أفضل الأعمال التي دعا إليها الشرعُ ورغَّب فيها حسنُ الخلق، فبه تُرفعُ الدرجات وتُكفرُ السيئات، وبه صلاحُ المجتمعات، ومن أهميته أن جعل رسولُ اللهِ الغايةَ من شرعِه أن يتمّمَ مكارم الأخلاق، وامتدحه الله بقوله: " وإنك لعلى خلق عظيم "، ووصفته السيدة عائشة، فقالت: " كان خلقُه القرآن " ، فلقد جمع النبيُ ــ عليه الصلاة والسلام ــ بين تقوى اللهِ وحسنِ الأخلاق، لأن تقوى الله تُصلحُ ما بينَ العبدِ وبين الرب، وحسنُ الأخلاقِ يُصلح ما بينه وبين الخلق، فالتقوى تُوجب له محبةَ الله، وحسنُ الخلق يُوجب له محبةَ الناس "
ولهذا لما سُئل النبيُ عن أكثرِ ما يدخلُ الناسَ الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: " تقوى الله، وحسنُ الخلق " ، لما بدا في الأفْقِ نورُ مُحَمَّدٍ كالبدرِ في الإشراق عند كماله، نشر السلامَ على البريةِ كلِّها وأعاد فيها الأمنَ بعد زواله، أخلاقه غزت القلوبَ بلطفها قبل استلالِ سيوفِه ونبالِه، ما في البريةِ قط مثلُ محمدٍ في حسنِ سيرته وسمحِ خصالِه " إن حسنَ الخلق قسمان: حسن الخلق مع اللهِ وهو: أن تعلم أن كلَّ ما يكونُ منك يُوجب عذرًا أن تتهم نفسك بالتقصير، وأن كلَّ ما يأتي من الله يُوجب شكرًا، وحسنُ الخلق مع الناس يكون: ببَذْلِ المَعْرُوْفِ، وَكَفِّ الأَذَى، وطلاقةِ الوجه، وَأَنْ تَحْتَمِلَ مَا يَكُوْنُ مِنَ النَّاس، ِقال ـ تعالى ـ : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.
يقول سيد النبيين: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ "، وفي سعةِ الأخلاق كنوزُ الأرزاق، والبركةُ في المالِ والعُمُر، يقول ــ عليه الصلاة والسلام ــ: "حُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الأَعْمَارِ "، وصاحبُ الأخلاقِ الحسنة أقربُ الناسِ منزلةً من رسولِ الله يومَ القيامةِ في أعْلَى الجِنان، يقول ــ عليه الصلاة والسلام ــ:" إن من أحبِّكم إلي وأقربِكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنَكم أخلاقا"، وقال عليه الصلاة والسلام: " أنا زعيمُ بيتٍ في أعلى الجنة لمن حسُن خلُقُه".
ــ إن الأخلاَق الحميدةَ هي الغايةُ المرجوةُ والثمرةُ المستفادة من العبادات، وما شرع اللهُ عبادةً إلا وهي تعوِّدُ المسلمَ أن يحيا بأخلاقٍ صحيحة، وإن لم تُسْهمِ العبادةُ في تزكيةِ الأخلاقِ فلا قيمةَ لها، فمن حكمة مشروعيةِ الصلاة: أنها تنهى عن الفحشاءِ والمنكر، والصيامُ يزكي الأخلاق ويحقق التقوى، والزكاة والحج يبنيان المسلمَ على الطُّهرِ والنقاء، والبعدِ عن الرفث والفسوق، وإذا لم يتحقق العابدُ بهذه الأخلاقِ فلا قيمةَ لعبادته، ولهذا لما أُخبر النبيُ صلى الله عليه وسلم عن امرأةٍ تقومُ الليلَ وتصومُ النهار، ولكنها تؤذي جيرانَها قال: " هي في النار "؛ لأنها لم تستفدْ من صلاتِها وصيامِها في تزكيةِ أخلاقِها، فالأخلاقُ الحسنة ثمرةُ العبادة؛ والنتيجةُ التي يحصلُها الناسُ من عبادتك وتدينك، ولهذا يقول أبوبكر الكتاني: " الدينُ كلُّه خلق: فمن زادَ عليك في الخلق، فقد زاد عليك في الدين" ، وقال يحيى بنُ معاذ: " سوءُ الخلق سيئةٌ لا تنفعُ معها كثرةُ الحسنات، وحسنُ الخلقِ حسنةٌ لا تضرُّ معها كثرةُ السيئات ". ــ إن الأخلاقَ الحسنةَ قيمٌ مطلقةٌ لا تعرفُ النسبية، ولا تقبل التنازلَ ولا التغافل، ما تركها رسولُ الله وأصحابُه في أحْلكِ الظروفِ وأشدِّ المواقف، لما أراد أن يهاجرَ عليه الصلاة والسلام، أمر الإمامَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ أن يبيتَ في فراشِه، وعُرضت حياة الإمامِ عليّ للخطر حتى يرد الأمانات إلى أهلها. وحتى لو تعرضَ المسلمُ لمواقفَ صعبةٍ، لا يتخلى عن أخلاقِه كما فعل رسولُ الله وآلُ بيته، رُوى أن رجلاً لقي عليَّ بنَ الحسين فشتمه، فثارت إليه العبيدُ وهمّوا به، فقال زينُ العابدين: مهلاً، ثم أقبلَ على الرجل فقال: ما سُتر من أمرِنا عنك، أكثرَ مما ظهرَ لك، ألك حاجة نؤديها إليك؟ فاستحيى الرجلُ، فألقى عليه بردةً كانت عليه، وأمر له بألفِ درهم، فكان الرجلُ بعد ذلك يقول: أشهدُ أنك من أولادِ النبي محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ . ــ ولحسنِ الخلقِ عظيمُ الأثر في بناءِ الإنسانِ والمجتمعات، ورقيِّها وازدهارِها؛ لأن الأخلاقَ الكريمة هي إفرازُ القلبِ السليم، والنفسِ الزاكية، والعقيدةِ الصحيحة، والفكرِ الرصين، والاستقرارِ النفسي والإيماني، والفطرة السليمة، فهي مظهرُ ذلك كلِّه، صلاحُ أمرك للأخلاق مرجعُه فقوم النفسَ بالأخلاقِ تستقم ومما يعينُ على التخلقِ بالأخلاقِ الحسنة، الاقتداءُ برسولِ الله، وأن نتعلقَ به، ونقرأَ سيرتَه، فهو الذي تمت أخلاقُه وصفاتُه، وإن التعلق بالكاملِ وصفاته يقودك إلى الكمال، وصفه ربه، فقال:وإنك لعلى خلق عظيم فاق النبيين في خَلق وفي خُلق ولم يدانوه في علم ولا كرم وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفًا من الدِّيم ومما يعينُ على التخلقِ بالأخلاقِ الحسنةِ : مصاحبةُ الصالحين الأخيار، فالمرء على دين خليله وصاحبه، فإذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة، واعلم أن المجانسة تكون بالمجالسة، فإن جَلست مع المسرورِ سُررت، وإن رافقت الغافلينَ غفلْت، وإن جلست مع الذاكرين ذكَرت، فتبصَّر أمرَك وتدبر حالَ صحبِك، ولا تصحب إلا من ينهضُك حالُه ويدلُّك على الله مقالُه، وما فاز الصحابةُ بهذه الأخلاقِ الحسنة إلا ببركةِ صحبتِهم لرسولِ الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأحسنُ مِنْكَ لم ترَ قطُّ عينِي ... وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ خُلِقتَ مُبَرَّءًا مِنْ كُلِّ عَيْبٍ ... كَأَنكَ قدْ خُلِقْتَ كما تَشَاءُ ومما يعينُ على التخلقِ بالأخلاق الحسنة : أن تُكثر من هذا الدعاءِ، الذي تعلمناه من رسولِ الله، والذي كان يدعو به في صلاته، فيقول: اللهم اهدني لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرف عني سيئَها لا يصرفُ عني سيئَها إلا أنت، وكان يقول: " اللهم كما حسَّنت خلْقي فحسِّن خُلُقي ، اللهم آمين يارب العالمين .
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أفضل الأعمال مكارم الأخلاق السيدة عائشة القرآن ـ علیه الصلاة والسلام ـ أخلاق ه
إقرأ أيضاً:
هل المصافحة عقب الصلاة بين المصلين بدعة؟.. الإفتاء تجيب
تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا بقول صاحبه: هل المصافحة عقب الصلاة بين المصلين من تمام الصلاة؟ أم هي مكروهة؟ أم هي بدعة؟.
