمن والاقتصاد والمياه والبيئة والسياحة، مع عقد قمة سنوية بين رئيسي الدولتين لمراجعة تنفيذ بنود الاتفاقية.
وتثبت هذه الاتفاقية أن الحلول العسكرية ليست الطريق لتحقيق السلام، وأن الدبلوماسية الواعية القائمة على الصبر والمثابرة يمكن أن تحقق ما فشلت فيه الحروب. كما تؤكد على أهمية الوساطات الإقليمية الفاعلة، خاصة تلك التي تقودها دول تحمل إرثاً حضارياً وتمتلك رؤية استراتيجية، لتكتب مصر بذلك فصلاً جديداً في سجل صناعة السلام بالمنطقة.
خطة الإعمار المصرية شريان الحياة الفلسطينية
تتطلع مصر نحو غدٍ أفضل لغزة من خلال رؤيةٍ شاملة لإعمار، تجسدت في خطة طموحة بقيمة ٥٣ مليار دولار تمتد على مدى خمس سنوات، تهدف إلى تحويل الأنقاض إلى صروح عمرانية، والمعاناة إلى أملٍ واعد، وقد نَقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن المسودة المطروحة للنقاش في القمة العربية الطارئة بالقاهرة، أن هذه الخطة تدمج بين الإغاثة الطارئة وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية طويلة المدى، في نموذجٍ فريد يجمع بين السرعة في الاستجابة والدقة في التخطيط.
وفي المرحلة الأولى للتعافي المبكر، التي تستمر ستة أشهر بتكلفة ثلاثة مليارات دولار، تبدأ مصر وفلسطين بخطوات عملية ملموسة تشمل إزالة ركام المحور المركزي (محور صلاح الدين) وباقي مناطق القطاع، وتوفير مئتي ألف وحدة سكنية مؤقتة، وإنشاء سبعة مواقع تستوعب أكثر من مليون ونصف المليون فرد في وحدات سكنية (حاويات) تتسع لستة أفراد في المتوسط، بالإضافة إلى ترميم ستين ألف وحدة سكنية متضررة جزئياً لاستيعاب ثلاثمئة وستين ألف فرد.
أما مرحلة إعادة الإعمار فتمتد على أربع سنوات ونصف، مقسمة إلى مرحلتين: تتطلب الأولى عشرين مليار دولار حتى عام ٢٠٢٧، وتشمل إنشاء المرافق والشبكات والمباني الخدمية والوحدات السكنية الدائمة، واستصلاح عشرين ألف فدان من الأراضي الزراعية. بينما تتطلب الثانية ثلاثين مليار دولار حتى عام ٢٠٣٠، وتتضمن إنشاء مناطق صناعية وميناء صيد وميناء بحري ومطار؛ لتحويل غزة إلى مركز اقتصادي حيوي.
ولضمان نجاح هذه الرؤية، تقترح الخطة المصرية إنشاء صندوق ائتماني تحت إشراف دولي، يضمن كفاءة التمويل والشفافية والرقابة في الإنفاق. كما تعتزم مصر تنظيم مؤتمر وزاري رفيع المستوى بالتعاون مع السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة، بمشاركة الدول المانحة والمؤسسات التمويلية والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، لحشد الدعم اللازم وتحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس، يعيد لغزة بهاءها ويزيل عنها بلائها، ويضمن مستقبلاً مزدهراً لأبنائها.
الخلاصة
تمثل هذه الاتفاقية التاريخية تتويجًا لمسيرة دبلوماسية حكيمة، جسدت فيها مصر دور الوسيط الأمين بجدارة، محوّلةً مسار الصراع من دوامة العنف والدمار إلى فضاء التعايش والأمل. إنه سلامٌ لا يعبر عن تنازل، بل هو انتصار لإرادة الحياة، يستمد جذوره من المشروعية الدينية الأصيلة في الشرائع السماوية، ويترجم على الأرض من خلال رؤية تنموية طموحة تهدف إلى إعادة بناء الإنسان والمكان، لتكتب غزة بذلك فصلاً جديداً من تاريخها نحو مستقبلٍ يليق بأبنائها.