شيخة الجابري تكتب: كأن رحيلكَ كان البارحة
تاريخ النشر: 23rd, October 2023 GMT
في حضرة الحزن لست ضليعة في كتابة من أحِب، رحل والدي في مثل هذا الشهر منذ ستة وعشرين عاماً، ولم أكتبه كما يليق بجلال وهيبة حضوره في روحي، بكل الطيبة التي كانت تملأ قلبه، واليوم وبعد ذاك التاريخ وفي الشهر ذاته يرحل أخي الحبيب سلطان، يغادرنا إلى دار الحق حيث تحيطه دعوات أمي الحبيبة مريم، وصلواتنا بأن يعوضه الله تعالى عما أصابه من مرض أخذ كل شيء فيه إلا ابتسامته ورضاه وقناعته وإيمانه بأن الله تعالى يحبه، لذا اختبره في صحته وصبره وقوة إيمانه وتحمله.
يرحل أخي وعضيدي يودّع العين، المدينة التي أحبها وتعلق بها، يناديها فكان عيناوياً حتى النخاع، وكان «فتى العين» الفنان الذي تعلق بالعود والقصيد واللحن الشعبي الأنيق حتى اعتزل ما يحب بعد سنوات حقق فيها شهرة وحضوراً جميلاً إلى جانب صديقيه اللذين تجايل معهما الفنان الكبير ميحد حمد، والراحل العذب جابر جاسم، غنى «فتى العين» لكبار الشعراء ورافق مودةً ومحبةً العديد من مطربي الخليج وكان بينهم تلميذاً يتشرب القصيدة الجميلة واللحن الشفيف، ثم اعتزل كل ذلك إلا من بعض الأوقات التي يأخذه الحنين فيها إلى ذاك العالم الذي ارتضاه كهواية، لا مهنة.
يغيب عضيدي الحبيب ويأخذ برحيله ابتسامات كثيرة، وفرحاً كان يهدهد أرواحنا، يغيب ونستحضر الصبر سلوانا ورضىً وابتهالاً، نحاول أن نكون لأمنا العين والقلب، ولبعضنا العضد والسند، نحنُ أسرة تؤمن بقيمة الحب لذا تجرحنا المواقف الكبرى، ويعظم حزننا عند رحيل من نحب، وأي رحيل صعبٍ هو الذي يُشبه رحيل «بومييد» الذي يبكيه كل قلب أحبه أو اقترب منه أو تعرّف عليه صديقاً جميلاً وفياً وأنيقاً.
يرحل أخي فتخونني حروفي، وتذبل قصائدي، وتقف الكلمات في حنجرة القلب فيفقد القدرة على النطق، والركض نحوَ البوح فيسقطُ بعضه باكياً، مختنقاً، محترقاً بصهيد الصمت وأنين الروح المستقطع من أنفاس الألم، يا الله كيف للمرء أن يحتملَ كل هذا، كيف لقلب أمي أن يقرأ هذا الوجع ويروح يربّتُ على الصبر، يا أمُّ اصبري واحتسبي ولا تجزعي، فالبشرى بالجنةِ لحبيبك تلوح، فيا رب جنّات عدنٍ وروح وريحان تحف بشقيق روحي، وسندي، وأخي الذي غادر مبكراً ولم نشبعُ بعدُ من ابتسامته ورحابة قلبه، وبهاء طلته وحضوره.