وأجابت دار الإفتاء عبر موقعها الرسمي عن السؤال قائلة: إن المصافحة عقب الصلاة بين المصلين جائزةٌ شرعًا ولا حرج فيها، مع ملاحظة عدم الاعتقاد بأنها من تمام الصلاة أو من سُنَنِها التي نُقِل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المداومةُ عليها.
حكم المصافحة عقب الصلاة
وأشارت الى ان المصافحة عقب الصلاة دائرة بين الإباحة والاستحباب، ولكن لا ينبغي أن يَعتَقِدَ فاعلُها أنها من تمام الصلاة أو سُنَنِها المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والقائلون بالاستحباب يستأنسون بما رواه البخـاري في "صحيحه" عن أَبي جُحَيْفَةَ رضي الله عنـه قَـالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْبَطْحَاءِ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ،... وَقَـامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ، قَـالَ -أَبـُو جُحَيْفَةَ رضي الله عنه-: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي، فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ".
قال المحب الطبري (ت: 694هـ): ويُسْتَأْنَسُ بذلك لما تطابق عليه الناس من المصافحة بعد الصلوات في الجماعات، لا سيَّما في العصر والمغرب، إذا اقترن به قصدٌ صالحٌ؛ من تبركٍ أو تودُّدٍ أو نحوه. اهـ.
واختار الإمام النووي (ت: 676هـ) في "المجموع" أن مصافحة من كان معه قبل الصلاة مباحة، ومصافحة من لم يكن معه قبل الصلاة سُنَّة. وقال في "الأذكار": [واعلم أن هذه المصافحة مستحبة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له في الشرع على هذا الوجه، ولكن لا بأس به؛ فإن أصل المصافحة سُنَّة، وكونُهم حافظوا عليها في بعض الأحوال وفرَّطوا فيها في كثير من الأحوال أو أكثرها لا يُخْرِجُ ذلك البعضَ عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها] اهـ. ثم نقل عن الإمام العز ابن عبد السلام (ت: 660هـ) أن المصافحة عقيب الصبح والعصر من البدع المباحة.
الرد على من قال بأن المصافحة عقب الصلاة مكروة
أما ما ذهب إليه بعض العلماء من القول بكراهة المصافحة عقب الصلاة فإنهم نظروا فيه إلى أن المواظبة عليها قد تُؤَدِّي بالجاهل إلى اعتقاد أنها من تمام الصلاة أو سننها المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومع قولهم بكراهتها فإنهم نَصُّوا -كما نقل ابن علان عن "المرقاة"- على أنه إذا مَدَّ مسلمٌ يدَه إليه ليصافحه فلا ينبغي الإعراض عنه بجذب اليد؛ لما يترتب عليه من أذًى بكسر خواطر المسلمين وجرح مشاعرهم، ودفعُ ذلك مقدَّمٌ على مراعاة الأدب بتجنب الشيء المكروه عندهم؛ إذ من المقرر شرعًا أن "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح".
وبناء على ذلك: فإن المصافحة مشروعة بأصلها في الشرع الشريف، وإيقاعُها عقب الصلاة لا يُخْرِجُها من هذه المشروعيَّة؛ فهي مباحة أو مندوب إليها -على أحد قولي العلماء، أو على التفصيل الوارد عن الإمام النووي في ذلك- مع ملاحظة أنها ليست من تمام الصلاة ولا من سُنَنِها التي نُقِل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المداومةُ عليها، وهذا هو الذي لاحظه من نُقِل عنه القولُ بالكراهة؛ فتكون الكراهة عنده حينئذٍ في هذا الاعتقاد لا في أصل المصافحة، فعلى من قلَّد القول بالكراهة أن يُراعيَ هذا المعنى وأن يُراعي أدب الخلاف في هذه المسألة ويتجنب إثارة الفتنة وبَثَّ الفُرقة والشحناء بين المسلمين بامتناعه مِنْ مصافحة مَنْ مَدَّ إليه يده من المصلين عقب الصلاة، ولْيَعْلَمْ أن جبر الخواطر وبَثَّ الألفة وجَمْعَ الشمل أحبُّ إلى الله تعالى من مراعاة تجنب فعلٍ نُقِلَتْ كراهتُه عن بعض العلماء في حين أن المحققين منهم قالوا بإباحته أو استحبابه.