السومرية نيوز – دوليات

في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي مربعاً سكنياً في مدينة الفالوجة بمخيم جباليا داخل قطاع غزة، ما أسفر عن استشهاد وإصابة العشرات؛ بمكانٍ ليس ببعيد عن الحي الذي ارتكبت فيه إسرائيل مجزرة أخرى بالمخيم قبلها بيوم واحد، أسفرت عن استشهاد وإصابة حوالي 400 فلسطيني.


وللمدينة تاريخٌ طويل من الصراع مع الاحتلال، فقد عاشت ما يُعرف بـ"حصار الفالوجة"، أول معارك النكبة في قطاع غزة. بدأ الحصار في نهاية العام 1948 خلال الحرب العربية الإسرائيلية حين اتحد نحو 6 آلاف فلسطيني مع 4 آلاف جندي مصري لمواجهة العصابات الصهيونية التي حاصرتهم، في معركةٍ استمرّت لشهور.

عام 1948، ألغت بريطانيا انتدابها على فلسطين بعد قرار الأمم المتحدة بتقسيمها إلى دولتين: يهودية بمساحة 54.7%، وعربية بمساحة 44.8%، على أن تكون مدينتا القدس وبيت لحم تحت الوصاية الدولية.

رفضت الدول العربية هذا القرار، وأعلنت الحرب العربية على إسرائيل، فشنّت كلّ من: مصر، والأردن، والعراق، وسوريا، ولبنان هجوماً عسكرياً شاملاً ضدّ الميليشيات الصهيونية المسلحة في فلسطين، المشكّلة من البالماخ والهاغاناه والإرغون، إضافةً إلى متطوعين يهود من خارج حدود الانتداب البريطاني على فلسطين.

أرسل الملك فاروق جيشاً مؤلفاً من 10 آلاف جندي، كان الأكبر عدداً، تحت قيادة الجنرال أحمد علي المواوي الذي خاض معركتين مهمّتين جداً: معركة نيتسانيم، ومعركة الفالوجة.

معركة الفالوجة وإصابة عبد الناصر
تقع الفالوجة على بُعد 30 كلم من شمال شرقي مدينة غزة، وتتوسط الطريق الذي يربط غزة بالخليل، مع مساحة 38 ألف دونم. كان اسم البلدة قديماً زريق الخندق، لكنه تبدّل تكريماً لشهاب الدين الفالوجي، الصوفي العراقي الذي جاء إلى فلسطين في القرن الـ14.

بدأ حصار الفالوجة في مايو/أيار 1948، عندما حاصرت العصابات الصهيونية اللواء المصري الرابع بقيادة العميد سيد محمد طه (الملقب بـ"الضبع الأسود") المتمركز في قرية عراق المنشية، القريبة من غزة والفالوجة.

العميد سيد طه، الذي كان قائد الكتيبة المصرية السادسة، هو سوداني الأصل. وفي الواقع، كانت القوات المصرية المحاصرة مكوّنة من 3 كتائب: الأولى، والثانية، والكتيبة السادسة؛ وقد شكّل بعضهم فيما بعد ما يُعرف بـ"تنظيم الضباط الأحرار"، الذي ثار ضدّ الملك فاروق.

خدم جمال عبد الناصر ضمن كتيبة المشاة السادسة، وكان رئيس أركانها، وعملياً كان حصار الفالوجة أول معركة عسكرية في حياة عبد الناصر.

صباح السبت 15 مايو/أيار 1948، أصدر الجنرال المواوي أمراً إلى الكتيبتين الأولى والسادسة للهجوم على مستعمرتي "كفار داروم" و"الدنجور"، اللتين تسيطران على محور المواصلات الرئيسي إلى مدينة غزة.

في كتابه "يوميات عن حرب فلسطين"، يصف عبد الناصر أجواء معركة الفالوجة بـ"العجيبة"، مشيراً إلى أن الجيش المصري لم يكن على أتم الاستعداد لها، لأنه لم يملك الوقت الكافي لاستكشاف هدفه، ولا المعلومات اللازمة.

اتكلت الكتيبة السادسة على دليلٍ عربي واحد، كان مسؤولاً على قيادة الكتيبة إلى موقع مستعمرة الدنجور، من دون أن يكون على علمٍ بتحصيناتها أو دفاعاتها. فكان يُدلي بمعلوماتٍ غير واضحة وغير دقيقة، حتى وصلت الكتيبة إلى المستعمرة وفوجئت بتحصيناتها.

يقول عبد الناصر في مذكراته: "لم يسترح الجنود بعد الرحلة الشاقة، إنما اندفعوا إلى الأسلاك، ولم يكن هناك من يعرف ما الذي يجب فعله على وجه التحديد. لكن المدافعين عن الدنجور كانوا يعرفون، وقد أُصيبت الكتيبة بخسائر لم تكن متوقعة".

ويتابع قائلاً: "عند الظهر، أصدر القائد أمره بالابتعاد عن الدنجور، فعادت الكتيبة إلى رفح لتجد بلاغاً رسمياً أُذيع في القاهرة، يقول إننا أتممنا عملية تطهير الدنجور بنجاح".

تسلّمت الكتيبة السادسة زمام الأمور في غزة، متحركةً من رفح. وفي 12 يوليو/تموز 1948 حاولت قوات الجيش المصري استعادة مستعمرة "نجبا"، لكنها فشلت وانتهت المعركة بهزيمتها بعدما تحوّل الهجوم إلى كارثة.

أُصيب جمال عبد الناصر في هذه المعركة برصاصةٍ كادت تودي بحياته، لأنها كانت قريبة من قلبه، لكن القدر أسعفه "لاسيما أن الإصابة كانت غريبة، كما قال لي الطبيب"، وفق ما ذكر في مذكراته عن حرب فلسطين.

تفاصيل حصار الفالوجة
بحلول شهر سبتمبر/أيلول، كان قد شُفي عبد الناصر لكن العصابات الصهيونية كانت قد حاصرت الجيش المصري المتمركز في الفالوجة وعراق المنشية، الذي رفض كل عروض الاستسلام على ما يقارب الـ7 شهور.

انقطعت خطوط إمداد الجيش المصري من غذاءٍ وسلاح، فعاش الجنود مع الفلسطينيين حياة تكاتفٍ وإصرارٍ على المواجهة. فكان السكان يحرصون على تأمين الطعام للسكان وكل ما يحتاجونه، وسخروا أنفسهم لخدمتهم.

في حديثٍ إلى "الجزيرة.نت"، يقول محمد مصطفى النجار، وهو شاهد على تلك المرحلة: "على مدى شهور، اعتمد الجنود المصريون على ما يتوفر في الفالوجة من حبوب وأغنام وأبقار، فكانوا يشترون ويعطون السكان أوراقاً تُثبت لهم الثمن، لاسترداد القيمة من مقرّ القيادة المصرية في بيت لحم لاحقاً".

ويُشير النجار إلى أن الجيش استنفد كل الطعام الذي يملكه خلال حصار الفالوجة، كما أن القصف الإسرائيلي على سكان البلدة لم يتوقف، بهدف دفعهم إلى الرحيل. ويضيف: "القوات المصرية اختارت منزلنا نقطة مراقبة، نظراً لموقعه المرتفع، فلجأنا إلى منزل أخوالنا".

يروي ابن البلدة عن قساوة المشاهد التي رآها جراء القصف الإسرائيلي خلال حصار الفالوجة، حين كان في السابعة من عمره، وكيف رأى فتاةً مذبوحة ومرمية على طريق عودته إلى المنزل الذي اكتشف أنه دُمّر بالكامل، وأن شقيقتيه تناثرت أشلاؤهما بسبب القصف.

يؤكد محمد النجار أن كل ذلك وأكثر كان كفيلاً بدفع سكان البلدة إلى مغادرتها، إلا أن العميد سيد طه أصرّ على القتال حتى اللحظة الأخيرة، رافضاً أوامر قيادته في القاهرة بالانسحاب إلى غزة ثم مصر.

ما علاقة أم كلثوم بحصار الفالوجة؟
في برنامجه "الإكسلانس"، يروي أحمد القصبي ضمن حلقةٍ خاصة بعنوان "حصار الفالوجة وأم كلثوم" حادثة طريفة في مضمونها، لكنها تشرح الكثير عن روح الجيش المصري ومعنوياته.

يحكي القصبي أنه فُقد الاتصال بين قيادة الجيش المصري والقوات المحاصرة في الفالوجة، حين ساء الوضع كثيراً جراء القصف الإسرائيلي. لكن قيادة الجيش تمكنت من التواصل مع بعض المتطوعين الفلسطينيين الذين استطاعوا الوصول إلى القوات المحاصرة. سألت القيادة قواتها عن مطالبها، فجاءها الردّ الغريب: "نريد أغنية". وفي ذلك الوقت، كانت أم كلثوم تستعد لحفلتها المقبلة التي تُقام كالعادة في أول خميس من كل شهر. فطلبت القوات المحاصرة من وزارة الحربية أن تغني الست في الحفلة أغنية "غلبت أصالح في روحي".

الأغنية، وهي من كلمات أحمد رامي وألحان السنباطي، كانت قد غنتها أم كلثوم قبل عامين؛ لكن حيدر باشا، وزير الحربية، أبلغ أم كلثوم بطلب القوات المحاصرة. فما كان منها إلا أن غيّرت برنامج الحفل وغنّت "غلبت أصالح في روحي"، وأضافت إليها أغنية "أنا في انتظارك".

بعد عودة القوات المصرية إلى القاهرة، حرصت على أن تقيم لهم وليمة في منزلها، وأن تلتقط الصور معهم، كما تشير بعض المراجع إلى أنها غنت لهم في حديقة فيلتها.
الهدنة والانسحاب من الفالوجة
وفق الجزء الثاني من كتابه "العروش والجيوش – يوميات حرب فلسطين 1948″، يروي محمد حسنين هيكل كيف استطاعت هيئة مراقبي الأمم المتحدة أن ترتب اجتماعاً بين الأميرالاي السيد طه والقائد الإسرائيلي للجبهة الجنوبية -ويُدعى آللون- في مستعمرة جات، يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1948.

حضر الاجتماع أركان الكتيبة السادسة، ومن ضمنهم الرائد جمال عبد الناصر، ووجّه خلاله آللون إنذاراً مبطناً إلى طه، حين راح يشرح له صعوبة موقفه في حصار الفالوجة، وبالتالي فإن الأفضل له ولقواته القبول بـ"الاستسلام المشرف"، بدلاً من تكبّده خسائر لا معنى لها.

ألمح آللون -طبقاً لهيكل- أن طه يستطيع الخروج بقواته إذا انسحب الجيش المصرى كله من فلسطين، وإذا قبلت الحكومة المصرية مبدأ عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، لكن طه رفض الإنذار وردّ بالتجاهل، حين خرج ومعه جمال عبد الناصر.

يضيف هيكل: "أرسل طه إلى القائد العام المصري بمضمون الرسالة، وطلب توجيهه. فأخبره بأن يبحث الموضوع على أساس الخروج بكامل السلاح، أو البقاء في مكانه. فذهب طه مع جمال عبد الناصر لإيصال الرسالة".

ويختم قائلاً: "دام الاجتماع مع آللون ثلث ساعة وقوفاً، ولم ينتهِ لشيء لأن آللون كان يريد من القوات المصرية أن تترك سلاحها وتذهب. كانت مشاركة عبد الناصر بعبارة واحدة هي: ليس كما تظن، قالها عندما سمع آللون يقول: موقفكم يائس، ولا أمل لكم إلا ما أعرضه عليكم.

استمر حصار الفالوجة واستهداف القوات رغم قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، وقد أظهر أفرادها ثباتاً ومسؤولية عالية، جعلت من الحصار رمزاً للصمود في وجه الاحتلال الإسرائيلي. لكنها في نهاية المطاف، حوصرت من قبل العصابات وسط صحراء النقب.

انتهى القتال في يناير/كانون الثاني 1949 بعد استيلاء إسرائيل على معظم منطقة النقب، وتطويق القوات المصرية، حين بدأت مفاوضات في جزيرة رودس اليونانية بين إسرائيل والدول العربية بوساطة الأمم المتحدة.

تم التوقيع بعدها على اتفاقيات الهدنة الأربعة تباعاً، التي تم فيها تحديد الخط الأخضر، مع امتناع العراق عن التوقيع على الهدنة. وفي 7 مارس/آذار 1949 وصّى مجلس الأمن بقبول إسرائيل عضواً كاملاً في الأمم المتحدة، وقد أقرّتها الجمعية العامة في مايو/أيار. 

المصدر: السومرية العراقية

كلمات دلالية: جمال عبد الناصر القوات المصریة الأمم المتحدة الجیش المصری أم کلثوم

إقرأ أيضاً:

دولة الرئيس جعفر نميري (مايو 1969-أبريل 1985): لم تترك من أدلجة الجيش فرضاً ناقصاً

ملخص
(خضع الجيش في تاريخنا المعاصر، ككل جيش، لجرعات متفاوتة من “الأدلجة” من دولنا. فحتى إبراهيم عبود الذي كان على رأس انقلاب مؤسسي تقليدي، سيّس الجيش ليرى نفسه حامياً للشعب من نفسه، أي من الديمقراطية)

تحمل دوائر سودانية مؤثرة على القوات المسلحة السودانية، بل تعتزلها في هذه الحرب الضروس التي تخوضها لأنها لا تعدو كونها “ميليشيات” للإسلاميين (الكيزان) الذين روضوها خلال عقود حكمهم الثلاثة بـ”الأدلجة” وبالتغلغل في مفاصلها، فلا تكون طبقة الضباط إلا منهم، سواء بإحلال كادرهم وإبدال غيره، أو احتكار الكلية الحربية لطلاب من فصيلهم.
وسنتجاوز هنا أن هذا الرأي يفترض بلا حجية أن بوسع القوات المسلحة في بلد أن تكون شيئاً غير الدولة التي تؤويها. لربما أفحشت دولة الإنقاذ في ما يأخذه الناس عليها حيال الجيش، ولكن الجيش، أردنا أو لم نرِد، مناط إدارة العنف للدولة، وتصوّره كفرقة ناجية منها لا يستقيم. ونقصر حديثنا هنا مع ذلك على أن الإنقاذ ليست من خرجت غير مسبوقة بـ”أدلجة” الجيش واحتكار وظائفه للغرض، في مناسبة مرور الذكرى الـ56 لانقلاب البكباشي جعفر محمد نميري في الـ25 من مايو 1969، ليحكم السودان 16 عاماً حتى اقتلعته ثورة السادس من أبريل 1985.
وهو نظام لم “يؤدلج” الجيش مرة، بل مرات لأنه كان “دويلات”، إذا صح التعبير، لا دولة واحدة. فمن فرط تقلبه في العقائد قال عنه عصام ميرغني (أبو غسان)، مؤلف “الجيش السوداني والسياسة”، إن دولة مايو كانت فيها “حقب فرعية متناقضة تأرجحت من أقصى اليسار لتنتهي بحقبة يمينية ظلامية”. وهو نفس ما عناه منصور في “النخبة السودانية وإدمان الفشل” بقوله إن دولة مايو فيها “مايوهات”، فهي لم “تشهد مايو واحداً وإنما مايوهات عدة”.

وسنقف من جهة “أدلجة” دولة مايو للجيش والهيمنة عليه على فترتين منها، هما الفترة من عام 1969 إلى عام 1983 التي تعاورته فيها جماعات يسارية وقومية عربية ومستقلة وتكنوقراطية، والفترة من عام 1983 إلى عام 1985 التي صار فيها النميري إماماً للدين بدعم من “الإخوان المسلمين”، ولم يسلم الجيش خلال الفترتين من التسيّس حتى النخاع.
قال ميرغني بصورة عامة إن القوات المسلحة هي “أول ضحايا النظام العسكري” تسيساً، بانت في انقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 1958 ونميري في 1969. فما إن تسلم نميري الحكم حتى أراد أن يستتب له بإقصاء معظم القيادات العسكرية العليا بذريعة أنهم من اليمين الرجعي، أو ممن لم يتفقوا مع أمزجة القيادة الجديدة. وأحصى منصور خالد ضحايا ذلك التطهير فبلغ 20 من طاقم ضباط هم فئة قليلة جداً. وترافقت مع ذلك التطهير ترقيات استثنائية تجاوزت اللوائح الخاصة المتعارف عليها، فكانت المرة الأولى التي يحدث فيها تخطي الدفع وتعطيل نظام الأقدميات. وغاب عن ميرغني هنا أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي قام مؤسسياً بانقلاب نوفمبر 1958، ضم ضابطاً أو آخر من رتب أصغر من الضابطين العظيمين محمد خير شنان ومحيي الدين أحمد عبدالله، فانقلبا على المجلس عام 1959 وفرضا عضويتهما عليه.
من جهة أخرى جرى في أول عهد نميري تعيين موظفي خدمة مدنية برتب ضباط عظام كاللواءات في الجيش. كما رُقّي صف الضباط الذين شاركوا في انقلاب مايو إلى ضباط بلا تدقيق. وتفاقمت الرتب مثل رتبة الفريق للكسب السياسي في جيش لم يبلغ النصاب له ولقادة أسلحة فيه مثل السلاح الطبي وسلاح الموسيقى ليس لهما خطر غيرهما من الأسلحة. وصارت أجهزة الأمن القومي والأمن العام والرقابة الإدارية والاستخبارات العسكرية، التي نشأت وعينها على تجفيف الانقلاب على نظام مايو، شرطة سياسية وسيفاً مسلطاً على القوات المسلحة. وتميزت أسلحة بعينها في الجيش على غيرها لموالاتها للنظام، مثل سلاح المدرعات والمظلات، بل لقيام لجماعة منهما به. وأغدق النظام عليهم العطايا، فصارت القوات المسلحة مظلات ومدرعات، فأمن قومي ثم جيش.

وخلال اصطراع نميري والحزب الشيوعي الذي ساق إلى انقلابه عليه في يوليو (تموز) 1971، حل نميري تنظيم “الضباط الأحرار” الذي قام بالانقلاب بعد أن كان رتب ليكون هو “الحزب” من ورائه. وأنشأ بدلاً منه “تنظيم أحرار مايو” وعلى رأسه اللواء خالد حسن عباس عضو مجلس قيادة الانقلاب والقائد العام للقوات المسلحة. وكان من قادة التنظيم الضباط سعد بحر وسيد أحمد حمودي ومصطفى أورتشي ممن اعتقلهم انقلاب الـ19 من يوليو 1971، وكانوا ضمن ضحايا مذبحة بيت الضيافة التي وقعت في الـ22 من يوليو عند مغرب الانقلاب. وهو انقلاب اشترك فيه شباب من الحزب الشيوعي ودوائر اليسار كانوا في أول دفعة قُبلت على الهوية السياسية في الكلية الحربية بعد انقلاب مايو.

وما إن قام الاتحاد الاشتراكي السوداني، التنظيم السياسي الفرد، حتى بدأ تسيّس الجيش على أصوله. فقال ميرغني “صارت القوات (المسلحة) رافداً أصيلاً في حزب سياسي حاكم”، وصار القَسَم العسكري فيه لـ”حماية ثورة مايو”. وجعل الحزب الواحد لقيادات الجيش مقاعد في مكتبه السياسي ولجنته المركزية ومجلس الشعب ومجالس الحكم في الأقاليم والمدن، وقامت فيه أمانة القوات النظامية لترعى شؤون الجيش السياسية وعليها أمين سياسي. ونظمت الأمانة محاضرات أسبوعية في معسكرات الجيش المختلفة في سبيل تعبئة الجند والضباط للدفاع عن نظام مايو.

مع ذلك لم يكُن النظام ليسمع من الجيش ما لا يرضاه. فكان أن اجتمع الضباط العظام في الجيش مع نميري في الـ23 من يناير عام 1982، وأطلعوه على ضيق الناس وهم بالفساد في النظام فساداً تركز في مدير مكتبه بهاء الدين أحمد إدريس وجمعية “ود نميري” (قرية نميري في الولاية الشمالية) التعاونية بخدماتها الخيرية للجيش، وعليها أخوه مصطفى نميري. فاستمع إليهم ضيق الصدر، وعاد ليحيل 13 من بينهم من فريق وحتى رائد إلى المعاش، بعد إعفاء قائد الجيش عبدالماجد حامد خليل. فعادت القوات المسلحة، في قول ميرغني، لـ”مربع الولاء والصمت”.
وجاءت حقبة مايو الإسلامية عام 1983 بصدور ما عرف بـ”قوانين سبتمبر” من السنة التي أحالت القضائية الموروثة وقوانينها الوضعية للاستيداع، وأنشأت قضائية العدالة الناجزة التي جعلت الشريعة قانونها. وجعل نميري من نفسه إماماً للدين، البيعة له واجبة. فكنت ترى، في قول ميرغني “طوابير الضباط والجنود تسير في انضباط لأداء البيعة للإمام، مجدد الدين”. وجاء منصور خالد برسالة للفريق عبدالرحمن سوار الدهب، نائب القائد العام، لنميري كافية الدلالة لا على تسيّس الجيش فحسب، بل “أدلجته” في الصميم. فحياه باسم القوات المسلحة التي وقفت معه بقوة منذ تفجيره لثورة مايو في معاركه ضد محاولات إجهاض الثورة ولتنمية البلاد. وهي ليومها، في قول الرسالة، “قد شرفتموها بالشريعة الإسلامية، وأصبح جنودها جند لله، وتزينت راياتها بأن لا إله إلا الله، وأضحت معاركها جهاداً في سبيل الله، وستظل أبداً رمزاً للتضحية للصمود والعطاء الجزل بلا حدود”. وتضيف الرسالة أن القوات المسلحة ترى السودانيين يلتفون حول نميري بيعة له في صحوة الدين وتحكيمه، “لتضع يدها في يدكم مجددة البيعة، تبايعكم على كتاب الله ذي الجلال والإكرام، وعلى سنة رسوله ومصطفاه عليه الصلاة والسلام”.

ووصف منصور خالد ما طرأ على الجيش في ذلك الطور من مايو بـ”الهوس الديني” الذي فتح الطريق لاختراق حركة “الإخوان المسلمين” لما بقي من بنيان الجيش السوداني”. فلم تكُن دولة الإمامة تلك ما نادت به الحركة الإسلامية في مطلبها لـ”الحاكمية لله”. وكان أكثر مطلبها بعد مصالحتها مع نميري عام 1977 أن تجري مراجعة القوانين الوضعية من إرث القانون العام الإنجليزي لتطابق الشريعة. وتكونت لجنة للغرض أسعد الحركة أن كان لها فيها نصيب الأسد. ثم طبق نميري معهم “تكتيك الإرباك”، في وصف منصور خالد له، الذي مارسه مع الشيوعيين، وهو أن يأتيك، متى اتفق له، من صلب مشروعك ما ليس من غرضك ليومك ويحملك على تنفيذه.
وكانت اتفقت لنميري الإمامة لأنه استنفد كل القوى والمشاريع السياسية خلال أعوامه الماضية ليقرأ الكتابة عن نهايته على الجدران. وبقيت له الإمامة ليجربها في مواجهة الحركة الشعبية لتحرير السودان للقوميين الجنوبيين بقيادة العقيد جون قرنق التي مرقت لصراعه. ولم يتورع “الإخوان”، ممن كان منتظراً أن يرتبكوا من فرط الأمانة الثقيلة الجديدة، فركبوا الموجة بالبيعة لنميري. وقال حسن الترابي زعيمهم أنهم اتخذوا القوات المسلحة قوات لتحرير السودان من أخطبوط الميراث الاستعماري فيما عولت الأحزاب غيرها على قرنق ورجاله، واعتبرته جيشاً لتحرير السودان، وهم يخسرون رهانهم اليوم.

ترتكب الجماعات المؤثرة التي تجنبت الجيش في معركته الراهنة ضد “الدعم السريع” جراء بغضائها له لأنه بقايا “أدلجة كيزانية”، أو نفاياتها، خطأ عظيماً بحق نفسها قبل الجيش. فتخسر بهذا الخطأ الحس بالتاريخ الشديد التعقيد الذي من وراء الظاهرة التي اقتطعوها منه، وهي تسيس الإسلاميين للجيش و”أدلجته”، في حين خضع الجيش في تاريخنا المعاصر، ككل جيش، لجرعات متفاوتة من “الأدلجة” من حكوماتنا المتعاقبة. فحتى إبراهيم عبود الذي كان على رأس انقلاب مؤسسي تقليدي، سيّس الجيش ليرى نفسه حامياً للشعب من نفسه، أي من الديمقراطية. فلم يوجد بعد الجيش الخالي من دسم تسيس الدولة. ومن طلب هذا الجيش جزافاً، بل حاكم جيشه به، طلق التاريخ طلاق بينونة. وأوى، في قول الكاتبة البريطانية إليزابيث لونغفورد، إلى بيت بلا نوافذ. ولن يتعلم من أخطائه إلا مهارة ارتكابها هي نفسها مرة أخرى.

عبد الله علي ابراهيم
عبد الله علي إبراهيم إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الجيش: مسيرات تستهدف مناطق السوق الكبير والمنطقة الصناعية في الأبيض
  • الجيش الأوكراني يشن ضربات على أنظمة صاروخية روسية في بريانسك
  • هل تطاول بنكيران على صلاحيات الملك بعد “فتوى الجيش” ؟
  • تفقد القوات المسلحة بتوجيه من وزير الدفاع.. الرويلي: أمن الحج أولوية وطنية لا تهاون فيها
  • الجيش اليمني يعلن تصديه لهجمات حوثية في مأرب والجوف وتعز
  • مواجهات بين الجيش المالي والمسلّحين في مدينة تمبكتو
  • دولة الرئيس جعفر نميري (مايو 1969-أبريل 1985): لم تترك من أدلجة الجيش فرضاً ناقصاً
  • القوات الروسية تواصل تقدمها بنطاق مدينة رئيسية في شمالي أوكرانيا
  • رشيد جابر وجمال سلامي يحددان غدًا قائمتهما للقمة المرتقبة يوم الخميس
  • الجيش الأمريكي يكشف عن أكثر العمليات كثافة قتالية في التاريخ