تركض الأيام لا أكاد ألتقطها، يمر على الرحيل عشرُ ليالٍ وكأن الحدث الجلل حلَّ البارحة، كأن ذاك الصمت المغسول بالدمع السخين كان البارحة، كأنك يا قُرّة عين أمي، وحبيب أبي، وشقيقنا وصديقنا ومن دلّلنا، وأحبنا رحلتَ البارحة، تالله كيف لهذا الألم أن ينجلي. أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: شيخة الجابري أحوال
إقرأ أيضاً:
مؤمن الجندي يكتب: أشرف محمود.. الذي علق فأنطق الهوية
في بعض الوجوه تسكن أوطان، وفي بعض الأصوات تنام ذاكرة شعب بأكمله.. هناك وجوه لا تُنسى، لا لأنها لامست الشاشات، بل لأنها لامست القلوب دون استئذان.. أشرف محمود… ليس مجرد اسم لمعلق رياضي، بل حكاية مصرية تمشي على قدمين، رجل حين يتحدث، تسمع في صوته رائحة الشاي على مصطبة الجد في آخر النهار، تسمع أنين أبو الهول وصبر الفلاح، ودفء السلام عليكم من جارٍ لا يغلق بابه.
مؤمن الجندي يكتب: مهما صفق الواقفون مؤمن الجندي يكتب: عندما ينطق الوجه مؤمن الجندي يكتب: أزرار السوشيالجية مؤمن الجندي يكتب: بين العرق والذهب وصمت الكادحينهو لا يعلّق على المباراة فحسب، بل يُمسك بالميكروفون كمن يُمسك بفرشاة ألوان، يرسم بها مشهدًا حيًّا تنقلك من الملعب إلى الحارة، من الهدف إلى الضحكة المصرية الخجولة، ومن تمريرة سحرية إلى حكمة قالها الأب زمان: "اللي ملوش كبير يشتري له كبير".
تراه فلا تتساءل عن معدنه، هو معدن "ابن البلد" النقي، صادق كالنيل، بسيط كالرغيف، نظيف كضحكة طفل في عز المولد.
أشرف محمود لم يجمّل نفسه، لم يصطنع شخصية، بل اختار أن يكون هو... فقط هو، وفي زمن يتصارع فيه الناس على الأضواء، كان هو الضوء ذاته، ضوءٌ يُشبه عيون أمك حين تدعو لك، ويُشبه نبرة أبيك حين يقول لك: "راجل يا ابني".
هو لا يركض خلف "الترند"، بل يمشي على خطى الكبار، لا يلهث خلف اللقطة، بل يصنعها بهدوء، كالفلاح حين يحرث الأرض.. يعلم أن الخير سيأتي.
أشرف محمود ليس ظاهرة صوتية، بل ظاهرة هوية وطنية.. هو مصر حين تتحدث بعقلها وقلبها ولسانها السمح، أثناء التعليق على المباريات.
في هذا الرجل تتجلى الهوية المصرية بكل ما فيها: بشهامتها، بكرامتها، بخفة ظلها، بجدعنتها، بحكمتها، بلغتها العربية، وبإيمانها العميق أن الأصل هو الأصل.. مهما تبدّلت الأزمان.
قبل النهاية، نحن في زمن امتلأت فيه الشاشات بالتصنع، والمنصات بالتصيد، لكن خرج هذا الصوت المصري الدافئ في بطولة مونديال الأندية، من الميكروفون لا يشبه إلا نفسه.. لا يستعير لهجة، ولا يبالغ في تعبير، ولا يتكلّف حماسة رغم خروجه عن شعوره.. لكنه فجأة! أصبح "تريند"، ولم يكن ذلك لأنه يملك خطة تسويق، أو فريق سوشيال ميديا محترف، أو يسعى خلف "اللايك والشير"، بل لأنه فقط قرر أن يكون كما هو: مصريًا جدًا.. بصوته، بكلماته، بنُكاته، بحماسه، وبهدوئه حين يجب أن يهدأ.
أشرف محمود لم يعلّق على المباريات فحسب، بل منحها طعمًا ولونًا ورائحة.. جعل المتابع يشعر أن المباراة تُلعب في ساحة بيتنا، وأن الهدف ليس مجرد كرة في الشباك، بل حكاية تُروى على القهوة، وضحكة تنطلق من القلب، وعصبية ابن بلد يعرف قيمة اللحظة.
لقد أصبح تريند.. لا لأنه أراد، بل لأن الناس اشتاقت لما يُشبهها.. وأشرف يشبهنا جدًا.
للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا